رابعًا: النفس الأخلاقية

وهي النفس التي تتجاوز النفس الناطقة إلى شرط المعرفة النظرية وهي الأخلاق، والتحول من الحكمة النظرية إلى الحكمة العملية. فكمال العقل في الأخلاق.

(١) انفعالات النفس (الكِنْدي)

وكما يظهر ارتباط النفس بالحواس والعقل عند الكِنْدي يظهر أيضًا ارتباطها بالانفعالات والأخلاق أحد موضوعات الحكمة العملية. الحركة موجودة في النفس. والفكر ينتقل على صور الأشياء بما في ذلك الأخلاق أي انفعالات النفس، السرور والآلام والغضب والفرح والحزن. وكلها عرض للنفس. فالنفس واحدة ومتكثرة وكما هو واضح في رسالة «الحيلة في دفع الأحزان».

(٢) طب النفوس (إخوان الصفا)

وينتقل إخوان الصفا من النفس الطبيعية إلى النفس الأخلاقية. فالصرع لا يفسر فقط بالنفس الطبيعية أو بالسحر فهو ظاهرة نفسية أخلاقية، مثال ذلك قصة هاروت وماروت. ويتم تشخيص الظاهرة عن طريق البحث في الآفة. والآفات نوعان، في الجسد من الرطوبة والبرودة أو الحرارة واليبوسة، وفي النفس من القوة الحيوانية والشهوانية أو من القوة الناطقة والعاقلة. فالعلة من جهة الطبائع الأربع، غلبة أحد الأمزجة وضياع الاعتدال والتناسب. ويكون التشخيص بالوسائل الحسية مثل جس النبض، أو الإنسانية العامة مثل سؤال المريض لمعرفة تاريخ الحالة والحديث معه. ولو اشتغلت النفس الناطقة بالإلهيات احترق الجسد، ولو اشتغلت بالجسد احترقت النفس.

وهو ما يتفق مع المواويل والأغاني الشعبية في أن طبيب النفوس صعب وأعز من طبيب الأبدان. هناك إذن موازاة بين علم النفس وعلم الطب، بين علاج النفوس وعلاج الأبدان اعتمادًا على حديث الرسول عن علم الأديان وعلم الأبدان. وقد يكون ذلك أحد أسباب ازدهار الطب، لا فرق بين العقل والطبيعة. فنظام الوحي هو نظام العقل هو نظام الطبيعة. مداواة الأبدان إذن ليست سحرًا أو حرامًا بل هي علم. ليست قلبًا لقوانين الطبيعة بل اتباعًا لها. السحر الحرام إذن هو الذي يُدخل الفساد كما يقتل الطبيب المريض بجهله.١ العلم مفيد لأنه طبيب العيش في الدنيا، وطريق الإخلاص إلى الآخرة. وهو الذي يدرس أثرَ السحر على النفس والوصايا الدينية وسيطرة النفس العاقلة على الغضبية والشهوية. ويذكر الإخوان حكاية طبيب دخل المدينة وكلها مرضى لا يشعرون بعلة مرضهم. وخشيَ رفضه ومعاداته. فطلب رجلًا من أفاضلهم وداواه فبرئ بشرط أن يُحضر له مريضًا آخر، والثاني ثالثًا حتى برئت المدينة كلها سرًّا وعلانيةً، وهو طريق الأنبياء وانتشار الدعوة، محمد ثم الأقرباء، موسى وأخوه هارون، المسيح والحواريون. فالأنبياء أطباء النفوس مع أوليائهم وخلفائهم. دعوتهم واحدة. فالعلم علمان، علم الأبدان وعلم الأديان. والطبيب الذي يداوي النفوس أصعب من الطبيب الذي يداوي الجراح.

وما دام السحر يتعلق بالنفوس فإنه يتعلق أيضًا بالأخلاق والعادات. وهي نوعان: بهيمية وروحية. البهيمية بلا فكر ولا روية ولا علم ولا فكرة ولا نصرة دين أو تصفُّح مذهب، والروحية بشرية تنجو أو تغرب. ومن ثَم يمكن معرفة مستقبل الإنسان بعد وفاته.

وهناك عدة مذاهب عملية تطبع السلوك مثل الإفراط في ذبح الحيوانات وأكل اللحوم، وقتل النفوس وأخذ الأموال، والجدل والمناظرة، والتوحش والتقشف. وهي أقرب إلى طبائع البشر. كلها سلبية. هي أخلاق الناس في الإنسان ولكنها أظهر في الحيوان، لا فرق بين أخلاق البشر وطباع الحيوان. تشترك فيها الحيوانات كلها، وتختلف فيها مع الإنسان في القلة والكثرة. ويمكن لعلم الفراسة استخراج طبائع الإنسان. ويتميز الإنسان بالضمير طبقًا لحكماء الهند وغيرهم. وهو مصطلح لغوي يدل على الذات، ونفسي شعوري يشير إلى النفس وحاسة خلقية تبيِّن تميُّز الإنسان على الحيوان.٢

والرسالة التاسعة كلها في تهذيب الأخلاق، وهو نفس عنوان كتاب مسكويه الشهير الذي أصبح عنوانًا للأخلاق الإسلامية. فهناك خمس نفوس، نباتية شهوية، وحيوانية غضبية، وإنسانية ناطقة، وعاقلة حكيمة، وناموسية ملكية.

ولكل منها وظيفة. النباتية الشهوية للغذاء، والحيوانية الغضبية للجماع والانتقام والرياسة، والإنسانية الناطقة للعلوم والصنائع. والترقي والعاقلة الحكيمة للعلوم والمعارف والوحي، والناموسية الملكية للتصوف، وكلُّها بتأييد من الله، وفي الطريق إليه. الطبيعة مفتوحة على نحو الفضل الإلهي. والنفس تشارك الله في صفة البقاء بفيض النفس الكلية على النفوس الجزئية دفعة واحدة من الجود الإلهي. النفس الكلية خالدة والنفوس الجزئية في الزمان. وهو النموذج الرأسي الذي يوقع الإنسان في الاغتراب.

والحقيقة أن النفوس أكثر من ذلك. فالنفوس الخمسة هي الإنسانية تضاف إليها نفوس سبعة فوق الإنسانية ونفوس سبعة تحت الإنسانية فيكون مجموع النفوس تسع عشرة نفسًا يشعر الإنسان بخمسة منها فقط هي النفوس الإنسانية ولا يشعر بباقي النفوس ما فوق الإنسانية وما تحتها.

ولكلٍّ منها تصاريف طبقًا للجبلة والروية، الطبيعة والحرية. فالنفس النباتية الشهوانية والحيوانية الغضبية جبلة طبيعية بلا روية وحرية. والنفس الإنسانية اختيارية ثوابًا وعقابًا، مجازًا أو مأخوذًا. والنفس العاقلة الحكيمة عقلية فكرية، نفس الحكيم الفيلسوف في مقابل الجاهل الرذل. والنفس الناموسية الملكية سياسية تقوم على الأمر والنهي، الخير والشر، المحمود والمذموم. الناموس أي الشريعة الإلهية أعلى شيء مع الله وكأننا في الحاكمية عند الإسلاميين المعاصرين.٣

بل إن لقب «إخوان الصفا» ذاته حقيقة لا مجازًا، يفيد صفاء النفس إلى حد الطمأنينة في الدين والدنيا. فحقيقة الصفاء خلاص النفس من البدن نظرًا لربط الأجسام بالأمور الفلكية للوصول إلى أعلى مرتبة. فالمراتب ثلاث صعودًا من أدنى إلى أعلى. الأعلى لا علمًا ولا عملًا، ولا سعادة في الآخرة ولا في الدنيا. والثانية علم وعمل وسعادة في الدارين. والثالثة علم وعمل وسعادة في الآخرة دون الحظ في الدنيا. والشريعة في المرتبة الثانية، والتصوف في الثالثة مثل الإخوان.

هل هذه الطبقات دائمة ثابتة لا تتغير، عامة وخاصة، جاهلة وعالمة أم أنها تتغير بالعلم والمعرفة، وأن التحول الطبيعي للمجتمع والتطور التاريخي في القضاء على الأمية وازدياد المتعلمين؟٤

(٣) بواعث النفس، الإرادة والاختيار (الفارابي)

وترتبط الأخلاق عند الفارابي بالنفس النزوعية أي البواعث التي تخدم الحاسة والمتخيلة والناطقة. فالإنسان بواعث وحواس، ودوافع وإدراك، وحركة ومعرفة. والخدمة لا تتم إلا بالقوة النزوعية نحو الإدراك. يتم إدراك السعادة بالنظرية، وتتشوق بالنزوعية، وتستنبط بالروية بمعاونة الحس والتخيل، وتفعل بالنزوعية. وأفعال الإنسان كلها خير وجمال. فإذا لم تعلم السعادة ولم تنصب غايةً وشوقًا بل شيئًا آخر، وتشوقت بالنزوعية، واستنبطت بالروية بمساعدة الحواس والمتخيلة ثم فعلت بالنزوع كانت الأفعال كلها غير جميلة.٥ وتضم النفس النزوعية الشوق والكراهة، الطلب والهرب، الإيثار والتجنب، الغضب والرضا، الخوف والإقدام، وتستعمل البدن، وكأننا في أحول الصوفية.

والسؤال هو: هل السعادة مطلوبة لذاتها أم أنها تحقيق المنافع العامة كما هو الحال في أصول الفقه؟ هل الأخلاق فردية تطهرية إشراقية نظرية أرستقراطية أم أنها أخلاق جمعية اجتماعية عقلية عملية جماهيرية؟

وعند الفارابي كما ترتبط الأخلاق بما بعدها، الاجتماع والسياسة والتاريخ في الحكمة العملية فإنها ترتبط أيضًا بما قبلها النفس. فالأخلاق فردية، ذروتها الحكمة، فضيلة النفس الناطقة، مناط الخير والشر. ويتم بلوغ الخير أو الشر، السعادة أو الشقاء بالطبع أو بالإرادة. يأتي الطبع من الأجسام السماوية لا عن قصد لمعاونة العقل الفعال وليس لمعاندته. كما أن العائق له من الطبيعيات ليس عن قصد من الأجسام السماوية لمضادة العقل الفعال. وبالرغم من أن الأجسام السماوية تربط بين الطبيعيات والإلهيات إلا أن الربط الجوهري بينهما النفس من خلال الاتصال بالعقل الفعال الذي يعطي النفس المعقولات في الجزء الناطق منها بعد أن يتقدم في الإنسان الجزء الحاس والجزء النزوعي الذي به الشوق والكراهة التابعة للحاس. هناك إذن باستمرار عوامل مساعدة طبيعية ولا طبيعية (الأجسام السماوية) وإنسانية (الحس والنزوع) ثم العقل الفعال. وكلها خارجية إلا الحواس، مرة من السماء ومرة من الأرض ومرة من الروح (العقل الفعال).

إذا اجتمع الجزء الحاس والجزء النزوعي الذي به الشوق والكراهة التابعة للحاس تحصل الإرادة. فالإرادة شوق عن إحساس، والشوق نزوع، والإحساس حسٌّ. وبعد ذلك يحدث الجزء المتخيل من النفس والشوق التابع له فتحدث إرادة ثانية. وبعد ذلك تحدث المعارف الأُوَل من العقل الفعال فتحدث الإرادة الثالثة، وهو الشوق غير النطق. وهو المعروف باسم الاختيار. وهو الإنسان دون الحيوان. وبالتالي يستطيع الإنسان أن يفعل المحمود والمذموم والجميل والقبيح ويكون منوطًا بالثواب والعقاب. الإرادتان الأوليان في الحيوان غير الناطق. فإذا حصلت الثالثة في الإنسان سعت به نحو السعادة أي فعل الخير لا لذاته بل لأجل نقصه في السعادة. وكل ما عاق السعادة فهو الشر. فالخير طريق إلى السعادة. الشر الإرادي مجرد عدم شعور قُوَى النفس بالسعادة. هو تحديد للشر عن طريق نفي الضد.

يحدث كلٌّ من الخير والشر في الإنسان بالإرادة وعلى وجه واحد. يقع الشر إذا كانت الغاية في الحياة اللذيذ والنافع والكراهة دون تكميل الجزء الناطق، وكان الاشتياق بالنزوعية، واستنبط ذلك بالقوة الناطقة العملية والنزوعية وبمساعدة المتخيلة والحاسة. إذن كل ما هو دون الناطقة النظرية فهو شرٌّ. والخير في استعمال القوة النظرية. وكذلك يكون الشر إذا أدرك الإنسان السعادة وعرفها إلا أنه لم يجعلها كدَّه وغايتَه، ولم يتشوقها أو تتشوقها بضعف، وجعل غايته شيئًا آخر.٦ والإنساني اختيار الجميل والنافع في القصد حتى العبور من الحياة إلى الآخرة وكأن الدنيا مجرد معبر للآخرة، من الأقل إلى الأكثر. ويؤثر الإنسان العدل على السفه، مهتديًا بالعقل السليم المدعم بالتجارب وحسن العشرة والأدب القائم على سلامة العقل. فالإنسان هو حرية الاختيار القائم على الحسن والقبيح الذاتيَّين كما هو الحال عند المعتزلة في أصل العدل القائم على الحرية والعقل. ثم يتحقق الاختيار في المجتمع المدني. فالأخلاق الفردية تؤدي إلى تأسيس المجتمع المدني.

هناك إذن صراع إرادات ووجود بين كائنات خيالية، أجسام سماوية وعقل فعال وليس في المجتمع والإنسان، قذفًا للصراع إلى السماء وتمويهًا على الصراع في الأرض. في نطاق الأخلاق والسياسة يعود العقل الفعال للتأثير في الأرض.

وما زالت السعادة نتيجة تقبل بين العوامل الخارجية والعوامل الداخلية، من فعل آخر علوي معطاء وجهد إنساني خلاق مشروط بالجبلة والفطرة. وما دام قبول المعقولات شيئًا جدليًّا فطريًّا فما ذنب مَن لا جبلة له أو له جبلة مخالفة كالمجانين؟ أين المسئولية الفردية والاختيار الإرادي الحر؟ الفطرة قضية عامة ووضع كوني عام ثم تظهر الفروق الفردية والجماعية من كسب الإنسان.

والتوحيد بين الخير والشر من ناحية والسعادة والشقاء من ناحية أخرى تحويل للموضوع إلى الذات وكأن الخير والشر ليسَا لهما وجود موضوعي إلا من خلال رؤية الذات لهما.

وترتبط النفس بالإرادة والاختيار بالرغم من أنها جزء من الطبيعيات كقوة إلا أنها تتعلق بالإرادة الإنسانية والاختيار الحر. فالقوى والملكات والأفعال الإرادية تحقق غاية الإنسان في العالم وهو الخير. وما يعوقه هو الشر. ويتم الاختيار بين الأشياء الممكنة بينما الإرادة على الأشياء غير الممكنة. فالإرادة أعم من الاختيار. كل اختيار إرادة وليست كل إرادة اختيارًا.

عندما تحصل المعقولات يحدث بالطبع تأملٌ وروية وذكرٌ وتشوق إلى الاستنباط ونزوع إلى العقول وشوق إليه وهو الإرادة. لو كانت المعرفة من إحساس وتخيل الإرادة. وإن كانت من روية ونطق سُميت الاختيار وذلك في الإنسان خاصة. الفرق بين الإرادة والاختيار أن الإرادة عن حسٍّ وتخيُّل ويشارك فيه الحيوان، في حين أن الاختيار عن رويَّة وتأمل لا تخص إلا الإنسان.

وحصول المعقولات في الإنسان هو استكماله الأول كي يتمَّ كماله الأخير. وتلك هي السعادة. فالسعادة انتقال من الكمال الأول إلى الكمال الأخير، تغيير نفس الإنسان من الكمال في الوجود بحيث تتخلص عن المادة وتصبح بريئة عنها وأن تبقى على تلك الحال دائمًا ولكن تظل دون العقل الفعال. وما دامت دون العقل الفعال فإن كمالها يظل إنسانيًّا أي ناقصًا دون الوصول إلى درجة المفارقة. وقد تبلغ ذلك بأفعال إرادية، بعضها فكرية وبعضها بدنية بأفعال محدودة مقصودة عن ملكات محدودة ومقصودة. فمن الأفعال الإرادية ما قد يعوق عن السعادة. والسعادة مطلوبة لذاتها، والأفعال إليها هي الأفعال الجميلة التي تصور عن هيئات وملكات هي الفضائل. فهي خيرات لذاتها بل لأجل السعادة لذاتها. والفضائل وسيلة لها أي لغيرها. والأفعال التي تعوق عن السعادة هي الشرور. وهي الأفعال القبيحة. وتصدر عن هيئات وملكات هي النقائص أو الرذائل والخسائس. هناك إذن توحيد بين الجمال والأخلاق. وعكس الجميل غير الجميل وليس القبح نفيًا للشر في العالم.

ويتم نَيل السعادة بعد الموت. فالفاضل لا يجزع من الموت، ولا يظنه شرًّا عظيمًا أو أن يفوته خيرٌ عظيم. إنما يفوته فقط أن يستكثر فعل ما يزداد به سعادة بعد موته. لا يناله بالموت شرٌّ أصلًا. فالخير الذي معه لا يفارقه بالموت. ما يفوته هو ربح أكثر كان يناله لو كان عاش أكثر. لذلك يجب البقاء ليزداد سعادة.٧
ولا ينبغي للفاضل استعجال الموت بل ينبغي أن يحتال في البقاء ما أمكن ليزداد من الأفعال التي بها ينال السعادة، ولئلا يفقد الناس نفعه بفضيلته. ينبغي أن يُقدِم على الموت إذا كان فيه نفعٌ للمدينة كالاستشهاد أكثر من حياته. وإذا حل به الموت كرهًا فلا ينزعج. لا تنزعج من الموت إلا المدينة الجاهلة والفاسقة الجاهلة؛ إذ تفوتها الخيرات من الدنيا، اللذات أو الأموال أو الكرامات، والفاسقة لما يفوته في الدنيا أو أن السعادة تفوته بالموت فهو أشد جزعًا من الجاهلية؛ لأن الجاهلية لا تعلم سعادة بعد الموت أصلًا فلا ينزعجون لفواتها. أما الفساق فيندمون ويموتون مغتمين.٨

والمجاهد الفاضل إذا خاطر بنفسه فإنه يعلم أنه سيموت وإلا كان أحمقَ مع أنه لا يبالي إن مات أو عاش وإلا كان متهورًا. بل يرى أنه يحس ألا يموت، ولكنه لا يفزع من الموت، ولا يخاطر بنفسه إذا كان ما ينال بلا مخاطرة. ولا يخاطر إلا إذا علم أن ما يناله لا ينال إلا بمخاطرة سواء له أو لأهل المدينة. ولا ينبغي أن يناح على الفاضل إذا قُتل بل يناح على أهل المدينة بمقدار غنائه فيها، ويغبط بالحال التي صار إليها مقدار سعادته تنظيرًا للموروث وتوجيهًا لا شعوريًّا منه وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ … دون إشارة إلى الحجة النقلية، واكتفاءً بوصف التجربة الإنسانية العامة.

لذلك ترتبط أخلاق الشهادة بإثبات مفارقة النفس للبدن على ثلاثة آراء. الأولى ليس الإنسان حكيمًا. إنما يصير كذلك بعد مفارقة النفس للبدن. وذلك هو الموت. فإن كان حكيمًا بمثل ذلك ازدادت حكمته بعد ذلك وكملت. فالموت كمال. أما مقارنة النفس للبدن فشرٌّ.٩ والثاني يكون الشرير كذلك بمقارنة النفس للبدن، وبمفارقتها يصير خيرًا. لذلك وجب قتلُ النفس وقتل الناس. ويقولون إنهم مدبرون بالله وبالملائكة وبأولياء الله. ولا نملك ذلك من أنفسنا لا مقارنة النفس ولا مفارقتها. وهم الذين يدبرون أحوالنا وأعلم بمصالحنا. والثالث مفارقة النفس للبدن ليست بالمكان ولا بالمعنى. إذ يتلف البدن وتبقى النفس أو العكس. بل تعني أنها لا تحتاج في قوامها إلى البدن كمادة أو كآلة أو كقوة أصلًا (الوعي الخالص). فالنفس هو العقل النظري. إذا صار كذلك يكون مفارقًا للبدن سواء كان يحيَا أي يتغذَّى ويحس أو بطلت قوته. إن لم تحتج النفس إلى الحس والتخيل صارت إلى الحياة الأخيرة، ويكون تصورها لذات المبدأ الأول أكمل، يدركه العقل من غير حاجة إلى مثال، رؤية الله (الفلاسفة). وهي مفارقة بالمعنى مثل المعاد الروحاني عند ابن سينا. وربما هناك تنظير لا شعوري للموروث، حديث الرؤية.١٠

(٤) فضائل النفس (التوحيدي)

ويصعب التمييز بين النفس العالمة والنفس الفاضلة. فمراتب العلوم هي مراتب الفضيلة.١١ فعند كل عالم علمه أشرف العلوم لأن العلم صورة في النفس. وكما أن النفس عاقلة فإنها فاضلة. وهنا يتم الانتقال من العلم إلى الأخلاق. وكما يؤدي الحس إلى العقل يؤدي العلم إلى الأخلاق. والأخلاق فهم إنساني عقلي للدين.١٢ العلم والعمل واجهتان لشيء واحد. لذلك قلَّ العالم الفاضل والعلم الفاضل. قليل شريف هو العلم والمعرفة، وكثير خسيس هو الجهل. وأفضل فضيلة للنفس العلم. والحكمة ساكنة إلهية. العلم حياة والجهل موت.١٣
وهناك صلة بين الطبيعة والعادة والحرية. هناك حرية في العادة لأنها قامت أولًا على حرية الاختيار قبل أن تتحول إلى عادة أي إلى طبيعة ثانية. والحال مسالك الأشياء، اتفاقية بالمصادفة، تدبيرية أو صناعية بالإرادة أو طبيعية بالقانون.١٤ والمريد قد يكون صناعيًّا طبيعيًّا إراديًّا خلقيًّا أو فكريًّا إلهيًّا في تراتب تصاعدي. والعاقل يندم على ما يفعل؛ لأن لديه الاختيار والاستطاعة والقوة والقدرة والحزامة والعزيمة والرأي والشهامة والصريمة والتحصيل والنظر. وهذا موجب الربوبية ومقتضى العبودية. فالحرية سبب لوم العاقل تعبيرًا عن الأمانة التي قَبِل أن يتحملها اختيارًا.١٥
وإصلاح النفس هو إصلاح الأخلاق، وتهذيب الأخلاق طريق الزهاد وأصحاب النسك،١٦ تطهير النفس وتجردها من الشوائب البدنية. النفس قابلة للفضائل والرذائل، الخيرات والشرور. النفس تدبير أولي الألباب والطبيعة أولي الغفلات. والفكر في مرآة لنفس يريها خيرها وشرها.١٧
وتتحول الأخلاق الإنسانية إلى أخلاق صوفية في صياغات أدبية شعرية اعتمادًا على أقوال أبي الحسن العامري نموذج الحكيم الصوفي خاصة في كتابه «النسك العقلي» توحيدًا بين الجمال والكمال. يتحول العقل إلى إشراق، والشك العقلي إلى يقين ذوقي في صياغات أدبية عن المعرفة عن طريق العيان وطلب الكمال وميزان الصدق وتدبير النفس وسؤال واهب العقل، والبدء بالأول.١٨

(٥) إشراق النفس (ابن سينا)

ويتجاوز ابن سينا النفس الطبيعية والنفس العاقلة والنفس الأخلاقية إلى النفس الخالدة. فأطول فصول رسالة «أحوال النفس» الخامس عشر في سعادتها وشقاوتها بعد الفراق مما يدل على أنها الغاية القصوى من دراسة أحوال النفس كما هو واضح في العنوان الفرعي «في بقائها ومعادها». يتلوه الثاني «في تعريف القوى الإنسانية على سبيل الاختصار»، أي أن أهم شيء في النفس هو تحليل قواها، ثم الأول في حد النفس، ثم الثالث عشر «في إثبات النبوة». وأصغرها الثامن «في أن حدوثها مع حدوث البدن»، والعاشر «في إبطال النتائج»، والسادس عشر «في محل هذه الرسالة»؛ لأنها موضوعات دُرست من قبل أو لسياقها وهو الفصل الأخير من ستة عشر فصلًا. وقمتها أيضًا في قبول إلهام العقل الفعال، وظهور الإشراقيات المختلفة في عدة عبارات مثل «الروحانية المطلقة»، واستعمال ألفاظ لا عقلية مثل «قدسية» وظهور لفظ «الأخروي» وصفة الأخروية، وكأننا في السمعيات في موضوع المعاد في علم الكلام، وتنازل العقل في علوم الحكمة عن المسببات في علم الكلام.

وخصص ابن سينا الفصل السادس عشر لسياق الرسالة بدلًا من المقدمة، ورغبته في ترك الأمور الظاهرة في علم النفس أي من علم النفس الطبيعي إلى علم النفس الباطني الذي يسمح بالإشراق الإلهي، ويكون مضنونًا به على غير أهله، ولا يعرفه إلا الإخوان. وفي نفس الوقت لا يريد ابن سينا الوقوع في الأسرار وتوارثها مثل الباطنية بل يريد البرهنة، ومن ثَم غلبة الحكمة على الإشراق، ودون البحث عن الرمز والتأويل كما هو الحال في العصر مع إيثار الإيجاز. فالتجارب الشخصية خير مصداق للرسالة لأن الله شاهد عليها. وهنا يبدو ابن سينا الصوفي الحكيم على التبادل. فهو من حكماء أواخر القرن الرابع وأوائل الخامس، وصوفي عندما كان التصوف علمًا لبواطن القلوب.١٩

أما رسالة «في الكلام على النفس الناطقة» فهي أصغر الرسائل وأكثرها إيغالًا في التصوف، وتمثل رأي ابن سينا في آخر حياته متجهًا نحو الفلسفة المشرقية. لا هي شرقية ولا مشرقية بل إشراقية، وتُشبه «الإشارات والتنبيهات». لا تتعرض لصلة النفس بالبدن من أجل التمييز بين الاثنين بل لتلقَى الفيض الإلهي، وتنتقل من علم النفس الطبيعي إلى علم النفس الإشراقي.

ويظهر هذا الجانب الصوفي أيضًا في «الإشارات والتنبيهات» في المقامات والأحوال، ارتقاء الزاهد إلى العابد إلى العارف، من العرض من متاع الدنيا إلى المواظبة على العبادة إلى الفكر ونور الشمس. فالمقامات ثلاثة. وكذلك الارتقاء من الإرادة وهي مرحلة المريد إلى الرياضة إلى الأوقات إلى الغواشي. فالمقامات هنا أربعة. والتصوف تجربة شخصية ذاتية تتطابق مع القياس والعقل. فيتطابق الذوق والنظر مثل تطابق النوم واليقظة، الحلم والتفكير.

وكما وضع ابن سينا في آخر الشفاء علم العقائد ونقل الكلام إلى الفلسفة وضع في آخر «النجاة» و«الإشارات والتنبيهات» التصوف، ونقل التصوف إلى الفلسفة، ممهدًا بذلك الطريق إلى الغزالي. فالغزالي استمرار للإشراق وليس عدوًا لحكماء الإشراق. ويتحدث ابن سينا ويصلي ويسلم وكأنه فقيه محدث صوفي.٢٠

ويعتبر إخوان الصفا وابن سينا هما المسئولان عن التحول من الفلسفة العقلانية العلمية عند الكِنْدي والمنطقية اللغوية عند الفارابي إلى الفلسفة الإشراقية. ثم جاء الغزالي وأجهز على الفلسفة من خارجها، ضربة من الداخل ثم الإجهاز عليها من الخارج، الحكماء الإشراقيون من الداخل ثم الصوفية من الخارج الذين رأوا في الإشراق حكمة أكثر مما رأوا فيها فلسفة. ثم حاول ابن رشد الإصلاح والعودة إلى العقل فأجهز الفقهاء عليه. ثم تسربت الحكمة إلى علم الكلام من الباب الخلفي في القرون من السادس إلى الثامن حتى استولت على علم العقائد في المقدمات النظرية. فهي آخر ما بلغتْه العلوم الإسلامية النقلية العقلية من عقلانية قبل أن ينحصر الكلام الأشعري في النبوات أو السمعيات بعد أن كانت الإلهيات أصولًا عقلية دينية.

وتبدو النفس الإشراقية في «الوصية»، وفيها الأولوية لله في كل شيء تصعد إليه النفس في حركة ذهاب وتعود منه في حركة إياب. وشرط هاتين الحركتين تصفية النفس وتطهيرها، وتمثل ما ينبغي أن يكون من فضائل دون الوقوع في إسقاط التدبير على ما يفعل بعض الصوفية، والقيام بالشرائع والمعاملات. وهي رسالة كلها إنشائيات وأساليب أدبية مما يدل على طابعها الوجداني الإنشائي لا الخبري التعبيري ولا الوصفي التقريري العقلي العلمي. وهو موجهة إلى صوفي بنفس لغته ومضمونه، النغمة الروحية مما يضع مفارقة بين الجهد الفلسفي الموسوعي وبين التصوف عند ابن سينا.

كما يظهر الدين الإشراقي المباشر في «القصيدة المزدوجة»، ويصوغ «منطق المشرقيين» شعرًا طلبًا للنجاة يوم القيامة، حامدًا الله في آخر كل موضوع وذاكرًا أمثلة من الدين أو من البيئة المحلية أو الفقهية. ومن عنوان الفصل العاشر في «مبحث القوى النفسانية» تظهر ألفاظ الإشراق، مثل المفارقة والضوء والينبوع في إثبات جوهر عقلي مفارق للأجسام، يقوم للنفوس البشرية مقام الضوء للبصر ومقام الينبوع، وإثبات أن النفوس إذا فارقت الأجساد اتحدت به.

الإشراق هو الانتقال من المحسوس إلى اللامحسوس، ومن الظاهر إلى الخفي، ومن الواقع إلى المثال. والفيض الكوني يقابله الإشراق الوجداني، والصدق الموضوعي يقابله الإشراق الذاتي مما يؤدي أيضًا إلى القول بوجود خالق حكيم. ومقصود الحكمة التشبيه بالأول تعالى. ويتجلى الإشراق في تعريف الإنسان بأنه نفس لا بدن. والنفس جوهر روحاني خاص على هذا القالب، وأصبح آلة للعلوم والمعارف، يستكمل بها جوهره، ويعرف بها ربَّه، ويصير ملكًا. وهو مذهب الحكماء الإلهيين والعلماء الربانيين. ووافقهم على ذلك أصحاب الرياضة والمكاشفة والانسلاخ عن الأبدان والاتصال بالأنوار الإلهية. فالحكماء هم الرابطة بين المتكلمين والصوفية. ولما كانت الإدراكات الإنسانية والإلهية في النفس وليست في البدن، لا فرق في ذلك بين مدركات إنسانية أو إلهية، كان ذلك دليلًا على تمايز النفس عن البدن، وبقاء النفس.٢١

والناس في العلم والعمل على ثلاث مراتب من أدنى إلى أعلى، ولو أن ابن سينا يرتبها من أعلى إلى أدنى، وهي:

(١) الكاملون في العلم دون العمل. وهم المنزهون من أهل الشرائع الذين يعلمون المصطلحات، ويؤمنون بالله وباليوم الآخر، ويتبصرون الضياء في الأمر والنهي دون زيادة بسط في حقائق العلوم وأسرارها وأسرار التنزيلات الإلهية وتأويلاتها. فإذا ما تخلصوا من أبدانهم انجذبت نفوسهم إلى نفوس الأفلاك، وخرجوا إلى السموات فشاهدوا ما قيل لهم في الدنيا من أوصاف الجنة في غاية الشرف والرتبة. يلبسون السندس والإستبرق، وحلوا أساور من فضة، متكئين على الأرائك، لا يرون فيها شمسًا ولا زمهريرًا إلى آخر هذه الصور القرآنية. فينغمسون في اللذات الحقيقية التي لا يمكن شرحها أو التعبير عنها أو التشبيه لها.

(٢) الكاملون في العمل دون العلم وما دون ذلك في الكمال العلمي والعملي، وهم المتوسطون المحبوبون من العالم العلوي مدة حتى يتخلصوا من الهيئات الظلمانية والأعمال الردية في حياتهم الدنيا. وتزيد الهيئة النورانية قليلًا فيصلوا إلى عالم القدس والطهارة ويلحقوا بالمرتبة الأخيرة. وربما هم المتكلمون والفقهاء الذين تنقصهم تحويل العقائد والشرائع إلى علوم عقلية وأخلاقية.

(٣) الكاملون في العلم والعمل، العلم بواجب الوجود وصفاته، وكماله وتنزيهه وعنايته وعلمه وقدرته ثم سريان وجوده إلى الجواهر العقلية ثم إلى الأجسام العنصرية البسيطة والمركبة من المعادن في النبات والحيوان ثم النفس الإنسانية وأوصافها، وأنها ليست في جسم ولا جسدانية، وأنها باقية بعد البدن، منعمة معذبة، وهو القدر من العلم الذي لا يعطي الإنسان السعادة ويقربه من الله.٢٢

والمرتبتان الأولى والثانية نقيضان، علم بلا عمل، وعمل بلا علم، سلب وإيجاب، مندوب ومكروه، والمرتبة الثالثة العلم والعمل نقيض مرتبة افتراضية لا علم ولا عمل مثل الواجب والمحرم. ويغيب المباح، الإنسان الطبيعي، بعض العلم وبعض العمل دون ادِّعاء بطولة أو ممارسة نفاق. كما تبدو المرتبتان الأولى والثانية نظرية خالصة، الكمال في العمل دون العلم، والكمال في العلم دون العمل. فلا يوجد عمل بلا حد أدنى من العلم، ولا علم بلا حد أدنى من العمل حتى ولو كان فعل العلم نفسه. ولماذا الحجب عن العالم العلوي وهناك المغفرة؟ هنا تبتعد علوم الحكمة من الأشعرية والإله المشخص إلى الاعتزال وقانون الاستحقاق. ميزة هاتين المرتبتَين الأوليَين إمكانية الترقِّي إلى مرحلة التكامل بين العلم والعمل في حين أن المرتبة الثالثة هي نهاية المطاف.

وهذه القسمة أقرب إلى مراتب الصوفية وقسمة العلم إلى علم اليقين وحق اليقين وعين اليقين، أو قسمة الناس إلى عامة وخاصة وخاصة الخاصة. ووسيلة الارتقاء من مرتبة إلى أخرى هو الطريق الصوفي، طهارة النفس، وتخليصها من عوائق البدن. وخاتمة الرسالة صوفية خالصة، كشف الأسرار التي عميت عنها أبصار الناس، وغفلوا عن أنفسهم وأحوالهم، ويذاع منها القدر الكافي للطالبين الهداية والرشاد. ويظل السؤال: هل العلم هو الطهارة القدسية أم الأسس النظرية للعمل، علم بالأرض أم علم بالسماء؟ العلم الكامل هو الذي يفرض نفسه في العمل.٢٣ ليس الكشف الرباني هو العلم بل هو وسيلة كشف الحقائق العقلية وتطابق الوحي والعقل، معيار الصدق.
ويختص الإنسان عن سائر الحيوانات بقوة إدراكه للمعقولات. وتسمَّى هذه القوة عدة أسماء: النفس الناطقة، النفس المطمئنة، النفس القدسية، الروح الروحانية، الروح الأمرية، الكلمة الطيبة، الكلمة الجامعة الفاصلة، السر الإلهي، النور المدبر، القلب الحقيقي، اللب، النُّهَى، الحِجَى. وهي مصطلحات قرآنية. معظمها ثنائي الإيقاع، وثلاثة فقط أحادية الإيقاع، وواحدة ثلاثية الإيقاع. البعض منها مستعار من علوم الحكمة مثل النفس الناطقة، والآخر من علوم التصوف مثل النفس المطمئنة. وكلها وجدانيات وليست تصورات علمية، أقرب إلى التشبيهات والإنشائيات منها إلى المقولات والتصورات. وكلها إيجاب وليس بها سلب مثل النفس اللوامة والنفس الأمارة بالسوء. بها توحيد بين النفس والروح، بين الداخل والخارج. يشوبها بعض التكرار مثل الروح الروحانية ربما في مقابل الروح الجسدية. ويستعمل لفظ النفس والروح والكلمة أكثر من مرة.٢٤ البعض أوضح من بعض. فالحِجَى مثلًا غير مألوفة مثل اللب والنُّهَى. والسر هو الذي وُصف فقط بالإلهي دون غيره من مرادفات النفس. كما أن النفس تشارك في بعض الأوصاف الإلهية مثل الأمرية والمدبر. ويستعمل منها البعض مجازيًّا مثل القلب. تجتمع فيها الوظائف الدينية والأخلاقية النظرية والعملية. وتوجد في كل إنسان بصرف النظر عن البلوغ والعقل والصحة دون تمييز بين مراحل العمر وبين وجودها بين القوة والفعل.
وسعادة النفس الناطقة بتكميل جوهرها وتزكيتها بالعلم بالله، والعمل لله، والعمل بالله أي تطهيرها من الرذيلة والصفات الذميمة والعادات السيئة عقلًا وشرعًا، وتحليتها بالعادات الحسنة والأخلاق الحميدة والملكات الفاضلة عقلًا وشرعًا. العلم لله أن تحصل لها ملكة تتهيأ بها للمقولات من غير اكتساب فتحصل لها بالفعل، وتعكسها مرآة النفس، وتنطبع فيها صور الأشياء. التزكية العملية بوسائل الأخلاق، والحفاظ على الوظائف الشرعية، والسنن الملية والعبادات البدنية، التزامًا بحدود الشرع وأوامره لتطويع النفس الأمارة بالسوء وتحويلها إلى النفس المطمئنة أي تسخير القوى البدنية الشهوانية والغضبية للنفس الناطقة المطمئنة.٢٥ وبالتالي تتفق الحكمة والشريعة على الحسن والقبح العقليَّين كما هو الحال عند المعتزلة. والسؤال هو: لماذا يكون التضاد في الطبيعة والنفس ولا يكون في المجتمع والسياسة والتاريخ؟ لماذا يكون الصراع في الداخل وليس في الخارج؟ وهل النضال في هذا العصر ميئوس منه؟

كما يتجلى النفس في موضوع العقول والأفلاك العشرة. إذ تُحيل النفس الناطقة إلى نظرية الفيض بين الطبيعيات والإلهيات مما يدل على أن النفس بين عالمَين. فقد تبيَّن في العلوم الطبيعية أن الأجرام العلوية ليست من امتزاج العناصر الأربعة وأنها خالية من الأضداد. وكان هذا هو المانع من قبول الفيض الإلهي والإلهام الرباني الذي به تكشف الحقائق العقلية. فكلما كان المزاج أقرب إلى الاعتدال كان الشخص أقرب استعدادًا إلى قبول الفيض. فإذا تم الاتصال بالفيض الإلهي أي الجوهر العقلي ويسمَّى بلغة الفيض ملكًا، وبلغة الحكمة عقلًا فعالًا شابه الأجرام الفلكية، وشابه السبع الشداد أي الأفلاك السبعة.

خلق الله عقلًا ثم بواسطته خلق عقلًا آخر وفلكًا، وبواسطته خلق عقلًا ثالثًا وفلكًا ثانيًا على الترتيب. فالعقول أوائل العقل. فإن زكت النفس بالعلم والعمل شابهت جواهر أوائل العلل أي العقول. وإذا اعتدل المزاج بغياب الأضداد، شابه السبع الشداد، وفارقت صورته بدنه ثم شابه العلل الأوائل أي العقول المجردة.٢٦ ولماذا التوقف على العدد عشرة وهو ليس عددًا رمزيًّا كالسبعة؟ هل السبب نظرية بطليموس القديمة، مستوى ثقافة العصر؟

وواضح التشكل الكاذب في نظرية العقول العشرة بين الملك والعقل الفعال، السبع الشداد والأفلاك السبعة. العقل الأول ليس له فلك. لذلك زاد عدد العقول عن عدد الأفلاك عقلًا واحدًا. وتتكرر نظرية العقول العشرة في كل موضوع مما يدل على استحالة فصل النفس عن الإلهيات. ويظل السؤال: لماذا يخلق الله العقل الثاني بواسطة العقل الأول وليس مباشرة؟ هل في ذلك إقلال من شأن القدرة الإلهية أم أن الفنان في حاجة إلى وسيط، والفيض تصور فني للعالم؟ ولماذا بعد العقل النفس أو الفلك؟ هل الذات تتطلب الموضوع كما يقتضي الله العالم طبقًا لحديث «كنت كنزًا مخفيًّا …» أو «أول ما خلق الله خلق العقل …» أو هو شرح حديث «مَن عرف نفسه فقد عرف ربه»؟

إن افتراض أن للأفلاك نفوسًا افتراض الحياة طبقًا للتصور الحيوي للعالم مما يدفع إلى تحليل نظرية العقول. وقد يكون كل ذلك قياسًا للغائب على الشاهد. فهناك قياس بين الأجرام العلوية التي تخلو من الأضداد وبالتالي لا تقبل الفيض الإلهي، والنفس الإنسانية التي تنتابها الأضداد. فالكمال في الأجرام لا يزيد ولا ينقص في حين أن النفس الإنسانية تكمل وتنقص. الإنسان ليس ملكًا ولا حيوانًا.

(٦) غايات النفس (ابن باجه)

هي الأفعال الإنسانية ذات الغرض، المقصودة عن روية، وليست الأفعال البهيمية التي تهدف بأفعالها إلى أغراض أخرى.٢٧ أما الأفعال المادية الإنسانية فهي بالعرض وليست بالأصالة. والغائية جزء من الصلاح والأصلح والحسن والقبح عند المعتزلة. وبعض الانفعالات بهيمية مثل الخشية والخوف والفزع.
وقسمة الصور الروحانية هي قسمة الأفعال الإنسانية طبقًا لغاياتها. وغاياتها ثلاث من الأدنى إلى الأعلى. الأولى الصور الجسمانية، الضروري منها مثل الطعام والشراب والسكن والفائق مثل الدثار. والثانية الصور الروحانية الخاصة، الحس المشترك، وهم المتجملون أو التخيل وهو الانفعال. والثالثة الصور الروحانية العامة، الالتذاذ والكمال.٢٨ والالتذاذ كالتبسم والتودد والبر والهزل وحسن الحديث وحفظ الأخبار والأمثال وهو الأدب الاجتماعي والظرف في المعاملات. والكمال فقط هي الفضائل الفكرية والعلوم والعقل، وصواب المشورة وجودة الاستنباط. والفضائل الشكلية كالسخاء والنجدة والألفة والإلف وحسن المعاشرة والرفق والتودد والأمانة. والفضائل المذمومة كاليسار وإفراط الغيرة والأنفة. والقصد أن تولد في النفس خشوعًا ثم كرامة. وقد لا يُقصد منها شيء بل لذاتها لكمال صورتها الروحانية. وإذا حدَّث كذبًا يكون رياء. وإذا حدَّث انفعالًا يكون شوقيًّا (في حالة طلب الكرامة) أو مثل الكرامة في حالة طلب الخشوع. وهو عمل فاضل أجره على الله مع الاستشهاد بحديث «إنما الأعمال بالنيات»، أعمال الذكر الحسن، والاستشهاد بالشعر والأخبار. وهي أفعال في بعض السير أخفى وفي بعضها أكثر. وتنال بطريقة أكمل بالخيال مع استطراد في موضوع الشعر بتوجه قرآني ربما من آية وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ. فما يقصد الشاعر لا مدخل له في العمل الفاضل. وإنما هو شوقي أو ما يجري مجراه. والغريب والمعجب نوعه أو قدره أو مأتاه قد يصنعه الأفاضل، ليس من أجل نَيل الذكر بل لأجل كمال العمل. وهو شائع عند كبار الأنفس والمستأهلين لتدبير المدن. جاء فيه الوعيد لأفعال النقائص كالرياء والأفعال الجسمانية. والشعر نوعان: الغريب الذي يتداوله الناس إعجابًا به أو المتذكر لسيرة الأمة والمحافظ للأقاويل الموزونة. وفي الذكر تبقى صورة الإنسان الروحانية مدة أطول. وهو معنى جديد للخلود من خلال العمل في أذهان الآخرين وفي الحضارة كوعي جمعي. والذكر نوعان: كذب يُهلك، سريع محوه، قليل في الألسنة، وصادق طويل بقاؤه. والأفعال الروحانية نوعان: ما يجري مجرى الشوقي بالعرض أو لشيء آخر، والشوقي الذاتي دون منٍّ أو فخر. وهو موهبة إلهية لأن المال قد يرزقه الله للإنسان على يد إنسان آخر وكأننا في أحوال الصوفية. وتتداخل فضائل الالتذاذ مع فضائل الحس المشترك والخيال. ومن ثَم لا توجد حدود فاصلة بين الفضائل الأربعة.٢٩

ويلجأ ابن باجه إلى التجربة الذاتية والإجماع عليها في حكمة الشعوب كتحقيق مناط النص بالإضافة إلى الشعر والأمثال العامية والنوادر الشعبية. والصور الجسمانية فحسب مثل السكر ولعب الشطرنج والصيد مما تمارسه الطبقات العليا سبب انهيار الدول. وهي تحليلات أصولية لمقاصد الشريعة مثل الضروريات الخمس وأولها المحافظة على الحياة، الضروريات والحاجيات والتحسينات. وتكشف هذه القيم المادية مثل الدثار عن أسلوب حياة ملوك الطوائف في الأندلس وسبب انهيارها. وهو قريب الشبه بابن خلدون في تصنيفه قيم البدو وقيم الحضر وأسباب قيام الدول وانهيارها.

والأفعال الإنسانية إما صور جسمانية أو صور روحانية خاصة نسبية متوسطة، غايتها ليست غايات، وصور روحانية عامة وهي المعقولات.٣٠
والأخلاق أخلاق إلهية. فالغاية غايتان. الأولى ما يحسب كل قوم أن يُرضي الله، والثانية مركبة من غايات اليسار، يسير الكرامة، التهويل والملبس والمركب والتزين والتلذذ. والأعمال التي يبتغي بها رضى الله محمودة. وقد ادَّعى الغزالي أنه شاهد أمورًا إلهية، وسمع أصواتًا إلهية في اعتزاله. وقال أرسطو في الحادية عشر من «نيقوماخيا» إنه متى كان السعيد سعيدًا بالحقيقة وعمل بأعمال السعادة كان في التذاذ دائم وتحف وهدايا إلهية. ويمكن معارضة هذه الظنون بعلم النفس وماهيتها وبالأجرام المستديرة وبالإله جل ثناؤه وتفصيل هذه العلوم والتذاذاتها. فهذه العلوم ليست عبثًا ولا باطلًا، ولا تترك خاصة علم الإله. تنال النفس السعادة الأبدية. فالدائم من جهة الزمان غير دائم. والدائم هو الذي لا يشمله زمان، وهو الله معطي الدوام.٣١
وتبدأ رسالة «الوداع» بالرغم من جمال اسمها بالعلة الغائية كما هو الحال في علم الأخلاق وفي «تدبير المتوحد»، وبالمتحرك والمحرك في علم الطبيعة ثم الانتقال من الطبيعة إلى علم النفس بتحليل الحركة في النفس طبقًا للقسمة الثنائية للإله، البدن والنفس. فالإله نوعان: جسم وهو البدن، ونفس ما به يتحرك البدن. الحركة في النفس من الطبيعة إلى النفس، من الخارج إلى الداخل وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ. والغاية نوعان. عكسها في الضلال والعبث، وفي نفسها وهم الأفاضل الراشدون. وهي قسمة ثنائية متطهرة تأخذ أشكالًا عديدة أو ثلاثية بها وسط. وهنا يتم الانتقال من النفس إلى الأخلاق إلى الاجتماع. والغاية ثلاثة أنواع. اللذة، واليسار والكرامة، وما يرفض الله. واللذة إما محسوسة أو الجاه المحمود أو المذموم أو العلوم. والعلوم إما كثيرة أو واحدة.٣٢ والغاية ينتهي إليها الطبع بالسلوك إليها. فهي داخلة في الطبيعة. والطبيعة غاية، والواقع قيمة. هنا يصعب التفرقة بين نظرية العلم ونظرية الأخلاق. وتتفاوت العلوم في مراتب الشرف. فبعض العلوم توصل إلى الله عند البعض مثل ابن الجلاب والغزالي. والعلم له لذتان: الأولى تعقب الشوق المحرك، والثانية لذةُ كلِّ مَن علم شيئًا، وهذه لا اسم لها. وهي دائمة ملازمة أبدًا للعالم. لذة العلم ربح في مقابل اللذة العقلية الخالصة لذاتها (الارستقراطية) أو لمعرفة الله (التصوف).

والتمامات نوعان: الآلات الصناعية مثل الكيفيات الجسمانية والخادمة والثانية الفضائل النفسانية لأن الغايات نوعان: آلية صناعية جسمانية، وفضائل نفسانية لا توجب لصاحبها شرفًا ولا كمالًا، ولا مدحًا ولا ذمًّا.

وتصل ذروة الأخلاق الفردية في نظرية الاتصال، اتصال النفس الناطقة بالعقل الإلهي. فالإمكان نوعان طبيعي يدرك بالعلم، وإلهي يدرك بمعرفة إلهية، وهي النبوة. إذ لما أراد الله عز اسمه تتميم مواهبه على الناس أعطاهم العلم وما جاءت به الشرائع من حض عليه وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا أي الإمكانيات الإلهية. وأيضًا إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ لأن مَن علم الله حق علمه علم أن أعظم الشقاء سخطه والبعد عنه. وأعظم السعادة رضاه والقرب منه. ولا يكون القرب منه إلا بمعرفته. لذلك قال الرسول «خلق الله العقل فقال له أقبلْ فأقبلَ، أدبرْ فأدبرَ. وعزتي وجلالي ما خلقت خلقًا أحب إليَّ منك». فالعقل أحب الموجودات إلى الله. به فضل الإنسان. وهذا هو التشابه بين الإنسان والله في العقل، مثل التشابه بينهما في المحبة عند الصوفية. لذلك كان الإنسان أحب المخلوقات إليه. رضي الله عنه بالعلم. فالعلم مقرب من الله، والجهل مبعد عنه. وأشرف هذه العلوم وأجلُّه مرتبة تصور الإنسان ذاته حتى يتصور ذلك العقل. وهو نهج الأسلاف، رضي الله عنهم ورضوا عنه وذلك الفوز العظيم.٣٣
والسؤال هو: ما الحاجة إلى النبوة ما دام العقل كاملًا؟ هل هذا خطاب مزدوج، في الظاهر إثبات النبوة وفي الباطن نفيٌ لها؟ وحديث «أول ما خلق الله خلق العقل» حديث قدسي. وهو مفتاح قلب الحضارة ومركزها، في الموروث لا في الوافد. لذلك يعتمد ابن باجه على السلف الصالح. والعقل ثواب الله. هنا يظهر الموروث طاويًا الوافد في نهاية المطاف، وتظهر الأشعرية الإشراقية. العقل نور، ثواب الله ونعمته على مَن يرضاه من عباده. الطاعة لله ثم الجزاء عليها وهو العقل. والشريعة مكملة للفكر. والعقلاء مع الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين. والعقل هو العقل النظري والعقل العملي في آنٍ واحد.٣٤ وهنا تتراوح الأخلاق بين الأخلاق في ذاتها والأخلاق الدينية.
وما زال لفظ القنية مستمرًّا من الكِنْدي حتى ابن باجه والذي يعني خصائص الشيء الذاتية. فإذا كانت الأخلاق تقوم على التفرقة بين الطبيعة والإرادة، بين الضرورة والاختيار فإن القنية الطبيعية تنقسم إلى ثلاثة أقسام: عدم المبالاة بالجسد والأعضاء، وكثرة التوقي وعدم النهوض إلى شيء، ثم التوسط بينهما في جدل الأطراف والوسط.٣٥ وتنقسم القنية الإرادية أيضًا إلى ثلاثة أقسام نفس القسمة بناء على نفس الجدل: عدم المبالاة بالآلات وحراستها حتى تفسد، حفظ الآلات وصيانتها لدرجة العبودية لها دون الالتذاذ، ثم حراستها وقت الحاجة وعدم المبالاة حين استعمالها إذا تلفت أم لا.

وهناك ثلاثة أجناس من النسب: الرأي والخيال والنزوع، والنفس إلى آلاتها، ثم المعرفة أي أن نسبة الصانع إلى آلاته متدرجة من أدنى إلى أعلى. والتمامات التي تنال بالأفعال الإنسانية أيضًا ثلاثة أنواع: الآلات الصناعية مثل الشهوات، والأعضاء والبدن مثل اللذات وهي الفضائل الشكلية، ثم الأخلاق الفاضلة. والتمامات أيضًا لفظ من الكِنْدي بمعنى الغايات.

واللذة على أنواع: إما بالعدد وهي اللذة الكمية أو بوجود الوجود وهي اللذة الحسية، أو بوجود الفاعل وهي اللذة العقلية. ولما كانت اللذة العددية والوجودية لذة حسية انقسمت إلى قسمين فقط، طبيعية حسية، ومعنوية عقلية.٣٦

ويتحدث ابن باجه كما يتحدث الفارابي عن الإنسان كمقولة مستقلة كما يتحدث عن الفطرة الإنسانية. واللفظ مشتق من الأنس أي الألفة وليس من النسيان كما هو الحال في المفهوم الشعبي وخيال الشعراء.

والإنسان من جهة ما هو حيوان خيال. وما توجبه الروية والتحرك في الإنسان ليفعل فعلًا إنسانيًّا إنما يحصل عند الفكر كما يحصل الخيال عند الحس. والإنسان أكثر الحيوان قنية لتفنن صنائعه.

وكل إنسان أي كل موجود كائن فاسد. والإنسان المتصور أن تلك الآلات المنسوبة إليه تشرفه ليس شريفًا بذاته. والإنسان الأول ذو المحرك الأول، والبدن مجسم آلاته. وهو في هذا مثل الحيوان. فنسبة الإنسان إلى آلاته الإرادية كنسبة المحرك الأول الذي فيه إلى آلاته الطبيعية التي هي البدن. وإذا عدم الإنسان الآلات الإرادية لا يمكن أن يعمل أعمال تلك الآلات. هو المحرك الأول على التحقيق، وليس مؤلفًا من شيئين، آلة وصانع.

إنما أحوال الإنسان بالنسبة له بالذات وبالطبع أي بماهيته وجوهره. ووجوده متدبرًا بالنفس النزوعية. إذا حصل على الكمال نجَا من مجاهدة الطبيعة وآلامها والنفس وقواها، في سكينة وفرح وسرور دائم. فالدائم من جهة الزمان غير دائم. وهذا ما يخص الإنسان وقنيته. وينسب الكمال إلى الإنسان كما ينسب التمام إلى القوة. فالتمام موجود في الإنسان. وقد يكون الكمال بالصناعات العملية.

وفضل الإنسان هو ذلك العقل بعينه لا فرق بينهما. الإنسان هو العقل، والعقل في الإنسان. ويكون الإنسان إنسانًا، والمتوحد متوحدًا بالقوة الفكرية. تنزل عليه الصور الروحانية فيتذكرها أو ينساها. وعن طريقها يتصل الإنسان بالعقول. يحصل الإنسان أولًا على الصور الروحانية ومراتبها ثم يتصل عن طريقها بالعقول. وكل فعل غير التعليم هو للإنسان لا بتوسط. والإنسان الفاضل لا يكون متوسطًا لأنه لا يخدم أحدًا. فالإنسان غاية وليس وسيلة لغاية أخرى. هو الرئيس.٣٧

وأساس التدبير واحد للفرد والمجتمع حتى يتم الوصول إلى القوة الناطقة بلا جسمية. يستعمل التدبير الإنساني هذه النسب نظرًا لدخول هذه الصور الروحانية الخاصة في العلم السياسي، الخيال السياسي، الذاكرة السياسية أي الوعي التاريخي، والعقل السياسي أي تحليل العقل وليس الخطابة، والحس المشترك أقرب إلى ثقافة الجماهير.

ولا يقوم العلم المدني على الصور الروحانية عند الصوفية لأنها بالعرض لا بالذات، وغاية المتوحد بالذات لا بالعرض. وتتأسس الأخلاق والعلم المدني على اليقين وليس على الظن أو الكذب.

والصور الروحانية الخاصة والمتوسطة ليس لها غايات لأنها أمور حاصلة أكثرها بالطبيعة بغير الإرادة. وما يظن أنه محمود بالإرادة فهي داخلة في أمور ثلاثة: الصور الجسمانية كالعلاقة، والروحانية الخاصة كالصناعات، والمعقولات أي التعليم والشعر. فالروحانية الخاصة نوعان، بالطبيعة وبالإرادة.

والمتوحد لا شأن له بالجسماني، وواجب عليه في بعض السير أن يعتزل الناس أو يهاجر. ولا يناقض ذلك العلم الطبيعي أو العلم المدني لأن الإنسان مدني بالطبع. والمتوحد ينعزل بالعرض لا بالذات. ونسبة الأحوال إلى الأبدان كنسبة السير إلى النفس. وكما أن الصحة أمر طبيعي للجسد، وكثرتها خارجة عن الطبع فكذلك السيرة الأمامية هي الأمر الطبيعي للنفس. وهي واحدة. وكثرتها خارجة عن طبيعة النفس.٣٨

واضح أن الأخلاق أساس الاجتماع والسياسة، وأن النفس أساس الأخلاق، الغاية نظرية في السياسة والنهاية نظرية في العلم عن طريق النفس ثم الأخلاق.

وتتفاضل الأعمال الإنسانية بالغايات. غاية المرائي المعصية، وغاية العابد الطاعة. وغاية اللقاء أربعة: الشوقي وهو التذاذي بهيمي، والمدني الإنساني للتعاون على النافع، والعقلي للعلم والتعلم، والإلهي. والعقل الإلهي موجود في هذه اللقاءات الأربعة على مستويات عدة، العقل الإلهي موجود في الحيوان. والجوهر الفاعل عقل إلهي عند أرسطو. وما دون ذلك يسمَّى قوًى. لذلك رأى الأولون أن السماء يسكنها الروحانيون.

ويحلل ابن باجه النفس في «تدبير المتوحد». فالمتوحد ليس فقط مقولة إنسانية، هذا الغريب، بل أيضًا مقولة وجودية تشير إلى النبات أي ما ينبت متوحدًا في بيئته، ما يخرج ويتخارج ويند ويبرر.٣٩ والتدبير يعني التخليص من أمور خارجه عن الطبع والعودة إلى الفطرة والقضاء على الاغتراب مثل الطبيب الذي يحفظ الصحة للمريض أو يسترجعها. وإذا أراد النابت الحصول على السعادة فكيف ينالها إذا كانت موجودة وكيف يزيل الأمراض المانعة عنها؟ الأول مثل الطب الوقائي والثاني مثل الطب العلاجي. والطب إما للأجسام (الطبيب) أو للنفوس (الفيلسوف الإشراقي) أو للمعاشرات (الفيلسوف المدني). الإنسان مدينة صغيرة والمدينة إنسان كبير.٤٠
وفي «قول يتلو رسالة الوداع» يتم الانتقال من علم النفس والأخلاق وتأسيسها فيما بعد الطبيعة، في المحرك الأول أي في الإلهيات. «رسالة الوداع» الحديث على الإجمال، والقول الذي يتلوها في الإنسان بعينه.٤١ وفي رسالة «اتصال العقل بالإنسان» تبدو النزعة الصوفية وكأنها تنويع على التوحيد. موضوعها الواحد الذي يقال إما بالعدد أو بالنوع والخير.

وفي «الغاية الإنسانية» تتحول الإلهيات إلى إنسانيات. وتبرز أهمية العلة الغائية بالرغم من أنها تبدأ بالرياضيات وبالموجود الرياضي المنطقي. تختلف الغايات فيما بينها. وأعلاها الغاية القصوى، غاية الغايات، وهو الله طبقًا للتشكل الكاذب. وتتفاوت الغايات في المراتب طبقًا للرئيس والمرءوس، والمخدوم والخادم. وواضح أن ابن باجه فارابي النزعة. ولد ابن رشد كما ولد الفارابي ابن باجه، ابن سينا المغرب.

وهناك نوع من التكرار في حاجة إلى تجميع من أجل اكتشاف البنية، هو حدس واحد يتكرر باختلاف اللغة. والعلم مرة لغة الطبيعة، ومرة لغة النفس، ومرة لغة الأخلاق، ومرة لغة المنطق، ومرة لغة ما بعد الطبيعة.

ويظهر تحليل الشعور والتجارب النفسية في الأسلوب مثل «نازعتني نفسي» وكما هو الحال في آية وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا و«قلت لنفسي في خلاء ألومها».٤٢ ويلاحظ نشأة المصطلحات المستقلة مثل الأفاضل، الراشدون. وأحيانًا لا تنشأ الألفاظ ويتم التعبير عن المعاني سلبًا.
١  رسائل، ج٣، ١١، ٣٢٥–٣٣٠.
٢  في كلام حكماء الهند وغيرهم في الضمير، السابق، ج٤، ١١، ٣٦٠-٣٦١، ٢٩٧.
٣  والله والنفس هما المحوران الرأسيان على التبادل في فلسفة أوغسطين، السابق، ج١، ٩، ٢١٣، ٣١٦–٣١٩، ج٢، ١، ١١.
٤  رسائل، ج١، ٩، ٣١٢–٣١٩.
٥  الفارابي، عيون المسائل، ص١٠٧-١٠٨؛ آراء أهل المدينة الفاضلة، ص٦٠–٦٢.
٦  الفارابي، السياسات المدنية، ص٤٤–٥٠.
٧  هذا هو موقف برنشفيج من عدم الانزعاج بالموت؛ لأنه خبر يُنشر في آخر صفحة في الجريدة، ولا يقرؤه عكس جبريل مارسل الذي ينزعج منه لأنه يضع حدًّا لحياته.
٨  الفارابي، فصول المدني، ص٨٤–٨٧، فقرات ٧٧–٨١.
٩  الرأي الأول أشبه برأي أفلاطون، والثاني بالصوفية، والثالث بالفلاسفة.
١٠  هذه هي أخلاق البطولة عند كارلايل وبرجسون.
١١  حتى ولوع كل ذي علم بعلمه ودعواه أن ليس في الدنيا أشرف من علمه، المقابسات، ص١٤٧–١٤٩.
١٢  في كيف يفعل العاقل اللبيب ما يندم عليه، المقابسات، ص١٩٩-٢٠٠.
١٣  في أن العلم حياة الحي في حياته والجهل موت الحي في حياته. في حكم بعض الحكماء وفى بيان حال العالم غير العامل، المقابسات، ص٢٦٢–٢٦٥. في أشرف العلم والمعرفة والفضائل هو سبب قلَّتها في هذا العالم، ص٣١٩-٣٢٠. في أنه ليس في الدنيا خصلة يحسن الإنسان منها إلى نفسه ويحمد عليها إلا العلم، ص٣٤٨-٣٤٩.
١٤  بناء على سؤال فيلسوف عن العادة، تخفي في السر وتفضح في العلانية وهو مشابه لرأي برجسون ورافيسون وجيتون. الفلسفة الغربية أسلوب ومنهج وفكر في واقعٍ عارٍ عكس العصر الوسيط، مذاهب وكلُّ شيء مغطًّى. الحديث هو إسقاط الغطاء وإخراج شيء واحد ويتم تضخيمه حتى يصبح كالبالون، فتتم فرقعته، الإمتاع، ج٢، ٨٤، ٩٠-٩١، المقابسات، ص٢١٤-٢١٥.
١٥  وهذا أيضًا هو فهم كانط.
١٦  السابق، ج٢، ١١٨-١١٩؛ المقابسات، ص١١٩، ٢٤٦-٢٤٧، ٢٧٣.
١٧  وهي خمسة عشر بابًا:
(١) إيثار الخير على الشر في الأفعال والحق على الباطل في الاعتقادات والصدق على الكذب في الأقوال، (٢) ذكر السعادة وأن يحصلها يكون باختيار دائمًا، وكثرة الجهاد الدائم لأجل الحرب الدائمة بين المرء ونفسه، (٣) التمسك بالشريعة ولزوم وظائفها، (٤) حفظ المواعيد حتى إنجازها وأولها ما بين الإنسان والله، (٥) قلة الثقة بالناس بترك الاسترسال، (٦) محبة الجميل، (٧) الصمت في أوقات حركات النفس للكلام حتى يستشار فيه العقل، (٨) الإقدام على كل مَن كان صوابًا، (٩) حفظ الحال التي تحصل بشيء حتى تصير ملكة ولا تفسد بالاسترسال، (١٠) الإشفاق على الزمان الذي هو العمر ليستعمل في المهم دون غيره، (١١) ترك الخوف من الموت والفقر وعمل ما ينبغي وترك الدنية، (١٢) ترك الاكتراث لأقوال أهل الشر والحسد لئلا يشتغل بمقابلتهم والانفعال لهم، (١٣) حسن احتمال الغنَى والفقر والكرامة، (١٤) ذكر المرض وقت الصحة والهم وقت السرور والرضى عند الغضب ليقلَّ الطغي والبغي، (١٥) قوة الأمل وحسن الرجاء والثقة بالله، وصرف جميع البال إليه، فإذا أصلح نفسه تفرَّغ بعد ذلك إلى إصلاح غيره وألَّا يبخل على أحد بنصيحة، المقابسات، ص٣٢٥.
١٨  في كلمات في الزهد وترك الدنيا، المقابسات، ص٢٩٥–٣٠١ في حِكَم فلسفية من كلام أبي الحسن العامري، مثل: المعرفة لا بالنفس بل بعيان النفس وتشبيهه لا بالكمال بل بكمال الجمال، وطلبه لا للاتحاد ولكن لاستخلاص الاتحاد، الوثوق لا بالصديق بل بميزان الصدق، مَن جعلك مريدًا فاجعله مرادك، وزن النفس بالنفس هو العبادة بالنفس، ورع النفس بالنفس هو العلاج للنفس، وعون النفس بالنفس هو التدبير للنفس، وانتساب النفس بالنفس هو التعرف للنفس، وعشق النفس هو المحرض، سلْ واهب العقل إضاءة العقل ولاحظ الحقائق بنور الحق، ابدأ بالأول في إيثار الأولى، وأعرب الأولى بإيثار الأول، مبدأ وجمال، الأحسن هجران الأقبح ومنشور الرأي الأقوم وجدان الأصلح. المختار الأول عاشق للأحسن والمقدم الأول مريد الأتقن، آمن والمؤنة أشرف القنيات، وإخلاص العمل أشرف الأعمال وعداوة الشيطان أشرف من المجاهدات والتهيؤ لإجابة الداعية أشرف الأفعال وتمييز البقاء من الفناء أشرف من النظر، دوام الصحة للفضلاء من السادة يروض الطبع على الحميد من السعادة، وإجالة الفكر في نظام الخليفة يحلي النفس بجمال الفضيلة، ليس الألطف في تزيين الشيء بل الألطف في تأنيق التزيين، الحال لا يجب أن تكون حال الصبى … السابق، ص٣٠١-٣٠٢.
١٩  ابن سينا، أحوال النفس، ص٤٥، ٥٥، ١٣٩، ١٤١-١٤٢، ١٠٦-١٠٧. ويمكن القول إن الفلسفة الحديثة هي تطوير لعلم الكلام المدرسي كما أن الفلسفة الإسلامية تطوير لعلم الكلام الإسلامي.
٢٠  ابن سينا، الإشارات والتنبيهات، ص٢٢٥، ٢٢٨–٢٣٠، ٢٤١-٢٤٢.
٢١  ابن سينا، القوى النفسانية، ص١٧٦–١٧٨؛ معرفة النفس، ص١٨٣–١٨٥؛ منطق المشرقيين، ص لز – لط، ٢–٤، ١٤.
٢٢ 
ابن سينا، معرفة النفس، ص١٩١-١٩٢.
٢٣  هذا هو الدليل الأنطولوجي على مستوى الحرية والفعل عند فشته وليس على مستوى وجود الله عند ديكارت.
٢٤  مثل: النفس (٣)، الروح، الكلمة (٢).
٢٥  ابن سينا، النفس الناطقة، ص١٩٥–١٩٧.
٢٦  السابق، ص١٩٧–١٩٩.
٢٧  وذلك مثل أرسطو وكانط. ابن باجه: تدبير المتوحد: ص٤٩–٥٤.
٢٨  ابن باجه، تدبير المتوحد، ص٧٥–٨٣.
٢٩  السابق، ص٨٠، ٧٥–٩٣.
٣٠  ابن باجه، تدبير المتوحد، ٩٣–٨٣.
٣١  ابن باجه، الغاية الإنسانية، ص١٠٠–١٠٢.
٣٢  ابن باجه، رسالة الوداع، ص١١٣–١٣١.
٣٣  وذلك مثل قول نجيب محفوظ في «أولاد حارتنا»: إن الجبلاوي مات وهو عن عرفة راضٍ، السابق، ص١٤١-١٤٢، قول يتلو رسالة الودع، ص١٤٩-١٥٠.
٣٤  ابن باجه، اتصال العقل بالإنسان، ص١٦٢.
٣٥  يعطي ابن باجه نماذج عملية لهذه القسمة. الأولى المستظهر، والثانية علي بن السلمي، والثالثة الشجعان.
٣٦  ابن باجه، رسالة الوداع، ص١١٧، ١٢٧، ١٢٩.
٣٧  ابن باجه، اتصال العقل بالإنسان، ص١٦٤؛ الغاية الإنسانية، ص١٠٢–١٠٤؛ رسالة الوداع، ص١١٦–١٣١، ١٣٣–١٤٢.
٣٨  ابن باجه، تدبير المتوحد، ص١١٧–١١٩.
٣٩  وهو ما وصفه محمد عبده بأنه «العاكف على شانه، الخبير بأهل زمانه».
٤٠  وذلك مثل جان جاك روسو، ابن باجه: تدبير المتوحد ص٤٧.
٤١  ابن باجه، قول يتلو رسالة الوداع، ص١٤٨-١٤٧.
٤٢  ابن باجه، رسالة الوداع، ص١٢٥، ١٢٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤