ثانيًا: الوافد والموروث (أبو حيان)

والسؤال في المنطق هل هو وافد أو موروث؟ هل هو يوناني أم عربي؟ وهو سؤال عن شرعية المنطق. وقد أخذ هذا السؤال صيغًا عديدة معظمها في مناظرات أدبية فلسفية بين المنطق والنحو، الحساب والبلاغة، النظم والنثر. ويتطور السؤال حول شرعية المنطق في الوسط بعد تمثله في البداية إلى قبوله، لا فرق بين منطق اليونان وأساليب القرآن (ابن حزم) أو رفضه بترجيح أساليب القرآن على منطق اليونان (الصنعاني، ابن تيمية) أو ضمهما معًا في منطق واحد، و«محك النظر»، و«معيار العلم»، و«القسطاس المستقيم» (الغزالي).

(١) المنطق والنحو

يفرد أبو حيان في «الإمتاع والمؤانسة» للمناظرة بين النحو والمنطق مساحةً كبيرة من أطول الليالي، الليلة الثامنة.١ كيف دونت هذه المناظرة، من الذاكرة أم من مذكرات؟ هل رويت كما وقعت أم أن بها قدرًا كبيرًا من الخلق الأدبي والإبداع الفني؟ هل كان أبو حيان شاهد عيان أم شاهد روح؟ وهل وقعت بالفعل أم أنها رواية أدبية عن واقع فلسفي وليست حدثًا مكانيًّا زمانيًّا، والفكر هو الذي يخلق الواقع كما هو الحال في الانتحال؟ قد تكون المحاورة أقرب إلى الفن منها إلى العلم.٢ وفنُّ المناظرات فنٌّ عربي أصيل، مثل المناظرات بين الشعراء والأدباء والمتكلمين والظرفاء. يساعد العقل على التفكير على نحو جدلي في جماليات التقابل، كما أنها وسيلة للتدريب الفكري وشحذ الذهن، وقبول التعددية في الرأي ضد منطق التكفير والاستعباد والاستئثار بالرأي ومنطق الفرقة الناجية.
تبدأ بمبادرة من الموروث، سؤال يهودي عن سهولة طريق الفلسفة وصعوبة طرق الفلاسفة،٣ تطويلًا وشكوكًا وربما غشًّا وسوء طباع، إتعابًا وحسدًا، معيشةً وكسبًا دون حبٍّ للحكمة وللعلم. والدافع على السؤال الإعجاب بالمنطق والفلسفة وإغراء الوافد بعيدًا عن الموروث. عيب الفيلسوف عدم تطابق فكره مع عمله.٤ وتطابق النظر والعمل مقياس شرعي في شروط الاجتهاد والإفتاء. مع أنه حكيم إشراقي متأله متجرد عن الدنيا من أجل تزكية النفس. وحجة المنطق أنه الطريق إلى معرفة الحق من الباطل، والصدق من الكذب، والخير من الشر، والحجة من الشبهة، واليقين من الشك. هو آلة من آلات الكلام، يُعرف بها صحيح الكلام من سقيمه، وصالح المعنى من فاسده كالميزان. وحجة النحو أن النظم المألوف والأعراف المعروفة هو الطريق إلى معرفة صحيح الكلام من فاسده إذا كان الحديث بالعربية. أما صلاح المعنى من فساده فإنما يُعرف بالعقل. ويرد النحو ويتساءل: أي منطق؟ المنطق مجرد شكل وصياغة. هناك الحدس الذي يمكن أن يكون أداةً للمعرفة والتجربة المباشرة، وفهم الكلام بالقصد. وهو حوار بين الوافد والموروث في كل عصر، بين أنصار الغرب وأنصار السلف، منذ القرن الماضي وحتى هذا القرن. كان الغرب قديمًا ممثلًا في اليونان. وكان علمهم ممثلًا في المنطق كما أن الغرب حديثًا ممثل في أوروبا. والعلم هو العلم الطبيعي وتطبيقاته.
ومتَّى في موقف الدفاع، والسيرافي في موقف الهجوم. وهذا هو حال الوافد مع الموروث. السيرافي يسأل ومتَّى يجيب. لذلك كان معظم الكلام للسيرافي وأقله لمتَّى. ويبدو في موقف السيرافي بعض التعالم، استنادًا إلى شرعية موقفه الحضاري. في حين يبدو في متَّى موقف المتواضع إحساسًا منه بأنه يسبح ضد التيار. وسؤال السيرافي له عن معنى «الواو» إحراج له؛ لأن متَّى غير متخصص في النحو العربي تخصُّص السيرافي بالرغم من جمعه بين لغات عدة، وكشفه منطق النقل الحضاري وظاهرة التشكل الكاذب عندما تستعير حضارة لغة حضارية أخرى كأداة للتعبير دون استعارة معناها.٥ وكل الحاضرين ضد متَّى ومع أبي سعيد، نحويين أو أدباء. ويحاول أبو حيان الجمع بين الموقفين. فالكلام له معنيان: المنطق كما يقول متَّى، وهذا هو الاستدلال، والنحو كما يقول السيرافي، وهذا هو الإعراب.

وما دامت المناظرة بين فريقين، كل منهما يحاول الدفاع عن موقفه ضد خصمه فهناك على الأقل أربع مجموعات من الحجج على النحو الآتي:

ويمكن عرض المناظرة بطريقتين. الأولى تجميع كل مواقف متَّى حول أولوية المنطق على النحو كمقال متسق، وجمع كل مواقف السيرافي في أولوية النحو على المنطق، ثم ترك المقارنة بين الموقفين للقارئ. والثانية عرض كلٍّ من الموقفين في كل موضع، واحدًا وراء الآخر حتى يظهر التناظر واختلاف الآراء حول الموضوعات مما يستلزم العرض الحجاجي. ويمكن الجمع بين الطريقتين، تجميع عدة موضوعات متشابهة ثم عرض الموقفين فيهما عرضًا متسقًا.

في رأي النحو، ارتبط المنطق بلغة اليونان واصطلاحهم وعاداتهم وأعرافهم. فكيف يلزم الترك والهند والفرس والعرب؟ وإذا كانت الأغراض المعقولة والمعاني المدركة لا تحصل إلا باللغة الجامعة للأسماء والأفعال والحروف لزمت معرفة اللغة. ومن ثم كانت الدعوة لتعلم المنطق دعوة لتعلم لغة اليونان. والمنطقي لا يعرفها فهو إذن يدعو إلى تعلم لغة لا يعرفها! وقد انقضت منذ زمن طويل، وانقرض أهل يونان ولم تبقَ إلا ترجمات سريانية وعربية وليست من اليونانية مباشرة.٦ فهل لا حجة إلا عقول يونان، ولا برهان إلا ما وضعوه، ولا حقيقة إلا ما أبرزوه؟ أليس هذا خطأً تعصبًا وميلًا مع الهوى؟ إن العلم مبثوث في العالم بين جميع الأمم وليس حكرًا على أمة بعينها. ولم يضع المنطق اليوناني اليونان كلهم بل رجل واحد منهم أخذ عمن قبله كما أخذ عنه من بعده. وهو ليس حجة على هذا الخلق الكثير والجم الغفير. وله مخالفون منهم ومن غيرهم. ولما كان الاختلاف في الرأي والنظر والبحث والمسألة والجواب سنح وطبيعة، فكيف يأتي رجل واحد ليرفع الخلاف؟ وقد بقي الخلاف بين الناس قبل منطقه وبعده. ويصعب على المنطقي أن يجد اسمًا لصناعته وآلته إلا أن يستعير من العربية. كما يحتاج إلى اللغة، قليلها للترجمة، وكثيرها من أجل التحقق من صحة الترجمة، واكتساب الثقة وحسن الصفة. ولا تطابق كل لغة غيرها من اللغات من جميع جهاتها، بحدودها، وأسمائها وأفعالها، وصروفها وتأليفها، وتقديمها وتأخيرها، واستعارتها وتحقيقها، وتشديدها وتخفيفها، وسعتها وحديثها ونظمها، ونثرها وسجعها، ووزنها وميلها. ومن ثَم تستحيل الترجمة المطابقة للأصل.٧ عيب الترجمة فصل المعنى عن اللفظ والضعف اللغوي. ومن ثم يحتاج المنطقي إلى أن يتعلم العربية أكثر مما يحتاج أن يتعلم المنطق اليوناني. فالمعاني لا تكون يونانية ولا هندية في حين أن اللغات تكون فارسية وعربية وتركية. فإذا أمكن معرفة المعاني بالعقل كما يقول المنطقي لم تبقَ له إلا معرفة اللغة دون ازدراء للعربية لصالح أرسطو.٨ ولا يعقل أن يكون هذا التشقيق من عقول يونان، ومن ناحية لغتها، ولا يعقل بعقول الهند والترك والعرب. وقد دخل العجب على المنطقيين لظنهم أن المعاني لا تُعرف إلا بطرقهم ونظرهم. فترجموا لغة هم فيها ضعفاء، وجعلوها صناعة. اللغة خاصة بكل شعب، والمنطق عام لكل الشعوب. وقد لاحظ الشافعي من قبل ارتباط المنطق اليوناني باللغة اليونانية، وأنشأ قياسًا شرعيًّا غير قائم على القياس الأرسطي، تنظيرًا للموروث مباشرة.
وفي رأي المنطق، المنطق يبحث في الأغراض المعقولة والمعاني المدركة، وتصفح للخواطر السانحة والسوانح الهاجسة، والناس في المعقولات سواء، والرياضيات واحدة عند جميع الأمم. وإن بادت اللغة اليونانية فإن الترجمة حفظت الأغراض، وأدت المعاني، وأخلصت الحقائق. صحيح أن العلم عند كل الأمم، ولكن اليونان من بين الأمم أصحاب عناية بالحكمة، والبحث عن ظاهر هذا العالم وباطنه وعن كل ما يتصل به، وبفضل عنايتهم ظهر العلم، وانتشرت الصنائع. والحقيقة أن الترجمة تتطلب أكثر من معرفة الاسم والفعل والحرف. الترجمة المعنوية غير الترجمة الحرفية. تحتاج الترجمة إلى كل البناء اللغوي المنطقي في اللغتين المترجم منها والمترجم إليها.٩ وواضح ضعف حجج المنطق وقوة حجج النحو كمًّا وكيفًا.

في رأي المنطق لا يحتاج المنطق إلى النحو في حين أن النحو في حاجة إلى المنطق. يبحث المنطق عن المعنى، ويبحث النحو عن اللفظ. وتناول المنطق اللفظ بالعرض، وتناول النحو المعنى بالعرض. والمعنى أشرف من اللفظ، واللفظ أرفع من المعنى. عند المنطقي هما تخصصان متمايزان، المنطقي للمعنى، والنحوي للفظ. ولو سُئل المنطقي عن النحو لما أفاد، ولو سُئل النحوي عن المنطق لما عرف.

في رأي النحو تُغني اللغة عن المنطق. فاللغة منطق العرب كما أن المنطق لغة يونان. الكلام والمنطق، واللغة واللفظ، والإفصاح والإعراب، والإبانة، والحديث والأخبار، والاستخبار والغرض، والتمني والنهي والحض، والدعاء والنداء والطلب منطق للعرب. النحو منطق ولكنه مستمد من العربية. والمنطق نحو ولكنه مفهوم باللغة.

هناك خلاف بين اللفظ والمعنى. اللفظ طبيعي، والمعنى عقلي. ولهذا كان اللفظ بائدًا على الزمان؛ لأن الزمان يقفو أثر الطبيعة [بأثر آخر من الطبيعة]. في حين كان المعنى ثابتًا على الزمان لأنه مستمد من العقل، والعقل إلهي في حين أن اللفظ طيني مادي. ولا يمكن معرفة حرف «الواو» بمنطق أرسطو.

إن قول المنطقي: إن النحوي ينظر في اللفظ دون المعنى، وإن المنطقي ينظر في المعنى دون اللفظ. مجرد ادعاء؛ لأن المنطقيَّ يُحيل فكره في المعاني، ويرتب ما يريد بالسانح والخاطر والحدس والوهم. فإذا ما أراد التعبير عن ذلك للمتعلم والناظر له فإنه يحتاج إلى اللفظ الذي يشتمل على مراده، ويكون مطابقًا لقصده. يرفض النحوي هدا التمايز بين المنطق والنحو. فإن النحو ينظر في علاقة اللفظ بالمعنى من حيث سلامة اللفظ وجريه على العادة. وإن لم يكن متعلقًا بالمعنى فإنه يكون خارج البحث، ولا يردُّ إلى المنطق لأنه مجرد حشو. ولا توجد لغة موازية للغة في الألفاظ المقررة بين أهلها. لغة المنطق كالسبب والآلة، والإيجاب والسلب، والموضوع والمحمول، والكون والفساد، والمهمل والمحصور أقرب إلى العِيِّ والفَهاهة منها إلى اللغة والمنطق. والمنطقي لا يعرف المنطق ويخوض فيه. ولا يعرف الشعر والخطابة ويخوض فيهما.١٠

والحقيقة أن المنطق يتناول الألفاظ وإلا ففيمَ كان مبحث الأسماء الخمسة في المدخل، والمقولات في الكتاب الأول؟ وماذا عن منطق الألفاظ في علم الأصول كوسيلة لاقتناص المعنى؟ وماذا عن منطق اللغة حاليًّا؛ فالمعنى لا يظهر إلا من خلال اللغة؟ صحيح أنه لا يمكن معرفة «الواو» لغويًّا بمنطق أرسطو ولكن الرابطة في قضيته، فعل الكينونة موضوع للمنطق.

وواضح أن السيرافي يوسع لغة المنطق، مثل الموضوع والمحمول إلى لغة العلم الطبيعي مثل السبب والكون والفساد. أصبح المنطق رمزًا للوافد كله. وقد يكون نقد السيرافي للغة الوافد نقطة إبداع لنشأة المصطلح الفلسفي.

وإذا كان النحوي ينظر في اللفظ وعلاقته بالمعنى ولا يبالي إن كان المعنى موافقًا أم مخالفًا يكون المنطق إذن ضروريًّا. كما أنه يقع في ثنائيات: منطق نحو، معنى لفظ، عقلي طبيعي، باقٍ بائد، إلهي أرضي، ثابت متغير وهي ثنائيات جدلية لاستبعاد الخصم. فليس صحيحًا أن المعاني ثابتة والألفاظ متغيرة. إلا تتغير المعاني أيضًا وتثبت الألفاظ من خلال علم الأصوات والمعاني الاشتقاقية؟ وهل صحيح أن المنطقيَّ يخوض في المنطق والخطابة والشعر ولا يُحسن ذلك كلَّه؟

والحقيقة أن هناك ظلمًا وقع على المنطق من النحو. وواضح منذ البداية تحامل السيرافي على المنطق ومحاباة النحو. فالمناظرة حجاجية تعرف الحق مسبقًا، وتجادل الخصوم. لم يأتِ الوافد بنفسه بل بناء على طلب الموروث، وليس إجبارًا عن طريق مراكز الثقافة الأجنبية في البلاد، ومن موقع قوة ومرحلة انتصار وليس من موقع ضعف ومرحلة هزيمة. كانت الغاية تمثِّل الوافد وهضمه وليس تقليده والترويج له. عيب الموقف النحوي أنه سلفي النزعة، الموروث ضد الوافد، الشرعية ضد اللاشرعية، الأنا ضد الآخر مما قد يؤدي إلى الانغلاق فيكون هو الممهد لموقف السلفيين مثل ابن تيمية عن علم، وابن الصلاح عن هوى، عند ابن تيمية باسم الحس والعقل، وهما ركيزتَا الوحي. وعند السيرافي باسم النحو.

في رأي النحو: النحو يُغني عن الطبع والفطرة كما تُغني البديهة وعادة الناس عنه. كما يتعلم الإنسان من اللغة أولًا بالنشأة والوراثة، بالطبيعة والاكتساب قبل النطق الذي هو اجتهاد في المعنى بالفطر والرأي. وإن كانت الحاجة ماسة إلى كتاب البرهان كما يقول المنطقي، فكيف استدل الناس قبل ظهور علم المنطق؟ وإذا كان الناس قد استطاعوا البرهنة قبل كتاب البرهان فإنهم قادرون على ذلك بعده. ومن ثم يمكن الاستغناء عنه خاصة لو كان تخليطًا ورزقًا وتهويلًا ورعدًا وبرقًا! كل المنطق، وأشكاله وقضاياه، وطرق استدلاله: خرافات وترهات ومغالق وشكيات. وجودة العقل، وحسن التمييز، ولطف النظر، وثقب الرأي، ونور النفس يُغني عن ذلك كلِّه بعون الله وفضله، ومن مفاتح الله الهنية، ومواهبه السنية، يخص بها من يشاء من عباده. يجهل أهل المنطق النحو من بدل ووجوهه، والمعرفة وأقسامها، والنكرة ومراتبها. ولا يكفي أن يكون المنطق من عمل العقل؛ لأنه على وجوه عديدة منها: اللغة واللسان، في حين أن النحو يساعد على فهم المراد من الكلام، وقَدِّ اللفظ على المعنى فلا يفضل عنه، وقَدِّ المعنى على اللفظ فلا ينقص منه.

يستعمل النحو هنا حجة البراءة الأصلية، أن العالم كان يفكر قبل المنطق، من علم الأصول. ثم جاء المنطق في مرحلة بناء العلم بعد ممارسته بالفعل. كان الناس يتعاملون مع الطبيعة عمليًّا قبل اكتشاف قوانينها نظريًّا. وكانوا ينثرون وينظمون قبل تعلُّم قواعد البلاغة وعلم العروض. البلبل يغرِّد دون أن يعرف قواعد الموسيقى وأنواع اللحن، ويُشبه ذلك نقد ابن تيمية للمنطق، أنه لا يفيد الذكي، ولا ينتفع به البليد. والفطرة عند أبي حيان راويًا المناظرة وقارئًا لها ليست مجرد طبيعة بل مؤيدة من الله. والنور الفطري نور إلهي. وماذا عمن لم يشأ الله تأييده بالنور الإلهي والحدس الرباني، هل يظل بلا منطق أو يحتاج إلى منطق؟١١

والسؤال هو: إذا كان يمكن الاستغناء عن المنطق نظريًّا، فهل يمكن الاستغناء عن تطبيقاته؟ إن منطق الطبيعيات عند الكِنْديِّ في صيغة نظرية المعرفة ومناهج البحث لا يهدم المنطق الصوري الخالص. بل حوَّل الكِنْديُّ بعض قضاياه الطبيعية إلى اللغة والنحو. ومنطق الشرع منطق إبداعي خالص لا يهدم المنطق الوافد.

ويستمر النحو في الهجوم على المنطق مستبعدًا إياه اعتمادًا على أصالة الموروث وتبعية الوافد. فغاية الوافد الإيهام واستذلال أهل البلاد، والتهويل بالجنس والنوع، والفصل والخاصة والعرض الشخصي، واستحداث ألفاظ الهلية والأنيَّة والماهية والكيفية والكمية والذاتية والعرضية والجوهرية والهيولية والصورية والأيسية والليسية والنفسية، ويتصورون أنهم يأتون بالسحر في أشكال القضايا ورموزها، مرة بطريق الخلف، ومرة بطريق الاقتصاص، ومركب اللفظ لا يجوز مبسوط العقل. صحيح أن المعاني معقولة ولكنها لا تصبُّ في ألفاظها. ولا توجد أية لغة أخرى تقدر عليه، وتنصب عليه سورًا لا يخرج منه شيء، ولا يدخل إليه شيء خوفًا من الاختلاط الجالب للفساد، خلط الحق بالباطل، والباطل بالحق. هذا النقاء اللغوي قبل المنطق وبعد المنطق. ولو عرف المنطقيُّ كيف تصرف العلماء والفقهاء في مسائلهم ووقف على غور نظرهم، ونحوهم في استنباطهم، وحسن تأويلهم، وسعة تشقيقهم للوجوه المحتملة والكنايات المعنية، والجهات البعيدة والقريبة، لما احتاج إلى المنطق ولا استصغر نفسه. وعدم إحاطة اللفظ بالمعنى حجة صوفية ضد المنطق؛ إذ كيف يتعامل المنطق مع معاني الألفاظ وهي حبيسة فيها؟١٢
وتتكرر نفس المناظرة في «المقابسات» في صورة مختصرة وفي تقابل ثنائي. المنطق نحوٌ عقليٌّ، والنحو منطقٌ عربي. المنطق معنًى أساسًا وإن جاز الإخلال بالألفاظ وهي كالأعراض. والنحو لفظ أساسًا ولا يجوز له الإخلال بالمعاني، وهي الحقائق والجواهر. المنطق عام للفهم، والنحو خاص للوصف. إفهام المنطق جيد للخاصة ورديء للعامة، وإفهام النحو جيد للخاصة فقط. المنطق آخر مطالب الإنسان، والنحو أول مباحث الإنسان. المنطق بالعقل، والنحو بالطبع.١٣ ولما كان الطبع أقرب من العقل كانت الحاجة إلى النحو أشد من الحاجة إلى المنطق. المنطق عقلي والنحو سمعي. في المنطق الخطأ تناقض، وفي النحو لحن. وبالرغم من التقابل يمكن القول بأن النحو به بعض المنطق، وأن المنطق به بعض النحو. ومع ذلك فالمنطق شامل، حق وباطل للاعتقاد، خير وشر للفعل، صدق وكذب للقول، حسن وقبح للسلوك، وهي مصادر الطاقة في الشعور، الإيمان والفكر والعمل والقول.١٤

ويريد أبو حيان، كصوفي يوحد، الجمعَ بين المنطقَين العقلي واللغوي كفيلسوف أديب، ويرفض ثنائية اللفظ والمعنى نظرًا لحاجة كلٍّ منهما إلى الآخر. وهل يمكن تناول اللفظ دون المعنى أو المعنى دون اللفظ؟ المنطق يرتب المعنى والنحو يرتب اللفظ. يزن المنطق بالفعل، ويكيل النحو باللفظ. المنطق تحقيق المعنى بالعقل، والنحو تحقيق المعنى باللفظ. لا يزول المعنى بالمعنى، ويزول اللفظ باللفظ. تعتمد شهادة المنطق على العقل، وشهادة النحو على العرف. دليل المنطق عقلي ودليل النحو طباعي. المنطق مبسوط، والنحو مقصود. المنطق للنفوس، والنحو للألسنة. الحاجة إلى المنطق أقل، والحاجة إلى النحو أكثر. يستعير المنطق من النحو أقل، ويستعير النحو من المنطق أكثر. المنطق يدخل النحو محققًا له، والنحو يدخل المنطق مرتبًا له. في المنطق لا يفهم الغرض إذا عريَ من العقل، وفي النحو قد يفهم الغرض إذا عريَ عن النحو.

وأخيرًا يمكن الاستعانة بالمنطق كعلم من علوم الوسائل لتحقيق علوم الغايات، مثل معرفة الله والنفس والطبيعة على نحوٍ كليٍّ ثم بعد ذلك تفصيلًا. فالرديء والفاسد معدوم من العالم. والنحو أيضًا ضروري لإتقان العلم الإلهي، وكلما كان الإعراب صحيحًا لنصوص الوحي كان الفهم للعلم الإلهي أكمل الدفاع.

(٢) الحساب والبلاغة

وعلى نفس نمط المناظرة بين المنطق والنحو هناك أيضًا مناظرة بين الحساب والبلاغة. الحساب يمثل الوافد باعتباره جزءًا من العلوم الرياضية مع الهندسة والفلك والموسيقى، والبلاغة تمثل الموروث مع الخطابة والشعر، التقابل بين علوم العدد وفنون الكلام.١٥ وهي مناظرة محسومة منذ البداية لصالح الحساب، أي الوافد كما كانت مناظرة المنطق والنحو محسومة منذ البداية لصالح النحو. وتتداخل مقاييس التفضيل العملية والنظرية. بل وتبدو العملية أهم من النظرية، حاجة المجتمع ومدى النفع العائد عليه من كل علم.
فالحساب علم يقيني، والبلاغة علم ظني. الأول يقوم على البرهان والثاني على الإقناع. الحساب أنفع وأفضل وأكثر تعلقًا بالملك، والسلطان إليه أحوج، وهو به أغنى من كتب البلاغة والإنشاء والتحرير. الحساب جدٌّ، والبلاغة هزل. في الحساب تحصيل واستدراك وتفضيل، وفي البلاغة تشوق وتفيهق وكذب وخداع. الحساب صنعة معروفة المبدأ، موصلة إلى الغاية، حاضرة الجدوى، سريعة المنفعة، شبيهة بالماء في حين أن البلاغة زخرفة وحيلة، شبيهة بالسراب. البلاغيون رقعاء وحمقى، يستعين بهم الكتاب في دور الخلفاء ومجالس الوزراء من رقاعة المنشئين وحماقة المعلمين وركاكة النحويين. والمنشئ والمعلم والنحوي أُخوة في الآفات والعادات والنقائص على درجات متفاوتة، تحتاج الدولة إلى مئات الحسابين، ويكفيها بليغ واحد. والحاجة مقياس الشرف أو الخسة. مصالح العامة والخاصة معلقة بالحساب. يتعلمه الصغار والكبار، والعلية والسفلة. يتعلمه أولاد الحزم والتجارب، صنعة تقي من الفقر. أما البلاغة فتعبير عن النفس بلفظ ملحون أو محرَّف أو موضوع في غير موضعه، تبليغًا للمخبر أو اتهامًا له. يكفي واحد. والزائد فضل. والفضل يُستغنى عنه في حين أن الأصل يُفتقر إليه. وعادة ما يتهم البلغاء بالريبة وسوء النية ومخالفة الضمير.١٦

والحقيقة أن حتى لو طبق مقياس المنفعة فمن الصعب اتهام البلاغة بأنها بغير ذي نفع وأحد أوجه إعجاز القرآن نفسه في بيانه. وماذا عن أحاديث الرسول الذي أوتي جوامع الكلم؟ وماذا عن خُطَب الحجاج وجمهرة أمثال العرب وأشعارهم؟ وهل كل بلاغة تشدُّقٌ وتفيهق وكذب وخداع؟ وكما أن للحساب أصوله طبقًا للعلوم الرياضية فللبلاغة أيضًا أصولها طبقًا لعلوم البيان. وفي كلٍّ منهما درجات متفاوتة من الضرورة والاحتمال. والعجيب التحيز ضد البلاغة وذكر عيوبها دون ذكر عيوب الحساب ودون مقارنة بين صفتَين في كلٍّ من العلمين. كما يتم الخلط بين البلاغة والبلاغيين. وتتحول الحجة ضد العلم إلى حجة ضد الشخص، ولا تتحول بنفس القدر ضد الحسابيِّين الذين يزوِّرون ويغشون. والحساب نفسه في حاجة إلى لغة وتعبير وكتابة. والرمز أحيانًا قد لا يُغني عن الحرف. وكان السلف الصالح من الأدباء ولا يسترقعون. وجمعت أقاويل عليٍّ في نهج البلاغة. البلاغة مدخل إلى الإقناع. وهما أحد أنواع الأقيسة مثل القياس الشعري.

وفي مواضع متفرقة أخرى يذكر أبو حيان فضلَ البلاغة في حدِّ ذاتها دون مقارنتها بالحساب، تنظيرًا للموروث وحدها وليس تقابلًا مع الوافد. تحتاج الدواوين إليها، كما تحتاج الكتابة إلى البلاغة والحجج واللطائف. مبدؤها العقل، ومجراها على اللفظ، وقرارها في الحفظ.١٧ فهي ليست ضد العقل، ولكنه عقل مرتبط باللغة والذاكرة. ويختلف مراد الكلام باختلاف الإعراب. ويتغير الحكم عليه بتغير الأسماء. ويتغير المفهوم باختلاف الأفعال. وينقلب المعنى باختلاف الحروف. الصياغة تؤثر في المعنى، والشكل يؤثر في المضمون. وطالما تصارعت الدول من أجل حرف في صياغة المعاهدات وسنِّ القوانين. وطالما اندلعت حروب من أجل تأويل المتشابهات. ومنطق الألفاظ في علم الأصول شاهد على ذلك. ولكل إنسان رأيٌ واختيار وعادة ومنشأة ومألوف متى زحزح عنها قلق. فالبلاغة فردية مرتبطة بحياة الإنسان ومكون من سلوكه اليومي. والاختلاف في درجة الاحتياج لا تعني تفضيل احتياج على آخر. فالاحتياج إلى الأساكفة أكثر من العطارين لا يدل على أن الإسكافي أشرف من العطار. والاحتياج إلى الأطباء أقل من الخياطين لا يدل على أن الطبيب دون الخياط. وتجتمع في البلاغة صفاتٌ عديدة كما اجتمعت لجعفر بن يحيى: كتابة سوداوية، وبلاغة سحبانية، وسياسة يونانية، وآداب عربية، وشمائل عرفانية، مما يدل على ارتباط التفضيل بين العلوم بالتفضيل بين الشعوب.
ويأخذ موضوع البلاغة حيزًا واضحًا في فكر أبي حيان. وهو موضوع عربي أصيل بصرف النظر عن المقارنات والمناظرات. وتدخل البلاغة في الشعر والخطابة والنثر والمثل والعقل والبديهة والتأويل وكأنها منطق عام للغة. فبلاغة الشعر أن يكون مقبول المعنى، مكشوف اللفظ، لطيف الكناية، صريح الاحتجاج، سايح الوهم. وبلاغة النثر في شهرة المعنى المتناول باللفظ، واستعمال التهذيب، وسهولة التأليف، وسلامة المراد، وعلو الرونق، ورقة الحواس، وصقل الصفائح، وخفة الأمثلة، واتصال الهوادي، وتفصيل الإعجاز. وبلاغة المثل في اقتضاب اللفظ، واحتمال الحذف، وحفظ الصورة، ولطافة المرمى، وخفة الإشارة، وسير العبارة. وبلاغة العقل سبق المفهوم من الكلام إلى النفس عن مسموعِه إلى الأذن، وأن تكون الفائدة من المعنى أبلغ من ترصيع اللفظ، وتفقيه الحروف، وأن تكون البساطة أغلب من التركيب، ويكون المقصود ملحوظًا في عرض السحَى، وتلقِّي المرمى بالوهم لحسن الترتيب. وبلاغة البديهة أن يكون انحياش اللفظ للفظ في وزن انحياش المعنى للمعنى فيقع التعجب للسامع لأن يتجه بفهمه على ما لا يظن أنه يظفر به. وهي قدرة روحانية في جبلة بشرية، كما أن الروية صورة بشرية في جبلة روحانية. وبلاغة التأويل اتساع أسرار معاني الدين والدنيا، بالاستنباط من كلام الله والرسول في الأحكام الشرعية. وقد ضاعت هذه البلاغة لضياع الروح، وبطل الاستنباط، وجولان النفس. واعتصار الفكر يكون بهذا النمط. ويلاحظ توسيع مفهوم البلاغة بحيث يشمل كل شيء. وتتداخل مجالاتها وعمومية أحكامها، وإنشائية أسلوبها، وغياب الأحكام العقلي والتصورات المحددة. كما يبدو نقده لأحوال العصر، وضياع روح التأويل والاجتهاد.١٨
ويتساءل أبو حيان عن ماهية البلاغة والخطابة، وهل هناك بلاغة أحسن من بلاغة العرب؟ ويعتمد في إجابته على أبي سليمان، أن الحكم لا يكون صادقًا إلا بعد معرفة جميع اللغات بمهارة وحذق، وفحصها واحدة واحدة مع التجرد عن الهوى والتقليد والعصبية. وقد تحقق أبو سليمان من هذه الشروط، وسمع لغاتٍ كثيرةً، ولم يجد لغة قبل العربية أوسع مناهجَ، وألطف مخارجَ، وأعلى مدارجَ، وأتم حروفًا، وأعظم أسماء، وأوغل معانيَ، وأشمل مَعارضَ. النحو فيها مثل المنطق من العقل. اللغة العربية منطق العرب كما أن منطق اليونان لغة اليونان. المعاني طبقًا للألفاظ، والألفاظ طبقًا للمعاني، بها الكمال والجمال.١٩

(٣) النثر والنظم

ومن المناظرات الجدلية النثر والنظم وأيهما أكثر أثرًا في النفس. وهو موضوع يتعلق بالشعر آخر كتب المنطق. ورواية عن أبي سليمان المنطقي، النظم أدل على الطبيعة؛ لأنه من حيز التركيب في حين أن النثر أدل على العقل؛ لأنه من حيز البساطة. يقبل الإنسان المنظوم أكثر مما يتطلب المنثور؛ لأنه أقرب إلى الطبيعة منه إلى العقل. وقد يُستكره اللفظ في المنظوم والعقل يطلب المعنى. فلا حظَّ للفظ وإن كان متشوقًا إليه معشوقًا، وتطلب النفس المعنى دون اللفظ الموشح بالوزن المحمول على الضرورة بدليل أنه إذا سنح بالخاطر لم يهتمَّ بما يقويه من اللفظ الذي هو كاللباس والإناء. ثم يتخير العقل لفظًا، ويعشق صورة، ويأنس وزنًا. لذلك انقسم الكلام إلى نثر ونظم، وليس هذا في الطبيعة، وما تقبله النفس ما كان حلوًا في السمع، خفيفًا على القلب، بينه وبين الحق صلة، وبينه وبين الصواب آصرة. تقبل النفس، ويصوب العقل. في النثر ظل النظم وإلا ما خف ولا حلَا ولا طاب ولا انجلَى. وفي النظم ظل النثر وإلا ما تميزت أشكاله، ولا عذبت موارده ومصادره، ولا ائتلفت وصائله.٢٠
ثم يروي أبو حيان الرأيَ الآخر رواية عن أبي إسحاق الصابي في رسالته عن تفضيل النثر على النظم. النثر أشرف جوهرًا، والنظم أشرف عرضًا؛ لأن الوحدة في النثر أكثر. فالنظم دون النثر. ومع ذلك لا يُطرب النثر كما يُطرب النظم. والإنسان يحب الطرب، وصورة الواحد فيه ضعيفة، إذا أنشد ترنَّم. وقد وردت الكتب السماوية بألفاظ منثورة، غلبت عليها الوحدة. فلم ينتظم النثر من تلقاء نفسه، ولم يستطعه أحد، ولم يقدر عليه الناس. وتجاوز ما اعتادوه وأَلِفوه بأسلوب حيَّر سامعه، وأرشد الغاوي، وقوَّم المعاند، وأفاد اللبيب، أجاب عن السؤال، وردَّ على الاعتراض، وهدى الضلَّال، ورفع اللبس، وأوضح الإشكال، ونشر التعلم، وحمَى من الشرود. فتظهر الدعوة من أجل السعادة المنتظرة بين خير الأعوان في زمان محدد ينتهي ثم يعود من جديد حتى يتجدد وينتصر.٢١
فهي مناظرة تدل أيضًا على تقابل الوافد والموروث اعتمادًا على التجارب الذاتية. النثر وافد والنظم موروث. إذا عبَّرت الفلسفة عن الوافد فإن الشعر هو الذي يعبر عن الذوق العربي. والوحي نوع أدبي خاص يجمع بين النثر والشعر، لما به من وحدة النثر وموسيقى الشعر، بساطة النثر وتركيب النظم، عقل النثر وطبيعة النظم إلى آخر ما قاله البلاغيون في إعجاز القرآن، بالإضافة إلى التأثير في النفس والهداية والتوضيح والإجابة على الأسئلة المثارة. وقد حرمت الصور؛ لأن النثر والنظم فنَّانِ سمعيَّان وليسَا بصريَّين، أقرب إلى الذاتية منهما إلى الموضوعية.٢٢ ويرتبط الوحي بالمكان والزمان في «أسباب النزول» «والناسخ والمنسوخ»، بالعين والأذن والخيال، والدورة والعبرة والعود علي بدأ والتجدد بعد أن تبقى العبرة بعد عوارض الزمن. فالنثر تعبير عن المكان، والنظم عن الزمان.

وتتكرر المناظرة بين النثر والشعر، أيهما أفضل، وإلى أي حدٍّ ينتهيان، وعلى أي شكل يتفقان، وأيهما أجمع للفائدة، وأرجع بالعائدة، وأدخل في الصناعة، وأولى بالبراعة؟ والإجابة على ذلك تتضمن كلامًا على كلام، أي تحليل النوعين الأدبيَّين. وهو أمر صعب؛ لأن الكلام على المنقول والمحسوس، أي صور الأشياء، ممكنٌ. أما الكلام على الكلام فإنه دور والتباس. لذلك صعب المنطق والنحو، والنثر والشعر. الكلام على الكلام مثل رواية الرواية وعلم العلم عندما يخضع العلم نفسه للتحليل. والفاضلة فضيلة إذا ما بعدت عن التعصب والمماحكات. الفاضل عمل أخلاقي.

ويروي أبو حيان عن أبي سليمان أن الكلام ينبعث إما عن عفو البديهة أو كدِّ الروية، أو يكون مركبًا منهما بالأكثر والأقل. فضيلةُ عفوِ البديهة الصفاء، وعيبُها أن العقل أقل. وفضله المركب منهما وهو الوفاء. كما يروي عن أبي عابد الكرخي وصالح بن علي عشرَ خصال للنثر. النثر أصل الكلام، والنظم فرع له، والأصل أشرف من الفرع. والكتب الإلهية نثرٌ مبسوط متباين الأوزان ومتباعد الأبنية. والوحدة في النثر أظهر، وأثرها أشهر، وأبعد عن التكليف، وأقرب إلى الصفاء. وهو إلهي بالوحدة، وطبيعيٌّ بالمبدأ. والمبدأ في الطبيعة، كما أن الوحدة في الإلهيات، بدأ مما يجعل الله والطبيعة نسقًا واحدًا. فالطفل ينطق نثرًا قبل أن ينشد شعرًا. والنثر سبق العروض بالذوق. والذوق طباعي. والذوق مخدوم الفكر، والفكر مفتاح الأمور الإلهية. والنثر مبرأ من التكلف عن الضرورة والاعتذار والافتقار والتقديم والتأخير والحذف والتكرير. النثر من العقل، والنظم من الحس. لذلك غلبت عليه العرورة، ودخلت عليه الآفة. النثر كالحرَّة، والنظم كالأمَة حتى ولو كانت حلوة.٢٣ النثر مذكور في القرآن إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا وانتثار نجوم السماء. الكلام المنثور كالموشَّى. والمنظوم كالنير المخطط. والموشَّى يروق ما لا يروق غيره.٢٤ استعمله الرسول في الأمر والنهي، والخبر والاستخبار، والهداية والوعظ. الحاجة إلى النثر أكثر من الحاجة إلى الشعر في الدفاع عن الدولة، ورواية صنوف الأحداث.٢٥
والحقيقة أن النثر لا يعني التعدد والتناثر والفوضى بل النظام الطبيعي. كما أنه قد لا يكون بالضرورة أصلًا والشعر فرعًا، والشعر أقرب إلى الإنسان الأول. إذ يولد الإنسان شاعرًا، أي فنَّانًا. وهل تكلم الإنسان نثرًا أو لا، أم أصدر أصواتًا لا هي نثرٌ ولا شعرٌ بل أقرب إلى التعبير عن الانفعالات قبل الصياغة الفنية؟ والقرآن نفسه ليس نثرًا ولا شعرًا بل مركبًا من النثر والشعر، نوعًا أدبيًّا ثالثًا. وإذا كانت الوحدة في النثر أظهر، ألَا توجد وحدة في الشعر، وحدة القصيدة، وحدة البيت، ووحدة الموضوع، ووحدة العمل الفني؟٢٦
وإذا كانت للنثر عشرُ خصال فإن للشعر ستًّا فقط. ومع ذلك فالشعر أفضل؛ إذ ليس النثر صناعة بأصلها في حين أن الشعر صناعة. ولا يُغني النثر ولا يُجدي ولا يؤهل للحن أو إيقاع. وجمال النثر باقتباس الشعر فيه، وليس جمال الشعر باقتباس النثر فيه. والمنثور ضائع، والمنظوم محفوظ، والاستشهاد بالشعر حجة.٢٧ وللشعراء حلبة ليست للبلغاء. والمكانة الاجتماعية للشعراء أعلى من المكانة الاجتماعية للكتَّاب.
ويجمع أبو سليمان فضائل النثر والشعر معًا. فالمعاني المعقولة بسيطة في بحبوحة النفس، لا يحوم عليها شيء قبل الفكر. إذا تعامل معها الفكر تحولت إلى عبارة، وتركبت من وزن وهو النظم للشعر أو الحديث للنثر. وكلاهما يخضع لنسبة صحيحة أو فاسدة، وصورة حسنة أو قبيحة، وتأليف مقبول أو ممجوج، وذوق حلو أو مُر، وطريق سهل أو وعر، واقتضاب مفضل أو مردود، واحتجاج قاطع أو مقطوع، وبرهان ناصع أو غامض، وتناوُل بعيد أو قريب، ومسموع مألوف أو غريب. فلا فرق بين الشعر والنثر، بين النظم والحديث. للنثر فضيلة لا تُنكر، وللنظر شرف لا يُجحد. ولكلٍّ منهما مناقب ومثالب. وما يهمُّ هو النثر الجيد والنظم الجيد، السلامة والدقة وتجنُّب العويص، وما يحتاج إلى التأويل والتخليص. والحِكَم والأمثال نثر قصير حتى ولو كانت منتحلة على الحكم الكبار لما فيها من بلاغة وصناعة بالقلم واللسان، توافي عند الحاجة. كما تختلط أبيات الشعر ومصارعها بالنثر الموزون والمنثور.٢٨ والطرب بين الموسيقى والشعر. وكلاهما أجزاء من المنطق، ولكنه تعبير عن بيئة الطرب والغناء والسماع سواء عند الصوفية أو عن بلاط الخلفاء. وقد تم تناوله بعد الدعاء، فبعد السماع والغناء يقع الصوفيُّ مغشيًّا عليه محبة في الله. وفي بلاط الخلفاء الجواري والغناء والطرب بما في ذلك الجنس والدين واللواط والخمر والشعر، ليلة هنا وليلة في الفلسفة مثل أبي سليمان.٢٩
وإذا كان الشعر صناعة فالنثر أيضًا صناعة تتجلى في فنِّ الخطابة. للخطابة أنديتها كما أن للشعراء حلباتهم. وإذا كانت للشعراء مكانة اجتماعية في بلاط الخلفاء فقد كانت للفلاسفة والنحويين والبلغاء والعلماء نفس المكانة. وخصائص النثر هي أيضًا فضائل الشعر. وفي النهاية يجمع أبو حيان فضائل الشعر والنثر دون تفضيل أحدهما على الآخر. ويستشهد في «الإمتاع والمؤانسة» بعديد من أبيات الشعر تأكيدًا للمعاني. ويتزايد الاستشهاد تباعًا.٣٠ وأبو حيان في النهاية راوٍ عن آخرين، ومجمعٌ لآراء السابقين. فضله جمع الموضوع ووضعه في فن المناظرة.
١  أبو حيان التوحيدي، الإمتاع والمؤانسة، ج١، ص١٠٤–١٤٣ المناظرة نفسها، ص١٠٨–١٢٨؛ انظر دراستنا أيضًا: «جدل الوافد والموروث، قراءة في المناظرة بين المنطق والنحو بين متى بن يونس وأبي سعيد السيرافي»، هموم الفكر والوطن، ج١، التراث والعصر والحداثة، ص١٠٧–١١٨.
٢  الإمتاع والمؤانسة، ج١، ١٢٠.
٣  هو وهب بن يعيش الرقي.
٤  يُروى أن متى بن يونس كان سكِّيرًا.
٥  التراث والتجديد، موقفنا من التراث القديم، المركز العربي للبحث والنشر، القاهرة، ١٩٨١م، ص١٣٣–١٤٦.
٦  وذلك مثل ترجمة أحمد لطفي السيد لكتاب السياسة لأرسطو من الفرنسية وليس عن اليونان مباشرة، مجرد نقل للوافد دون تمثل. فلم تُحدث أثرًا إلا عند الخاصة.
٧  المجلد الأول، النقل، الجزء الثاني، النص، الفصل الأول، الترجمة.
٨  «فلِمَ تزري على العربية وأنت تشرح كتب أرسطوطاليس مع جهلك بحقيقتها؟» الإمتاع والمؤانسة، ج١، ص١١٦.
٩  السابق ج١، ص١١٧، ١٢١.
١٠  السابق، ص١١٣– ١١٦، ١١٩، ١٢٢-١٢٣.
١١  السابق، ص١١٣، ١١٦، ١٢٣–١٢٥.
١٢  السابق، ص١٢٣، ١٣١.
١٣  المقابسات، ص١٦٩–١٧٢.
١٤  من العقيدة إلى الثورة، المجلد الرابع، الإيمان والعمل والإمامة، ص٥–١٤.
١٥  وبلغة العصر الوسيط بين الرباعي والثلاثي.
١٦  الإمتاع والمؤانسة، ج١، ص٩٦–٩٨.
١٧  وذلك مثل ديوان الجيش، ديوان بيت المال، ديوان التوقيع والدار، ديوان الخاتم، ديوان القاضي، ديوان النقد والمعيار ودور الضرب، ديوان المظالم، ديوان الشرطة والأحداث، السابق ص٩٨، ١٠٠–١٠٤.
١٨  السابق، ح٢، ص١٤١-١٤٢.
١٩  المقابسات، ص٢٩٣–٢٩٥.
٢٠  هدا هو أيضًا موقف شلنج في الفلسفة الغربية.
٢١  المقابسات، ص٢٤٥-٢٤٦، ٢٦١، وهي متكررة في «الإمتاع والمؤانسة»، ج٢ ص١٣٠، ١٣٧.
٢٢  انظر دراستنا: «الفنون البصرية والفنون السمعية أيهما أقرب إلى الذوق العربي»، حصار الزمن (تحت الطبع).
٢٣  هذا هو رأي ابن طرَّارة.
٢٤  هذا هو رأي أحمد بن محمد كاتب ركن الدولة.
٢٥  هذا هو رأي ابن ثوابة الكاتب.
٢٦  الإمتاع والمؤانسة، ج٢، ص١٣٠–١٣٧.
٢٧  الاستشهاد بالشعر حجة عند ابن نباتة وللشعراء حلبة وليس للبلغاء عند الخالع.
٢٨  هذا عند المراغي.
٢٩  الإمتاع والمؤانسة، ص١٣٦–١٣٩، ١٤٥–١٤٧، ١٦٦.
٣٠  في الجزء الأول، عدد الشواهد (٣٨)، والثاني (٥٣)، والثالث (١٥٩)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤