سادسًا: منطق تعدد المستويات (إخوان الصفا)

(١) المنطق اللغوي النفسي

وفي القسم المنطقي من الجزء الأول من رسائل إخوان الصفا، من العاشرة حتى الرابعة عشرة يبدو المنطق تقليديًّا مع تغيير المستويات من المستوى الصوري إلى المستوى اللغوي النفسي.١ ويضم المستوى اللغوي مستوى اللفظ والمعنى، اللغة والفكر، مما يجعل المنطق في مستواه الأول منطقًا لغويًّا فلسفيًّا. ويضم المستوى النفسي مستويَي الوجود والإشراق. فالمقولات العشر وجود، والمعرفة إشراق.

ليست الغاية من الرسائل المنطقية تحويلها فقط من المستوى الصوري إلى المستوى الشعوري كما هو الحال في الرسائل الرياضية، بل الكشف عن المنطق الحسي اللغوي في «المدخل»، والمنطق النفسي الفلسفي في باقي كتب المنطق؛ إذ تتعدد مستويات المنطق بين الحس وعالم الأشخاص والأعيان، والعقل وعالم الصور والمعاني، واللغة وعالم الألفاظ والحروف، والإشراق عالم الوحي والإلهام والفيض والأخلاق والدين.

المنطق إما لغوي لساني وهو منطق الألفاظ، أو حسي تصوري وهو منطق المعاني، أو فكر روحاني وهو منطق الإشراق. وهنا تبدو قسمة المنطق ثلاثية وليست ثنائية. وتكون مهمة الإخوان إعادة بناء المنطق طبقًا للمستويات الثلاثة، بعيدًا عن المنطق التقليدي وأقرب إلى المنطق الشعوري أو المنطق الإشراقي توطئة لابن سينا في «منطق المشرقيين».٢ ويتسق مذهب الإخوان؛ فالفيض وهو جوهر المنطق الإشراقي يُحال فيه إلى رسالة «المبادئ العقلية»، ورسالة «الإنسان عالم صغير»، ورسالة «الهيولى والصورة»، ورسالة «الصنائع»، ورسالة «التعليم»، ورسالة «خواص العدد».
والرسائل المنطقية أصغر حجمًا من الرسائل الرياضية.٣ ربما لأن المنطق أقل قدرة في الإقناع وأكثر صورية وتجريدًا من الإيحاء الذي يستطيعه منطقُ الإشراق. ووضع المنطق مع الرياضة وتالٍ لها يدل على الصلة بين الاثنين. فالرياضة منطق صوري، والمنطق رياضة لغوية.٤ وتمثل الرسائل وحدة واحدة بالرغم من تمايزها. أسماء الأعلام فيها قليلة يستعمل فيها الإخوان اسم «التحليلات الأولى» للقياس والتحليلات الثانية للبرهان تأكيدًا على الطابع التحليلي للمنطق.
في الرسالة العاشرة «في إيساغوجي» لا يوجد نقل على المستوى النفسي أو الأخلاقي أو الاجتماعي إلا في أضيق الحدود. وتظهر نظرية العلم وعالم الصور والأعيان مع أهمية اللغة، وحاجة الإنسان إلى المنطق وتطابق ثنائية المنطق مع ثنائية الإخوان العامة.٥
وفي الرسالة الحادية عشرة «في المقولات العشر» تظهر الميتافيزيقيا في تحديد معنى قِدَم الأشياء، ويتحول المنطق من لغوي نفسي إلى لغوي فلسفي ميتافيزيقي وجودي.٦ والرسالة الثانية عشرة «في معنى العبارة» لا جديد فيها، مجرد انتظار مؤقت حتى يتم الانتقال من مستوى إلى آخر، مجرد عرض للمنطق القديم قبل إعادة بنائه في لحظة أخرى وفي مرحلة جديدة.٧ والرسالة الثالثة عشرة عن معنى التحليلات الأولى يظهر البحث عن العلة، والصلة بين المنطق والفلسفة والاعتماد على العقل.٨ وفي الرسالة الرابعة عشرة عن معنى أنالوطيقا الثانية، وهي أطول الرسائل وأكثرها فصولًا تظهر حاجة الإنسان إلى استعمال القياس. كما تكشف عن أوجه الخطأ فيه عند العقلاء والفلاسفة، وكيفية اعوجاجه والتحرز منه. وتتدخل موضوعات نظرية العلم مثل معقولات الحواس وأوائل العقول والمعلومات، وأن علة الشيء من ذاتياته، والمقدمة كلية، والحكم بالصفات الذاتية. وتتحول نظرية العلم إلى نظرية في التعليم، وهو مصطلح شيعي.٩ ثم يتم تطبيق القياس على موضوعات معينة مثل المعلول والعلة، وسبق العلة للمعلول، وعدم استعمال الأعراض في البرهان، والبرهنة على أنه ليس في العالم خلاء ولا ملاء، ومعنى قول الحكماء إن العالم قديم أو محدث. فيتحول منطق اللغة النفسي إلى منطق وجود. وترتبط الروحانيات بالإلهيات. وتتفاوت الحيوانات في الحواس ومعلوماتها. والإنسان إذا ارتقت نفسُه صار ملكًا. والمعلومات البرهانية مقدمة للأمور الروحانية.١٠

في الرسالة العاشرة عن «المدخل» ينقل الإخوان فيها مبحث الكليات الخمس من المستوى العقلي الصوري إلى المستوى الحسي اللفظي؛ إذ تُشير الألفاظ إما إلى أعيان أو إلى معانٍ، والأعيان إما بالشخص أو بالنوع أو بالجنس، والمعاني إما بالفصل أو بالخاصة أو بالعرض العام؛ فالشخص المعين جزء من الألفاظ، فاللغة تُشير إلى عالمَين، المعاني والأعيان.

وفي مبحث الألفاظ يظهر الجانب الحسي اللغوي. في كل لفظ هناك مسمًّى واسم، تسمية ومسمًّى، موصوف وصفة، وصْف وواصف. المسمى هو الأصل، والصور تبدأ من الأعيان. فاللغة تُحيل إلى العالم، اللغة منزل الوجود.١١ وفي دلالة الألفاظ على المعاني هناك الأسماء المشتقة والأسماء المتواطئة المتفقة في اللفظ والمعنى، والأسماء المتباينة في اللفظ والمعنى، والأسماء المترادفة المختلفة في اللفظ المتفقة في المعنى، والأسماء المشتركة المتفقة في اللفظ المختلفة في المعنى.
ثم تتحول الألفاظ إلى أجناس وأنواع، أي إلى ألفاظ كلية تُحدد معاني الأشياء وتراتب الوجود. إذا عُدم الجنس عُدم جميع أنواعه؛ فالجنس أعلى من النوع وأشمل منه. وإذا عُدم النوع عُدم جميع أشخاصه؛ فالنوع أعلى من الأشخاص وأشمل منها، وليس من الضروري إذا وُجد الشخص وُجد النوع، أو إذا وُجد النوع وُجد الجنس؛ فالأعلى يحتوي الأدنى، والأدنى لا يحتوي الأعلى، العقلي يحتوي الحسي ولا يحتوي الحسي العقلي،١٢ والأجناس أربعة، ثلاثة يستعملها صاحب اللغة. الأول جنس البلدي، والثاني جنس الصناعي، والثالث جنس النسبي، والرابع يستعمله الفيلسوف في أقاويله، وهو عشرة ألفاظ كما هو الحال في المقولات. هناك إذن صلة بين الأجناس والمقولات هي اللغة.١٣

ولما كانت اللغة تُحيل إلى عالم المعاني وعالم الأشياء وكانت المعاني أجناسًا وأنواعًا فإن الأشياء جواهر وأعراض؛ لأن الصورة إما مقومة وهي الجواهر أو متممة وهي الأعراض. والله ليس كذلك؛ فالله هنا يقوم كفكرة محددة للمنطق، وكما يرتبط المنطق بمستويات اللغة والفكر والوجود فإنه يُحيل أيضًا إلى الإلهيات.

(٢) المنطق النفسي الفلسفي

ويظهر المنطق النفسي الفلسفي في موضوع صلة اللفظ بالمعنى، اللغة بالفكر. فالمنطق نوعان. منطق لغوي للفظ ومنطق فكري للمعنى. والدليل على ذلك أكثر الكلام في النفوس.١٤ علم المنطق اللغوي يبحث في الكلام وتصاريفه وما يدل عليه من المعاني. والمنطق الفكري روحاني معقول. تصور النفس معاني الأشياء في ذاتها ورؤيتها لرسوم المحسوسات في جوهرها وتمييزها لها في فكرتها، وهو منطق الحدود. ويسمى هذا المنطق الفكري الذي يبحث في كيفية إدراك النفس معاني الموجودات في ذاتها بطريق الحواس، وكيفية انقداح المعاني في فكرها من جهة العقل وهو الوحي والإلهام، والتعبير عنها بألفاظ بأية لغة هو المنطق الفلسفي.
المنطق اللفظي أمرٌ جسماني، ظاهري جلي محسوس. وُضع للناس كي يعبرَ به كلُّ إنسان عما في نفسه من المعاني لغيره من السائلين والمخاطبين؛ فالمنطقي اللفظي هو أداة الاتصال. المنطق الفكري هو الأصل، والمنطق اللفظي هو الفرع. المعنى أصل، واللفظ فرع، الحروف الفكرية الأصل، والحروف اللفظية الفرع نظرًا لأولوية المعنى على اللفظ واستقلاله عنه.١٥
الكلام في الفؤاد واللفظ في اللسان.١٦ اللفظ دال على المعنى في النفس. اللفظ سمة دالة على المعنى في النفس. اللفظ هو الجسد والمعنى هو الروح. والمعنى بلا لفظ روح بلا جسد، واللفظ بلا معنى جسد بلا روح.١٧

والحروف إما خطية أو لفظية أو فكرية انتقالًا من العين إلى الأذن إلى القلب، من البصر إلى السمع إلى الفؤاد، من الصورة إلى الصورة والصوت إلى الصورة الروحانية. والأدنى دليل على الأعلى. الفكرية الأصل والخطية واللفظية فرعان. المعنى في الشعور سابقٌ على الحرف في اليد، واللفظ في اللسان.

والمعنى هو العلم، صورة المعلوم في نفس العالم. كما أن الصفة إخراج الصورة من نفس الصانع ووضعها في الهيولى. المنطق والطبيعيات علم واحد، إلباس المعنى اللفظ، وإلباس الصورة الهيولى. المعاني صور ورسوم في النفوس الجزئية، تأتي من الهيولى عن طريق الحواس. نفس العالم عالمة بالفعل، ونفس المتعلم عالمة بالقوة، والتعليم خروج ما بالقوة إلى ما بالفعل. العلم هو النفس الكلية. لذلك كانت الأقاويل في النفوس نوعَين: صالحة وفاسدة. الكلام الصالح مثل المديح والثناء والمواعظ. والكلام الفاسد مثل التهديد والسبب. وهنا يبدو مضمون الكلام معيارًا للتصنيف، فالمنطق ليس فقط شكل الفكر، كما هو الحال في المنطق الوافد، بل أيضًا مضمونه.

وتبرز مصطلحات الموروث، فانقداح المعنى في العقل يسمى الوحي والإلهام، ومن ثَم يدخل الوحي من حيث هو معنى ضمن نظرية المنطق الفلسفي، كما أفسح الكِنْدي المجال للنبوة في قسمة العلم وكما جعل ابن سينا الوحي مثل المنطق، كلاهما علم معياري يعصم الذهن من الخطأ. بالعلم تحيا النفوس من موت الجهالة. وبه تنتبه من نوم الغفلة.١٨

ولو استطاع الناس فهْم بعضهم البعض، المعاني التي في النفوس دون ما حاجة إلى ألفاظ لما احتاجوا إلى الأقاويل. وهي أصوات مسموعة، فيها كلفة على النفوس من تعليم اللغات، وتقويم اللسان، وإفصاح البيان. ونظرًا لأن النفس مغمورة بالجسد لا تُرى إلا من خلاله فكذلك المعنى في حاجته إلى اللفظ، والتعبير عن معاني النفوس بأدوات وآلات مثل اللسان والشفتين واستنشاق الهواء. ومن ثَم لزم النطق اللفظي وتعليمه والنظر في شرائطه. أما النفوس الصافية من أجسادها فلا تحتاج إلى الكلام والأقاويل كي تفهم بعضها البعض من المعاني والأفكار التي فاضت عليها النفوس الفلكية لأنها صفت من درك الشهيات، ونجت من بحر الهيولى واسم الطبيعة، واستغنت عن الكون مع الأجسام والظلمة وعالم الكون والفساد، وارتفعت إلى أفق العالم العلوي، وسرت في الجواهر النيرة الشفافة. فإذا لم تُقرن النفوس بالأجسام لم تَحتجْ إلى كتمان أسرارها وإخفاء ما في ضمائرها، وإذا كانت صافية وبريئة تحرق بالجواهر النيرة التي يتراءى فيها الكل في الجزء كالمرآة، وكما تعكس العين الواحدة صور الكل دون إخبار ولا سؤال. هنا يجمع المنطق الإشراقي بين المنطق الحسي والمنطق العقلي دون ما حاجة إلى لغة ويكون مسار المنطق من الصوري إلى النفسي، ومن النفسي إلى الإشراقي كما هو الحال في مسار الرياضيات. ولا صلةَ لذلك كله بإيساغوجي بل هو أقرب إلى المنطق التعليمي التربوي.

ثم تتم مخاطبة القارئ لكي ينتقل إلى المنطق الأخلاقي الديني ودعوته إلى الاجتهاد في كسب المعلومات كي تُصبحَ أفعاله حكمة أزلية لأنها القنية الروحانية. كما يجتهد أبناء الدنيا في اكتساب المال الذي هو القنية الجسدية. وكما يتحكم المال في الدنيا وطيب العيش يتحكم العلم في النفس ولذات الآخرة. وبالعلم يتفاضل الناس، ويتم التقرب إلى الله. ويهدي العلم إلى طريق ملكوت السماء ويعين على الصعود. وهنا تبرز الحاجة إلى المنطق.

ثم ينتقل المنطق النفسي إلى مستوى المنطق الإشراقي الذي يغمر كل المستويات الأخرى من أول عالم الأعيان والصور حتى عالم النفوس الكلية. الأشياء كلها، صورًا وأعيانًا، غيريات أفاضها الله على العقل الفعال. وهو جوهر بسيط مدرك لحقائق الأشياء، ثم فيض العقل الفعال على النفس الكلية الفلكية، نفس العالم بأسره. ثم تفيض النفس الكلية الفلكية على الهيولى الأولى. ثم تفيض الهيولى الأولى على النفس الجزئية البشرية التي تحمل تصورات الناس وأفكارهم بعد إدراكها بطريق الحواس.

وعلاقة الأعلى بالأدنى هي علاقة الفعل بالقوة، وعلاقة الأدنى بالأعلى علاقة القوة بالفعل. وعلاقة النفس الكلية الفلكية بالنفس الجزئية البشرية علاقة الفعل بالقوة، كلما قربت القوة من الفعل كانت أكثرَ تشبهًا بها؛ لذلك قيل في حدِّ الفلسفة إنها التشبه بالإله بحسب الطاقة الإنسانية، ومن ثَم يصبُّ الوافد في الموروث ويُصبح جزءًا منه. والغريب في مراتب الفيض ظهور مرتبة خاصة هي الهيولى الأولى بدلًا من المادة، وانقسام النفس إلى كلية فلكية وجزئية بشرية، وهو ما يسمى بلغة العصر الوعي الشامل والوعي الفردي، وكيف تفيض النفوس الكلية الفلكية على الهيولى الأولى؟ كيف يفيض الوعي على اللاوعي؟ نظرية الفيض إذن ليست فقط بين الطبيعيات والإلهيات ولكنها أيضًا في المنطق، فهي نظرية معرفية بقدر ما هي نظرية وجود.

(٣) المنطق التعليمي

وفي الرسالة الحادية عشرة عن «المقولات» يظهر المنطق التعليمي، ويسميها الإخوان الأجناس لبيان مدى التداخل بينها، ومحاولة إيجاد أنواع جديدة من العلاقات بينها؛ فالأجناس تنقسم إلى أنواع حتى يبدوَ الانتقال طبيعيًّا من المدخل إلى المقولات، وليكون إرشادًا للمتعلمين إلى أحد طرق التعاليم. وهنا يبدو علم التعاليم، أي العلم الرياضي ضامًّا لعلم المنطق. الغاية منه التعليم والتدريب على الفكر وليس الفكر ذاته، فالمنطق مثل الرياضة آلة للعلم.

وطرق التعالم أربعة أنواع: التقسيم والتحليل والبرهان والحدود. ويعني الإخوان بالتقسيم القسمة، وهي أساس الكليات الخمسة والأجناس العشرة. والتحليل هو القياس، والبرهان، وتأتي الحدود في النهاية وكأن غاية المنطق بما في ذلك القياس والبرهان هو الوصول إلى الحد. منطق الحد هو الغاية من منطق التصديق. والحد هو الذي يفيد التصورات، والتصورات تفيد التصديق، والتصديق يفيد الحد، وهو الدور الذي لاحظه ابن تيمية بعد ذلك في نقض المنطق.

ومن أجل التعلم، ونظرًا لأن الأجناس العشرة لا يمكن احتواؤها إلا بمنطق للعلاقة أو بمنطق التشبيه والصورة وهو القياس التمثيلي من أجل التقريب إلى الأفهام فإن المقولات العشر تُشبه بستانًا به عشر أشجار، على كلٍّ منها فروع وأغصان، وعلى كل غصن قضبان، وعلى كل قضيب أوراق. وتحت كل ورقة أنوار وثمار. وكل ثمرة لها طعم ولون ورائحة فريدة. هنا يظهر منطق الهوية والاختلاف والوحدة والتعدد. والنفس صاحب البستان تأكيدًا على المنطق الشعوري، فالمقولات العشر غُرست في النفس وليست في العقل. وقسمتها في النفس مثل الشجرة في الطبيعة بما فيها من ألوان وأزهار وواح وأنوار، وجنات الحكيم، وفواكه النفوس، ونُزَه الأرواح. العلوم بساتين النفوس، وفنون معانيها، وفوائدها ألوان الثمار، والعلوم غذاء النفس، كما أن الطعوم غذاء الجسد.١٩

ولتحديد علاقة الأجناس العشرة يحاول الإخوان إيجاد منطق للتقابل بينها على النحو الآتي:

وهنا يبدو المنطق اللغوي الحسي في قسمة التقابل إلى تقابل في القول وهو اللفظ وتقابل في الأشياء وهو الحس مع استبعاد العقل. وفي القول يظهر التقابل في الإيجاب والسلب، في الإثبات والنفي على ما هو معروف في منطق القضايا، ويظهر التقابل في الأشياء في التضاد بواسطة أو بغير واسطة، والإضافة والقنية، أي الوجود والعدم، ولفظ قنية الذي اشتقَّه الكِنْدي ما زال مستعملًا. والوجود والعدم هما نفسهما متضادان، تضادًّا في تضاد.

وتتفاوت قسمة المقولات العشر في الحجم. أكبرها الأربعة الأولى، الجوهر ثم الكم ثم الكيف ثم الإضافة، ثم تصغر باقي المقولات الست، المكان (الأين)، والزمان (المتى)، والنصبة (الوضع)، والملكية، وأن يفعل، وأن ينفعل. ويتناول الإخوان المقولات العشر واحدة تلو الأخرى عن طريق التقسيم على النحو الآتي:

ويتضح من هذه القسمة إحالة المنطق إلى الطبيعيات والإلهيات المنطق جسماني وهو الطبيعيات، وروحاني وهو الإلهيات. كما تطول قسمة الجوهر الجسماني إلى ست مراحل في حين تقصر قسمة الجوهر الروحاني إلى ثلاث فقط. ولا تذكر أي من الأعراض التسع. ويتجاوز الإخوان صورة المركز والدائرة كصورة ذهنية للعلاقة بين الجوهر والأعراض.٢٠

الكم متصل أو منفصل. والمتصل أقرب إلى الطبيعيات، والمنفصل أقرب إلى الرياضيات. المتصل خط وسطح وجسم ومكان وزمان. وهنا تتداخل الرياضيات مع الطبيعيات. وكلٌّ منها ينقسم إلا الجسم. والمكان ثنائيات ثلاث، فوق وتحت، وأمام وخلف، ويمين ويسار ثم وسط بمفرده مع أنه ثنائي مع الطرفين. والزمان ماضٍ وحاضر ومستقبل، ثم قسمة الحاضر رباعيًّا إلى ساعة ويوم وشهر وسنة مع أن قبل الساعة الدقيقة والثانية. والعدد زوج وفرد. والزوج صحيح وكسر مع أن الفرد أيضًا صحيح وكسر. والكسر رباعي القسمة، آحاد وعشرات ومئات وألوف ثم عشرات الألوف ومئات الألوف والمليون وعشرات المليون ومئات المليون والبليون ثم عشرات البليون إلى ما لا نهاية.

ثم تأتي تحليلات جانبية دالة، مثل قسمة القدم وهو من مقولات الزمان إلى قدم بالذات مثل العلة والمعلول، وبالمرتبة مثل الأعداد، وبالشرف مثل الشمس والقمر، وبالطبع مثل الحيوان والإنسان، وبالزمان، وهي دلالة بين الطبيعيات والإلهيات في موضوع قِدَم العالم وحدوثه، كما يحيل المنطق إلى الطبيعيات والإلهيات، تُحيل الإلهيات والطبيعيات إلى المنطق، وتظهر بعض الجوانب الإلهية صراحة مثل تعلق الأشياء مع بعضها البعض في البقاء والدوام على العلة الأولى وهو الباري؛ كتعلق الأعداد طبقًا لظاهرة التشكل الكاذب.٢١
وهنا تتداخل قسمة الكيف مع الجوهر من جديد. وتتكرر نفس القسمة لكلٍّ منها إلى جسماني وروحاني وكأنه حدس مسيطر. وتُنكر قسمة الجسمي في كلٍّ منهما إلى مفرد (بسيط) ومركب. وتزيد قسمة الكيف الجسماني إلى مرتين عن قسمة الكيف الروحاني، مرتبة واحدة، وينقص قسمة الكيف الروحاني إلى أخلاق وعلوم وآراء وأعمال النسق، هل هي قسمة علوم أو صفات، نظر أو عمل، أم أقسام الحكمة؟٢٢
وواضح أن الإضافة تقوم إما على منطق الهوية والاختلاف في قسمتها إلى نظير وغير نظير أو على الزمان في قسمة النظير إلى قبل ومع، مع إيثار قبل على بعد، بالإضافة إلى قسمة النظير في مرحلة تالية وعدم قسمة غير النظير.٢٣
(٥) المركبة (الأين).
وتنعدم القسمة فيه. وهي مقولة مركبة من الجوهر والمكان.٢٤
(٦) الزمان (المتى).

وقد تم تحليله مع الكم مما يدل على تداخل المقولات، وإمكانية ردِّها إلى قسمة أقل من عشر، فالزمان حالة من حالات الكم.

(٧) النصبة (الوضع).

وهو تركيب جوهر مع جوهر مما يدل على إمكانية ردِّ هذه المقولة إلى مقولة الجوهر.

وتعود القسمة في الملكة وهي الملكية، إضافة جوهر إلى جوهر مما يدل على إمكانية ردِّها أيضًا إلى مقولة الجوهر. والملكية في الداخل في الجسم حسن وجمال ورونق، وفي الداخل في النفس، علم وعقل وحلم. الجمال في الجسم وليس في الروح. وهي قسمة ذات مرتبتين متساويتين.

وهي قسمة ذات مرتبة واحدة.

وهي نفس قسمة الملكة في الداخل مما يدل على إمكانية ردِّ المقولات العشر إلى عدد أقل كما لاحظ الإخوان بعد ذلك وردُّوها إلى طرق التعليم الأربعة في البداية.

(٤) منطق القضايا

وتبدأ الرسالة الثانية عشرة عن «العبارة» عودًا إلى المستوى اللغوي؛ فاللغة اسم وفعل وحرف، والاسم كلُّ لفظ دال على معنى بلا زمان، والفعل كل لفظ دال على معنى في زمان. الفرق بين الاسم والفعل هو غياب الزمان وحضوره مما يدل على ارتباط المنطق بالنحو كما هو الحال في المناظرة الشهيرة بين أبي سعيد السيرافي ومتَّى بن يونس.٢٥

ومن اتساق الأسماء والكلمات (الأفعال) تنتج الأقاويل على النحو الآتي:

فالأقاويل إما إنشائية أو خبرية.٢٦ والإنشائية تمنٍّ ونداء وسؤال تعبيرًا عن الذات أو نداءً للآخر. والخبرية يمكن التحقق من صدقها أو كذبها، سلبًا أم إيجابًا. وكلٌّ منهما شرط وحتم، أي استثناء ووجوب. تنقسم الأشياء مرة واحدة في حين ينقسم السلب مرتين. والحكم هو وسيلة التحقق من الصدق والكذب، وهو نوعان: الأول عندما يكون الصدق والكذب فيه ظاهرَين وهو غير محتمل التأويل، ومحصور بسور، والثاني عندما يكونان خفيَّين، وهو محتمل التأويل وغير محصور بسور، مخصوصًا كان أو مهملًا. وقد يكون السور كليًّا أو جزئيًّا. وتحصل الأسوار الصفات للموصوفات. والصفة هو المحمول، والموصوف هو الموضوع. والحكم على ثلاثة أنواع، الأول الحكم بالقول على موصوف بصفة في قضية ثنائية. والثاني الحكم بالقول على موصوف بصفة ومقرون به أحد الأزمنة في قضية ثلاثية. والثالث الحكم بالقول على موصوف بصفة ومقرون بأحد الأزمنة وإحدى الجهات، الواجب والممكن والمستحيل في قضية رباعية.٢٧

وتتكون كل قضية من حدَّين، موضوع ومحمول. ويمكن قلب الموضوع محمولًا والمحمول موضوعًا. والسلب والإيجاب حكمان متناقضان. وقد يكونان جزئيَّين أو كليَّين. وتختلف القضايا من حيث الكيفية إيجابًا وسلبًا، ومن حيث الكمية كلًّا وجزءًا، وإذا كان الاختلاف كمًّا وكيفًا فهو التناقض، وإذا كان كيفًا فقط فهو التضاد. والتضاد أحد أشكال التقابل مع التتالي.

ويبدو المنطق التقليدي في أبحاث العبارة، وتُشبه تحليلات الأصوليين مع إدخال بعد التأويل. ومع ذلك تظهر على استحياء بعضُ الدلالات الإلهية مثل القِدَم وشبهات الميتافيزيقا فيه، قِدَم الوجوب بالنسبة إلى الإمكان، وقِدَم الإمكان بالنسبة إلى الامتناع، وهو حكم قيمة يستند إلى الإلهيات المتضمنة وراء المنطق. وعلى المستمع أن يُلزم القائل ما يوجبه قوله ويطالبه به لا بما في ضميره؛ لأن الضمائر لا يطلع عليها إلا الله. فالمنطق تحليل لأقوال وليس استشرافًا لضمائر.٢٨

والرسالة الثالثة عشرة عن التحليلات الأولى، أي القياس في المنطق القديم. وتُسمَّى كلُّ قضيتَين مقترنتَين ينتج عنهما حكمٌ آخرُ مقدمتَين، والحكم نتيجة. وشرط الاقتران هو الاشتراك في حدٍّ والتباين بحدَّين آخرين في أشكال ثلاثة. ولا يُشير الإخوان إلى الشكل الرابع.

وهذا هو القياس المنتج؛ فليس كلُّ اقتران منتجًا، ومقدمات الشكل الأول منتجة كلها كلية أو جزئية، سالبة أو موجبة. ربما تكون المقدمات صادقة، ونتائجها كاذبة أو تكون كاذبة ونتائجها صادقة، وقد تكون المقدمات والنتيجة كاذبة كلها أو صادقة كلها. يمكن معرفة الصدق والكذب في الشكل، اتساق المقدمات مع النتائج، وهو أحد ضروب الاستدلال، وظيفة النطق التحرز من الخطأ. وقد ينشأ الغلط عن جهل أو عن علم وقصد؛ لذلك وضع أرسطو سبعة شرائط حتى لا يُستعمل قياس برهاني من مقدمتَين سالبتَين لا كليتَين ولا جزئيتَين ولا مهملتَين ولا جزئية ولا خاصية. يقتصر على استعمال المقدمات الصادقة ذات النتائج الصادقة مضمونًا وشكلًا، فالبرهان المنطقي مماثل للبرهان الرياضي. هنا يدخل الوافد داخل الموروث كجزء من النسق، ثم يحول الإخوان مبحث القياس من المستوى الصوري إلى المستوى المادي، انتقالًا من المنطق إلى الطبيعة؛ فالقياس المنتج والاقتران مثل تزويج الحيوان الذكور للإناث وإنتاج الأولاد، وليس كلُّ اقتران منتجًا كما أن ليس كلُّ تزويج يكون ولودًا.٢٩
والمنطق ميزان الفلسفة، وأداة الفيلسوف. ولما كانت الفلسفة أشرف الصنائع البشرية بعد النبوة صار من الواجب أن يكون ميزان الفلسفة أصح الموازين. قيمة المنطق أنه أصح أداة لأشرف غاية وهي الحكمة. المنطق معياري، إعمال للعقل وتحرٍّ للصواب.٣٠
ثم يظهر البُعد الإلهي في المنطق. فالله هو الذي نصب المعايير والمقاييس والموازين في النفس، وهي حكَّام بين الناس نصبها الله بين خلقه قضاة وعدولًا، تحكم فيما يختلف فيه الناس بالحرز والتخمين وحتى يحكموا بالحق، ويُقضى الأمر ويُفصل الخطاب، ويرتفع الخلق. وظيفة المنطق مثل وظيفة الوحي، عصمة الذهن من الخطأ كما هو الحال عند ابن سينا. وإذا كان حدُّ الفلسفة هو التشبه بالآلة بحسب الطاقة الإنسانية فلأن الله لا يقول إلا الصدق، ولا يفعل إلا الخير. صدق المنطق يرجع إلى الصدق الإلهي.٣١ كما أن اختلاف العلماء فيما يدَّعون من الحق والباطل والصواب والخطأ الذي في ضمائرهم لا يتبين إلا في أقاويلهم، صادقة أم كاذبة.٣٢

(٥) منطق البرهان

وفي الرسالة الرابعة عشرة عن البرهان «التحليلات الثانية» في المنطق القديم يُعيد الإخوان التذكير بطرق التعليم الأربعة التي سلكها الفلاسفة لمعرفة حقائق الأشياء: القسمة، والتحليل، والحد، والبرهان. الحد طريق إلى معرفة التصورات بالرغم مما في ذلك من دور كما لاحظ ابن تيمية؛ لأن الحد لا يُعرف إلا بالتصورات أيضًا.

وإذا ما تم تطبيق القسمة على الموجودات ظهرت أربعة أنواع: جنس ونوع وفصل وشخص. الطريق إلى معرفة كل واحد غير الطريق إلى معرفة الآخر. القسمة تعرف حقيقة الأجناس من الأنواع، والأنواع من الأشخاص. وبالتحليل تعرف حقيقة الأشخاص. وبالحدود تعرف حقيقة الأنواع من أي جنس وبكم فصل بأوجز الألفاظ. وبالبرهان تعرف حقيقة الأجناس، معرفة الصور المقومة التي هي ذوات أعيان موجودة، والفرق بينها وبين الصور المتممة لها التي هي كلها صفات لها ونعوت وأحوال ترادفت عليها، وهي موصوفة بها، لا تميزها الحواس لأنها مغمورة تحت هذه الأوصاف. وقد عرفت المقولات بالقسمة من قبل، كما تعرف الأشخاص بالتحليل، أما الأنواع والأجناس فتُعرف بالحدود والبرهان في التحليلات الثانية، وقد تكون طريقة التحليل أقرب إلى أفهام المتعلمين لأنه الطريق إلى معرفة الأشخاص، وهي الأمور الجزئية المحسوسة. أما طريقة الحد وطريقة البرهان فهما أدقُّ وألطف تعرف بهما الأنواع والأجناس. التحليل والقسمة للموجودات، والحدود والبرهان للمعقولات.

ولا يوجد تطابق تام بين منهج المعرفة وموضع المعرفة؛ فبينما بالتحليل يعرف حقيقة الأشخاص، وبالبرهان تعرف حقيقة الأجناس إلا أنه بالقسمة تعرف حقيقة الأجناس من الأنواع، والأنواع من الأشخاص. القسمة طريق لمعرفة ثلاثة أنواع من الموجودات، وبالحدود تعرف حقيقة الأنواع من الأجناس أي نوعين من الموجودات بالإضافة إلى الفصول ومتداخلة مع القسمة، وكما تسمى الخواص الأشخاص تغيب الإشارة إلى العرض العام في هذه البنية الأولى.٣٣
ويضم البرهان بعد إعادة قراءة المقولات القياس والبرهان معًا. القياس تأليف المقدمات، واستعماله استخراج نتائجها، وهو ما يحتاجه الإنسان، وهي مأخوذة من المعلومات في أوائل العقول المأخوذة بدورها من طرق الحواس، فهي معقولات الحواس. ونسبة المعلومات التي يُدركها الإنسان بالحواس الخمس بالإضافة إلى ما ينتج عنها في أوائل العقول كثيرة. العقل تجريد من الحس، كما أن نسبة المعلومات التي في أوائل العقول بالإضافة إلى ما ينتج عنها بالبراهين والقياسات من العلوم كثيرة؛ لأن أوائل العقول تجريد من المعلومات على نحوٍ هرمي ثلاثي. هذه المعلومات التي تسمى أوائل العقول تحصل عليها نفوس العقلاء باستقراء المحسوسات، واحدة وراء الأخرى. فمن أوائل العقول أن المعلول لا يوجد قبل العلة. وأوائل العقول بالسوية لا يختلف العقلاء فيها ثم يقاس عليها ما يختلفون فيه، وقد تكون أوليات العقول هي المبادئ العامة التي يرتكز عليها كلُّ فكر ديني أو فلسفي. ولا ضيرَ أن تكون مستقاةً من الحس، فالوحي يجمع بين التنزيل والتأويل، بين خصوص السبب وعموم الحكم.٣٤
وتُدرك الحواس أن الأشخاص مركبة من جواهر بسيطة في أماكن متباينة وبأعراض جزئية في محالَّ متميزة. هي أعيان غيريات موجودة، لا تعلم كمياتها وكيفياتها إلا بالقياسات الموضوعية المركبة، ولكل جنس من المحسوسات حاسة.٣٥ وتحصل هويات الأشياء في النفوس بطريق الحوار، وماهياتها بطريق الفكر والروية والتمييز؛ فالإدراك إدراكان: حسي وعقلي، وبذلك تصبح النفوس عاقلة، وتتفاوت مراتب العقلاء في المحسوسات والمعقولات. مَن كان منهم أعظم نظرًا وأحسن تأويلًا، وأجود تفكُّرًا، وألطف روية، وأكثر اعتبارًا، كانت الأشياء التي تُعلم ببداية العقول في النفوس أكثر ممن كان ساهيًا لاهيًا، مشغولًا بالملذات الحسية، فالأخلاق شرط المنطق.٣٦ كما تتفاوت الحيوانات في المحسوسات وإدراكاتها. من الحيوان ما له حاسة واحدة. ومنها ما له حاستان أو له أكثر من حاسة كانت محسوساته أكثر.
ولما كان المنطق معيارًا للعلم فإنه من الضروري التحرز من الوقوع في أخطائه واعوجاجه عند المستعمل الجاهل أو عند العقلاء والفلاسفة سواء قبل البحث والكشف أو بعد التجربة والتحقق، لا ينقل عنها لا العقلاء ولا العلماء ولا الحكماء. وأوهامه مثل أوهام التربية والتعليم، بالرغم من أن القياس مفطور في النفس مثل الوحي، مثل بديهيات إقليدس من كثرة الإشارة إليه. الإنسان مطبوع على استعمال القياس منذ الصِّبا، كما أنه مجبول على استعمال الحواس بلا فكر ولا روية. وأول الأخطاء قياس الكل على الجزء. كما تخطئ المحسوسات إذا ما تم الحكم على حقيقتها بحاسة واحدة.٣٧

ولا تستعمل في البرهان الأعراض اللازمة؛ لأن علم الشيء من ذاتياته وكلية المقدمات، فالحكم في البرهان بالصفات الذاتية الجوهرية، وهي ثلاثة أنواع: شخصية لا تصدقُ على الكل، ونوعية وجنسية في البرهان، وأن يكون المحمول في الموضوع على نحوٍ أوَّلي.

وأوائل كل صناعة مأخوذة من أخرى قبلها في الترتيب. لذلك تؤدي أجزاء المنطق بعضها إلى بعض؛ فصناعة البرهان وأوائلها مأخوذة من بداهات العقول. وهذه مأخوذة بدورها من الحواس، وهي نوعان: هندسية ومنطقية. ويقتضي النظر في البراهين المنطقية النظر أولًا في البراهين الهندسية مما يبرر ضم الرياضي والمنطقي في قسم واحد من الرسائل.

وتظهر موضوعات ما بعد الطبيعة في أمثلة البرهان مثل البرهان على وجود النفس مع الجسم؛ إذ تكفي في ذلك ثلاث مقدمات، وهي مقدمات مقبولة في أوائل العقول، وينتج منها أن النفس جوهر، ومثل البرهان على أنه ليس في العالم خلاء ولا ملاء، والبرهان على سؤال الحكماء هل العالم قديم أو محدث. ويستطيع البرهان تبرير أوهام الفكر الديني وأخطائه؛ مثل الظن بأن الله خلق العالم في مكان وزمان قياسًا على ما يوجد في أفعال البشر وصنائعهم. والظن أن الباري له جسم فلا يوجد فاعل إلا وله جسمٌ قياسًا للغائب على الشاهد، وهو أساس الفكر الديني. والارتياض في العلم الإلهي يُثبت أن الأمر ليس كذلك.٣٨
ويرتقي الإنسان في درجات العلوم والمعارف حتى يصل إلى رتبة تسنح له فيها أمور يكون قد علم بها قبل البيان والكشف مثل ظنونه بالمحسوسات قبل معرفة حقائقها. وبلغة الأصوليين التنزيل هو التأويل، والمعرفة البرهانية مثل المعرفة الكشفية. والنظر والذوق طريق واحد، ويستمر الإنسان في الرقيِّ إلى أن يصير ملاكًا إذا سلك مذهب نفسه وتصرَّف في أحوالها كما تصرف في جسده فإنه يبلغ أقصى درجات الإنسانية، وهي رتبة الملائكة، ويقترب من الله فيجازيه أحسن الجزاء، يسقط الإنسان عنه أوصافه الناقصة ويكتمل بما هو أفضل وأشرف، وكل مَن كانت معلوماته حقيقية كان أشبهَ بالملائكة وأقرب إلى الله. لا فرق إذن بين المعلومات البرهانية والأمور الروحانية. إذا استخرجت الأولي بالقياس واستنبطت نتائجها كثرت في النفس فتُصبح قوتها على الأمور الروحانية وهي صور مجردة عن الهيولى أكثر، فتتشبه بها، وتصير مثلها بالقوة، فإذا فارقت الجسد بعد الموت صارت مثلها بالفعل، واستقلت بذاتها، ونجت من عالم الكون والفساد، وفازت بالجنة، ودخلت في عالم الأرواح، دار الحياة.٣٩
١  وهو ما يسمى في علوم اللغة الحديثة في الغرب Psycho-linguistics.
٢  وهو ما يطابق أنواع المنطق الثلاثة عند هوسرل طبقًا لمعنى لفظ «يتكلم» اللفظ، والمعنى، والشيء ذاته، الشيء ذاته، أي الحقيقة والماهية تُعادل ما أطلق عليه الإخوان اسم الوحي.
٣  النسبة بينهما ٩: ٥ أي أكثر من النصف بقليل.
٤  وهذا هو الإشكال في الفلسفة الغربية، هل يردُّ المنطق إلى الرياضة في المنطق الرياضي أو تردُّ الرياضة إلى المنطق في المنطق الرمزي.
٥  الرسائل، ج١، ٣٩٠–٤٠٣.
٦  السابق، ص٤٠٤–٤١٣.
٧  السابق، ص٤١٤–٤١٩.
٨  السابق، ص٤٢٠–٤٢٨.
٩  السابق، ص٤٢٩–٤٥٢.
١٠  السابق، ص٣٩٨.
١١  هذا هو التعبير الشهير عند هيدجر في الفلسفة الغربية.
١٢  هذه من ضمن مقولات كانط في «نقد العقل الخالص».
١٣  السابق، ص٣٩٢–٣٩٩، ٤٠٣.
١٤  السابق، ص٣٩٠–٣٩٢.
١٥  السابق، ص٣٩٣، ٣٩٨.
١٦  ويذكر في الموروث دائمًا هذا البيت، السابق، ص٣٩٣.
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما
جُعل اللسان على الفؤاد دليلًا
١٧  الرسائل، ج١، ٣٩٤، ٣٩٨–٤٠٠، ٤١٣.
١٨  السابق، ص٣٩١، ٣٩٩.
١٩  السابق، ص٢٥، ٤٠٨–٤١٣.
٢٠  السابق، ص٤١١-٤١٢.
٢١  السابق، ص٤٠٤.
٢٢  يسهل الرسم الرأسي لأنه ممكن، الطبيعي إلى أسفل والروحاني إلى أعلى في حين يصعب الرسم الأفقي لأنه لا توجد أعلى وأدنى بل يمين ويسار؛ لذلك قام اليمين بوظيفة الأدنى واليسار بوظيفة الأعلى، ومع ذلك يصعب إيجاد ترتيب واضح لعلاقات الشرف الأعلى والأدنى، مثل قسمة الكيف الجسماني والكيف الروحاني.
٢٣  يسمى قبل ومع في اللسانيات المعاصرة التتابع الزماني Diachronism، والمعية الزمانية Synchronism.
٢٤  الرسائل، ج١، ٤٠٨–٤١١.
٢٥  انظر دراستنا «جدل الوافد والموروث، قراءة في المناظرة بين المنطق والنحو بين متَّى بن يونس وأبي سعيد السيرافي»، هموم الفكر والوطن، ج١، التراث والعصر والحداثة، ص٩١–١٠٦.
٢٦  انظر دراستنا «جدل الوافد والموروث، قراءة في المناظرة بين المنطق والنحو بين متَّى بن يونس وأبي سعيد السيرافي»، هموم الفكر والوطن، ج١، التراث والعصر والحداثة، ص٩١–١٠٦.
٢٧  السابق، ص٤١٤-٤١٥.
٢٨  السابق، ص٤١٦، ٤١٩.
٢٩  السابق، ص٤٢١–٤٢٥.
٣٠  السابق، ص٤١٤، ٤٢٧-٤٢٨.
٣١  وهي نظرية معروفة عند ديكارت في المعرفة وكانط في الأخلاق في الفلسفة الغربية.
٣٢  الرسائل، ج١، ٤٢٥.
٣٣  السابق، ص٣٢٩–٣٣٢.
٣٤  في الفلسفة الغربية صراعٌ بين المذهب الحسي الذي يُنكر أوائل العقول والمذهب العقلي الذي يُنكر بداهات المحسوسات طبقًا للعقلية التجزيئية.
٣٥  الرسائل، ج١، ٤٣٢–٤٤١.
٣٦  هذا ما عرفتُه بالتجربة أثناء الشباب، أن العاطفة النبيلة سبب إدراك الماهيات.
٣٧  الرسائل، ج١، ٤٣٧، ٤٣٩، ٤٤٩-٤٥٠.
٣٨  السابق، ص٤٤٢–٤٤٨.
٣٩  السابق، ص٤٣٦، ٤٤٨–٤٥٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤