في بَيْتي
قلت لك يا صاحبي: إنني أحب مدينة الشمس؛ لأنني أحب النور.
أحبه صافيًا وأحبه مزيجًا، وأحبه مجتمعًا وأحبه موزعًا، وأحبه مخزونًا كما يخزن في الجواهر، وأحبه مباحًا كما يباح إلى العيون على الأزاهر، وأحبه في العيون وأحبه من العيون وأحبه إلى العيون.
ويوم سكنت في هذا المكان، ونظرت من هذه النافذة، أعجبني أنني أفتحها فلا أرى منها إلا النور والفضاء.
والحق أنه لا فضاء حيث يكون النور.
وكيف يكون فضاء، ما يملأ العينين، ويملأ الروح ويصل الأرض بالسماء؟
قلت لك يا صاحبي: إنني أحببت النور، فسكنت في مدينة النور!
وأود أن تفهمني حين أقول لك: إنني أحب النور.
فإنني لا أحبه لأنه يريني الدنيا وما فيها، أو لأنه هو واسطة الرؤية وأداتها، ولكنني أحبه لأراه ولو لم أر شيئًا من الأشياء.
وقديمًا كنت أقول: إن الأرواح تخف في النور كما تخف الأجساد في الماء، كأنما هي تسبح فيه وتطفو عليه.
وكنت أقول:
وكنت أحسبه «روحانية» ترى العين و…
فلا أتكلم بالمجاز حين أقول لك يا صاحبي: إنني أراه من عالم الروحانيات، وإنني أشبع منه الروح والعين ولا أشبع منه العين وكفى، وإنه شيء يرى ويرى ويرى ولا تمل رؤيته ولا يشبع من النظر إليه، وليس هو الشيء الذي غاية ما يكفيك منه أنه يريك الأشياء.
قال صاحبي: هذا من عمل النشأة الأولى، هذا من عمل أسوان! قلت: أوتظن ذلك؟ ولم لا تظن أن النشأة الأولى تزهدنا فيما هو مبذول لدينا، بل فيما هو مسلط علينا؟
هل رأيت شاعرًا من شعراء الصحراء يتغنى بالشمس المجيدة، أو الشمس الفاخرة أو الشمس الباهرة كما يتغنى بها أبناء الفيوم أو أبناء الشمال؟
لست معك يا صاحبي فيما قدَّرت، ولعلي كنت أقدِّر معك هذا التقدير لو أنني نشأت في أسوان أحب الظلال، وأكره سطوة النور وأحسبه من قضاء الله الذي يطاق، ولو في بعض المواسم الساعات.
ولكنني — على ما رأيت — أستطيع أن أقول لك: بل إنني لأحب النور على الرغم من النشأة في أسوان، وإنني أحبه حين أنظره وأحبه حين أنظر به، وأحبه حين أهتدي به في عالم البصر، وأحبه حين أهتدي به في عالم البصيرة؛ لأنني أحسبه سر الأسرار، أو أحسبه سبيل الهداية إلى سر الأسرار أوشكت أن أؤمن بهذا الحسبان كل الإيمان.
قال صاحبي: ما أعجب أن يكون أظهر الأشياء هو أخفى الأشياء!
قلت: يا صاحبي لا عجب أن يكون أظهر الأشياء هو المظهر للخفاء في كل معانيه، ولا أحسب أن حجابًا من الحجب الكونية سيرتفع في مجال العلم، أو مجال الحكمة من طريق غير طريق النور، مهما يطل الزمان.
وكنا نتحدث في المكتبة، فتناولت بعض الكتب التي تبحث في الروح والمادة، وقلت لصاحبي: أعرفت حجة السياسي الفيلسوف «أرثر بلفور» في نفي الصلة بين عالم المادة وعالم الروح؟ إنه يقول: إن الروح لن تؤثر في الأجساد إلا بجسد مثلها، فكيف يكون هذا التأثير؟ إن الروح تخالف الجسم في تكوينه، فكيف تعمل فيه عملها! وما هي الأداة الجسدية التي تتلقى عنها دوافعها! فإما أنهما شيئان منفصلان فلا تتأتى بينهما صلة على وجه من الوجوه، وإما أنهما شيئان متشابهان فلا اختلاف إذن بين تكوين الأرواح، وتكوين الأجساد!
قال صاحبي: إخاله قوي الحجة في مقاله.
قلت: وكذلك إخاله، ولكننا إذا شككنا في أحد العنصرين عنصر المادة وعنصر الروح — فأيهما أولى بالشك فيما تراه؟
قال: على كل حال لا أستطيع الشك في المادة، وهي تحيط بي وتصدني وتصدمني، إذا أنا غالطت نفسي فيها.
قلت: بل في المادة تستطيع أن تشك وتفرط في الشك، قبل أن تواتيك دواعي الشك في عالم الروح.
وإنما ساء فهم المادة والروح معًا من تصور الأقدمين هذه وتلك، إذ وضعوهما موضع النقيضين، وجعلوا المادة كثافة لا حركة فيها، وجعلوا الروح حركة لا كثافة فيها.
فهل المادة كذلك؟
هل هذه الكثافة التي تصدمها بقدمك، وتضربها بيدك هي الحقيقة التي لا تستطيع إنكارها؟
أقول لك: كلا، إنك حين تضرب الأرض بقدمك، فتزعم أنك صدمت الحقيقة التي لا تقبل المراء، إنما تصدم شيئًا غير الكثافة أو الجرم الذي يحسب عند بعض الناس وجودًا لا يقبل الإنكار، فإنما الوهم كل الوهم هذه الكثافة، وإنما الوجود الحق هو ما وراءها من قوة تصدم القوى، فتصدم الحواس.
هذه الكثافة المادية لا شيء يا صاحبي لولا القوة التي تكمن في أطوائها. وإن شئت مصداقًا لذلك، فافرض أن يدك التي تقف عند هذه الخشبة قد زادت قوتها ألف ضعف أو عشرة آلاف، ثم عد إلى لمس الخشبة بتلك القوة المضاعفة، فهل تقف عندها؟ كلا، إنها لا تقف عندها بل تعبرها كما تعبر الماء أو كما تعبر الهواء.
أو تعال إلى الماء والهواء وهما مثال التخلخل في تلك الكثافة المادية، فادفع الماء بقوة من بعض العيون؛ إنك إذن لتضربه بالسيف القاطع فلا يمضي فيه ويرتد إليك، وادفع الهواء بقوة من بعض الفوهات؛ إنك إذن لا تثبت أمامه على قدميك.
فليست الكثافة المادية هي الحقيقة التي لا مراء فيها، بل القوة هي الحقيقة الكامنة في تلك الكثافة، وفي كل مادة ملموسة ومحسوسة.
قال صاحبي: مهلًا، مهلًا، وأين هذا من النور؟ وأين هذا من سر الأسرار؟
قلت: صبرًا يا صاح، إن كل جسم من الأجسام يتألف من الذرات، وكل ذرة من هذه الذرات تتألف من النواة والكهارب، ثم من الحركة أو من طاقة الإشعاع والنور، تملصت كثافة المادة كلها ووصلنا إلى الشعاع والإشعاع؛ وصلنا إلى النور، واقتربنا ولا نزال نقترب كثيرًا من عالم الحركة التي لا كثافة فيها، وابتعدنا ولا نزال نبتعد كثيرًا من عالم الكثافة التي لا حركة فيها، إننا هبطنا بالكثافة المادية إلى أدناها، إننا نظرناها بالأحداق ثم دقت حتى عن النظر بالأحداق. نعم، إننا لم نصل إلى طرف الروح الأقصى، ولكننا وصلنا إلى طرف المادة الأقصى، أو لعلنا قد عرفنا طريق القنطرة بين العدوتين إن لم يكن قد أقمناها، وشرعنا في العبور عليها، ماذا بقي من المادة الغليظة الجاسية؟ ماذا بقي من الجرم الجاثم الذي يناقض الروحانية؟ إننا نقترب، إننا نقترب، إننا نقترب، إننا مع النور نصل إلى الملتقى الموعود، ولعلنا لا نصل إليه — إن وصلنا — من طريق غير هذه الطريق.
قل: إن الكون حركة لا مادة فيه، ذلك أيسر لك من أن تقول: إن الكون جرم لا روح فيه!
قل: إن الكون نور، قل: إن الله نور السموات والأرض، فإذا قصر بك الحس عن نور الله فثق أن هذا الضياء الذي يملأ الفضاء هو النور الإلهي، الذي كتب لابن الفناء أن يراه.
•••
وكان النهار بسامًا مدلًّا بشمسه، مزهوًّا بنوره، كأنما يحس روعته في الأنظار وبهجته في الأرواح، وكأنما يتوهج من نظر العيون إليه كما تتوهج الوجنة الصبوح تحت لمحات الأحداق، كان نهارًا مبتكرًا عليه جدة لا تحسبها قد مضت عليها سويعة من يوم! خلقًا مبتكرًا يخيل إليك أنه يتلألأ في فضائه الأول للمرة الأولى، وهل هنالك من فارق بين نور نهارنا هذا وبين النور في أبعد مكان من الفضاء، وفي أبعد فترة من الزمان؟ ها هنا شيء على الأقل تستطيع أن تقول: إنه لم يفتك أن تراه قبل ألف ألف من السنين، وأنك تذهب معه إلى أبعد من مذهب أبي العلاء حين سأل الفرقدين:
إن الفرقدين وأخواتهما في السماء لأطفال تلعب في حجر هذا الشيخ السرمدي، يلوح لك من جدته اليوم كأنه لم تنقض عليه ساعة من نهار!
قال صاحبي وهو يرسل الطرف في السماء، ولا نهاية لمد البصر تصعيدًا ولا تصويبًا ولا من يمين ولا شمال: قصرت عين تحسب وهي تنظر إلى هذا النور أنها تنظر إلى شيء مكشوف لا عمق فيه، ولا طوية وراءه: كاشف الخفاء هذا هو ينبوع الخفاء!
ونحن إذن في برزخ الأنوار، وراء الجدران نور الشمس في مدينة الشمس الخالدة، وبين الجدران نور القرائح ونور الحكمة ونور البيان!
قلت: مجاز حسن وإن طال به عهد أصحاب المجاز، الكتب علم، والعلم نور، ولكنني لا أحسبه مجازًا يجري في النفس كما يجري في لفظ اللسان. فهل من الحق أننا نواجه المكتبة كما نواجه النور؟ وهل خطر لك قط أن تسأل نفسك: كيف تبده الكتب الكثيرة — مجتمعة في مكان واحد — من يدخل عليها لأول مرة؟ كيف يقع ألف كتاب أو عشرة آلاف كتاب موقعها ممن يفجأ بها ويعرف ما هي، وإن لم يعرف معناها؟ إننا في هذه الحضارة قد تعودنا منظر الكتب متجمعات بالمئات والألوف، ولكننا خلقاء أن نتجرد من فعل العادة ولو لحظة عابرة لننظر إلى هذه الظاهرة من جانب غرابتها لا من جانب ألفتها، فكيف تبدهنا رؤية الكتب لمئات من أصحاب القرائح والعقول محشوة في بضعة رفوف؟
إنني لا أسأل عن أولئك القراء والدارسين الذين ألفوا عشرات الكتب بالليل والنهار، إن هؤلاء ينظرون إلى كتبهم كما ينظر الجوهري إلى الثروات المخزونة عنده في صناديق البلور من نوادر الفصوص والأحجار الكريمة، أو كما ينظر البستاني إلى أحواض الزهر، وهي تترعرع أو تذبل بين يديه، أو كما ينظر صاحب القصر إلى أسراب الحسان المقصورات فيه، أو كما ينظر المهندس إلى الأزرار التي في لوحته وقد ينطلق كل زر منها بما يحرك مدينة بأسرها، وكلهم يملكون زمامهم، أو زمام تلك المرئيات وهم يحسون بها، وكلهم يحضرون منها ما ألفوه وتعودوه وكرروه، وقد يغيب عنهم منها جانب المفاجأة والغرابة، ولكنني أحب من حين إلى حين أن أستغرب ما آلف وأن آلف ما أستغرب، ويثير هذا الشوق في خاطري أن أشهد وقع هذه الغرابة مرتجلًا في بعض النفوس، ولا سيما النفوس التي تقارب الكتب من بعيد.
قال صاحبي: وماذا وقع من صورتها في نفسك كلما استغربت ما ألفت منها؟
قلت: لا أحدثك بهذا الآن، وإنما أحدثك بما شهدت وعاينت، ثم أحدثك بما استدرجني إليه الخيال كلما ألقيت بمقادتي إليه.
لا أنسى وهلة فتاة ذكية حين دخلت هذه المكتبة عرضًا في بعض الأيام.
كانت على شيء من التعليم، وكانت تميل إلى القراءة كلما اتفقت لها قصة سائغة أو قصيدة شائقة، ولكنها فوجئت بهذه الكتب المتجمعة، فصاحت على غير روية منها، يا سلام، كتب، كتب كتب، كل هذا كتب، شيء يدوِّخ! ومالت برأسها كأنها تهرب من دوار ينذرها بإغماء.
ألا ترى يا صاحبي أن هذه الفتاة قد عرفت الكتب فلم تعرفها جلودًا وأوراقًا وألوانًا تشوق العيون، ولكنها عرفتها كما هي في الحقيقة زحمة من الأفكار والمعارف تشفق منها على رأسها الصغير؟
لقد عجبت يومئذ من هذه الوهلة؛ لأنني أعلم على التحقيق أن الفتاة شاهدت المكتبات في المدرسة وشاهدتها في السوق. فسألتها: أهذه أول مكتبة رأيتها في حياتك؟
تعجبت هي أيضًا معي من هذه الوهلة، ولم تزد على أن تقول: رأيت غيرها كثيرًا، ولكني لا أدري لماذا «دخت» وأنا أنظر إليها هنا.
ثم راجعت نفسي في تفسير ذلك، فلم أعجب من وهلة الفتاة كما عجبت من صدق حاستها، أو من مبادرة هذه الحاسة إلى التفرقة بين الأشياء المتشابهة حين يتفرق بها المكان.
فإنما تختلف الأشياء عندنا بما يقترن بها من تداعي الخواطر، وما توحيه من اللوازم والملابسات، فالكتب في السوق بضاعة للبيع، والكتب في المدرسة موزعة بين أيدي الأساتذة والطلاب، ولعلهم مئات ولعلهم ألوف، فلا توحي إلى الخاطر تلك «الزحمة» التي ترهق الرءوس. أما الكتب في حجرة واحدة في بيت رجل واحد فللفتاة العذر إذا أجفلت منها تلك الجفلة، وخافت منها على رأسها الدوار.
إننا نمر بالمائدة في الفندق العامر فلا نستغربها وإن امتلأت بطعام جيش، ولكننا إذا رأينا هذه المائدة بعينها أمام ضيف واحد خطرت لنا التخمة أو خطر لنا الغثيان، ولنا المعذرة في هذه التفرقة بين المائدتين!
•••
واحتجنا يومًا إلى نقل بعض الرفوف من هذه الحجرة إلى الحجرة التي تليها، ريثما نصلحها ونفرغ من طلائها، فاستعنا بقريب لبواب المنزل يومئذ على النقل مع خدم البيت، وكان ريفيًّا أميًّا يزور قريبه أو يزور «آل البيت» على التعبير الصحيح، أو لعلها أول زياراته للقاهرة في طلب الخدمة، وطلب البركة على السواء، ولم يكن له علم بالأحرف العربية، ولا بالأحرف الإفرنجية، فإذا رأى كتابًا في هذه الأحرف أو في تلك فكله كتاب، وكله مما يقرأه المطهرون.
فلما اقترب من باب المكتبة خلع نعليه، وتهيب أن يمد يده إلى الكتب؛ لأنه كما قال لم يكن على وضوء!
أليس لهذا الريفي الأمي منطق صادق فيما فعل على البداهة؟ إنه تعود أن يقرن صورة الرجل العالم بصورة رجل الدين، فما باله لا يقرن كتاب العلم بالقداسة الدينية؟ وهل يكون الكتاب لغير علم أو لغير قداسة؟!
لقد أكبرت تحية الجهل للعلم في مسلك هذا الريفي الصالح، وأستغفر الله؛ لأنني أفسدت سمعة الكتب في رأيه على الكره مني، فأعلمته أنها كأبناء آدم وحواء فيها الصالح والطالح وفيها الطيب والخبيث، وأنها لا تحرم في جميع الأحوال على اللمس بغير وضوء، فلم أجرئه على حرمتها ولا أقنعته بلمسها حتى أريته على غلاف بعضها صور التماثيل العارية، وفي صفحات بعضها صور السادة والسيدات، فتحلل من حرج وأقدم بعد إحجام.
ولا أخال هذه «الهيبة» للكتاب بعيدة جدًّا من هيبة «المكتوب» عند القبائل الفطرية، كما أنبأنا عنها رواد المجاهل الأفريقية، فإنهم لا يفهمون هناك كيف يقرأ الرجل الورقة ويفهمها ويعمل بما فيها دون أن يكون فيها روح مرصد أو طائف من الجان. وقد روى بعض الرحالين أنه أرسل خادمه الأسود إلى زوجته على مسيرة ساعات ليطلب بعض الأمتعة والأدوات من بيته، فكتب له ورقة وأمره أن يأتيه بجوابها، فحمل الورقة مطمئنًّا ولم يلق إليها كبير اكترث، ولكنه لما رأى السيدة تقرأها وتراجعها كلما أسلمته أداة من الأدوات المطلوبة فيها خامره الشك، وأيقن أنها تستوحي بمراجعة الورقة روحًا تفقه عنها ما تسأل عنه في صمت ووقار، فلما أسلمته السيدة تلك الأدوات تقبلها وحملها ولم يوجس منها، ولكنه تردد وأوجس حين أسلمته الورقة بالجواب! وحملها كمن يحمل ثعبانًا يخاف أذاه أو شيطانًا يخاف سخطه وغضبه، وأدى الأمانة بتمامها؛ لأنه في حراسة رقيب ينقل عنه ما يظهره ويخفيه.
قال صاحبي: ويح الأسود المسكين لو انطلق عليه روح من وراء كل كلمة مخزونة في هذه الرفوف! إن عفاريت الآجام جميعها لتصبحنَّ عنده من ملائكة الرحمة بالقياس إلى هذه العفاريت، وإن سحرة أفريقية على بكرة أبيها لا ينقذونه من وبال هذا السحر المخيف!
قلت: أو لم يحصل؟ بلى قد حصل وفرغنا من محصوله! وقد انهزم السحرة المساكين في وجه هذه الأرواح، وهربت عفاريت الآجام من سطوة هذه العفاريت، وهل المعركة بين القارة السوداء وبين الواغلين عليها إلا المعركة بين الكتاب وتعويذة السحر القديم؟
والتفت صاحبي إلى الرفوف يتصفح عناوينها، ويسألني: ولا يزعجك بعض الأحيان أن تخلع على الكتب هذه الصورة، وأن تراها حاضرة الأرواح جياشة الحركة بحياة مؤلفيها؟
قلت: بل أنا لا أراها إلا على هذه الصورة كلما أعرضت عن صورتها الممثلة في الجلود والأوراق: أرواح في انتظار الطلسم، أو مردة في قماقم سليمان، وأين برج بابل من لهجات رف واحد ها هنا لو تحركت له ألسنة وتفتحت له أفواه؟ وأين الجحيم كلها لو انبعثت المردة من أرصادها، وتمردت على الطلسم الأعظم الذي يحبسها في قماقمها؟
قال صاحبي: خير للكتب وأولى، نعم، خير للكتب ألف مرة أن تكون أرصادًا للأرواح، أو قماقم للمردة من أن تكون على تلك الصورة التي يصورها لنا أصحاب المائدة وصحاف الطعام! ولست أدري لمَ يحضرني خاطر الطعام المخزون في العلب كلما تحدثوا عن الكتب وما فيها من طعام العقول؟ فما القول في رأس فيلسوف مجفف لساعة الحاجة إليه؟ وما القول في هذه الأغذية المحنطة على الرفوف لطول البقاء واجتناب الفساد؟ هي ولا ريب أفضل ما اخترع الإنسان من صناعات الخزن والتجفيف، وأحسن ما استودع من وسائل الصيانة والتعقيم، ليت الثمرات كلها تصان وتظفر بالتعقيم والتجفيف على هذا المنوال، ولكننا لا نشتهي طعام العقول للعقول حين نعرض لها الرءوس المجففة، والثمرات المحنطة ليوم القراءة، أو ليوم التغذية المشتهاة، لا، لا، إننا لا نود أن نشتهي الكتب هكذا لنأكلها برءوسنا وأدمغتنا، وإنما نؤثرها مردة في قماقم وأرواحًا في أرصاد، فعلى بركة الله فلنمض معها في سياحتنا إلى حيث تلقي بنا في آماد المكان والزمان؛ ولنطلقها فرادى إن عز علينا أن نطلقها أسرابًا وجماعات، على بركة الله!
قلت: نطلق ماذا يرحمك الله؟ وإلى أين المنتهى إذا ابتدأنا معها واحدًا واحدًا أو سربًا سربًا إلى حيث تستطيع المسير؟ هذا يا صاحبي مارد يحملنا إلى قطب الشمال، وبجانبه مارد مثله يحملنا إلى قطب الجنوب! وها هنا مارد ثالث يتعدى بنا أقطاب الأرض إلى الشعري اليمانية، وما وراء السديم، فمع أيها نسير ومتى المعاد إن سرنا مع هذا أو ذاك؟ وإنك لتعلم أنها قديرة على السفر في رحاب الزمان قدرتها على السفر في رحاب المكان، فهذا يحملك إلى القرن الأول للهجرة، وهذا يحملك إلى القرن الأول للميلاد، وغير هذا وذاك يحملك إلى ما قبل الهجرة والميلاد من أزمنة يضل فيها التاريخ، وقلما يهتدي فيها الخيال، وخطوة من هنا تلاقيك بهوميروس وخطوة من هناك تلاقيك بامرئ القيس، وخطوة أخرى تجمعك بآدم وأبنائه الأولين، فأين المنتهى بعد هذا ومتى القرار؟ لا يا صاحبي يرحمك الله، لا نهاية لانطلاق هذه المردة في مداها فرادى ولا مجتمعات، فدعها في قماقمها وانظر إليها ومعك أرصادها، فليس هذا أوانها وليست سياحتنا هذه بالسياحة السرمدية التي لا نرقب نهايتها، فعلينا بالأفق الذي نحن فيه نلزمه ولا نتعداه، وحذار أن تفتح القماقم مجتمعات ولا متفرقات، ولك عندها بعد ذلك ما تشاء.
فالتفت صاحبي إلى القماقم يتصفح عناوينها، ونظر هنا ونظر هناك على غير اطراد كأنه يرتجح ولا يملك الانبعاث في طريقه دون أن يرجع إلى حيث كان، ثم هتف بي سائلًا: ما هذه المفارقات؟ بل ما هذه المقارنات؟ شعر وتاريخ وفن ودين وسيَر وطبائع حشرات تصاحبها طبائع عظماء، وخليط من المطالب لا تعرف لها وحدة ولا يطَّرد لها نظام، فهل هي مكتبة قارئ واحد أو هي مكتبات شتى أعددتها لمن يشاء؟
قلت: بل هي مكتبة واحدة أعددتها لقارئ واحد، ولا أحسب أن مكتبة القارئ الواحد تتفق على غير هذا النظام؛ لأنك تعد الكتب في مطلب واحد لمئات القراء الذين يشتغلون به ويرجعون إلى مصادره، ولكنك لا تحصر القارئ في مكتبة واحدة إلا إذا نوعتها له وأغنيته بها عن غيرها، ولا بد للقارئ الواحد على الأقل من مطلبين مختلفين: أحدهما للصناعة والعمل، والآخر للمتعة والتسلية، فإن كانت صناعته الكتابة فقد تعدد ما يقرأ للعمل والصناعة وتعدد ما يقرأ للمتعة والتسلية، وكثيرًا ما يكون التعدد مع ذلك في العناوين لا في بواعث القراءة، فإن القارئ قد ينظر في خمسة موضوعات أو ستة أو سبعة لباعث واحد ونزعة واحدة، وليس أقرب من بواعث القراءة في بعض الأحايين، مع تباعد الموضوعات والعناوين.
خذ لذلك مثلًا هذين الموضوعين الغريبين: طبائع الحشرات وما وراء الطبيعة، أيبتعد عنوانان قط أبعد من هذا الابتعاد؟ أيفترق شيئان في ظاهر الأمر كما يفترق البحث في الكون والسماء والخلود، والبحث في جحور النمال ومباءة الجراثيم؟ ومع هذا يتقاربان جد الاقتراب حين يهديك كلاهما إلى بداية الحياة أو نهاية الحياة، وربما فسرت لك طبائع الحشرات «تصميم» بناء الحياة تفسيرًا تعجز عنه عقول الفلاسفة والحكماء، وربما عرفت من دوافعها وجواذبها وأنت ترقب الحشرة الضئيلة في أطوارها المتعاقبة ما لست تعرفه من مقاييس المنطق وتقديرات البديهة، ودراسة المذاهب والتأويلات.
وخذ مثلًا آخر هذين الموضوعين الغريبين: الشعر والدين! إنهما ليبدوان في الغرابة كما يبدو لك منظر الناسك في الصومعة، وإلى جانبه منظر الشاعر في مجال الأنس والسرور، ولكنهما يلتقيان أقرب لقاء حين يعبر الشاعر عن نفسه ويريك جمال الخالق في خلقه، وحين يبرز لك الإنسان من وراء مسوح الزهاد، فإذا هو شاعر مستتر أو شاعر موثق بسلاسل العبادة، وإذا العبادة لا تخرج به من نطاق الشعور، ولا تنكر له فتنة الحياة بل تمثلها له قوية مخيفة يتقيها بالمجانبة، فيشعر بها كما يشعر بها من يواقعها ولا يتقيها، وإذا الفَراش الذي يقع في النار والفراش الذي يهرب من النار؛ كلاهما فراش!
ولقد سألت نفسي عن البواعث المتوافقة وراء هذه النقائص المفترقة، فأجابتني عنها جوابًا أرتضيه ولعلك ترتضيه، ولخصته لي في كلمات معدودة: هي «الاستزادة من الحياة.»
ولك أن تستزيد من الحياة بتعميقها أو بتوسيعها أو بتفسيرها، ولك أن تتوسل إلى ذلك كله بقصيدة من عيون الشعر، أو بنظرة في عجائب حشرة ضئيلة تخالها من أسرار الصناعة المكتومة، بل من «مسودات» الخلق الأولى، أو باستقصاء آماد الحياة فيما وراء الغيب، وفيما بعد الموت وقبل الميلاد، أو بالمقابلة بين سير العظماء على ضروب شتى من العظمة، وبين سير الصغراء على ضروب شتى من الصغار، فكل أولئك بباعث واحد مختلف العناوين، وكله صحاف تعطيك ألوانًا شتى من الطعم والمذاق، ولكنها لا تعطيك في النهاية غير دم واحد ينبض في العروق. ومعذرة بعد من هذه اللفتة إلى الطعام وأنت لا تحب ذكر الطعام في هذا المقام.
•••
قال: لا عليك من المعذرة بعد هذه الفترة، فقد أوشكت الساعة أن أستطيب التشبيه الذي كنت أعافه منذ برهة، وأوشكت مع هذا أن أؤمن بأن الثبات على الرأي في البلاغة غير الثبات على الرأي في الأخلاق، فقديمًا قيل لنا: إن الثبات فضيلة، وأخشى أن أكون اليوم قد أخللت بهذه الفضيلة، لولا باب من الرحمة في هذا الخلاف بين شرعة البلاغة وشرعة الأخلاق، وليست هي مسألة فكرة تقاس بالرأي بل هي شيء أحسه الساعة، ولا أبالي أن أفكر فيه، فما أرتضيه من البلاغة، وأنا شبعان مكظوظ لا أرتضيه منها وأنا جائع أتلمس الطعام، وأنت لا تشهِّي الكتب إليَّ حين تشبهها بالمائدة، وأنا من الكظة أعاف المائدة وأحاديثها، ولكنك تشهِّيها إليَّ حين تصفها بهذه الصفة، وأنا متفتح المعدة والرأس لكل غذاء.
قلت: هو ما قالوه قديمًا وأصابوا فيه أكثر مما أرادوا، فالبلاغة هي «مراعاة مقتضى الحال»، ولقد كنت بليغًا في إشارتك هذه، فلك عندي من المكافأة عليها مائدة غير مائدة أفلاطون وأشباه مائدة أفلاطون!
وعدنا نستطيب القماقم والأرصاد بعد هنيهة، ولكن على أن نتركها بسلام، فلا نطلقها فرادى ولا جماعات، وحسبنا منها العناوين والرفوف.
ثم راح يجول ببصره جولة الطائر فيما يعبره وهو يقول: ما أصغر نصيب القصص من هذه الرفوف!
قلت: نعم، وإنه لو نقص بعد هذا لما أحسست نقصه؛ لأنني — ولا أكتمك الحق — لا أقرأ قصة حيث يسعني أن أقرأ كتابًا أو ديوان شعر، ولست أحسبها من خيرة ثمار العقول. قال: كيف؟ أليس في الرواة والقصاصين عبقريون نابهون كالعبقريين النابهين في الشعر وسائر فنون الآداب؟
قلت: بلى، ولكن الثمار العبقرية طبقات على كل حال، وقد يكون الراوية أخصب قريحة، وأنفذ بديهة من الشاعر أو الناثر البليغ، ولكن الرواية تظل بعد هذا في مرتبة دون مرتبة الشعر، ودون مرتبة النقد أو البيان المنثور، والمثل هنا أقرب إلى الإيضاح من سوق القضية بغير تمثيل: إن الحديقة التي تنبت التفاح لا يلزم أن تكون في خصبها ووفرة ثمراتها أوفى من الحديقة التي تنبت الجميز أو الكراث، ولكن الجميز والكراث لا يفضلان التفاح، وإن نبتا في أرض أخصب من الأرض التي تنبته وتزكيه.
ونحن نقرأ القصص التي تجود بها قرائح العباقرة من أمثال ديكنز وتولستوي ودستيفسكي وبوجريه وبروست وبراندلو، فتؤمن بتلك العبقريات التي لا تجارى في هذا المضمار، ولكن إيماننا بها لا يلزمنا أن نضع القصة في الذروة العليا من أبواب الآداب، ولا يمنعنا أن نقدم عليها غيرها في التقدير والتمييز.
قال: وما المقياس الذي نرتب به هذه الرتب يا ترى؟
قلت: لعله مقاييس شتى لا مقياس واحد، ولعل الناس يختلفون فيها كاختلافهم في كل شيء يرجع إلى المشرب والتعبير، غير أنني أعتمد في ترتيب الآداب على مقياسين يغنياني عن مقاييس أخرى، وهما الأداة بالقياس إلى المحصول، ثم الطبقة التي يشيع بينها كل فن من الفنون.
فكلما قلت الأداة وزاد المحصول ارتفعت طبقة الفن والأدب، وكلما زادت الأداة وقل المحصول مال إلى النزول والإسفاف.
وما أكثر الأداة وأقل المحصول في القصص والروايات؟ إن خمسين صفحة من القصة لا تعطيك المحصول، الذي يعطيكه بيت كهذا البيت:
أو هذا البيت:
أو هذا البيت:
أو هذا البيت:
أو هذا البيت:
لأن الأداة هنا موجزة سريعة والمحصول مسهب باق، وكذلك لا تصل في القصة إلى مثل هذا المحصول إلا بعد مرحلة طويلة في التمهيد والتشعيب، وكأنها الخرنوب الذي قال التركي عنه فيما زعم الرواة: إنه قنطار خشب ودرهم حلاوة! أما مقياس الطبقة التي يشيع بينها الفن، فهو أقرب من هذا المقياس إلى أحكام الترتيب والتمييز، ولا خلاف في منزلة الطبقة التي تروج بينها القصة دون غيرها من فنون الأدب، سواء نظرنا إلى منزلة الفكر أو منزلة الذوق، أو منزلة السن أو منزلة الأخلاق، فليس أشيع من ذوق القصة، ولا أندر من ذوق الشعر والطرائف البليغة، وليس أسهل من تحصيل ذوق القصة، ولا أصعب من تحصيل الذوق الشعري الرفيع حتى بين النخبة من المثقفين.
قال صاحبي: على أنهم قد أثاروا في أوائل هذا القرن ضجة حول القصة بالغوا فيها أيما مبالغة، وخيلوا إلى الناس أن فنون الأدب كلها عالة عليها، وأنه لا كتابة لمن ليست له قصة.
قلت: لقد فعلوها حقًّا، وكان ذلك على أثر ضجة أخرى هي ضجة الكلام الكثير في الدراسات النفسية و«السيكولوجية» بأنواعها، فبدا لبعضهم أن القصة هي المعرض الوحيد لتطبيق هذه الدراسات في الكتابة الأدبية، وأنها هي الوسيلة القريبة لفهم العلاقات بين النفوس البشرية، وتفسير المواقف والمشكلات التي تنجم عن غرائب الطباع، ولم تخلُ ضجة القصة من أسباب قوية غير «السيكولوجية» وكثرة الكلام فيها، فإن شيوع القراءة بين الدهماء قد أشاع معها القصة التي تفهمها الدهماء، وتؤثرها على غيرها من الفنون الأدبية، وجاء شيوع الصور المتحركة بعد شيوع القراءة، فأملى للدهماء في هذه النزعة، أو هذه «الهواية» حتى غلبت عليهم وسرت منهم إلى النقاد الذين يتبعون الجماهير، ويسمون نزواتها بروح العصر، وهي نزوات بغير روح! وجاء بعد شيوع القراءة، وشيوع الصور المتحركة شيوع آخر هو شيوع الدعوة الشيوعية بين طائفة من طلاب الهدم والانقلاب، فعند هؤلاء أن القصة أشرف أبواب الأدب؛ لأنها تكتب للجهلاء وتصلح لبث الدعاية الشيوعية. وعندهم أنها لا ينبغي أن تدار على موضوع غير موضوع القضايا الاجتماعية، كأنهم يضربون الجهل على الفقير ضربة لازب، أو كأنما هذا الفقير لا يكفيه الضنك الذي يضنيه في ساعات العمل أو في طلاب العيش، فلا يزال في ضنكه حين يفتح الكتاب، وحين يقرأ الصحيفة وحين يحلم وحين يناجي ضميره، وحين يحب أن يعرف له من خصائص الإنسانية شيئًا غير المعدة والزاد.
قال صاحبي: هان ذلك كله لو أنهم دبروا الزاد للفقير.
قلت: كلا يا صاح، لا هان ذلك ولا جعله الله يهون على الفقراء ولا على الأغنياء، فليس من البر بالفقير أن يسلب الكرامة الإنسانية، أو يسلب الحرية الفردية كأنها حلية يزدان بها الغني وحده، ولا يحفل بها الفقير، وليس بالصحيح على كل فرض من الفروض، وكل ظن من الظنون أن الشيوعية تدبر الزاد للفقير بفضل ما تقوم عليه من الأسس، وما تشتمل عليه من الآراء، فكل مذهب يدعو إليه الدعاة الاجتماعيون يستطيع أن يدبر الزاد للعاملين في سنوات معدودات إذا صرف النظر عن الغايات البعيدة، وانحصر همه فيما بين يديه، لقد دبرته النازية حين حصرت همها في صنع السلاح، وأدارت المصانع على العدد الحربية والمطالب العسكرية، وقد دبرته الفاشية في إيطاليا على قلة مواردها حين حصرت همها في هذا المطلب العاجل، وهذه السياسة الوبيلة، فلم يبق في إيطاليا ولا في ألمانيا عامل بغير عمل موقوت، ولم تبق فيها مشكلة للمتعطلين، وكان ثراثرة الاجتماع ينظرون إلى ذلك، فينعونه على الديمقراطية، ويؤكدون به ما يعيبونه عليها من بطء الوسائل وتردد العزائم وطول المطال، ولكن الديمقراطية أيضًا قد سبقت النازية والفاشية معًا في المضمار، فخلقت الأعمال لعشرات الملايين في بلادها وغير بلادها، حين أدارت مصانعها على الذخيرة والسلاح، وظهر أنها حيلة لا تعيي أحدًا يقبلها على علاتها ويأخذها بتبعاتها، وما تبعاتها إلا الخراب والفساد، وغشيان الأرض كلها بطائف من الفزع والحسرة تهون معه مشكلة البطالة، وكل مشكلة مثلها من مشكلات الاجتماع، ويخطئ كل الخطأ من يحسب وعود الشيوعية في هذا المطلب بشارة جديدة من داعٍ جديد، فليس أقدم من هذه البشارة، ولا أسبق من هذا الداعي في تاريخ الدعايات.
وشك صاحبي غير قليل ثم تمتم سائلًا كأنه يسأل نفسه: أو ليست هي بشارة «علمية» كما يقول كارل ماركس وأتباعه حين يميزون بين دعوات الإصلاح، التي يسمونها بالدعوات العاطفية والخلقية وبين دعوتهم «الجديدة» التي يسمونها بالدعوة العلمية؟ إنهم يزعمون أنهم قدروا عواقبها، وقاسوا مراحلها كما يفعل الفلكي حين يرصد مدار السيارات، ويحسب مواعيد الشروق والغروب وساعات الكسوف والخسوف!
قلت: هذه هي الخرافة التي لا ينبغي أن نصدقها أيها الرفيق، فليس أقدم في هذا العالم الإنساني من الدعوة إلى إنصاف الضعفاء، ولا من الوعد بأمنية النعيم المقيم، ولا من إثارة النفوس على الشيطان الرجيم، ولا من تثبيت العقائد بالحماسة والكفاح، وهذه الدعوة التي يزعمونها «علمية» هي تبشير لا يعوزه شبح الشيطان، ولا الفردوس ولا العقيدة العمياء، وغاية الفرق بينها وبين سابقاتها أن الشيطان هنا هو «الرأسمالية» التي ترجع إليها جميع الخبائث والشرور، وأن الفردوس هو العصر الموعود الذي يسود فيه الصعاليك، وأن حماسة العقيدة هنا هي حماسة المعدات والأحقاد، وليس أكذب ممن يزعم أنه يخاطب العقل، وهو يخاطب المعدة ويخاطب الحسد والحفيظة، فلا إقناع هنا ولا إقناع في غير هذا من ضروب الحماسة والبغضاء، وليس الإقناع بالمعدة بعد الإقناع بالروح تقدمًا نغبط عليه.
إن صاحبهم كارل ماركس ليزعم أنه يتنبأ عن مصير الأحياء الإنسانية، وهو لم يحي في زمانه قط حياة إنسان، ولم يشعر قط إلا بشعور الجداول والأرقام حيثما كان يجمعها في المتحف البريطاني صباح مساء؛ ولهذا حسب أن الآدميين آلات تقاس حركاتها بالأرقام كما تقاس حركات السكك الحديدية والسيارات، فلا يزال أصحاب الأموال يزدادون ثروة، ولا يزال العمال يزدادون جوعًا حتى يصبح العامل، وما في يديه غير القيود وما في جوفه غير الجوع، فيثور ويجازف بالحياة؛ لأن الموت أحب إليه من هذه الحال، ولكن ما القول إذا كان العامل إنسانًا حيًّا ولم يكن آلة جامدة تدار بالحساب؟ ما القول إذا كان هذا العامل يحس بالظلم قبل أن يبلغ مداه، ويحس بالقدرة على دفع الظلم قبل أن يقتله الجوع؟ ما القول إذا كان العمال في الأمم الصناعية يزدادون أجرًا، ولا ينقصون منذ مائة عام، وكان في البلاد الأميريكية اليوم عمال يطلبون العلاوة في اليوم الواحد ثلاثة ريالات؟ القول إذن أن النبوءات عن مصير اللحم والدم تحتاج إلى عامل آخر غير عامل الحساب، وتسبقنا إلى نتيجة أخرى غير نتيجة الجمع والطرح والقسمة على القرطاس، وهذا الذي قد حدث فانقطعت بحدوثه تلك السلسلة «العلمية» التي وصل صاحبنا كارل ماركس حلقاتها، فتراجع من أجر قليل إلى أجر أقل منه إلى حرمان ملازم إلى جوع كافر لا يعبأ بشيء، ولا يدفعه إلى الحركة غير اليأس والقنوط!
وهذه الحركة التي قيل: إنها لا تأتي من غير اليأس والقنوط من ذا الذي يقول: إنها حكمة العقل، وإنها مفتاح النعيم المقيم، وأنها خير ما تهتدي إليه الإنسانية، وتتجه إليه العقول؟
هب يا صاحبي أن النتيجة المزعومة — وهي الثورة الشيوعية — هي المصير المحتوم الذي يهدينا إليه الحساب العلمي الصحيح، فمن ذا الذي يقول: إنه إذن هو المصير السعيد الذي نسعى إليه؟ ألا يجوز أن أعرف خط القطار، وأن أحسب حركاته فإذا هي تنتهي إلى هاوية ليس لها قرار؟ أإذا جمعت المسافة، وقسمتها على تلك السرعة، وأرضيت «التقدير العلمي» بهذا فانتهى بنا إلى تلك الهاوية كان حتمًا لزامًا عليَّ أن أسوق القطار إليها، وأن أستعجل دواليبه للنزول بها قبل فوات الفرصة الغراء؟
فقال صاحبي: أليست الثورة الروسية بعد الحرب العالمية الماضية كانت على كل حال نبوءة من هذه النبوءات «العلمية»؟
فبادرته قائلًا: بل حماك الله وحمانا أن نغتر بهذه اللجاجة التي أوضع فيها بعض الفارغين ممن لا يعقلون ما يقولون، فما كانت تلك الثورة الروسية إلا ثورة كسائر الثورات التي سبقتها منذ آلاف السنين! ظلم يثور عليه مظلومون وتمالئهم قوة عسكرية، فينتصرون على الظالمين، كذلك ثار الناس منذ عُرفت الثورة في التاريخ، فإن كان للنبوءات الماركسية فضل بعد هذا في ثورة الروس، فذلك هو الفضل المعكوس؛ لأن المؤمنين بها حاولوا تطبيقها كما آمنوا بها، فضيعوا عشرين سنة في هذه التجارب المخيبة، وضاعت معها ملايين الأرواح التي فنيت بالسلاح أو فنيت بالقحط والوباء، ثم آل بهم الأمر إلى إقرار ما أنكروه وحاربوه وقتلوا الملايين من أجله، وهو اقتناء الملك وإيداع المال في المصارف وتوريث الأبناء وإباحة الفروق في المعاش، وإعلان العصبية الوطنية، ولو لم يؤمنوا ذلك الإيمان بالنبوءات الماركسية لبلغوا هذا المطلب في سنة واحدة، وعافوا أنفسهم وعافوا الناس معهم من شرور تلك «التجارب»، وخطوب تلك المحاولات.
قال صاحبي: وأنت على مقتك هذا للماركسية لا إخالك تبرئ نظام رأس المال، كما نراه من عيوب وآثام يمقتها كل من يحب الخير لبني الإنسان.
قلت: إن الماركسيين لا يستطيعون أن يمقتوا تلك العيوب كما أمقتها؛ لأنهم يؤمنون بالمادة ولا يؤمنون بغيرها، ومن آمن بالمادة هذا الإيمان لم يستطع أن يلوم عشاقها كل اللوم، أو يعذرهم في عشقها بعض المعذرة، غير أنني بعد هذا كله أقول: إن جشع المستغلين شر ولكن الشيوعية ليست بخير، وإن رأس المال محنة للأخلاق، ولكن الشيوعية محو للأخلاق لا تقوم لها فيه قائمة، وسيأتي يوم يزدري فيه الناس المستغلين في المجتمع الإنساني كما كانوا يزدرون قطاع الطريق، بعد أن كانوا في بعض الأزمان عنوان الشرف ومناط الحمد والثناء، فإذا بلغوا تلك المرتبة كان بلوغهم إياها نموًّا ورشدًا يستحقان كل ثمن تفرضه عليهم سنة الارتقاء، ولم يكن ضرورة من ضرورات العجز والحرمان. أما الشيوعية فما سبيلها إلى إبطال السرقة، وإبطال القسوة في تجميع المال؟ إن بلغت ما تريده، وصح لها ما تزعم وامتنعت السرقة في ظلها على ما ترجوه؛ فإنما تمتنع لأن الناس لا ينتفعون بالمال إذا سرقوه، فلا يملكون به أرضًا ولا يودعونه في مصرِف، ولا يتركونه بعدهم لوريث، فهم يكفُّون عن سرقته؛ لأنهم عاجزون عن الانتفاع به؛ لا لأنهم عفُّوا عن الظلم أو تنزهت ضمائرهم عن العدوان أو ارتقوا قليلًا أو كثيرًا في سلم المروءة والأخلاق، وتلك فضيلة المسجون أو فضيلة المضطر إلى العفاف، وليست هي بخير من محنة الأخلاق التي تمحصها التجارب، ويتعفف عنها الناس وهم قادرون.
قال صاحبي: وهل يرتقي الناس يومًا هذا المرتقى؟ وهل يرتفعون إليه في مئات السنين بل في ألوف السنين؟
قلت: إننا لم نستكثر على طبيعة الحياة أن تنقل الكلب من وحش لئيم يفترس الأطفال والغنم إلى حارس أمين يفتدي الأطفال والغنم بحياته، فلماذا تستكثر عليها أن تنقل الإنسان من حال إلى حال، وقد نقلته كما رأينا وعلمنا بين شتى الأحوال؟ أما طول العلاج يا صاحبي فهو خير من علاج سريع يتبعه موت سريع. أنسيت علاج العاطلين في مستشفى الأطباء المشعوذين؟ أنسيت علاج النازيين والفاشيين للمتبطلين؟ أعطوهم القوت أيامًا ليسلبوهم ويسلبوا من يعولونهم الحرية، ثم يسلبوهم جميعًا أنفاس الحياة، وقد كان الجوع حينًا بعد حين خيرًا من الموت والفزع والاستعباد، ومهما يكن من الشك في طب النفوس، فأحق الأطباء بالشك في طبهم أولئك الذين ينشئون مذهبهم من اليأس وقلة الحيلة، ويعلمون فضائلهم باليأس وقلة الحيلة، ويحسبون أن الشر قد زال؛ لأنه محبوس وراء الأقفاص والسدود.
وكانت في صاحبي على ما يظهر عادة كثير من الناس بل عادة أكثر الناس، وهي أنهم يكرهون المرض الذي جربوه ولا يكرهون المرض الذي لم يجربوه حتى يجربوه! فيسمعون ذم الدمل الذي يقض مضاجعهم، ويعرضون عن ذم السرطان وهو بعيد منهم. فقد كان يوازن بين مساوئ الجشع والاستغلال، ومساوئ الشيوعية والحكم المطلق كما يوازن بين الوقائع والفروض. وليس السرطان الذي لم يُصَب به الإنسان فرضًا من الفروض!
قال: ألا يجوز أن تكون عيوب الشيوعية عيوب المجال الضيق والحوض المحدود؟ ألا يمكن أن تنصلح فيها هذه العيوب إذا عمت أجزاء العالم، وشملت جميع أوطانه وشعوبه؟
قلت: بل إخال يا صاحبي أن الشيوعية في وطن واحد، أو بضعة أوطان شيء يجوز في الحسبان، أما الشيء الذي لا يجوز في حسباني فهو الشيوعية عامة شاملة بلا أوطان وبلا حدود، إذ ما العمل في تنظيم خطوط المواصلات بين أنحاء العالم؟ وما العمل في تنظيم صادراته ووارداته؟ وما العمل في تنظيم الزراعة والصناعة بين أقطاره؟ وأي حكومة هي تلك الحكومة العالمية التي تحمل وطنًا من الأوطان على أن يزرع، أو يصنع لوطن غيره، وهي قد أبطلت من النفوس حوافز المصلحة الشخصية، وحوافز المصلحة الوطنية على السواء؟ وإن بقيت الحكومات المتعددة في أنحاء العالم، فعلى أي أساس تقوم الحدود والفوارق بين الأوطان؟ وعلى أي أساس من الأسس يقوم توزيع المصالح وتقسيم الأعمال؟ فربما كانت الشيوعية في الوطن الواحد حقيقة ممكنة بما فيها من العيوب والآفات، ولكنها في العالم بأسره هي ولا ريب أسطورة الأساطير.
ولو انتظمت للعالم حكومة واحدة تسوس أعماله، وتقرر منها المفيد وغير المفيد لكان هذا هو البلاء فوق كل بلاء؛ لأن هذه الحكومة قد تشل دوافع الحياة في النفوس، وهي تزعم أنها تقتلع منها الحماقة والغرور، ولو أننا رجعنا إلى تواريخ بني الإنسان لننزع منها آثار الحماقة والغرور كلها لانتزعنا نصف الحضارة الإنسانية، وذهب النصف الآخر بذهابه كما يذهب البيت كله إذا انهار نصف الجدران!
ما الولع ببناء القصور وفي الكوخ سعة لساكنيه؟ إنه حماقة وغرور.
ولكن أين كان يذهب العلم بالهندسة والعلم بمسالك البحار والأرضين، والبصر بطبائع القبائل والشعوب لولا طواف الناس في طلب الحجارة والأخشاب لبناء تلك القصور؟
ما الولع بالثناء يكذب فيه الشاعر كما كذب شاعرنا حين قال:
إنه حماقة وغرور!
ولكن أين يذهب الأدب والشعر وبليغ الكلام، وبديع القرائح لولا هذه الحماقة، وهذا الغرور في ذلك الممدوح؟ ومتى كان للأدب في تلك الأزمنة عائل غير هؤلاء الحمقى والمغرورين من أشباه ذلك الممدوح؟
ما التوابل والأفاوية التي كانت تشق من أجلها البحار، وتقتحم من أجلها مخاطر الأسفار؟
إنها حماقة وغرور! وفي سبيل هذه الحماقة والغرور كشفت القارة الأمريكية، واتصلت جوانب الكرة الأرضية، وخرج كولمبس بسفينته لينتهي إلى الهند من غياهب بحر الظلمات، فلم يكن هذا الخاطر كله إلا حماقة وغرورًا تنبعث من حماقة وغرور.
ومع هذا يهون على بني الإنسان أن يعصف الزمن بكل ما كان في عصر كولمبس من الرشد؛ ليبقى لهم ضلال هذه الحماقة وذلك الغرور.
اذكر هذا يا صاحبي واذكر ما كان يلقاه كولمبس لو أنه مثل في «مكتب شيوعي»؛ ليستأذن في السفر بمن معه من النواتية والعمال، أكان بعيدًا أن يدور بين كولمبس ورئيس المكتب المسئول حوار كهذا الحوار، وأن يكون مصيره بعد ذلك إلى لهب النار أو جوف البحار؟
– إلى أين تذهب يا هذا؟
– إلى الهند من طريق المغرب!
– وهل ترجو الوصول حقًّا من هذا الطريق؟
– لي في ذلك عظيم الرجاء!
– وهبك في حل من أن تغرر بنفسك، فهل يحل لك أن تغرر بهؤلاء النواتية المساكين وهؤلاء الأجراء المرهقين؟ في أي سبيل يحل كل هذا التغرير؟
في سبيل الحرائر والأبازير التي انقطع ورودها من طريق المشرق، وعز انقطاعها على الموسرين والأغنياء!
لو نجا كولمبس من هذا الحوار بكلمة «مرفوض» دون غيرها لعددناه من السعداء، وكيف كان ينجو بها دون غيرها وهو ذلك الشيطان الرجيم، الذي يغرر بحياة النواتية والأجراء؛ ليستطيب الحمقى والمغرورون لبس الحرير، وأكل الأبازير!
حذار يا صاحبي أن تسلم دوافع الحياة إلى مسيطر عادل أو جائر، وأن تقيدها بحكمة حكيم أو شهوة شهوان، إنك على أمن حين تمنع الجريمة والعدوان وتسلم زمامهما إلى القانون، ولكنك ترى كيف تكون العاقبة حين نسلم ما نسميه بحماقة الحمقى إلى ما نسميه بحكمة الحكماء، أو صلاح العلماء، فكيف تكون الحال لو سيطر الغباء على الذكاء، أو تصرف الضلال بالرشاد؟
•••
وأخذ صاحبي يقلب في كتب الشيوعية والشيوعيين، فتوقف بعد قليل، وسألني مستغربًا: ما هذا؟ خطب هتلر إلى جانب رسائل لنين، وكتاب عن تاريخ الشيوعية يجاور كتابًا عن العنصر المختار من الآريين؟ ألا تتوخى ترتيبًا لهذه الكتب أو هذه الرفوف؟
قلت: بلى، ترتيب ولا ترتيب، فأما الترتيب المفصل فلم أقصده ولم أشعر بالحاجة إليه، وأما المجمل فالذي تراه مثال لما أتوخاه.
دع هذه الرفوف مثلًا وانظر إلى هذه الرفوف التي تليك، مؤلف صيني حديث معه مؤلف قديم، وشاعر من بني اليونان يصحبه ناقد من أبناء العالم الحديث، والجامعة بينهم كلهم أنهم شعراء، أو ينقدون الشعر، أو يتكلمون عن الشعراء.
ودع هذه الرفوف وانظر ناحية منها إلى الرف الذي يليه: لعله أعجب وأبعد في المقاربة — أو في المباعدة — بين الجيران والخلطاء، فهذا سفر عن بيتهوفن، تجاوره موسوعة عن الموسيقى، وينزل معهما سجل عن الطير ومجلد تفتحه، فلا تقرأ فيه كله صفحات مطبوعة، وإنما تسمع من بعض صفحاته أصوات الأحياء في المواسم المختلفة، وفي حالات الغضب والرضى والنفرة والحنين؛ لأنها صفحات من قوالب الحاكي لا من سطور الكُتاب والشعراء، وعلى مقربة منها جميعًا عالم يتكلم عن الرياضة والطبيعة والأوزان، وكلها من عالم واحد هو عالم الأصوات والأنساق والألحان، وما أنا بقادر على ترتيب لها يهديني إليها أقرب ولا أوفق من هذا الترتيب.
أما الجوار بين الشيوعية والنازية فيا له من جوار؛ هو جوار لو انتقل إلى عالم المحسوس لانبعث من هذه الرفوف القليلة فرقعة، لا تسمعها من ألف طربيد ولا من ألف غيمة تومض بالبروق والرعود، ولكنها لو انتقلت إلى عالم المعنى لكان الحوار بينها أقرب جوار وأوفق جوار.
قال صاحبي كالمستنكر: أجوار الشيوعيين والنازيين أقرب جوار وأوفق جوار!
قلت: نعم؛ لأن الفارق بين المذاهب الاجتماعية أو المذاهب السياسية — إن شئت أن تسميها بالسياسية — هو فارق واحد يهديك بينها جميعًا، ولو بلغت المئات والألوف: هو الفارق في الحرية الفردية، أو هو الفارق في التبعة التي يحملها الفرد في علاقته بأمته، وبعالم الإنسان على اتساعه، فاحسبها مائة مذهب أو ألف مذهب أو ما فوق هذا أو ما دون ذاك، فإنما هي في النهاية مذهبان اثنان: مذهب يقدس الحرية الفردية ومذهب يستخف بها تقديسًا لسلطان الدولة أو سيادة الزعيم، ولا عبرة باختلاف الأسماء والعناوين.
وإن شئت أن تعلم لأيهما الرجحان ولأيهما الغلب على طول الزمان، فالموازين التي توزن بها هذه المذاهب لا تحصى، وليس بينهما ما هو أصدق من ميزان التاريخ وميزان الأخلاق.
قال: وما ميزان التاريخ أو ميزان الأخلاق في هذه القضية؟
قلت: إن التاريخ لم يستقم قط في اتجاه واحد كما استقام في اتجاه الحرية الفردية، أو في اتجاه النهوض بالتبعة، وكذلك الأخلاق، فمنذ آمن الإنسان بروحه وعلم أنه مثاب على عمله لم يكن له تقدم قط إلا في هذا الاتجاه، ولم تقم على غير هذا الطريق قائمة من الأديان والأخلاق، والحركات الاجتماعية في كل زمان وبين كل قبيلة، فما تفاضل عصران ولا امتاز شعبان ولا فردان ولا خلقان إلا استطعت أن تحكم بينهما بميزان التبعة أو الحرية الفردية، ولن يكون الراجح منهما إلا أوفر الطرفين نصيبًا من تلك التبعة أو من تلك الحرية؛ مَن أفضل الفريقين الطفل أو الرجل؟ العبد أو السيد؟ الجاهل أو العالم؟ المجنون أو العاقل؟ الهمجي أو المتحضر؟ الغالب أو المغلوب؟ الحيوان أو الإنسان؟ لا اختلاف في جواب هذه الأسئلة جمعاء، ولا اختلاف كذلك في أن الحرية أو التبعة تكونان حيث يكون الراجح المفضل من الفريقين.
قال صاحبي: إنه لميزان عادل، ولكنه يزن بين النازية والشيوعية من جهة وبين غيرهما من المذاهب الاجتماعية من جهة أخرى، فكيف يكون وزنه بين النازية والشيوعية يا ترى؟
قلت يا صاحبي: كلاهما شر وفي الشر خيار، وإنما المقابلة بينهما تعلو بهذه مرة وتهبط بتلك مرة، كما يكون العلو والهبوط في المقابلة بين الحسد والغرور.
فالنازية في لبابها قائمة على خليقة الغرور؛ لأنها لن تقوم إن لم يقم معها غرور الزعيم بتفوقه على سائر الناس، وغرور العنصر بتفوقه على سائر العناصر، وغرور الأتباع بما يتاح لهم من مظاهر الزهو والخيلاء.
والشيوعية في لبابها قائمة على خليقة الحسد؛ لأنك لا ترى شيوعيًّا إلا رأيته حاسدًا للممتازين من خلق الله كيفما كان سبيل الامتياز، وليس منهم من يشعر بالعطف على الضعيف أو الفقير، ولكنهم جميعًا يحقدون على القوي والغني وعلى كل صاحب فضل يشيد به الآخرون، وليست التفرقة عندهم بين الناس تفرقة بين من يحمد أو يذم، ولا تفرقة بين من يحب أو يكره، ولا تفرقة بين من يكرم أو يلؤم؛ وإنما هي على الجملة تفرقة بين من يُحسد أو لا يُحسد كائنًا ما كان مثار الحسد عليه، وإنك لتستطيع أن تعلم مع من الخصمين يكون الشيوعي كلما علمت من منهما الراجح، ومن منهما المرجوح؛ فهم في صف المرأة إذا نازعت الرجل، وفي صف الولد إذا نازع الوالد، وفي صف الجاهل إذا نازع العالم، وفي صف الخامل إذا نازع المشهور، وفي صف الدهماء إذا نازعوا أبطال التاريخ، ولن ترى شيوعيًّا يسلم من الحسد بحال من الأحوال، وبهذا وحده تفسر كل لغز يعرض لك من ألغازهم حين ترى فيهم من تظنه غريبًا عنهم، وفيهم أصحاب الأموال والأحساب.
قال: والله لقد وددت حقًّا أن أعرف لِمَ يكون صاحبنا فلان من الشيوعيين، وهو سليل بيت قديم وصاحب مال موفور؟
قلت: تعرف ذلك حين تعرف أنه يحسد أمثاله وينقم على الدنيا؛ لأنه لا يحسب منهم حين يحسب ذوو الكلمة أو ذوو الرأي أو ذوو المنصب والجاه، وعلى قدر طمعه في ذلك، وتوافر وسائله عنده يكون حقده وحسده، واشتياقه إلى التقويض والتخريب.
وقس على ذلك إخوانه ممن تستغرب نخوتهم الشيوعية، وهم موسرون أو مرابون يمتصون دماء الضعفاء قبل الأقوياء: أرأيت إلى المرابي فلان وثروته كلها مجموعة ممن يقترض الجنيه والجنيهين، ويؤدي الفائدة ضعفين أو فوق الضعفين؟
استمع إليه — أتسمعه يومًا يذكر إنسانًا من الأقدمين أو المحدثين بحمد أو ثناء، فما له لا يكون شيوعيًّا والشيوعية تمكنه من شتم «أكبر عدد مستطاع» من خلق الله؟ يشتم الرسُل؛ لأن الشيوعية تنكر الأديان؛ ويشتم الأبطال لأن الشيوعية تنكر الأوطان، ويشتم دعاة الحرية؛ لأنهم «برجوازيون» يخدمون رءوس الأموال من وراء الستار، ويشتم حتى «غاندي» المسكين؛ لأنه يخدر أعصاب المساكين، ويعلمهم ترك العدوان ولا قيام للشيوعية بغير الثورة وسفك الدماء. ثروة من الشتائم يستمتع بها لسانه في ظل المذهب «المظلوم»، وثروة من الأحقاد تخيل إليه أنه يمتص دماء الضعفاء؛ لأنهم لا يستحقون الرحمة، وليس لما فيه من لؤم وكنود.
قال صاحبي: أوكلهم ذلك الرجل؟ أوليس فيهم من رجل رشيد!
قلت: إلا من عصم ربك، وهم القليل، أو هم الاستثناء في هذه القاعدة، والأغلب أن يكون هؤلاء من الشبان الذين تنبض قلوبهم بحماسة الفتوة وحب النخوة، ويسمعون وعود الماركسيين فيصدقونها ولا يدركون عقباها، أو يفطنون إلى محظوراتها، فمن لم يكن من هؤلاء فهم السيئون المتعجلون؛ لأنهم يتعجلون الصعود ويعجزون عنه فيودون لو يهبط الصاعدون، ويحبون إلغاء الفروق بين الناس ليصبح الأعلياء كالأدنياء، لا ليصبح الأدنياء كالأعلياء.
قال لي العالم الحكيم الدكتور يعقوب صروف منشئ «المقتطف» مرة: إنه شهد الصبية يلعبون كرة اليد، فرأى منهم من يعدو ليلقف الكرة، ومن يعدو ليجذب الأول من قفاه ويرده إلى الوراء، فلا هو يلقف الكرة ولا يطيب له أن يلقفها غيره! وهاتان الطائفتان من الخلق موجودتان في كل ميدان من ميادين الجد، ولا تقصران على هذا الميدان الصغير من ميادين اللعب، فإن رأيت فتى في مقتبل عمره يهوي الشيوعية، غير مخدوع في وعودها، فهو بعض هؤلاء الذين لا يلقفون الكرة ولا يسرهم أن يلقفها السابقون.
وأود يا صاحبي أن نعطي هذه البواعث النفسية حقها في تفسير إقبال الناس على المذاهب أو إعراضهم عنها؛ لأن تفسيرهما بدرجات الفهم أو بأحوال المعيشة لن يغنينا عن تفسيرهما بتلك البواعث النفسية في وجهتها الكبرى، ويزعم الماركسيون أن الأحوال الاقتصادية هي كل شيء في تفسير حركات التاريخ ومذاهب الدعاة، ولكنهم لا يذكرون حركة واحدة من تلك الحركات المعروفة، إلا كان الأمر فيها موقوفًا على مسألة شعور قبل كل شيء وبعد كل شيء.
وخذ لذلك مثلًا هجرة الناس إلى القارة الأمريكية بعد كشفها فرارًا من الفاقة، أو من الحجر على ضمائر المعتقدين، فلماذا هاجر أناس وبقي أناس لو لم يكن فرق الشعور هو الفرق الأكبر بين الباقين وبين المهاجرين؟ ولماذا رضيت طائفة بالذل والحجر، فسكنت واستكانت، ولم ترض طائفة أخرى فودعت الديار، واقتحمت مجاهل البحار ومخاطر الأسفار؟ وما تعليل «المادة» لهذا الفارق في الشعور والمهاجرون ينتمون إلى كل طبقة وحالة الضيق شاملة لهؤلاء وهؤلاء؟ إن آفة هذا المذهب البغيض أنه لا يرى أكرم العلتين للحادث الواحد إلا حاد عنها إلى أحقر العلتين، وأنه لو وضع لعالم من الحيوان لما احتاج إلى تضييق ولا تقصير، ولا إعادة تفصيل أو تحرير؛ لأنه لا يفهم من الإنسان إلا جانب الحيوان.
وكان صاحبي من أولئك الذين يعلقون أحكامهم على الخطأ حتى يتبين لهم وجه الصواب فيه، وكأنه لا يعرف أن هذا الوجه دميم إلا إذا عرف أن ذلك الوجه وسيم، ولا يصدق أن هذا العلاج قاتل إلا إذا صدق أن ذلك الدواء محقق الشفاء. فشك طويلًا بعد ما سمع من مساوئ الشيوعية والنازية ثم عاد يسأل: ولكن ما العمل؟ إن شيئًا لا بد أن يعمل ولا أحسبك إلا قد خرجت من هذا التيه المتراكب بزاوية تنفذ إلى طريق، ولو لم يفضِ بنا الطريق إلى الغاية المأمولة إلا بعد حين، فالشيوعية حسد والنازية غرور، فأين يكون سواء الأخلاق وصلاح الأمور؟
قلت: وهبنا لم نعرف طريق الصلاح، أفيمنعنا هذا أن نحذر طريق الفساد؟ على أنني أعتقد يا صاحبي أن الطريق الوحيد الذي فتح لنا بين هذه المتاهات، هو طريق كتبت عليه كلمة واحدة لا تتبدل في مشكلة من المشكلات: وهي كلمة «التعاون».
فلا خلاص للعالم بعد اليوم إلا بهذا الترياق الوحيد، حيثما أعضلت عليه مشكلة في السياسة أو في المعيشة، أو في الحكومة أو في الأخلاق.
التعاون بين الأمم كبارها وصغارها، والتعاون بين الطبقات غنيها وفقيرها، والتعاون بين السلطات، والتعاون بين الأفراد ولا اختيار للناس في تعاطي هذا «الترياق»؛ لأنهم مدفوعون إليه مقسورون عليه، بعد نزاع بين الأمم، ونزاع بين الطبقات، ونزاع بين الحكماء والمحكومين.
قال: وماذا يجدي التعاون في مشكلات الفقر والغنى؟
قلت: يجدي ما ليس يجديه حل آخر من الحلول التي جرت قبل الآن أو ستجري بعد الآن.
خذوا الضرائب من الأثرياء وزيدوا الأجور للعاملين، فإذا بكم قد حققتم غرض الشيوعية ولم تمسخوا الطبيعة الإنسانية؛ لأن المالك الذي يؤخذ منه معظم ربحه ضريبة للدولة إنما هو موظف في ملكها لا يتقاضى من الربح أكبر من أجر الوكيل المؤتمن على مصلحة غيره، وكأنما ملكت الدولة مرافق البلاد كلها، ولم تحرم المالكين ذلك الحافز «الفردي» الذي يحث المرء على العمل لغيره، كأنه يعمل لنفسه ولأبنائه، وما من شيء يستنهض الهمم للتجويد والافتنان، كما تستنهضها هذه الحوافز التي تخلو الحياة من كل طعم إذا خلت منها.
وانشروا سُنة التعاون في التجارة وتدبير أسباب المعيشة، فإذا بكم قد أعدتم على الشاري فوائد الرخص والغلاء، ووقفتم الاستغلال عند حده الذي يرضاه المنتفعون بالبيع والشراء.
ولا أعزم لك أن هذا «التعاون» سيبطل كل شكاية، ويوفر كل مطلب وينصف كل محروم، فإن نظامًا من النظم لن يكفل هذا «الفردوس» لبني الإنسان أبد الأبيد وآخر الزمان، ولو أنه كفله لكان وبالًا عليهم؛ لأن الأمان من كل قلق مدعاة للتواكل والقنوع، ولأن الناس ما عملوا قط إلا وفي جوانحهم بعض الخوف وبعض النزوع إلى التغيير، وهب أن بعض القلق لا يفيد هذه الفائدة في حياة الأفراد والجماعات، فهل يكون القلق اليسير ثمنًا كبيرًا لحرية الفرد، وإطلاق المجال لسباق الهمم والآمال؟ ففي السجون يأمن السجناء على المأكل والمسكن والكساء والدواء، ولكنهم شر من الطلقاء الذين يشبعون ويجوعون، ويلبسون ويعرون، ويدبرون لأنفسهم أمر المسكن والصحة إذا احتاجوا إليها.
قال صاحبي: وهل يقبل المستغلون من ذوي الجشع وطلاب التخمة سنة التعاون!
قلت: إن سنة التعاون لا تنتظم في هذه الدنيا؛ لأن المستغنين يقبلونها أو لا يقبلونها، ولكنها تنتظم على مقدار الحاجة إليها والإيمان بها، وغلبة المصالح التي توافقها على المصالح التي تناقضها وتقف في طريقها.
وربما تهيأت في وطن ولم تتهيأ في غيره، وربما أسرعت هنا وأبطأت هناك، وربما تعرضت دونها الصعوبات حينًا ولم تتعرض في حين آخر، على أنها إذا انتظمت بعد ذلك، فإنما تنتظم للدوام والتمكن والهداية كما تنتظم فضائل الرشد بعد فضائل القصور، أو أدب الرجولة الناضجة بعد أدب الطفولة الفجة، وإنك لتمنع الطفل أن يمرض وتحميه أن يؤذي نفسه بيديه، ولكنه لا يمتنع عن المرض باختياره ولا يحتمي من الأذى بنفسه إلا بعد خبرة عسيرة وتجربة طويلة، من يحرمه منها يحرمه صفوة وجوده وقوام كيانه، ولا يقال: إنه رءوف به عامل لخيره متعجل لنموه ورشاده، ولو أن الثورة الشيوعية قضت عشرين سنة في طلب التعاون والإيمان بلزومه لبلغته، ونهجت به منهجًا يتقدم العمل فيه ولكان ذلك خيرًا من تلك السنين العشرين، التي قضتها في المحاولة وإهدار الجهود والدماء، ثم ختمت المطاف بالعدول عنها وإقزار ما كانت تنكره وتأباه! وعلى أي شيء ختمت المطاف؟ على إقرار الملكية والاعتراف بالدين والوطنية، والسماح بالميراث وخزن الأموال وتفاوت الأجر والمعيشة، وسلب العامل حريته في الانتقال من مصنع إلى مصنع، وتحريم الاحتجاج والإضراب عليه، وقد كان يحتج ويضرب في عهد القيصرية الجائرة، فأما اليوم فلا احتجاج ولا إضراب، ولا غنى له عن بطاقة الخروج من المصنع إذا ضاق به وتحول عنه، فإن لم تكن بيده هذه البطاقة، فلا حق في بطاقة السكن، ولا بطاقة الطعام ولا بطاقة الحقوق المدنية في شيء، أو حضور جلسات! وهو حر كما يقال؛ ومن أجل حريته هذه فاضت دماء، وتقوضت مدن وضاعت أيام وأعوام!
وإنني لأوكد لك أنني لو ملكت الفصل قولًا وعملًا في قضية المذاهب الاجتماعية لأوجزت الحكم، وحسمت الخلاف من أوجز طريق: ألف عامل في بلاد الشيوعية وألف عامل في بلاد الديمقراطية الصناعية يتبادلون المكان خمسة أعوام، وليس يخامرني الشك طرفة عين أيهما يسرع إلى الصريخ والعويل، ويلحف بعد قليل في التبديل والتحويل.
قال صاحبي وهو يتلفت كأنما يتعوذ من شيطان يسمع ما يقول: ويح هذه القماقم الهوجاء، لقد شغلتنا وهي مغلولة مسجاة، فكيف لو انطلقت من عِقالها؟
قلت: وحسنًا صنعت، فما أعلم أن موضوعًا في هذا العصر هو أولى بأن يشغلنا في موضوعها، وما أحسب أن الإنسانية قد احتاجت إلى التفرقة بينها وبين البهيمية منذ فارقت الغابة والكهف للمرة الأولى، كما احتاجت إليها في هذه الآونة.
ونظرت إلى صاحبي فإذا هو يضم ما بين الخنصر والبنصر، ويقول: ها نحن أولاء نقلب صفحة جديدة أو نفتح كتابًا جديدًا، وها نحن أولاء نتكلم بالقول الصريح وبالقول المستعار في وقت واحد، فما أبعد النقلة ما بين الخنصر والبنصر في عالم الكتب، ما أبعد النقلة بين الأرض والسماء وبين المعاش والمعاد، وبين فلسفة كارل ماركس وفلسفة ما وراء الطبيعة!
قلت: كلاهما يتصدى لعمل واحد، وهو تفسير الكون وترتيب المعاش في هذه الدنيا على هذا التفسير.
وكان صاحبي قد انتقل كما قال، فيما بين الخنصر والبنصر إلى عالم السماء: عالم البحث في الله، وسر الوجود، وأصل الحياة وما قبل الحياة وما بعد الحياة.
وكان على ديدن الكثيرين يرى أن هذا البحث فيما وراء الطبيعة من الوقت الضائع أو فضول القول، فسألني وهو يتحرج قليلًا؛ لأنه يعلم أنني لا أستضيع وقتًا أنفقه في بحث هذه الأمور: ما فائدة هذا كله وهو غموض في غموض وفروض من وراء فروض؟ ألا يمكن أن يعيش الإنسان على هذه الأرض، وهو في غنى عن هذه الفلسفة التي يسمونها سر الوجود؟
وأردت ألا أتخلف عنه في جرأة الرأي، فقلت: بل هي آخر شيء يستغني عنه الإنسان، وما أنت مستطيع أن تطل من هذه النافذة، أو تبدأ عملك في الصباح ما لم تكن لك «فلسفة وجود» على نحو من الأنحاء.
قل لي: ماذا تستبيح وماذا تحرم وأنت تنظر من هذه النافذة؟ أتستبيح أن تملأ عينيك من شيء غيرك، كما قال الأديب الحجازي؟ وإذا استبحته فلماذا تستبيحه؟ وإذا حرمته فلماذا تحرمه؟ وما حدود المتاع بالنظر فيما تراه؟ أله حدود أم ليست له حدود؟
وأنت تذهب إلى عملك كل يوم في الصباح، فلماذا تعمل أو لماذا تهمل عملك؟ أعليك واجب؟ أمناط هذا الواجب مصلحتك أم مصلحة الأمة؟ ومشيئة الخالق أم مشيئة المخلوق؟ وإن آمنت بهذه المشيئة أو بتلك فلماذا آمنت؟ وإن لم تؤمن بهذه أو بتلك فلماذا كفرت؟ وإن لم تكفر في شيء من ذلك، فهل أنت إذن مثلٌ حسنٌ للآخرين!
مرحلة الحياة يا صاحبي كجميع المراحل التي نقطعها من مكان إلى مكان، لا تركب القطار حتى تحصل على التذكرة، ولا تحصل على التذكرة حتى تعرف الغاية التي تسير إليها، غاية ما هنالك من فرق بين راكبين أن أحدهما يقرأ التذكرة والثاني لا يقرأها، أو أن أحدهما يؤدي ثمنها من ماله والثاني يؤدى له الثمن من مال غيره، وإن أبيت المجازات فأحد الراكبين في مرحلة الحياة يبحث عن غايتها بنفسه، والآخر توصف له غايتها بلسان غيره، لا بد يا صاحبي من هذه الفلسفة التي تريد أن تلقي بها في اليم وأنت على الشاطئ، وثق يا صاحبي أنها آخر شيء يلقيه راكب السفينة حين تلعب به الأعاصير في البحار اللجية، بل هي الشيء الذي لا يتركه ولو ترك السفينة أو تركته إلى الأعماق، ألم تسمع قولهم في الأمثال: «إنهم كالنواتية لا يذكرون الله إلا ساعة الغرق؟» فاعلم يا صاحبي أن هذا الذكر هو فلسفة الحياة التي تبقى مع راكب السفينة بعد كل بضاعة يستغني عنها، وبعد السفينة نفسها إذا حان حينها!
قال صاحبي: وهل وصلت قط من فلسفة حياتك إلى شيء؟
قلت: نعم، إن الله موجود.
قال: باسم الفلسفة تتكلم أو باسم الدين؟
قلت: باسم الفلسفة أتكلم الآن، والفلسفة تعلمنا أن العدم معدوم فالموجود موجود، موجود بلا أول ولا آخر؛ لأنك لا تستطيع أن تقول: كان العدم قبله أو يكون العدم بعده! وموجود بلا نقص؛ لأن النقص يعتري الوجود من جانب عدم ولا عدم هناك، موجود بلا بداية ولا نهاية ولا نقص ولا قصور … والوجود الكامل الأمثلُ هو الله.
قال: وكيف توفق بين الوجود الأمثل وبين الشرور والآلام في هذه الحياة؟
قلت: هذا سؤال غير يسير؛ لأننا نحن الفانين لن نرى إلا جانبًا واحدًا من الصورة الخالدة في فترة واحدة من الزمان، ومن يدرينا أن هذا السواد الذي يصادفنا هنا وهناك هو جزء لازم للصورة كلزوم النقوش الزاهية والخطوط البيضاء؟ وماذا تستطيع أن تصنع لو ملكت الأمر، وتأتي لك أن تقذف بالشرور من الحياة؟ بغير الألم والخسارة ما الفرق بين الشجاع والجبان وبين الصبور والجزوع؟ وبغير الشر والسوء ما الفرق بين الهدى والضلالة، وبين النبل والنذالة؟ وبغير الموت كيف تتفاضل النفوس وكيف تتعاقب الأجيال؟ وبغير المخالفة بينك وبين عناصر الطبيعة من حولك كيف يكون لك وجود مستقل عنها منفصل عن موافقاتها ومخالفاتها؟ وبغير الثمن كيف تغلو النفائس والأعلاق؟
قال صاحبي: أليس عجزًا أن نشقى وفي الوسع ألا نشقى! أليس عيبًا أن نقصر عن الكمال، وفي الوسع أن نبلغ الكمال؟
قلت: وكيف يكون في الوسع أن يكمل المتعددون؟ إنما يكون الكمال للواحد الدائم الذي لا يزول.
قال صاحبي: قل ما شئت، فليس الألم مما يطاق، وليس الألم من دلائل الرحمة وآيات الخلود الرحيم.
قلت: على معنى واحد إن هذا لصحيح!
إنه لصحيح إذا كانت حياة الفرد هي نهاية النهايات، وهي المقياس كل المقياس لما كان وما يكون، لكن إذا كانت حياة الفرد عرضًا من الأعراض في طويل الأزمان والآباد — فما قولك في بكاء الأطفال؟ إن الأطفال أول من يضحك لبكائهم حين يعبرون الطفولة، وإنهم أول من يمزح في أمر ذلك الشفاء، وليس أسعد الرجال أقلهم بكاء في بواكير الأيام.
يا صاحبي: هذا كون عظيم، هذا كل ما نعرف من العظم، وبالبصر أو البصيرة إذا نظرنا حولنا لا نعرف العظم إلا من هذا الكون، ماذا وراء الكون العظيم مما نقيسه به أو نقيسه عليه؟ فإن لم نسعد به فالعيب في السعادة التي ننشدها، ولك أن تجزم بهذا قبل أن تجزم بأن العيب عيب الكون وعيب تدبيره وتصريفه، وما يبديه وما يخفيه، ولك أن تنكر منه ما لا تعرف، ولكن ليس لك أن تزعم أنه منكر؛ لأنه مجهول لديك.
وبسط صاحبي ذراعيه وهو ينظر حوله بالبصر وبالبصيرة معًا في أجواز الفضاء السرمد، ويخيل إلى من يراه في تلك الساعة أنه يفتح بصيرته وُسعها كما يفتح المشدوه عينيه وُسع الأجفان، حين يحب أن يملأ العينين مما تريان، وكأنه أغمض بعد إعياء من التأمل والاستقصاء، فقال: هذه آفاق شاسعة! هذه أغوار لا يسبر لها قرار. وتساءل: أليس إلى معرفة الحقيقة من طريق غير هذه الطريق؟ أليس للرياضة الروحانية مسلك إلى هذه الآفاق والأغوار؟ إن نُساك الهند على ما يبدو لي لأخبر بهذه المسالك، وأهدى في هذه الدروب؟ إنهم لا يصدعون رءوسهم بالبحوث والفروض ولكنهم يعرفون!
قلت: بل أحسب أن الطريقين مختلفان، إن نُساك الهند لا يطلبون المعرفة، ولا يجعلونها غاية الغايات، فإن المعرفة قد تنال من إقرار الجسد كما تناله من إنكاره، وقد تنجم من الإقبال على الدنيا كما تنجم من الإعراض عنها، ولكنهم طلبوا الطمأنينة والراحة أو طلبوا الرضوان، وشتان بين من يطلب الرضوان، ومن يطلب المعرفة حيثما وصل إليها أو وصلت إليه.
قال: أي رضوان وأي راحة؟ إنهم ليعذبون أبدانهم ويقدعون نفوسهم ويشلون أعضاءهم بمشيئتهم، فكيف ينشدون الرضوان والراحة بهذا العذاب؟
قلت: هل يعذبون أبدانهم إلا لأنهم راضون بهذا العذاب ومطمئنون إلى عقباه؟ وهل شاء الإنسان أمرًا لا يشاؤه أو يختار أمرًا لا يختاره، أو يرضى بأمر لا يرضاه؟
لعمري لئن لم يفتح النساك فتحًا عظيمًا في جانب المعرفة، لقد فتحوا أعظم الفتوح في جانب الأخلاق، بل أقاموا الأخلاق على أوثق أساس حين علَّموا الإنسان أن رضوان النفس مطلب يهون في سبيله كل عذاب، وأنه لا جزاء أوفى من رضوانها، ولا عذاب أنكأ لها من سلب ذلك الرضوان، وأي فهم لمعنى الثواب والعقاب أكمل وأفضل من هذا الفهم، الذي لم يأتِ من جانب البحوث والفروض؟ لا عذاب للنفس أنكأ لها من شعورها بالنقص، ولا نعيم لها أنعم من شعورها بالرضوان، فكفى بهذا الفتح انتصارًا في معترك الأخلاق، وإن لم ننسك كما ينسكون ولم نتعذب كما يتعذبون.
قال صاحبي: الحق أنني لم أشقَ في حياتي بشقاء أمر وأوجع من اتهامي لنفسي وسوء الظن بطويتي، ولو لم يكن هذا الشقاء أمرَّ الشقاء على الطبيعة البشرية، لما تحصنت منه بحصن الغرور، وهو أعم الخلائق في البشر أجمعين.
قلت: إن الغرور هو الجوهر الزائف الذي نتحلى به كلما أعوزنا الجوهر الصحيح، وإنه على هذا لحصن مطروق لا يستعصم كل الاستعصام من ذلك الرقيب الحسيب. فربما اغتر الإنسان فكبرت قيمته عنده ولم يقنع بما دونها، فآلمه النقص وفاتته نعمة الرضوان.
ولقد قال اليونان قديمًا: اعرف نفسك، فإذا قلنا معهم: نعم، وارض عن نفسك أيضًا بلغنا كمال العلم وكمال الأخلاق. ترى هل يطلب الناس أجرًا؛ لأنهم يلبسون حلل الحرير ولا يلبسون الكرابيس؟ ترى هل يأكل الناس الطعام المريء اللذيذ، ويصدفون عن الطعام المسقم الخسيس لأنهم يخشون العذاب؟ فإذا عرفوا الكمال وعرفوا النقص، فهل تراهم يطلبون أجرًا؛ لأنهم تجنبوا النقص وتعلقوا بالكمال؟ وإذا عرفوا صحة النفس، فهل تراهم يلتمسون الأجر على الصحة كما يلتمس الأطفال أجرهم على تناول الدواء؟ إنما الخوف من النقص هو أمر العذاب، والرضوان عن الكمال هو أحسن الجزاء، وقد يتعذب الإنسان في طلب الكمال وهو راضٍ، وقد يرفض النعمة فرارًا من النقص وهو لا يخشى العقاب، فارض عن نفسك وأنت في غنى بعد هذا عن الوعد والوعيد في نشدان الكمال؛ لأنك لا تحتاج إلى الوعد والوعيد لتستطيب ما أنت شاعر بطيبه، وتنفر مما تعاف.
قال صاحبي: أكبر الظن أن «الذوق» هنا قد يغني ما ليست تغنيه المعرفة، أو تغنيه التقاليد والموروثات، وهنا يستوي الفن الجميل في مكانه إلى جانب المعرفة وإلى جانب الدين.
وكان صاحبي يداعب على القرب رفًّا أمامه يقرأ عليه عناوين الكتب في تماثيل اليونان، ومدارس الفن القديم والحديث، فما هو إلا أن طرأ اسم الفن الجميل على لسانه حتى تناول واحدًا منها، ثم تناول ثانيًا وثالثًا ورابعًا، وهو يقلب صفحاتها ويقابل بين صورها، ويقرأ سطورًا هنا وسطورًا هناك في التعقيب على تلك الصورة أو ذلك التمثال، ولم يفته أن يدرك ما أدركته الأجيال بداهة وارتجالًا من ذلك الفضل السابق على جميع الأفضال في باب التماثيل: وهو فضل الإغريق الأقدمين. فراح يقول: صدق الذين أطنبوا في شأن هؤلاء الإغريق، ووصفوهم بأنهم تراجمة الطبيعة الصادقون في كل باب، ولا سيما باب التماثيل وباب التمثيل، فما يبصر الإنسان تمثالًا إغريقيًّا إلا اتصل بصره بالطبيعة على بساطتها بغير حائل وبغير حجاب، وما يقرأ قصة من قصصهم المسرحية إلا اتصل بصره بالطبيعة كما يعيش فيها، وتسيطر عليها العناصر والأقدار.
واختطف كلمة في هذا الكتاب وكلمة في ذاك عن فن مريون وفيدياس وليسبس ومن تلاهم من المتخلفين، فإذا الفن أيضًا مظهر لبروز الفرد الإنساني من الغمار الشامل إلى مكان التخصيص والتمييز، فالتمثال القديم نموذج للشكل والقالب والقوام يتساوى فيه كل ذي خلق سوي من الناس، ولكنه شامل عام لا تتميز فيه الملامح والتعبيرات ولا يتمثل فيه التخصص والانفراد، ثم تتعاقب صور الأفراد بروزًا وتباينًا حتى ينسى الناظر إليها النماذج الشاملة، ويتناولها بالتقسيم والتفصيل، ويظهر هذا في تماثيل العصور الإغريقية؛ لأنهم صدقوا وصف الطبيعة وصدقوا الشعور بها على السواء، وكأنهم حين يمثلون الأبطال الأقدمين يمثلون عناوين شتى لكل نموذج من نماذج البطولة، يصنع على غراره قالب باقٍ وتتعدد منه أنماط متكررات.
ولم ينتهِ صاحبي من تقليب تلك الصور إلا وهو يقول: فن جميل، نعم فن جميل. ولكن ما غناء الفنون الجميلة في عصرنا هذا عصر العلوم والصناعات! وأية أمة في عصرنا هذا تفرغ للفن كما فرغ له الإغريق، وعليها ذلك الإلحاح الدائم من حاجتها إلى العلم وحاجتها إلى الصناعة؟
وتذكرت في تلك اللحظة سؤالًا سمعه الناس، ولا يزالون يسمعونه منذ ظهرت بينهم الصناعة الحديثة والعلم الحديث، وقد سألته مرات وسُئلته مرات، وأحببت في هذا المقام أن أكون أنا السائل قبل أن أكون المسئول، فقلت لصاحبي: وأيهما أحق بالعناية والتقديم؟ وأيهما أجدر بالأمم أن تفخر به وترعاه؟
قال: وهل في ذلك جدال؟ أحقها بالعناية والتقديم هو الذي تحتاج إليه ولا تستغني عنه!
قلت: ولكن هذا المقياس يا صاحبي أخطأ مقياس للتفضيل بين شيئين يتعلقان بالإنسان؛ لأن الذي لا نستغني عنه دائمًا هو الضرورات الحيوانية التي تقارب بيننا وبين من دوننا من الأحياء، والذي نحسبه من الكماليات هو الكمال الذي تتفاضل به منازل الناس، فدع الحاجة ومقاييسها يا صاحبي، فليست هي بمقياس صحيح، وكيف يكون مقياسًا للاختيار ما يسلبك الاختيار، وينزلك على حكم الضرورة والإكراه!
قال: فماذا ترى أنت؟
قلت: إذا لم يكن في الأمر اضطرار، فنحن إذن قادرون على أن نختار، وعلينا إذن أن نختار بين أمة جاهلة ناقصة الأداة، وأمة مريضة أو يوشك أن تموت.
فالأمة بغير علم أمة جاهلة، ولكنها قد تكون على جهلها وافية الخلق والشعور، والأمة بغير صناعة أمة تعوزها أداة العمل، ولكنها على هذا قد تكون صحيحة الحس صحيحة التفكير، والأمة بغير تعبير أمة مهزولة أو مشرفة على الموت، وكذلك تكون الأمم التي خلت من الفنون؛ لأن الفنون هي تعبير الأمم عن الحياة.
ولا أكتمك يا صاح أن الاختيار بين هذه المقاصد الثلاثة خليق أن يعنت المختار؛ لأن الفن والعلم والصناعة ليست بديلًا من بديل، وليست قرينًا يقاس إلى قرين، وما أعطي الإنسان التعبير؛ ليبادل بينه وبين العلوم أو بينه وبين الصناعات، فإنما التعبير جزء من حياة الإنسان، والعلم حالة من حالاته، والصناعة أداة من أدواته … ولا محل للمفاضلة بين جزء لا ينفصل من النفس الإنسانية، وحالة من حالاتها التي قد تنفصل عنها، ولا محل للمفاضلة بين هاتين وبين عصا يحملها المرء في يده، أو فأس يضرب بها الأرض أو مطية يركبها، أو شيء من هذه الأشياء المصنوعة على الإجمال. وما ظنك برجل يقول لك: تعال يا فلان! إنك حي تعبر عن سرورك وألمك وتقول: إني أحب وإني أبغض، وإني أرجو وإني أخاف، وإني أبتهج لتلك الروضة، وأنقبض لتلك المتاهة، وأعجب بهذا البطل الجسور، وأهيم بذلك الوجه الصبوح، تعال يا فلان! إنك تستطيع أن تقول هذا فلا تقله، وخذ في مكانه العلم أو خذ في مكانه عشر سيارات وبضع طيارات، ومصنعًا للحديد ومنسجًا للحرير … ما قولك في هذا الرجل يا صاح! هل تراه قد عرض عليك الخيار في أمر يصلح للخيار؟ وهل تراك قادرًا على أن تجيبه، ولو طاب لك أن تأخذ البدل المعروض، وتعطيه التعبير المزهود فيه؟
ذلك هو شأن الذين يفاضلون بين الفنون والعلوم والصناعات، يخيرون الناس في غير موضع للخيار، ويسألونهم عن الأسعار في غير موضع للبيع والشراء. أما إن كان المقصد من هذه التسعيرة تقويم القيم والعلم بأقدارها، فليعلموا إذن ما شاءوا أن يعلموه؛ ليعلموا أن للأصبع قيمة، وأن للمصباح قيمة، وأن للسيف قيمة وأن للرغيف قيمة، ولكن المبادلة بينها لا تقبل في سوق الاختيار، وليس في سوق البيوع الجبرية مجال للإيجاب والقبول!
ووقعت يد صاحبي على مجلدات الصور التي تسمى بصور المدارس الحديثة، وهي أشكال وألوان من المستقبليين إلى فوق الواقعيين إلى الاحساسيين الغلاة، إلى أشباه ذلك من البقع والخطوط والأصباغ التي تحمل عنوان التصوير، وليست هي من التصوير في شيء؛ لأنها في استطاعة كل من يتناول الريشة ويغمسها في الألوان، وليست بالفن الذي تعرف له أصول، وتدرس له مبادئ ويمتاز به الفنان بين سائر الناس.
نظر صاحبي إلى تلك الصور، فاشتدت عليه النقلة من فنون الأقدمين ونظرائهم المحدثين إلى هذا الهراء الذي يشبه هذيان المجانين، فقال: إن كان الفن تصويرًا فليس هذا بتصوير، وإن كان هذا الفن الذي يسمونه بالحديث تصويرًا فلنبحث عن اسم آخر لذلك الفن القديم، لن يجمع الفنين اسم واحد بأية حال.
قلت: لا حاجة إلى البحث عن اسم آخر للفن القديم، فهو هو التصوير الذي يصنعه المصورون، أما هذا فهو ألغاز وأحاجي كتلك الألغاز والأحاجي التي تُنشر في صحف التسلية عن الحروف المتقطعة، والأرقام المثلثة أو المربعة، أو عن العيون التي ليست لها آناف، والآناف التي ليست لها عيون، وكلها من عمل الملغزين والمفسرين فلا اختصاص بها للمصورين والنحاتين دون غيرهم من العالمين.
قال صاحبي: ونستغفر الألغاز والأحاجي قبل هذا التشبيه بين الفنين، فإن الألغاز والأحاجي ترجع إلى تفسير يتفق عليه كل من يفهمها بلا استثناء، أما هذه البقع والخطوط والأصباغ، فهي شيء لا يفهمه غير صاحبه، ولا يستطيع أن يعمم فهمها بين طائفة من الناس، فكل صورة هنا كلمة من لغة لا يعلمها إلا إنسان واحد، إن صح أنها شيء معلوم. وقد كانت الفنون لغة إنسانية عامة يفهمها على البداهة من لا يتفاهمون باللغات، فأصبحت على أيدي هؤلاء المجَّان خرافة سرية في ذهن رجل واحد لا يمثلها مرتين على نمط معروف.
ثم أومأ صاحبي إلى صحائف الإحساسيين، فقال: هؤلاء هم الذين فتحوا الباب — جزاهم الله!
قلت: أصبت، إنهم هم الذين فتحوا باب التصرف في الأصول الموروثة، ولكنهم أصابوا في فتحه، وهؤلاء دخلوا فيه ولكنهم دخلوا واغلين.
لقد كان الأساتذة الأقدمون يصورون ما يعلمون ويحسون، فجاء من بعدهم أساتذة المدرسة «الإحساسية»؛ ليصوروا ما يحسون وما يشهدون.
كان الأستاذ القديم يعلم وهو يصور الشجرة أن لها غصونًا وأوراقًا، فيصورها ذات غصون وأوراق مفروزة كما يعلمها، وإن كان يراها من حيث يجلس لتصويرها لونًا أخضر، لا تنفصل ورقة فيه عن سائر الأوراق.
وكان الأستاذ القديم يحسب الظل سوادًا؛ لأنه نقيض البياض، وإن كان ليضرب أحيانًا إلى لون البنفسج أو الرماد.
فجاء الإحساسيون فأصلحوا هذا وذاك وكان لهم الفضل والتوفيق في هذا الابتداء.
وكأنما حسب الذين خلفوهم أن التصرف مقصود لغير غرض مقصود، فوصلوا إلى ما هم فيه من هذيان المجانين.
كان الأقدمون يصورون ما يعلمون ويحسون، وكان الإحساسيون الصادقون يصورون ما يحسون ويشهدون، فجاء من بعدهم من يصورون ما يتوهمون، وجاء من بعد هؤلاء من يصورون ما يزعمون أنهم توهموه، وهم كاذبون.
توهم مزعوم، فماذا يكون وراء الوهم الملفق والزعم المكذوب؟
لن يكون إلا هذه البقع والخطوط والأصباغ، ولن تكون فنًّا يتولاه فنان؛ لأنها في مقدور كل يد تصبغ الألوان.
انظر إلى هذا الكلب الذي صوره رجل من المستقبليين! أرأيت كلبًا قط له اثنتا عشرة قدمًا وذيلان أو ثلاثة ذيول؟ إن هذا «المستقبلي» يصوره كذلك؛ لأنه يزعم أن الكلب وهو يجري قد يُرى له هذا العدد من الأقدام والذيول! فمن الذي أنبأه أن فن التصوير قد خلق لتصوير الكلاب وهي واقفة لا تنقل قدمًا في قصارى شوطها، فلم يجهل أحد رآها أنها تعدو غاية العدو، وأن الحركة شيء داخل في صناعة المصورين، ولو جرى المصورون على هذا المذهب لما جاز أن يُرسم إنسان بعينين اثنتين، لأنه يقلب عينيه ذات اليمين وذات الشمال، ويرفعهما إلى أعلى ويصوبهما إلى أسفل، فلا تستقران في لمحتين!
وانظر إلى هذا المنكود من غلاة الواقعيين كيف يصور الفتاة؟ أفهذه فتاة أم جثة غريقة وارمة؟ أم جلد آدمي محشو كما تحشى جلود الحيوان؟
ولكنه يقول لك: إنه يصور ما يراه الوعي الباطن ولا يصور ما تراه العينان، فمن قال له: إن الوعي الباطن مخلوق في هذه السنوات التي سميناه فيها باسمه؟ ومن قال له: إن الأساتذة الأقدمين كانوا يعيشون في هذه الدنيا بغير وعي باطن، وبغير أوهام وأحلام؟ إنه سمع اسمًا جديدًا فظنه خلقًا جديدًا يرينا الدنيا على صورة لم تكن لها في الزمن القديم. ثم جاء المتجرون بالغرائب فسخروه وشجعوه، ووقع في الفخ من يدعون غير ما يعلمون، ومن يخافون أن يقال عنهم: إنهم قوم متخلفون، لا يفقهون الجديد ولا يجرون مع العصر الذي يعيشون فيه.
قال صاحبي: ترى لو تمثل صاحبنا في وعيه الباطن صورة السيارة، كأنها الفتاة الحسناء اللعوب — أيؤمن بوعيه الباطن هذا فيلقي بنفسه تحت قدمها، أو يقف في طريقها ليغازلها ويسعد بقربها.
قال صاحبي: لَيْتهم يصدقون الوعي الباطن هذا التصديق، فيلحقوا بالوعي الباطن في عالم الخفاء وتسلم القرائح والأذواق؛ لكنهم عند الجد قوم عقلاء، ينظرون بالعين التي ينظر بها الناس، ولا يرون السيارة إلا سيارة، ولا الرجل إلا رجلًا ولا الفتاة إلا فتاة!
وألقى من يده تلك المجاميع ليتناول مجموعة من صور التماثيل التي صنعها الأقدمون والمحدثون، وحفظت أصولها في دور الفنون والآثار، بعضها في متحفنا المصري، وبعضها في العواصم الأوروبية، فبدرت منه هتفة إعجاب بنخبة من تماثيل الملوك والملكات والكهان في عصور الفراعنة، وأدهشه ما يمثله الحجر — ثم تمثله الصورة المأخوذة عن الحجر — من قوة الخلق ودقة الملامح، وبروز السمات على خلاف ما توسم في تماثيل الإغريق.
قال: ما كنت أحسب أن المصريين برعوا الإغريق في هذه الفنون، ولا سيما في النحت والتصوير.
قلت: كان ينبغي أن تحسب ذلك بداهة قبل أن تلمحه بالعيان، فالمصري القديم كان يعنيه التخليد قبل أن يعنى بالنقل عن نماذج الطبيعة، ومن عني بنقل النماذج العامة أغناه الوصف المشترك بينها عن السمات الخاصة والملامح الشخصية، ولكن المصري الذي كان يصنع التمثال كما يحنط المومياء لتخليد صاحبها، ودوام جسده ومقومات شخصه لم يكن له معدى عن تمييز معارفه، والتدقيق في تمثيل صفاته، فمن ثم كان المصريون الأقدمون أبرع من الإغريق الأقدمين في نقل الملامح والقسمات، ولولا أن الإغريق أطلقوا الدنيا، وأن المصريين قيدوا دنياهم بآخرتهم لجاء فن الإغريق بعد فن الفراعنة الأقدمين بأشواط فساح.
قال: ولعلهم من أجل هذا قربوا الصلة بين قيود الفن وقيود الأخلاق.
فندر في صورهم العري وعرض المفاتن المثيرة، وتعمدوا أن يستروا من الأجسام ما تقضي الأخلاق بستره، خلافًا للسنة الشائعة في رسم الصور ووضع التماثيل.
قلت: إنهم في الواقع أقرب إلى ستر الأعضاء من غيرهم، فلم يكشفوا من عورات الأجسام إلا ما صنعوه لآلهة التناسل في المحاريب المزوية، ولكني لا إخال المسألة هنا مسألة حياء اتَّصف به قدماء المصريين وتجرد عنه الآخرون، وإنما كانت تماثيل المصريين الأقدمين تماثيل أشخاص معروفين لا تماثيل أجسام يتخذونها نموذجًا للجسم القوي والجسم الجميل، ولا حاجة إلى عرض خفايا الجسم في تماثيل الأعلام المعروفة: أما نماذج القوة ونماذج الجمال، فيختلف الحكم عليها بعض الاختلاف — فإن إظهار العضلات والألواح، وإظهار الزوايا والمدارات، قد يتمم النموذج ويلزم المثَّال في أداء عمله أشد من لزوم الوجوه والرءوس.
ثم قلت: وعلى هذا ربما أدهشك كما أدهشني، حين قرأت لأول مرة، أن الأصل في ستر الأعضاء، إنما يرجع إلى الأنفة من وظائفها لا إلى الحياء من شهواتها، وأنهم كانوا يعافونها فيسترونها ولم يستروها؛ لأنهم يخشون فتنتها، فما أعجب أصول الأخلاق، وما أعجب منبت الحياء.
قال صاحبي: وكان من الذين يتحرجون ولا يمنعهم تحرجهم أن يسمعوا وجهات الأنظار: من أي منبت نبت فهو اليوم فضيلة من كبريات الفضائل، أو لعله اليوم أصل الفضائل جميعًا؛ فلماذا يكشفون ما ينبغي أن يُستر، ولماذا يلزمون تماثيل الناس قلة الحياء، وهم يطلبون الحياء من الأصل الأصيل!
قلت: أولى لهم أن يستروا ما يعاب كشفه ولا حاجة إلى إبدائه، وعلى أن المثَّالين قد خدموا الأخلاق من حيث لا يريدون، حين عودوا الناس أن ينظروا إلى الجسد الواحد نظرات متعددات؛ لأن النظر للشهوة وحدها معيب كعيب الخلاعة والابتذال، وما زال العزل بين أنواع الشعور ثروة لنفس الإنسان تخرجها من فاقة الطبع إلى غناه، فالطبيب ينظر إلى جسد المرأة الحسناء، فينسى الجمال والشهوة ويذكر الطب والرحمة، والرجل ينظر إلى أخته أو ابنته، فينسى أنها امرأة من جنس النساء ويذكر الحنان والمودة، والممثل يقبِّل الممثلة وينسى لذة التقبيل ليذكر براعة التجويد والإتقان، والعينان اللتان تبصران ألف جسد على شاطئ البحر في كساء الحمام لا تُفتنان كما تُفتنان بجسد واحد في مثل هذا الكساء بين الجدران، فإذا تعود الناس أن ينظروا إلى التمثال، فيذكروا جماله واتساق أعضائه، وتناسق أوصاله ينسيهم ذلك أنهم من ذوي الشهوات بضع لحظات، فهم كاسبون في الأخلاق فضلًا عن الأذواق، وليسوا بخاسرين.
وعاد صاحبي إلى ترتيب المكتبة الذي بدا لأول وهلة أنه لا يعجبه، ولا يريحه ولا يتيح له أن يجد طريقه فيه؛ لأنه أعرض عن كتب الصور والتماثيل، ومد يده إلى بعض الكتب التي تجاورها على رفها، فإذا هي في المنطق وما إليه. قال: ما هذا؟ أمن بيكاسو وأروزكو وبراك وتماثيل الفراعنة والجرمان إلى أرسطو وكانت وهيوم؟ لم أرَ موضوعًا أبعد عن المنطق من موضعه في هذا المكان.
وكانت هذه الملاحظة وأشباهها ما تفتأ تعاد من كل زائر طَرق هذه الحجرة، ونظر في كتبها ورفوفها، ولم تكن بي حاجة إلى بيان عنها؛ لأن البيان الوحيد أنني أجددها كل حين، ولا أملك أن أرتبها كل حين، وأنني مع هذا لا أضل فيها عن طريق كتاب أريده منها، فما حاجتي إلى ترتيب لها غير هذا الترتيب؟
ولكنني رجعت بصاحبي إلى المنطق الذي احتكم إليه، فقلت: وهل يقضي المنطق بغير ما تراه؟ ما الحاجة إلى عناء الترتيب والتبويب إن كنت بغير ترتيب ولا تبويب تدرك ما تريد؟ وأي ترتيب ينتظم في هذه الحجرة من ناحية إلا ليختلَّ من ناحية أخرى؟ أترتيب الحجم أو الموضوع أم تاريخ الاقتناء أم المؤلفين! ولم العناء؟ إن المنطق الذي تحتكم إليه أسباب وعلل؟ فهل من سبب وهل من علة؟
قال: لست على المنطق بغيور، فاصنع به ما تشاء وضعه حيث تشاء، وما جدوى المنطق في المكتبة، وما في الحياة من منطق يعقله العقلاء.
قلت: أما هذا يا صاحبي فلا، وإننا لعلى شرطنا الأول أن ندع المردة في قماقمها ولا نطلقها، ولكننا قادرون — وهي حبيسة — أن نقول في أمان: إن المنطق والحياة لا يفترقان! وإن الآفة فيمن لا يفهمون المنطق أنهم لا يحسونه، وفيمن لا يحسون الحياة أنهم لا يفهمونها، فما من شيء في هذه الحياة يناقض المنطق بحال، فإن فهمناه فهو مفسر بأسبابه ومقدماته، وإن لم نفهمه فليس لنا أن نناقض بينه وبين المنطق أو القياس.
قال: عجبًا! أو كذلك؟ إننا لنرى كل يوم أمورًا لا نفهمها، ولا يراها الناقدون لا تجري إلا على خلاف وجهها ونقيض استقامتها، هذا الغني بخيل وذلك الفقير كريم، هذا الفتى المقبل على الحياة يقدم على الموت في شجاعة وخيلاء، وذلك الشيخ الذي شبع من الحياة يجبن ويخاف، هذا الذكي محروم وهذا الغني مجدود، فأي منطق في هذا وأي قياس؟
قلت: كل المنطق وكل القياس، إن الذكي لا يصنع مقاديره فيصيب فيها بذكائه، وإن الغني لا يصنع مقاديره فيخطئ فيها بغبائه، وإننا لنضع المنطق في غير موضعه حين نجعله حسبة أرقام وأعوام، فإن الفتى الذي يقدم على الموت لا يفعل ذلك؛ لأنه يحسب الأعوام التي عاشها والأعوام التي ينبغي أن يعيشها، ولا يقدم على الموت لأنه يريد أن يقدم عليه، ولكن الوضع الصحيح أن نضع دوافع الحياة التي تحفزه إلى المجد والغلبة والثناء، وتخجله من العار والمهانة والعقاب، ثم نضع أمامها دواعي الحرص والحذر والإشفاق، فإذا كانت تلك الدوافع أقوى من هذه الدواعي، فالمنطق الصحيح إذن أن يقدم على الموت، ولا يستسلم للحذر والمخافة، وإذا كان الشيخ على نقيض ذلك قد تغلبت فيه المخاوف على دوافع الشباب، فالمنطق الصحيح أن يتشبث بالحياة التي يرفضها ذلك الشاب وهو في مقتبل صباه، وما من غرابة إلا وهي مفهومة معقولة منطقية قياسية حين نضعها في وضعها الصحيح، وإنما نخطئ المنطق لأننا نخطئ الإحساس، فلا تصدق خصيان العقول والنفوس حين يزعمون أنهم من ذوي الإحساس لأنهم لا يفكرون ولا يقيسون، فإنما الإحساس القويم هو الفارق الوحيد بين المنطق القوي والمنطق الضعيف، وإنما الخطأ في المنطق خطأ في الإحساس بالأمور على حقائقها النفسية. أتعرف أولئك النظَّامين الذين يحفظون التفاعيل ليحسنوا وزن الشعر، فلا تستقيم لهم التفاعيل ولا تستقيم لهم الأوزان؟ لو أحسوا بآذانهم لصححوا التفاعيل، وصححوا الأوزان معها، وكذلك الذين صفرت نفوسهم، فلا يشعرون بالحياة على حقائقها يتهمون المنطق وهو براء، وهم الذين لا ينطقون ولا يحسون.
ترى هل يخطئ المخطئون فيحسبون الغني أولى بالسخاء والفقير أولى بالضنانة؛ لأنهم يحسون ولا يفكرون، أو لأنهم لا يحسون ولا يضعون شعورًا أمام شعور، بل أرقامًا أمام أرقام! ترى لو أحسوا ماذا يختلج في نفس الغني فيبخل، وماذا يختلج في نفس الفقير فيجود؟ أكانوا يخطئون في المنطق ويضلون عن سواء السبيل؟
إننا نتكلم في الغنى والفقر، فلنمض في القافية ولا ندع الكلمتين قبل أن نقول: إن فقر العقول لم يكن قط شهادة بغنى النفوس، وإن ثروة النفس لا تحرم صاحبها ثروة العقل بل تعينه عليها وتزيده منها، وهذا فيما أحسب فصل الخطاب في قضية الفقراء المنطقيين، الذين يثبتون غناهم في الحس والشعور بشهادة فقر في باب المنطق والتفكير.
وقبل أن يتقدم صاحبي إلى ركن الشعر والشعراء، وهو ربع المكتبة، بادرته بالشرط المعهود: لا تفتح القماقم ولا تتجاوز العناوين!
قال: نعم، الشرط فيما أرى، فما نحن بخارجين من هذه الحجرة لو أطلقنا ماردًا واحدًا هنا، وانطلق وراءه إخوانه المتحفزون، ولا أخفي عليك أنني لست على مذهبك في الحفاوة بالشعر؛ لأنه فضول شبعنا منه نحن الشرقيين، وطال اشتياقنا إلى تعويد أبنائنا ملكة العمل بعد ملكة الكلام!
قلت: لك رأيك في الحفاوة بالشعر والشعراء، أما الحقيقة فهي أننا كنا عاملين عندما كنا قائلين، وأنه لم توجد قط أمة عرفت كيف تعمل إلا عرفت كذلك كيف تقول، فلا تناقض بين القدرة على العمل والقدرة على القول، وما يستطيع إنسان أن يعمل حسنًا، أو يقول حسنًا إلا بوعي صحيح، والوعي الصحيح قسط مشترك بين ملكة العمل وملكة الشعر، ولولا أن الشعراء يحتاجون إلى صناعة التعبير، ويفرغون لإتقانها لما منعهم الشعر أن يكونوا أقدر العاملين.
أتحسب العرب كانوا متخلفين في ميادين الأعمال لأنهم كانوا سباقين في ميادين القصيد زمنًا من الأزمان؟ أرأيت اليونان قد نبغ فيهم القادة والساسة والمدبرون إلا حين نبغ فيهم الشعراء والمنشدون؟ أتعلم أمة من أمم الأرض في العصور الحديثة أطبع على مراس الواقع والعناية بالفكر العملي، والخلائق العملية من أمة الإنجليز؟ فهل رأيت أمة من جيرانهم ومنافسيهم سبقتهم في مضمار الشعر، وأنجبت نصف ما أنجبوه من عباقرة الشعراء؟
زعمونا — أو زعمنا لأنفسنا نحن الشرقيين — أننا خياليون، وأننا لو أصبحنا واقعيين لنفضنا عنا غبار الخمول. والحق الذي لا مرية فيه عندي أننا واقعيون فاشلون في الواقعيات، فليست قصور ألف ليلة وليلة ولا حسانها وجواهرها وموائد طعامها وشرابها خيالًا يحتاج إلى ملكة من ملكات التصور والإدراك، ولكنها كلها واقع ناقص أو واقع موقوف التنفيذ، فإذا حصل التنفيذ حصل الواقع الذي يلمس ويرى ويشم ويذاق، واليوم الذي نتخيل فيه فنحسن التخيل هو اليوم الذي ننفض فيه غبار الخمول؛ لأننا نحسن الوعي بهذا التخيل، ونطبع الصورة الصادقة في بدائهنا من صور الوجود، ولن تنطبع في النفس صورة صادقة لما حولها، وهي راكدة قاعدة أو عازفة عن الحركة والسعي والاستجابة لتحوُّل الأحوال.
فكن على رأيي أو رأي غيري في الحفاوة بالشعر والشعراء، ولكن لا تجعل الشعراء مقياسك الذي تقيس به قدرة العمل؛ لأنهم يتفرغون للتعبير فيفوتهم التفرغ لما عداه من الشئون، واتخذ مقياسك من الأمم العاملة القائلة تجد أن الشعر الأصيل، والعمل الأصيل يرجعان معًا إلى فرد مقياس، وهو الوعي الأصيل.
وهممنا أن نترك الحجرة التي قضينا فيها معظم هذه السياحة، فأنصفناها أعدل الإنصاف؛ لأننا في الواقع نقضي فيها معظم الحياة.
وعدل صاحبي عن الرفوف إلى الجدران، فقال: إننا دخلنا هذه الحجرة، ونحن نقول: إن النور أخفى الأشياء؛ لأنه أظهر الأشياء بل مظهر الأشياء، وها نحن أولاء نغضي عن الجدران الظاهرة، ونبحث عن الرفوف والصفوف، فمن هذا وما ذاك وما هنالك على هذه الجدران التي رأيناها أول ما رأينا؟ ألم تكن أحق منا بالسؤال عنها أول ما سألنا؟
وكانت على الجدران صورة فنية واحدة لا ثانية لها من نوعها، وهي صورة الفتاة الحزينة على قبر حبيبها الدفين، وقد كتبت عنها في ساعة من الساعات بين الكتب، فلم يكن السؤال بحاجة إلى جواب. أما سائر الصور فقد كانت أوضح من أن تحتاج إلى توضيح، جمال الدين ومحمد عبده وسعد زغلول وكارليل وبيتهوفن، وصورتان من صنع الفنان النابغ صلاح الدين طاهر؛ إحداهما صورتي بعد الأربعين والأخرى صورتي بعد الخمسين!
ولقد تجمعت هذه الصور في أماكنها بمحض الاتفاق في نيف وعشرين سنة، فلم أعرف لها وحدة تجمعها إلا بعد أن تجمعت وحدها، وساءلت نفسي عن تلك «الوحدة» كما كان يسألني الناظرون إليها.
قال صاحبي وهو يومئ إلى الصور واحدة بعد واحدة: هذا موسيقي ألماني، وهذا حكيم إنجليزي، وهذا مصلح أفغاني، وهذا وزير وهذا مفتٍ، وهما مصريان! فما الذي جمعهم في صعيد واحد وهم بهذا التفرق في المواطن والشواغل والأهداف؟
قلت: الجد والكفاح ونبل السليقة وقلة الاستخفاف.
فهؤلاء الثلاثة شرقيون من رجال العمل والحركة، وأعمالهم فيها النهضة الاجتماعية والثقافية الدينية والثورة الوطنية، ولكنهم كلهم مجدون مكافحون نبلاء، لا يستخفون بما يعملون، ولا يدينون بشريعة الاستخفاف التي يتراءى بها بعض الساخرين من الحكماء.
قال: لكأني بك لا تحب الساخرين.
قلت: كلا، بل أحبهم ساخرين وجادين مكافحين. ومن أعجبه كارليل وبيتهوفن لا يكره السخر بل لا يكره السخط أحيانًا على الحياة، ولكن شتان سخط وسخط وشتان رضوان ورضوان.
أتعلم يا صاحبي ماذا أحب وماذا أبغض من مذاهب السخرية، بل من مذاهب السخط والتشاؤم؟
إن النظرة إلى المرأة هنا هي مقياس النظرة إلى الحياة، فإنك لا تسخط عليها إلا لأنك تكبرها، ولا تترك السخط عليها والسخرية منها إلا لأنها هينة عليك حقيرة في عينيك.
الزوجة تغضبك وتقيمك وتقعدك، ولكن البغي المستباحة لا تثير منك غضبة ولا تكلفك حسابًا ولا عناية، فإذا اقترن السخط بالجد والاهتمام، فالحياة شريفة مرعية تلقاك منها المغضبات بغير ما تتوقعه وما تتمناه، وإذا بطل السخط وبطل معه السخر اللاذع، فالحياة جثة مستباحة بلا عرض ولا كرامة، وهذا الذي أوثر عليه سخط الساخطين وسخر الساخرين.
وإني لأسمع من هذه النافذة بين حين وحين صوت امرأة لا تني تنذر وليدها بالخيبة وسوء المآل؛ أأنت تفلح في شيء قط؟ والله ما أنت بمفلح ولا بمقلع عما أنت فيه! خيبني الله إن لم أرك خائبًا هكذا بين أبناء الأمهات.
وهذا سخط كسخط فريق من الفلاسفة المتشائمين على الدنيا ومن فيها، ولكنه سخط من يريد الخير ومن يسوءه صدق ما يقول، ومن هو أول الفرحين والمستبشرين لو جرى الأمر على غير النبوءة التي يقسم عليها جاهدًا، ويخيل إليك أنه قد جزم بها كل الجزم، وفرغ منها غاية الفراغ.
هذا سخط من يعنيه أن يسخط ويعنيه أن يرضى، هذا سخط من يسخط على نفسه وهو ساخط؛ أو من يسخط لأنه يحاول أن يرضى فما استطاع.
أما أولئك الفلاسفة الراضون بالدنيا؛ لأنهم يلتذون عيوب الإنسان ويبحثون عنها بحث المحبور بالنقص المحزون بالكمال؛ فبينهم وبين أولئك الساخطين بون بعيد، بين هؤلاء وهؤلاء ما بين الأم التي تنعي خيبة وليدها والعدو الذي ينعي خيبة عدوه، فتلك تنعي وهي كارهة آسفة، وهذا ينعي وهو راضٍ قرير، وتلك تحفز إلى العمل والصلاح، وهذا يصد عن العمل والصلاح.
أولئك المتشائمون أصدقاء الحياة والإنسان، وهؤلاء المتشائمون أعداء الحياة والإنسان.
وليست العبرة في مذاهب الحكمة بالأسماء والعناوين، ولكنما العبرة حق العبرة بالبواعث والنيات، وربما نظرت إلى البواعث والنيات فرأيت بعض المتشائمين أقرب إلى حب الحياة والإشادة بفضائل الأحياء من بعض المازحين والضاحكين.
قال صاحبي: إن كثيرًا من الناس ليفهمون قولنا حين نقول لهم: إن كارليل فيلسوف متشائم، ولكن كم منهم يفهموننا حين نقول: إن بيتهوفن موسيقار متشائم أو مناضل؟ وكم من الناس في الشرق خاصة يرى في صناعة الألحان متسعًا لآراء المتفائلين وآراء المتشائمين وآراء المناضلين؟! إنما يحسبون ذلك وقفًا على التعبير بالكلام، دون التعبير بالألحان، فإن وصفوا لحنًا بالتشاؤم، فأول ما يسبق إلى أخلادهم أنه لحن جنازة أو لحن شجن وأنين … وإنما يسوغ التعبير الموسيقي في معاني المذاهب الفلسفية عند طبائع الغربيين، ولا يسوغ عند طبائعنا نحن الشرقيين. أوليس هذا هو الفارق بين موسيقى الغرب وموسيقى الشرق التي ورثناها عن الآباء منذ عهد بعيد؟
قلت: لا أحب أن أظلم الطبائع الشرقية، ولا أود أن أفرد الطبائع الغربية دون سواها بتلك الفضيلة، فإن الموسيقى الغربية لم تكن من قديم الزمان على هذا الطراز الذي نسمعه من بيتهوفن وأمثاله، وإنما اتخذت منهجها الحديث حين نشأت في ظل القداسة الدينية، ثم عبرت عن مسائل الروح وأسرار الوجود التي تشتمل عليها الأديان، ثم استولت عليها المذاهب الكونية حين استولت في الغرب على تراث الدين كله، وعلى مسائل الروح بما رحبت، فلم ينعزل الموسيقيون عن الفلاسفة والشعراء، وباعثي النخوة في صدور الأمم يوم تعاقبت بينهم نهضات الإصلاح والحرية. وقديمًا كان في اليونان، وفي بلاد الجرمان منشدون وملحنون، فلم ينهجوا على هذا المنهج الحديث، ولم يرتفعوا بالموسيقى كثيرًا عن منزلة الطرب، وتمليق الحواس وتمثيل الشعور المحدود.
ولعلنا نقترب إلى الإنصاف وندنو من التحقيق حين نقسم الموسيقى إلى نهجين يختلفان باختلاف الذوق والبديهة، ولا نقسمها إلى إقليمين «جغرافيين» بين أناس في الشرق وأناس في الغرب، أو أناس في الشمال وأناس في الجنوب.
فهناك موسيقى الحس المحدود، وهي التي تؤدي لنا وظيفة الجارية والنديم، وتسلينا بأنغام الفرح حين نفرح، وأنغام الشجن حين ننوح.
وهناك موسيقى الروح، وهي التي تخاطبنا من منبر الإلهام وشرفات الغيب، وتجلس لنا مجلس المفسرين والهداة، وتقول لنا ما يعجز عنه الكلام؛ لأن الألحان لا تقصر عن وصف الأسرار حين تقصر عنها المعاني والحروف.
ولدينا من جهة أخرى موسيقى الحس الحي التي تطربنا وتشجونا كما يختلج الطرب والشجو بالجسم القوي الصحيح.
ولدينا من جهة أخرى موسيقى الحس المريض، التي تطرب من تطرب وتشجو من تشجو كأنها السم المخدر، أو الشهوة السقيمة التي تترهل بها الأجسام في مخادع اللذات.
وقد تقترن الموسيقى بالسعة والضيق وبالسمو والهبوط، على حسب السامع المصغي إليها والمتعقب لأنغامها.
فمن الآذان الشعرية مثلًا ما ليس يتسع لغير القافية الواحدة في القصيد الطويل.
ومنها ما يسمع القصيدة الواحدة وفيها عشر قوافٍ تتكرر في أماكنها، فتحسن انتظارها حين تعود وتجري مع كل قافية منها في مدار.
وكذلك الأوزان الموسيقية في آذان السامعين، ربما أتعبت أناسًا بتكرارها وأراحت أناسًا بهذا التكرار، وإنما المعوَّل في الحالتين على الأذن التي تتعقب، وتحسن التعقب والتعقيب.
أترى اليدين اللتين تلعبان بخمس كرات وسكِّينتين وبيضات مع الكرات، والسكِّينتين لا تزالان تقذفها اليمين، وتتلقاها الشمال أو تقذفها الشمال وتتلقاها اليمين؟ إنهما يدان من لحم ودم كتينك اليدين اللتين تكسران البيضة الواحدة إذا تناولتاها على غشم وجفاء. فإذا مرنت البديهة الصاغية، فقد تداول بين عشرين وزنًا تتلقاها في مواقيتها، ولا تحار بين واحدة منها وواحدة كلما رجعت إليها، وإذا أخطأتها هذه المرانة — أو هذه القدرة — فقد يعنتها الوزن الواحد في غير ميقاته المحدود. ولا خطأ في الموسيقى هنا وهناك، وإنما هو الخطأ في التناول والاتباع.
قال صاحبي مبتسمًا: وإخالها لعبة عسرة على آذان المستمعين عندنا.
خمس كرات وبضع بيضات وسكينتان في يدين اثنتين، هذا كثير على سامعي العود والقانون في هذا الشرق «اللطيف»، إني ليائس من اليوم الذي يتجمع فيه لسماع الموسيقى العالية جمهور يعد بالمئات والألوف، كذلك الجمهور الذي يتجمع لها في أندية الأوروبيين.
قلت: إن أجَّلنا اليأس فلا ضير في تأجيله، فإن الأغاني الشعبية عندنا لا تزال سليمة من مرض الترهل والغواية، وهي لا تحتاج إلى مرانة كبيرة في المنشدين ولا في المستمعين، فأما الموسيقى التي لا غنى فيها عن مرانة الآذان والأذواق، فهي تلك الموسيقى العالية التي نتمنى لنا نصيبًا منها كنصيب الأوروبيين أو أوفى من ذلك النصيب. وليس لنا أن نيأس من عقباها بيننا حتى نؤدي واجب المرانة المطلوبة في الجيل الناشئ تمهيدًا لما بعده من الأجيال، فإذا حسنت هذه المرانة جيلًا واحدًا، ولم تثمر في الشرق ثمرتها المنشودة، فهناك مجال لليأس أو للشروع فيه.
ويخيل إلينا أننا لم نبدأ هذه المرانة على وجهها المفيد؛ لأننا خلقاء ألا نترقب فنًّا موسيقيًّا عاليًا قبل أن نفصل بين الذوق الفني وبين المتعة الجنسية أو المتعة الجسدية، ونحن لا نزال نقبل على مجلس السماع جنسيين جسديين، يتعصب الذكور منا للمغنيات الإناث، ويتعصب الإناث منا للمغنين الذكور.
قال: وما آية هذا الفصل بين ذوق الفن وبين الغريزة الجنسية؟
قلت: آيته أن ترى السامعين يحيون السماع بغير ما ألفناه من التصدية والتصفيق، وبغير ذلك الأسلوب الناشز من الخبط والصريخ، فإن الصفة الأولى التي لا تنفصل من الموسيقى والغناء هي صفة الانسجام والتناسب بين الأصوات، ولن تسيغ الأذن الموسيقية زعيقًا ولا اقتضابًا، وهي تصغي إلى تناسب وانسجام. إنما السامع المصغي إلى الغناء الذي يصيح تلك الصيحات المزعجة حيوان لذعته الغريزة فجمح في غير أناة، وليس هو بإنسان يملكه جمال النسق وتستهويه متابعة النغم، ويسالك الألفة والنظام، وليس في وسع الأذن أن تكون أذنًا موسيقية، ثم تنتقل من الفوضى إلى النسق، ومن النسق إلى الفوضى في لمحة عين، وليس في وسعها أن تسيغ الفن وتسيغ نقيضه في آنة واحدة، وهل الفن إلا أوزان؟ وهل نقيضه إلا الأصداء والأخلاط التي تنطلق بغير عنان؟
فالصاحب الذي تلذعه الغريزة، فيصيح ويقتضب الغناء معقول ومفهوم.
أما الذي لا يفهم ولا يعقل، فهو ذو نظام وذو فوضى ينطلقان في لحظة واحدة، ولا يزالان كذلك متقلبين مترددين في شخص واحد ساعة أو بضع ساعات.
قال: كأنما الذنب ذنب المستمعين.
قلت: ليس في فنون الجماهير ذنب واحد، بل ذنوب تشمل المسمِعين ومن يستمعون إليهم، ومن لا يسمعون ولا يستمعون!
وكانت صورة بيتهوفن تنحني إلينا كأنها تصغي إلى حديثنا. فقال صاحبي: ما كان أعظم فجيعة المسكين بسمعه وهو السفير بينه وبين عالم الأصداء والأصوات، لو كان هو الذي أمامنا ولم تكن تلك صورته لما سمع من حديثنا أكثر مما سمعت هذه الصورة الصماء، فماذا كان على الدنيا لو أسمعت هذا الذي أسمعها من أقصاها إلى أقصاها، ولا يزال يسمعها إلى اليوم!
قلت: هي محنة تمثلت فيها نزاهة الفن وخلوصه من ظاهرة الحس القريب. فقد سمعنا من نقاد الغرب من يقول: إن رافائيل لو ولد مقطوع اليدين لكان هو في ملكة التصوير روفائيل الذي علمناه. فإن كان هؤلاء النقاد قد بالغوا بعض المبالغة، فقد شاء القدر أن نرى أعظم الموسيقيين مقفل الأذنين لا يسمع ما يوحيه لأنه يتلقاه من عالم النسب المحض التي لم تترجمها الأصوات. وما يتفق هذا لأصحابنا أصحاب العود والقانون وربع المقام؛ لأنهم كالمرأة التي تنظر إلى مرآتها ولا تفارقها، فإن فاتهم أن يسمعوا أنفسهم فقرة بعد فقرة لم يحسنوا إسماع الآخرين.
وتهيأ صاحبي لسؤال يتردد فيه، فقال وهو ينقل بصره بين الصور المتجاورات: إنك لم تجمعها عمدًا على هذا التفاوت البعيد فيما بينها، فأما وقد اجتمعت على غير قصد منك، فهل خطر لك قط أن توازن بين أصحابها، وأن تسأل نفسك أيهم أعظم وأيهم أحق بالإكبار والإعجاب؟
قلت: لا يخطر لك على أية حال أنني أنزل بقدر الموسيقي العظيم عن قدر المصلح العظيم أو الزعيم العظيم، إن الأئمة الموسيقيين أندر في العالم من أئمة الاجتماع وأئمة السياسة، فلا تحسبنه حتمًا لزامًا أن يكون زعماء الاجتماع أو السياسة أعظم من زعماء الفنون؛ لأن المعول على الكفاءة اللازمة للعبقرية لا على أثرها في مواطن الجاه والسلطان، وليست حاجة الناس إلى الشيء هي مقياس العظمة فيه؛ لأن الناس يحتاجون إلى سنابل القمح ويستغنون عن اللؤلؤ، وليس القمح بأجمل ولا أبدع في التكوين، ولا أغلى في الثمن من الجوهر الذي لا نحتاج تلك الحاجة إليه.
قال: وهؤلاء الثلاثة العاملون، من أعظمهم في موازين الرجال؟
وأشار إلى جمال الدين ومحمد عبده وسعد زغلول.
قلت: أعظمهم أثرًا في قطر واحد هو سعد زغلول، وأعظمهم أثرًا في جميع الأقطار هو جمال الدين، وأعظمهم نفسًا فيما أرى هو محمد عبده، أوسط الاثنين.
قال: وبمَ كان أعظمهم في موازين النفوس؟
قلت: إن عظماء البطولة الإنسانية لا يوزنون بغير الصفة العليا التي تتجلى في البطولة، وهي الإيثار.
فإذا تعادلت كفاءات العقل واللسان وكفاءات العزم والعمل، فليس في الميزان الإنساني أصدق من وزنة الإيثار للمفاضلة بين المتقاربين في الأعمال والأقدار.
قال صاحبي متعجبًا: ومحمد عبده الذي تسنم المناصب، ولم يحرم نفسه متعة الأبوة والزواج أعظم إيثارًا من جمال الدين؟
قلت: قد تكون العزوبة مزيدًا من الاعتداد ﺑ «الشخصية»، وقد تكون الأبوة مزيدًا من الإيثار.
قال: عليهم سلام الله أجمعين، سابقين ولاحقين، وراجحين ومرجوحين، فليس بالمرجوح من له الرجحان على الألوف وألوف الألوف، وإن سبقه بالرجحان أستاذ أو مريد.
وتحول صاحبي إلى صورتي، فقال وهو يردد النظر بيني وبينها: لقد سألتك عن صور غيرك، فما لي لا أسألك عن صورتك؟ كيف ترى صديقك الفنان قد مثلك في هذه الأصباغ والألوان؟
قلت: على شرطي في كل تمثيل.
وشرطي في الممثل القدير — على المسرح — أنه هو الممثل الذي يمثل لك ما لا يقال، أو هو الممثل الذي يشغل فراغ القول بين عبارة وعبارة من كلمات المؤلفين؛ لأن مصاحبة الكلمة الضاحكة بالمنظر الضاحك، أو مصاحبة الكلمة الباكية بالمنظر المحزن فن لا يعسر على الكثيرين، وإنما يعسر عليهم أن يمثلوا لك ما لا يقال بين الكلمتين أو بين المنظرين، يصعب عليهم أن يمثلوا لك ما تدركه أنت، ولا يقوله المؤلف بلسانه ولا تسمعه أنت بأذنيك.
وكذلك أرى صورتي كما صورها صديقنا الأستاذ صلاح؛ لأنه يمثل القابليات، قبل تمثيل الملامح والمحسوسات، فليس في الصورة حالة محسوسة عني بها دون غيرها، ولكن ما من حالة قد تطرأ على النفس إلا نظرت إلى الصورة، فرأيتها قابلة لها موافقة للتعبير عنها، وهذه هي ملكة الإيحاء التي تشترط في جميع الفنون، فما تحسبه الكلمات والأصباغ من المعاني أو الملامح أقل في العمل الفني مما ينطق به الخيال، أو يسترسل فيه تداعي الخواطر والأفكار.
وكان آخر ما ودعه صاحبي من المكتبة نخبة من الكتب في فن الغذاء وأقوال المحدثين عن وحدات الحرارة والفيتامينات، وأول ما استقبله وهو منصرف عنها باب المطبخ على اليمين، فنظر فيه ضاحكًا، وبادرته سائلًا: إنك الآن تضحك؛ لأنك في حل من المقارنة بين طعام العقول وطعام الجسوم!
قال: غير هذا قد خطر ببالي حين ضحكت، وإنما ذكرت قولة لصديق لي كان يستعيدها في مناسباتها كما تستعاد الحكم المحفوظة، ولست أدري كيف أطبقها في هذا البيت، فإنها غير قابلة فيه للتطبيق.
قلت: طبِّقها ولا حرج عليك.
قال: … إنها لا تنطبق هنا بحال من الأحوال؛ لأن صاحبي كان يقول ويزهي بالعلم الذي أوحي إليه حين يقول: إن خطبت فتاة فلا تسأل عن أبيها ولا أمها ولا تسأل عن مالها ولا أدبها، وإنما تحتال حتى تلقي نظرة فاحصة على مطبخ بيتها، ثم تخطبها إذا أعجبك نظام المطبخ وأنت مغمض العينين.
قلت: لم يعدُ صاحبك الصواب، ولو شاء لعمم هذا الحكم المصيب على الأمم، فقال: إن أردت أن تخبر أمة من الأمم فلا تسأل عن نسبها ولا حسبها، ولا تسأل عن مالها ولا أدبها، وإنما تسأل عن «مطبخها» فيغنيك العلم به عن كل سؤال.
قال: وكأني بهذا الرأي — لو صح — يتيح لنا أن نقول: إننا نحن الشرقيين سادة العالم وقادة الشعوب؛ لأننا أساتذة الشعوب في المطبخ والمخدع باتفاق الآراء، وما ينازعنا القوم في الأستاذية إلا حين يذكرون المعمل والمدرسة، أو حين يذكرون العلوم والصناعات.
قلت: وهنا أراك قد أخطأت التطبيق يا صاحبي في حكمة صاحبك الأديب، فإن المطبخ «المثالي» هو المطبخ الذي يستخدم للغذاء، وليس بالمطبخ الذي يستخدم للذة الطعام أو لذة النوم، وقد يكون الطعام اللذيذ سمًّا في باب الغذاء، ويكون الطعام وافر التغذية وهو قليل اللذة، أو لا لذة فيه.
ولا ينكر علينا أحد أننا برعنا في مطبخ اللذة، وورثنا في هذا الفن تركات روما وبيزنطة ومنف وبغداد وفارس والهند والصين … وعرفنا كيف نطبخ الطبخة التي تمتع، والطبخة التي تكظ البطون، والطبخة التي تهيج الأكباد، والطبخة التي تعين على الشراب، وجرب ذلك الغربيون فشهدوا لنا بالسبق في المجال من النساء والرجال.
كتبت «إيزادورا دنكان» أجمل الراقصات في العصر الحديث تاريخًا لرحلاتها في الغرب والشرق، فذكرت أكلة لها في قطر من أقطار أوروبا الشرقية، فلم تنس أن تقول: إنها أكلتها ونامت فاستيقظت وهي تعلم يومئذ كيف يستيقظ الرجال من النوم، ويخرجون من البيوت!
وهذه البراعة في المطبخ الشرقي الفاخر لا نزاع عليها، ولا تخلو من الدلالة مع هذا على نصيب الأمة من شواغل العيش ومطالب الحياة، ولكنها تقف بنا دون البغية المرموقة إذا طمحنا بها إلى مقام الأستاذية بين الشعوب، وإنما كتب «سوء التغذية» على أغنيائنا وفقرائنا على السواء بهذا المطبخ اللذيذ، وربما كان داء الغني المستمتع بهذا المطبخ أوبل من داء الفقير المحروم.
وأعرف من فتياننا الموسرين فتى تزوج فأراد أن يستعين على المخدع بالمطبخ، فأصيب بداء السكر في أقل من شهرين، وكان مصابه بالمطبخ المعين قبل مصابه بالمخدع المستعان عليه؛ لأنه أقبل على الدسم والتوابل والمشهيات فأرهق الكبد وأجحف بالبدن كله من حيث أراد له الصحة والمتاع، فبئس المطبخ مطبخ اللذة، ونعم مطبخ الغذاء، وأعني مطبخ الفرد والأمة على السواء.
قال صاحبي وهو يصطنع المزاح، ولعله أقرب إلى الجد منه إلى المزاح: إنك تخيفني الساعة بهذا التمهيد، أترانا مقبلين على مائدة لا تلذ الآكلين؟ أتحسبني أطيق أن نقلب صفحة من صفحات هذه الكتب الملعونة كلما أقبلنا على صفحة من الصحاف؟
قلت: هونًا هونًا أيها الصديق، فمهما يكن من حكم هذه الكتب الملعونة، فكن على يقين أننا في هذه الحجرات المعدودات لا نعرف كتابًا يطاع كل الطاعة، ولا إمامًا يتبع كل الاتباع، ولك أن تطمئن فيها بعض الاطمئنان إلى غاندي، وإن عز عليك أن تطمئن كل الاطمئنان إلى أبيقور.
إن هذه الكتب الملعونة — كتب الغذاء والفيتامين — حقيقة أن تراجع وتستشار، وليست بحقيقة أن تسيطر على العقول والأجساد؛ لأنها تعطي الجسد ما يحتَاج إليه بمقدار ما يحتاج إليه، فتسلبه بذلك ألزم خصائص الجسم الحي وهي طبيعة التعويض والتمثيل والتصحيح، وخير من هذا أن نعطي أجسامنا شيئًا ناقصًا في هذه الوجبة، وشيئًا زائدًا في تلك فتبقى للجسم قدرته على تعويض النقص، وتوجيه الزيادة إلى وجهتها، ونعامله معاملة الراشد الذي يعمل لنفسه، ولا يكلفنا أن نعمل له كل لقمة وكل جرعة وكل طبخة، ولست ممن يرتضي القصور للعقول ولا للأجسام، فكلاهما في القصور معيب، وكلاهما في الرشد جميل.
قال صاحبي: وإن جسمي لمن أرشد الأجسام في ساعة الطعام.
قلت: إنك الساعة تخيفني أشد مما أخفتك يا صاح بذلك التمهيد.
واستقبلنا في ركن من أركان ردهة المائدة الصغيرة صندوقًا مربعًا يوحي إلى الناظر باسمه المتفق عليه، وهو التابوت! سماه باسم التابوت المقدس كل من رآه؛ لأنه يشبه في منظره وموقعه توابيت القديسين في أركان المزارات، ولم أنكر التسمية؛ لأن التابوت فيه تقديس وفيه تخليد، وماذا على الموسيقى التي اشتمل عليها التابوت أن تتصف بالتقديس والتخليد؟
كان هذا التابوت مشتملًا على حاك قديم وبضع مئات من القوالب الموسيقية، أو الغنائية المختارة من مسموعات الشرق والغرب، ومنها توقيعات على بعض الآلات السماعية العجيبة، التي تختلف بسلمها الموسيقي عن السلم الشائع في معظم البلدان، كتوقيعات أهل الصين.
ومزح صاحبي مزحة ليست بالأولى من نوعها؛ لأنها كذلك من وحي المقام، فقال: إن هؤلاء العازفين في موضعهم هنا؛ لأنهم يعزفون لك على الطعام، فلا يفوتك حظ الخواقين والشاهات في قصور البذخ والسلطان!
وأجبته كما كنت أجيب هذه المزحة في كل حين: إن الإنسان يا أخانا لا يأكل أكلتين في لحظة واحدة: أكلة روح وأكلة معدة، وما من كرامة الموسيقى الرفيعة أن تشتغل بشيء آخر وأنت تستمع إليها، فإنها شاغل كافٍ لمن يستوعبها ويتقصاها، ويتأمل في معانيها وإشاراتها، وليست تلك الموسيقى التي تتحدث وتأكل وتتشاغل عنها، وأنت تسمعها إلا بمنزلة الجارية المستعبدة من السيدة المطاعة؛ لأنها تسليك وتلهيك ولا تخاطب روحك وخيالك ووجدانك، فتستدعيك إلى الإصغاء والمبالاة.
لا يا أخانا وكرامة! إنني أختار لهذا التابوت أحيانًا ساعات كساعات التهجد في جنح الظلام، فإن كان الوقت شتاء فأكثر ما أرجع إلى هذا التابوت في ساعات اليقظة الباكرة بعد هدأة النوم الأولى. ويطول الليل وتثقل المطالعة في الهزيع الثاني أو الهزيع الثالث من ليل الشتاء المديد، إن قبلت هذا التقسيم والترتيب للهزع الليلية، فإذا بي معرضًا عن رفوف الكتب متوجهًا إلى هذا التابوت، لا علالة من الأرق ولا بديلًا من الورق، ولكن تلبية لنجوى العبقريات في وقت لا يسمع فيه غيرها، ولا يحوي فيه السكون السابغ على الكون بغير وصية الإصغاء، كأي من مدلج في الطريق تتسرب إليه الأصداء غير مفسرة ولا متصلة، فيخالها من همسات الأرواح والأشباح في غفلة الأنس وناشئة الصباح.
وتعمدت العبث والدعابة، فقلت لصاحبي: إننا لن نسمعها في أيام إذا سمعنا أناشيدها أنشودة أنشودة، فليتنا نسمعها دفعة واحدة في وقت واحد! ترى كيف تتلقاها المسامع التي تطرب لها متفرقة؟ أليس من حقها أن تسر بالكثير أضعاف سرورها بالقليل؟
قال صاحبي: ما أحسب أن أحسن الأنغام إذا قيلت معًا تفضل أسوأ الأصوات وأنكرها في الآذان.
قلت: ألا نستخلص من ذلك عبرة من عبر الحياة العظمى؟ أليس الذين يتعجلون النغم، فيخيل إليهم أن ازدحامها خير من تفرقها وأجمع لمحاسنها؛ يخطئون كما يخطئ الذين يتعجلون النغم، فيحسبون أن مائة لحن في وقت واحد خير من اللحن الفرد وأوفى؟
شيء واحد في وقت واحد، وجميع الأشياء في جميع الأوقات، وهذا هو نظام العيش وقوام الجمال في كل نفع وكل سرور.
قال صاحبي: وهل تسمعها في الصيف كما تسمعها في الشتاء؟
قلت: الحق أقول لك يا صاحبي إنني أود أن أسمعها صيفًا وشتاءً كلما انتبهت في هذا الموعد، وقلما تمضي ليلة لا أتنبه فيها، ولكن الشتاء مقفل مستور والصيف مفتح مكشوف، ومنظر رجل يستمع إلى الحاكي في الساعة الثالثة بعد منتصف الليل منظر يرشحني لسمعة الجنون المطبق بعد ليلتين أو ثلاث، ولن تؤمنني من هذه السمعة اللازبة ألف شركة من شركات التأمين، لو نصبت الشركات للتأمين على العقول.
كلا: إنني أسمعها في ذلك الموعد من الصيف، ولكنني أستعيض منها بجلسة في الشرفة ونظرة إلى الطريق، وقد يبلغني الإصغاء إلى السكون أحيانًا ما يبلغنيه الإصغاء إلى أنبياء النشيد.
إننا نكبر بالليل جدًّا يا صاح.
إن الليل هو عالم النفس، وأما النهار فهو عالم العيون والأسماع والأبدان.
إننا بالنهار جزء صغير من العالم الواسع الكبير، ولكن العالم الواسع الكبير كله جزء من مدركاتنا حين ننظر إليه بالليل، وهو في غمرة السبات أو في غمرة الظلام.
ذلك النجم البعيد الذي تلمحه بالليل هو منظور من منظوراتك، ووجود منفرد بك أمام وجودك!
ذلك الصمت السابغ على الكون هو شيء لك أنت وحدك رهين بما تملأه به من خيالك وفكرك، ومن ضميرك وشعورك.
تلك المدينة الصاخبة التي نضيع فيها إذا أضاءتها الشمس هي شبح مسحور يلقيه رصد الليل تحت عينيك، وهي ضائعة كلها إذا لم تأخذها في حوزة نفسك، ومجال بصرك، وكأنما هي من تلك المدن التي تسحرها لنا الأساطير، فكلها مفقود في غيبوبة الأرصاد، إلا السائح الذي ساقه إليها القدر: وهو ساهر الظلام!
أنت عالم النفس بالليل، كأنما توازن وحدك عالم الأنظار والأبدان.
وأنت تشمل الدنيا بالليل، وهي تشملك بالنهار.
وأنت في حضرة أعظم من حضرة الحس حين لا حس يشغلك عن عالم السريرة.
أنت في حضرة الخالق حين لا تكون في حضرة المخلوقات.
ومن سعد بهذه النشوة في ساعة من ساعات الهزيع الأخير، فلا ضير عليه أن تفوته نشوة السماع.
وكنا قد فرغنا من الطعام وقضينا سويعة في أشباه هذا الكلام، فاذا بصاحبي ينهض من المائدة وهو يقول: هذه المائدة، وهذا التابوت!
قلت: وهذه المزامير!
وسمعنا بعض أدوار المطربين وشيئًا من أغاني الصعيد ولبنان، ثم نقلت صاحبي نقلة بعيدة، فأسمعته بعض الألحان التي لا تعذب في جميع الآذان.
وسألته، أفهمت شيئًا مما سمعت؟
قال: لا والله!
قلت: وأنا مثلك، هذا موسيقار الغرب الأشهر ولهلم فاجنر، وأنا لا أفهم منه إلا أقل من القليل، ولكنه عند نقادهم موسيقار جليل وعبقري نادر المثيل.
قال: وهل يفهمه الغربيون كلهم، وهو مغلق على أناس منا كل هذا الإغلاق؟
قلت: بل يسخر بعض الغربيين بهذه الموسيقى وأمثالها، كما نسخر نحن منها، ولهم في التندر عليها قفشات تذكرنا بقفشات أولاد البلد؛ لأنها تجري على أسلوبها. هذا يزعم أن القرن النحاسي اعتدل من النفخ فيه بأمثال هذه الأنغام، وذاك يزعم أن طبيبًا أخذ مريضه الأصم إلى فرقة من هذه الفرق ليشفيه بضجيجها، فسمع المريض وصمَّ الطبيب!
فليست كل موسيقى مفهومة عند كل سامع، ولو كان الموسيقيون والسامعون من بلد واحد. وليس من اللازم أن يستطيب محب الغناء كل غناء، ولا أن يستطيب محب الشعر كل قصيد، ولو كان من نظم أجود الشعراء.
قال: ولماذا لا نلغيه من عداد الموسيقيين كما ألغينا أولئك المبتدعين المحدثين من عداد المصورين؟
قلت: أولئك فهمنا أنهم سخفاء، أما هذا فنحن لا نفهمه ولا ندينه بما لا نفهم، ولو كنا نحيط بكل سر من أسرار الموسيقى، ونتلبس بكل مزاج من أمزجتها لصح أن نقضي عليه وعلى المعجبين به وبفنه، فقصارانا أن نقضي فيه بأنه عندنا نحن «غير مفهوم!»
وامتدت السياحة خطوة فإذا نحن في حجرة النوم.
وحجرة النوم في بيت الرجل الأعزب كحجرة الاستقبال وحجرة المائدة وحجرة المكتب، ليس عليها حجاب.
غير أنني قلت لصاحبي: إن هذه الحجرة تعنيني ولا تعني أحدًا غيري من الناس، اللَّهم إلا بعض الصور الفنية التي فيها، وكلها منسوخة من أصولها المحفوظة في متاحفها، فليس فيها من صورة أصيلة أو تحفة غالية، ما عدا واحدة بمفردها هي بينها آية الاستثناء في كل قاعدة من قواعد التعميم.
هذه شالومة أو سلامة، صاحبة هيرود، من تصوير الفرنسي بروسيير؛ كان ثمن رقصتها في زمانها رأس نبي من أنبياء بني إسرائيل. ولا تزال رقصات الفاتنات من خليقاتها تكلف الناس كثيرًا من الرءوس، وإن لم تكن رءوس أنبياء: فإن هذا الصنف قد انقطع عن الدنيا منذ زمن بعيد!
وهذه صورة الزهرة من تصوير الإسباني فيلاسكيه، جسد بديع وقوام ساحر ومعاطف منسوقة، لولا أمانة فيلاسكيه المشهورة لحسبناها من تنسيق الخيال، شغل بها المصور فمثلها على تمامها، ولم يمثل لنا الوجه إلا في مرآة رفعها رب الحب أمام ربة الجمال.
وهذه صورة تاييس وهي تهدم إيمان الناسك المسكين، وقف أمامها وقد تبادلا الفتنة، فأخذها بوعظة وأخذته بغواية جسدها، ولبس هو طيلسان الأثرياء وخلعت هي كل طيلسان، وكأنما شاء المصور أن يعقد المقارنة بين هذه الفاكهة الشهية وبين ثمرات البساتين، فجود ما شاء في العنب والموز والبرتقال، ولكنه تركها إلى جانب هذا البستان الحافل كأنها الماء الذي لا طعم له ولا لون، ولا يروي الظمآن إلا شراب ذلك البستان.
قوتان متناجزتان لم تشغل الميدان قوتان أكبر منهما منذ تصارعت في هذه الأرض قوتان؛ عقيدة وشهوة، نسك وفتنة، جسد تمرد من فرط الحرمان وروح تمردت من فرط المتاع بالشهوات.
ولقد رزقت المرأة فتنة قوية، ولم ترزق عظمة قوية، فلم يزل عزيزًا عليها أن تنخذل بالفتنة أمام العظمة، ولم يزل من دأبها أن تجرب هذا السلاح أمام كل سلاح، فجربته في كفاح الوفاء وكفاح البطولة وكفاح النسك والزهادة، وشاءت في هذه الجولة أن تضرب أقوى ضرباتها؛ لأنها آخر ضرباتها، فلما ضربتها سقطت من الإعياء ساجدة، فكانت سجدة العمر إلى الممات، وخرجت الراقصة عابدة من ميدان صراع.
وانتصر الخصمان وهما منهزمان أكبر انهزام: راقصة تفتن ناسكًا وناسك يصلح راقصة، وذلك أقصى مدى الهزيمة والانتصار.
فلما انجلى الغبار كانت الراقصة راهبة في الدير، وكان الراهب مفتونًا يهيم في وادي الغواية، وكلاهما صارع مصروع، ومفلح مخفق، وصامد هارب من الميدان.
وهذه صورة لسوق الرقيق في عاصمة من عواصمنا الشرقية، تعجبني منها عصبية الفنان لوطنه، وإن لم تعجبني منها حيدته عن الحقيقة في هذه العصبية.
فهذه السمراء الشرقية تراها مزهوة بعرض محاسنها كأنها ترحب بنظرات سيدها الذي أوشك أن يشتريها، ولا يعنيها الخجل كما يعنيها أن تظفر في هذا الموقف المخجل بنظرة استحسان.
وهذه البيضاء الغربية تداري وجهها بيديها، وتطرق برأسها وتدع الأنظار ترتع في محاسنها، كأنها تتلقاها على الرغم منها.
وفي الشرق خفر كثير لأنه وطن الحجاب، وفي الغرب جرأة كثيرة لأنه وطن السفور، فإذا وجدت شرقية واحدة وغربية واحدة في سوق واحدة، فهل من الحتم أن تكون الشرقية مثلًا للتهتك الوقاح والغربية مثلًا للخفر الخجول؟
قال صاحبي: أو لا يجوز للفنان أن يتعصب لوطنه؟
قلت: بلى يجوز، بل يجب في كثير من الأحيان، ولكن على أن يصدق البيان ولا يتكفل بتشويه الحقيقة؛ لأن الفن جمال، والجمال عدو لكل تشويه.
وتلي صورة الجواري في سوق الرقيق صورة الينبوع العذب الصافي البرود، تكاد برودته تتراءى من صفاته في مجراه، وقد جعله «أنجرز» صبية كاعبًا تنضح بالصباحة والطهارة وبراءة المحيا ونقاوة القسمات، وأعطاه عمرًا وحياة كأنه لم يبلغ بعد سن الينابيع الكبار، وكأنه بين موارد الماء الفياضة تلك الصبية الكاعب بين أمهاتها وجداتها من النساء.
وأصبحنا أمام الصورة الأصلية التي انفردت بين هذه النسخ المنقولة.
قال صاحبي: إنني أفهمها وإن لم أعلم بخبرها.
قلت: إنها لا تحتمل غير معنى واحد: فطيرة حلوة يشتهيها الجائع والشبعان، بل يشتهيها المتخوم والمكظوظ، وعليها صرصور وذباب يحوم، وفي القدح الذي يفرغ عليها الحلاوة عسل يضطرب فيه بعض الذباب ويموت، فلا يأكل من الفطيرة الحلوة على هذه الصورة شبعان ولا جوعان، بل تعزف النفس حين تراها عن كل طعام.
وقيمة الصورة أن تاريخ الفن كله — بل تاريخ العبادة من أوائله — مرتبط بالباعث على تمثيلها في هذه الرموز.
فقد وجد الفن في الدنيا؛ لأن النفوس تمتلئ بالشعور وتشتغل به كل الاشتغال، فلا تقنع به شعورًا بل تطلبه حسًّا منظورًا، ولا تشاء أن تظل فيها حاسة من حواسها فارغة من غير مملوءة بمثاله، ومن هنا نشأ التصوير ونشأ التجسيم، ومن هنا نشأت هذه الصورة اليوم كأنها أول اختراع لفن التصوير.
وكانت جولة الوداع في حجرة الاستقبال.
قال صاحبي وهو يستقر فيها: لقد سمعت عن حديقة الحيوان، وقرأت في وحي الأربعين عنها أنها «لا تجمع إلا الفنان أو المحب للفنون، سمي كل زميل من زملائها باسم حيوان يلاحظ في اختياره اتفاق الشبه في الملامح والعادات، وقد جمعها الفن كما كان أورفيوس المعروف في أساطير اليونان يجمع الأحياء حين يغني ويعزف، فتقبل عليه من كل فصيلة، وهي لا تشعر بخوف أو تهم بعدوان»، فهل لي مكان في جوار أورفيوس؟
قلت: إن طال استقرارك ظفرت بمكان، بعد الموافقة والامتحان، ولا تحسبن الطموح إلى هذه المنزلة من يسير الأمور التي تبلغ بغير عناء، فأولى لك أن تحسبه من الادعاء الذي يتطلب التزكية والشهادة، ولا تحسبه من التواضع الذي يقبل بغير تزكية ولا شهادة، فهل تدري من هم أكثر الناس حرصًا على مظاهر الوجاهة، وشارات الثروة، وعناوين الفخار؟ إنهم أحدث الناس نعمة، وأقربهم إلى الضياع في غمار الوضعاء، والأذلاء إن لم يتميزوا أبدًا بتلك المظاهر وتلك الشارات وتلك العناوين، وكذلك مقياس الإنسانية عندنا في هذه الحديقة؛ أصحاب الإنسانية المحدثة هم أحرص على مظاهرها وشاراتها وعناوينها، وأشبه الناس بالأحياء الدنيا من ينخلع عنه شعار الإنسانية باسم وعنوان، وإنما يقاس نصيب المرء من الإنسانية بمقدار عطفه على الحيوان، واقترابه من فهمه وفهم شعوره، فمن قام بينه وبين معاطفة الحيوان حجاز حاجب، فذلك حجاز بينه وبين الفهم والعطف والشعور، وهي أكرم مزايا الإنسان. قال صاحبي: أنا لا أنكر شيئًا في الحديقة وترشيحاتها، ولكني أود أن أعرف كيف جمعتموها، وكيف جاءت هذه التسمية أو كيف اخترتموها؟
قلت: أحسبها تسمية ترجع إلى مرجعين لا إلى مرجع واحد، أحدهما قريب ظاهر والآخر بعيد باطن، فأقرب هذين المرجعين هو فن المحاكاة عند صديق من أصدقائنا الأعزاء، فما تقع عينه على أحد يلفت النظر إلا أسرع إلى تشبيهه ومحاكاته، فإذا هو شبه محكم، ومحاكاة تطابق الشبه من جميع وجوه المطابقة، ولا يعفي من هذه العادة ألصق الناس به وأقربهم إليه، بل هؤلاء هم في الغالب هدفه الأول، وإصابته المسددة، وخلقته هو على هذا القياس هي أول ما يستهدف وأول ما يصيب.
فإذا تألب عليه الصحاب تندرًا وسخرية ومزاحًا شهر عليهم هذا السلاح، وأسكتهم عنه بالبدء بنفسه والعدل في توجيه نقمته. ومن دلائل عدله أنه لا يطلق على أحد شبهًا من الأشباه إلا وافقه الحاضرون جميعًا ما عدا صاحب الشبه؛ فإنه قد يمانع هنيهة ثم يلقي يد السلم، ويعترف «بالخلعة السنية» التي خلعت عليه.
أما المرجع الآخر فاحسبني أنا المسئول عنه من حيث أريد أو لا أريد، فإن عادة عندي — بل أقوى من عادة — أن أشعر بوحدة الخلق كله، وأن أنظر إلى جميع الأحياء كأنها تجربة واحدة تنجلي عن مقصد واحد، وإننا ربما فهمنا مقصد التجربة من مسوداتها الأولى قبل أن نفهمه من النسخة المنقحة المصقولة.
وإن كانت النسخة المنقحة المصقولة أجود في التعبير وأفصح في الأداء.
وما قرأت قط خرافات الأقدمين عن وشائج الأحياء، إلا خيل إليَّ أنها تنطوي على أكثر من خرافة أو لعبة خيال، وتساءلت قبل نيف وثلاثين سنة عن مغزى تلك الأساطير، التي تحكي عن أناس لهم أجسام آدميين ووجوه كلاب، أو مغزى تلك التماثيل التي تجمع بين أجسام الوحوش ورءوس الآدميين، فقلت من كتاب الفصول: «ما مغزى هذا الإجماع والتواتر؟ وماذا في طي هذا الاعتقاد بأن الإنسان يتحول أحيانًا من هيئته إلى هيئة حيوان أدنأ منه، أو أن في عالم الحياة مخلوقًا بعضه إنسان وبعضه حيوان؟ هذا شعور لم يرد إلينا من ناحية الحواس ولكنا لا نجهله، وصحيح أن الخيال مفطور على مزج أشكال الحس، وإلباس الموجودات لباس الإنسانية، ولكن لماذا فُطر الخيال على ذلك؟ أكان يستحيل أن يُفطر على غير هذه الفطرة؟ وهل لو خلق الإنسان من غير عنصره المعروف كان يتخيل هذا الخيال بعينه؟ ألا يجوز أن يكون مغزى هذا الإجماع والتواتر أن في جبلة الإنسان شعورًا راسخًا بوحدة الخلق، وتلاحم سلسلة المخلوقات شعورًا أعمق من الفكر لا بل أعمق من الخيال نفسه، يتكلم باللسان فيكني ويلفق ويتكلم بالبديهة فيصرخ ويصدق؟ ولماذا ننفي وجود شعور كهذا يصل الإنسان على وجه ما بشيء من أسرار الحياة مع علمنا أن الإنسان قد اتصل بالحياة قبل أن يصله بها عقله وحواسه؟ أليس ترجيح وجود هذا الشعور أولى وأحرى بقدم العلاقة بين الأحياء والطبيعة؟ فلا يبلغن من قصور العقل ألا يصدق إلا بالعقل وحده، ولا يبلغن من ضيق النظر أن نقسر حواس النفس كلها على أن تنمو نمو الحواس الخمس، كأن الإنسان لا يتصل بالدنيا إلا بها، وكأنما الخيال ليس جزءًا من الإنسان كما هي جزء منه …»
وهذا الشعور الكمين لا أحسبه كان غائبًا عني يوم نشرت خلاصة اليومية، وكتبت في تصديرها «إن الإنسان حيوان راقٍ ولكنه لا يزال حيوانًا» ويوم كتبت مجمع الأحياء وعقدت فيه مؤتمر الحياة بين الحمامة والأسد والنمر والقرد والثعلب والإنسان والمرآة وسائر الأحياء، ثم يوم رثيت كلبي بيجو وجعلته شاهدي على بعض المذاهب في التربية، والدراسات النفسية. فإذا كانت «حديقة الحيوان» فكاهة من فكاهات المجالس، فليست هي من الفكاهات العابرة ولا من الفكاهات الرخيصة؛ لأن لها أصلًا أصيلًا من الجد بعيد القرار.
ونظر صاحبي إلى يمينه وأوشك أن يجفل جفلة الخوف؛ لأنه رأى هنالك تمثالي بومتين دقيقتين، يحفَّان بالساعة الصغيرة عن اليمين وعن الشمال، وقال: رب هذا من ذاك! ثم قال ترى لو دخل صاحبك ابن الرومي هذه الحجرة، ونظر إلى هذين التمثالين المخيفين؛ ماذا كان يصنع يا ترى؟
قلت: لا شك أنه كان ناكصًا على عقبيه على الأثر، وإن كنت قد وضعت هذين التمثالين في موضعهما، وتحديت الشؤم كله لأجله هو جزاه الله.
لاحقه الشؤم في حياته وقلَّ منصفوه بعد مماته، وضل معظم النقاد في أمره؛ لأنه من طراز غير الطراز الذي يقيسون عليه، فهو عندي — بغير خلجة من الشك — وحيد شعراء العالم من مشرقه إلى مغربه، ومن قديمه إلى حديثه في ملكة «الوعي والتصوير»؛ وهي أنفس الملكات التي يرزقها رجال الفنون، فلا يضارعه في هذه الملكة شاعر عربي ولا شاعر أعجمي، ولا يناظره فيها فحل من فحول التشبيه والتصوير في أدب اليونان والرومان، ولا في أدب الغربيين المحدثين، ولم أعرف بين أدباء الأمم الأخرى التي اشتهرت بدقة التشبيه — كأدباء الصين واليابان — من يجري في غباره أو ينسج على غراره، ومثل واحد يغني عن مئات الأمثال، وهو وصفه لحقل الكتان حيث يقول في بيتين اثنين:
فالواعية الفنية وحدها هي التي تغريه بوصف حقل من حقول الكتان، التي مرت بألف شاعر منذ الخليقة ولم يلتفتوا إليها؛ لأن حقل الكتان لا يحسب من موضوعات الوصف التقليدية بين شعراء التقليد، فليس هو بروضة من رياض الورد والياسمين، وليس هو بستانًا من بساتين الفاكهة والثمرات، ولا هو بمنزه من منازه الحسان أو موعد من مواعد الغرام. فانظر كيف علق هذا المنظر بوعيه اللاقط المستوعب، وكيف أحصى عليه كل ما يحصيه التصوير في شرط النقد الحديث، بعد طول المشاهدة والمراجعة لآيات الأساتذة من نوابغ التصوير، واذكر كيف صنع ذلك بداهة وابتداعًا غير عامد ولا متنبه، وهم يتعمدون ما يسجلون من ملاحظات النقد ويتنبهون إليه.
فالنقد الحديث يشترط على المصور النافذ البصر والبصيرة أن يستوعب المنظر، فلا يفوته اللون ولا الملمس ولا الزمان ولا جو المكان، ولا الحركة التي تشيع فيه إن كانت فيه حركة، أو السكون الذي يشمله إن كان به سكون.
وكل أولئك تجده في البيتين الاثنين مطبوعًا منقولًا إليك نقل البداهة عن تلك الواعية المستوعبة، التي لا تفوتها مدركة من مدركات الحس والخيال: لمح اخضرار اللون، ونعومة الملمس، وأحاط بوقت الصورة كما مثلت أمامه فهو وقت الوسن، وأحاط بجو المكان فهو المكان الذي يظل عليه رباب مسف فويق الأرض يؤذن بالمطر القريب، وأحاط بالحركة وبمصدرها من ريح الشمال، فإذا رءوس الشجر تموج بالحركة الذاهبة الآيبة فكأنها صفحة غدير، لا موضع لنقص في الصورة ولا محل فيها لزيادة، وليس أصدق من الوعي الذي أحسن اللقط، وأحسن التمثيل في لمحة عين وفي بيتين اثنين.
مثل هذا المقياس الذي تقاس به الواعية الفنية لم يكن مقياس أولئك النقاد، الذين جهلوا فضل ابن الرومي وأشادوا بفضل سواه، ولو أنهم تتبعوا مئات الأبيات من شعره — بل ألوفها — على هذا المنوال لعلموا أنه مغبون — جد مغبون — حين يقرن بشاعر من شعراء العالم ما كان في هذه الملكة الفريدة، فكيف بالغبن الذي يصيبه إذا قدموهم وأخروه، وأشادوا بفضلهم وأنكروه.
أثارني هذا الظلم فآليت لأدفعنه عنه، فإذا بصحبي يثنونني عن إنصافه وهم وجلون، ولئن كانوا غير جادين لقد كانوا كذلك غير مازحين، فما لقيني أحدهم مشتغلًا به إلا صاح بي! حذار حذار، إنه مركب غير مأمون العثار! والرجل موصوف ببأسه في شؤمه، فلا شأن لك بإنصافه وظلمه، ودعه لقضائه، واقنع بأنك من قرائه، فقد يتحداك شقاؤه المعهود إذا تهجمت على حرمة شقائه!
وكانت ثورة فأصبحت ثورتين؛ لقد ذل من يخاف ذلك الشؤم المعتز بجبروته، ولقد طغى ذلك الشؤم الذي يسطو على فريسته في حياتها وبعد مماتها، ثم ينذر بالنقمة من يتصدى لغوثها، فإذا أنصفنا الشاعر المغبون وغضب الشؤم الواقف له بالمرصاد، فليصنع الشؤم إذن ما يشاء.
وسكنت هذا البيت ورقمه ثلاثة عشر، ووضعت فيه التليفون ورقمه يومئذ مبدوء بثلاثة عشر، وجعلت أسأل الشؤم في كل دعوى من دعاويه، وأولها دعواه الكبرى على البومة المسكينة، ما لهذه الطريدة المظلومة وهي قد تركت الدنيا والنهار للإنسان ولاذت منه بالليل والخلاء؟ وما عيبه عليها وهي أوفى الطيور في عشرة الأليف منها للأليف؟ أليست هي إحدى الأحياء النادرة، التي يسكن الزوج منها إلى زوجه مدى الحياة؟ أليست هي التي تغني لنور القمر ولعزلة الليل، ولا تقتحم صوتها على من يأباه؟ ألم تكن عند الأثينيين — وهم عباد الجمال — رمزًا للمدينة ينقشونه على الدراهم مع أغصان الزيتون؟ فإذا جنى الظلم على سمعتها ولاحقها الظلم في خلوتها، فليصنع ما بدا له فإننا نتلقاه منها باثنتين لا بواحدة؛ لأنها لا تحب الفراق، وإن زعموها نذير الفراق.
قال صاحبي: وكيف رأيت العاقبة؟
قلت: خير بعد شر، فلاح بعد كفاح، فلا أخفي عليك يا صاحبي أن أمر ابن الرومي في سمعته تلك أمر عجيب مفرط في العجب، وأنني لو صدقت خرافة من الخرافات لصدقت خرافة الشؤم والتشاؤم، وصدقتها في ابن الرومي هذا قبل غيره، فما حدث منه قد شهدته بنفسي وخبرته في صحبي، ولم أعتمد فيه على رواية الأقدمين ولا على مبالغات المتندرين؛ لأنني تعاقدت على طبع كتابي عنه مع مدير المطبعة، فمات هو وسجنت أنا قبل الفراغ من ملازم الكتاب الأول، وكان وزير المعارف «أحمد حشمت» قد أوصى بطبع ديوانه، وأقام على تصحيحه مفتش اللغة العربية في الوزارة، فعزل الوزير والمفتش وماتا قبل الفراغ من جزئه الثاني، وكتب المازني فصولًا عنه فكسرت رجله، ونشر صاحب الثمرات قصائد من ديوانه فكسرت رجله، وهمَّ صاحب البيان بنشر مطولاته والعناية بأخباره فتعطلت مجلة البيان، فلو كانت هذه المصادفات أسبابًا يؤخذ بها وترتبط بنتائجها لكان الشؤم المزعوم حقيقة من الحقائق العلمية التي لا شك فيها، ولكنها مصادفات سيئة تقترن بها مصادفات حسنة، ولا يجوز لنا أن نركن إلى هذه ولا إلى تلك على انفراد، فقد أنجزت كتابي عن ابن الرومي، فكانت السنة التي ظهر فيها من أسعد السنوات في حياتي الخاصة، وأبرزها في حياتي العامة، وسلك الكتاب سبيله بين مراجع الأدب المعدودة في هذا الجيل، فإن كان الشؤم على صولته التي يتخيلونها فقد تحديناه، ونجحنا في تحديه بحمد الله.
ولم يكن في الحجرة شيء سبقته إلى سكن هذا البيت منذ سكنته قبل زهاء عشرين سنة، فكل ما فيها قد دخل البيت يوم دخلته وبقي هناك كما بقيت، إلا بعض الصور، والمذياع!
ففيها صورة للقصر المعروف باسم «أنس الوجود» من صنع الفنان التركي القدير الأستاذ هدايت، تلمح من نظرة واحدة إليها غرابة الجو المصري والألوان المصرية الوضاءة على آثارنا الخالدة، كما تبدو في عيني الفنان الغريب عن الديار.
وفيها صورة لي من صنع الأستاذ «أحمد صبري»، وهو من أساطين فن التصوير في هذا البلد، وله ريشة ثابتة وألوان صحيحة وطريقة مأثورة عن عباقرة المدرسين الأقدمين، لا تستهويه البدع المستحدثة ولا يروقه من ملامح الوجوه إلا ما ينم على جد واهتمام.
وفيها صورة لشاطئ الزمالك من صنع المصور الموهوب الأستاذ شعبان زكي، وهو فنان ينظر ويحلم ويسبغ من أحلامه كثيرًا على المناظر الطبيعية، أو الحوادث التاريخية التي يسجلها، ومن آثاره التي تتجلى فيها أحلام التصوير والأدب صورة امرئ القيس والعذارى، وهو مرابط لهن على حافة الغدير.
وفيها صورة لترعة المحمودية من صنع الفنان المطلع الأستاذ صلاح الدين طاهر، وهو لاشتغاله بتصوير الوجوه والأشخاص واطلاعه على الدراسات النفسية قد سرت إلى مناظره الطبيعية عدوى عنايته بالوجوه والنفوس، فلا تخلو مناظره من ملامح «سيكولوجية»، على غير الأحياء.
وفيها صورة «أبي قير» لفقيد الفن الأستاذ لبيب تادرس، وهو فنان مجتهد عوجل في شبابه قبل أوانه، وكان له اقتداء بالمدرسة الإحساسية في التلوين وتمثيل الأشياء والأشخاص من بعيد.
وهناك تمثال نصفي أهداه إليَّ بعض الهواة ممن يشتغلون بغير النحت، ولا يظهرون آثارهم الفنية.
أما المذياع فلم يكن ذاع يوم سكنت هذه الدار، ولم أكن أرى منه في مصر الجديدة إلا أدوات عاجلة يركبها بعض الكهربائيين على أيديهم، وتسمع أو لا تسمع كالمركب الشراعي الذي يسير أو لا يسير «حسب التسهيل».
قال صاحبي: إن نقل الصوت من المكان البعيد معجزة كافية، فكيف إذا أضيفت إلى هذه المعجزة معجزة النقل من زمان بعيد؟ إنهم يزعمون ذلك في الإمكان، ويقولون: إن استخلاص أصوات الأقدمين كما نطقوا بها في حياتهم ليس بالمستحيل؛ لأنها محفوظة في بعض طبقات الجو البعيد، لا يؤثر عليها الاختلاط إلا كما يؤثر الاختلاط على أصوات المحدثين.
قلت لو كان لي لسانان لقال أحدهما مرحى! وقال الآخر في الوقت نفسه: أعوذ بالله!
إننا نحب أن نسمع الأنبياء وهم يخطبون والأبطال وهم يناضلون، والشعراء وهم ينشدون، وأصحاب الأغاني وهم يترنمون … ولكن مَن من هؤلاء الأبطال يرضى أن تسمعه وهو في خاصة وقته بين أهله أو ندمائه! ومَنْ من الناس في عصرنا يحب أن تنقل عنه كل كلمة قالها، وكل سر همس به وكل آهة من آهات الضعف فارقت شفتيه؟ إن الاستعاذة بالله هنا تحتاج إلى مائة لسان إذا كان الترحيب يكفيه لسان واحد، فليكن «وعيد» العلماء إذن من المستحيل، وإلا أصابهم منه ما يصيبون به الآمنين في القبور.
عشرون سنة بين هذه الجدران الأربعة!
قالها صاحبي وهو يؤذن بانتهاء السياحة التي أرادها أو أرادها الناشرون، وكأنها لم تكن ستقضي في حجرة أخرى من حجرات الاستقبال في بيت من البيوت؟
قلت: أكثيرة هي على هذه الجدران؟ فعلى أي الجدران هي ليست بالكثيرة؟
قال: لعلها كانت أولى أن تنقضي في التنقل من مكان إلى مكان، ومن حي إلى حي، ومن دار إلى دار.
قلت: إن السياحة يا صاحبي لها حجتها الناهضة، فما هي بحاجة منا إلى حجة جديدة، ولكن المكث في المكان الواحد أيضًا له حجته التي تضارع حجة السياحة ولا تقصر عن شأوها، فإذا كانت مشاهدة الأمصار ومداولة الديار تعلمنا الحكمة وتبصرنا بألوان الحياة، فاعلم يا صاحبي أنني لا أعرف شيئًا ينفذ بنا إلى حقائق الآمال والمخاوف، وبواطن الأفراح والأحزان، كمراسنا لها في المكان الواحد الذي يقل فيه التغيير.
إذا وجل القلب فهذا الكرسي يعلمني أن الخوف عبث، وأن الذي أخافه قد يخطئني ويسبقه إليَّ الذي أرجوه، فكم من مرة جلست عليه أطول النظر في أعقاب الأمور، وأقلب الظنون في كل وجه من الوجوه، ثم جاء الوقت المحذور ولم يجئ معه ما حذرناه!
وإذا تقطعت النفس حسرات على نعمة من نعم العيش، فهذه الشرفة تقول لي: بل انتظر طويلًا أو قصيرًا فسنرى كما رأينا، وسنعلم كما علمنا أنك ستعيش بغير هذه النعمة التي كنت تقرنها بالحياة، كما عشت الشهور والسنين بعد تلك النعم التي أدبرت، ثم زالت وكنت تترقب — بل تتمنى — أن تزول الحياة قبل أن تزول.
وإذا رجوت أو قنطت ذكرني هذا المقام أن القنوط يخدع كما يخدع الرجاء، وأن رجاء اليوم وقنوطه، كرجاء الأمس وقنوطه، كلاهما في طبائع الصدق والكذب سواء.
وبعض هذا يحبب إليَّ البقاء حيث بقيت.
ولكنني لو سئلت: لِم بقيت أول الأمر حتى طال بي البقاء، فلست أدري ما أقول، وقد أجيب كما أجبت السؤال الذي سُئلته في الصحف: «إنها الكتب وما أعانيه في نقلها وترتيبها من العناء الذي لا يوكل إلى آخرين.»
ثم أقول كما قلت: «وهو سبب وجيه ولا جدال، ولكني أحس كلما أجبت به أنه طبقة من الأسباب وراءها طبقات، ولعلي أوجز الحقيقة كلها ببيت حافظ إبراهيم الذي قاله في مثل هذا المسكن، وإن لم تطل مدته فيه كهذا الطول:
وقد استقبلت فيه آمالًا، واستحييت فيه ذكريات، ومن غار على ذخيرة آماله وبواطن ذكرياته، فقد يغار على مواطنها أن تستباح بعده لكل من يشاء.
تلك يا صاحبي سياحتي التي أردتها في بيتي، وأردت أن تحيط بما يحوطني فيها من شاغل أو عمل أو مقال، أطلعتك منها على ما يعني الناس، وتتصل فيه حياة الكاتب بين العالم والدار، فأما الذي يعنيني ولا يعني أحدًا غيري فلأن أقول أنا إنه لا يعنيهم خير من أن يقرأه قارئ فيسأل قارئًا آخر: وما الذي يعنينا نحن من هذا المقال؟ ثم يتفقان على الجواب!
وإذا شاء القارئ فلتكن هذه دعواي لإبداء ما أبديت وإخفاء ما أخفيت، إذ الواقع أنني لا أحسب القارئين اللذين يتفقان على الجواب يكثران بين أفراد الناس؛ لأن الفضول قد يغري الأكثرين بما نخفيه دون ما نبديه.
والآن وقد مضت السنون العشر، ماذا تغير وماذا بقي فلم يتغير على مر تلك السنين؟
تغير الكثير من أمور العالم، وتغير الكثير من أمور مصر، وتغيرت من الناس أمور يراها من كان يعرفها، فلا يعرفها الآن.
وبيتي هذا هو بيتي هذا، لم أغيره ولم يغيرني، ولم يطرأ عليه وجه غريب إلا ريثما يغيب.
وكل ما جد فيه فهو رابطة جديدة توثق من روابطه الأولى، كتب تزداد حتى ليتعسر انتقالها من موضع إلى موضع، وذكريات نزداد حتى لتجور على عالم الحاضر، وعالم المآل، وعالم الآمال!
والسلالم التي صعدتها مثنى مثنى وواحدة واحدة، قد تغير عليها شيء قليل في أيام قليلة.
صعدتها بعكاز، بعد تلك العثرة التي أقعدتني في الإسكندرية قرابة شهرين، ثم ها هو ذا في ركنه أنظر إليه كلما هبطت السلالم أو صعدت عليها؛ ليجنبني مرآه مزالق العثرات.
لي قصيدة ألقي فيها على لسان «مسكن للإيجار» أبياتًا يقولها في ساكن من نزلائه بعد ساكن، فيذكر منهم من يذكره بالخير، ويذكر منهم من لا يأسى عليه.
في ذمة الغد شاعر يلقي على هذا المسكن رأيه في هذا المقيم؛ المطيل، أتراه يحمد منه أنه ارتقى به من ابتذال التنقل إلى كرامة البقاء والاستقرار؟ أم يضجر منه ويشيعه بالمذمة بعد هذا المكث الطويل؟
ليقل ما سيقول، ذلك الشاعر المجهول.