اختراعُ العرق
لم يكن العرق موجودًا في الطبيعة، وإنما اخترعه الأشخاص ذوو السلطة.
يقرُّ معظم الباحثين حاليًّا بأن العرق فكرة، أو مجموعة فِكَر، تتعلَّق بالاختلاف البشري. وغالبًا ما تكون هذه الفِكَر غير دقيقة وغير كافية على نحوٍ مُؤسِف لفهم أو تفسير طبيعة التنوع البشري وآلياته المختلفة. ومع ذلك، فإنها تلعب دورًا رئيسًا في صياغة تفسيراتنا للاختلافات بين الأفراد والجماعات، بالإضافة إلى شبكاتنا الاجتماعية وعلاقاتنا المادية. بعبارةٍ أخرى، نحن لا نُدرك وجود الأعراق البشرية — على الأقل، ليس من خلال أي وسائلَ موضوعيةٍ — وإنما نخترعها. فالأعراقُ البشرية لم تنشأ في الطبيعة، وإنما هي نِتاج المعتقدات الشعبية المنبثقة عن ممارساتٍ ثقافية واجتماعية.
كيف بدأت فكرةُ العرق؟ تكمن الإجابة في العلاقة المُعقَّدة المتبادلة التأثير بين العِلم، والحكومة، والثقافة، في تاريخ التوسُّع الاستعماري الإسباني في الأمريكتَين. عندما وصل المُستعمرون الأوروبيون إلى شواطئ أمريكا الشمالية للمرة الأولى في أوائل القرن السادس عشر، كان الأمريكيون الأصليون يقطنون هذه الأراضي، وكان الإسبان والفرنسيون والإنجليز كثيرًا ما يَشتبكون مع سكان البلاد الأصليِّين بينما كانوا يُقيمون المستعمرات في فلوريدا، والمنطقة الشمالية الشرقية المُتاخِمة لكندا، ومُستعمرة فرجينيا، والجنوب الغربي. في بادئ الأمر، اعتبر الأوروبيون القبائلَ الأصلية المتنوِّعة «أممًا» مُنفصلة، لا «أعراقًا»، ولم يصف المُستعمِرون الإنجليز الأوائلُ السودَ بكلماتٍ ذات صبغةٍ عِرقية عندما وضعوا نظام عملٍ قائمًا على العبودية المرتبطة بعقودٍ طويلة الأجل، وهو نظامٌ شملَ كلًّا من الأوروبيين والأفارقة. إلا أن وضع الأفارقة بدأ يتغيَّر على نحوٍ بالغ بحلول منتصف القرن السابع عشر؛ فلم يعودوا خَدمًا مع توقُّع حصولهم على الحرية بعد فترة من العبودية، مثل نظرائهم الأوروبيين. وبدلًا من ذلك، أحالَ زعماءُ المستعمراتِ الأفارقةَ إلى مرتبةٍ أدنى تمثَّلت في العبودية الدائمة. وعلى مدى فترة معيَّنة، كان العبيدُ الأفارقة والأمريكيون الأصليون يعملون جنبًا إلى جنب (مع العُمَّال الأوروبيين المرتبطين بعقودٍ طويلة الأجل) في إنتاج الأرز، والقطن، والنِّيلة، وغيرها من المحاصيل النقدية، إلا أن العبودية في النهاية كانت حِكرًا على السود. شرعَ المستعمرون الإنجليز في وضع هَرَمية عِرقية من خلال اعتمادهم المُتزايد على العبودية وطموحاتهم في الاستيلاء على الأراضي الأمريكية من سكانها الأصليين. لم تبدأ العبودية وانتزاع ملكية الأراضي من الأمريكيِّين الأصليين مشروعاتٍ عِرقيةً أو قائمة على العرق، لكنها أصبحت كذلك.
حتى الآن، ربما تتساءل لماذا استلزمت العبودية والحملات العسكرية ضد سكان البلاد الأصليين تبريراتٍ في المقام الأول. من المؤكَّد أننا نرى العبودية الآن وصمةً أخلاقية، «الخطيئة الأصلية» لأمتنا، ومع ذلك فإن المجتمعات والتصرفات الأخلاقية التي نشهدها اليوم تختلف اختلافًا ملحوظًا عن مجتمعات وتصرفات الأمس. ألم يتماشَ الاستعمار والعبودية مع قيم الأغلبية في ذلك العصر؟ ألم تُمارَس العبودية في كل أنحاء العالم — بما في ذلك في أفريقيا والأمريكتَين — قبل عصر الاستعمار؟ لماذا إذن اضطرَّ المستعمرون الإنجليز إلى تبرير هذه الممارسات التي مضى عليها ألف عام سواءٌ من خلال العرق أو أي وسائلَ أخرى؟
على الرغم من أن المرءَ قد يميل للنظر إلى العبودية على أنها نفس النظام سواءٌ مُورسَت في روما القديمة، أو في جولد كوست (غانا) القرن السابع عشر، أو في فرجينيا القرن التاسع عشر، فلم يكن هذا ما عليه الوضعُ في نهاية الأمر؛ فقد كانت العبودية القائمة على العِرق في الأمريكتين هي — دون أي سابقةٍ تاريخيةٍ أخرى — أساس اقتصاد «بلدان المحيط الأطلنطي» الممتد السريع التوسُّع. على سبيل المثال، كان من بين الاختلافات الجوهرية بين «مجتمعات الرقيق» الأمريكية وغيرها من «المجتمعات التي تتضمَّن عبيدًا» مدى الاغتراب الاجتماعي بين العبيد و«سادتهم» (برلين ٢٠٠٣، مياسُّو ١٩٩١). في النمط الأول من المجتمعات، كان العبيدُ عادةً ما يجدون أنفسهم مُندمجين في النسيج الاجتماعي بوصفهم يشغلون المرتبة السُّفلى في سُلَّم قرابةٍ بيولوجية وتخيُّلية زائفة. ومهما بدت فكرة المساواة بين البشر مُستبعَدة وبعيدة الاحتمال في نظر النُّخبة في هذه المجتمعات، فإنهم عادةً لم يَعتبروا أن من الضروري التشكيك في الطبيعة الإنسانية الجوهرية لأولئك الذين استعبَدوهم، سواءٌ من خلال الغزو أو الدَّين أو غير ذلك. كما أن العبودية لم تكن تُورَّث بالضرورة، ولم تكن لعنة تتوارثها الأجيال الهدفُ منها ضمانُ توفير عُمَّال من العبيد، حسب ما آلَ إليه الوضعُ في المستعمرات الأمريكية في نهاية الأمر؛ ومن ثمَّ كان توقُّع الحرية أكثرَ ترجيحًا في «المجتمعات التي تتضمَّن عبيدًا»، إنْ لم يكن للعبيد أنفسهم، فلأبنائهم.
ظهر العرق على وجه التحديد من أجل تبرير هذا الشكل الجديد الذي يُجرِّد العبودية من الصفات الإنسانية، وهذه النظرة التي تصوِّر الأمريكيين الأصليين على أنهم همجيون («نُبلاء» أحيانًا) لا يستحقون أراضيهم. خلال سبعينيات القرن الثامن عشر، عندما شنَّ المستعمرون الإنجليز في الولايات المتحدة حربًا للاستقلال عن مملكة بريطانيا العظمى، كانوا على درايةٍ تامة بتناقُضاتهم الأخلاقية. وفي الواقع، بمرور الوقت، كان خوفهم الدائم أن المجتمعات المُستعبَدة ربما تُصبح مصدر إلهام لتمرُّدٍ أوسع نطاقًا ينبثق عن حركات النضال الناجحة من أجل الحرية على جانبي المحيط الأطلنطي، لا سيَّما الثورة الهايتية (جيمس ١٩٨٩). ومع ذلك، استمر المستعمرون الإنجليز في رفضِهم منح الأفارقة حريتهم وحبس الحقوق عن الأمريكيِّين الأصليِّين. ومن دواعي المفارقة أنْ كان من أوائل ضحايا الحرب الثورية كريسبوس أتوكس، وهو أحدُ العبيد الفارِّين الذي ينحدر من أصول أفريقية وهندية.
ربما لا توجد شخصيةٌ تاريخية بارزة تُجسِّد التناقضات السياسية والشخصية المتأصِّلة فيما يتعلِّق بالعرق والعنصرية مثل توماس جفرسون، ثالثُ رئيس للولايات المتحدة. على الرغم من أن جفرسون كان مالِك عبيدٍ في فرجينيا ساعدَ في وضع مسوَّدة إعلان الاستقلال، فقد كتبَ في واقع الأمر بيان إدانة مُطوَّلًا عن العبودية استُبعِدَ من النسخة النهائية للوثيقة. ومن المعروف حاليًّا أن جفرسون، على أفضل تقدير، كان له أبناءٌ من فتاةٍ ضمن عبيده تُدعى سارة «سالي» همينجز، وهو ادعاءٌ يرجع تاريخه في حقيقة الأمر إلى فترة رئاسته الأولى (جوردون-ريد ٢٠٠٨). وبالإضافة إلى عمله السياسي، كان جفرسون من العلماء البارزين في مجال التاريخ الطبيعي، وهو دورٌ شجَّع من خلاله على الاستكشاف العلمي للأصول العرقية ودُونيَّة السود على وجه التحديد. في كتابه «ملاحظاتٌ حول ولاية فرجينيا»، يرى جفرسون أن السُّودَ يمتلكون «هباتٍ جسديةً وعقلية أقل شأنًا» بالمقارنة بالبِيض، وبدرجةٍ أقلَّ، بالأمريكيِّين الأصليين. ويتساءل عمَّا إذا كان هذا الوضع — المطروح «على سبيل الظن فحسب» — يعكس أصولًا طبيعية منفصلة للعِرق، أم أنه بدلًا من ذلك نتيجة التشعُّب العرقي عن أصلٍ مشترك (سواءٌ كان ذلك في شكل نوعٍ أو نُوَيْعٍ منفصل) بسبب «الزمن والظروف»، كما سنُناقش في الفصل التالي. تناوَل العلماءُ هذا التحدِّي بحماسٍ كبير؛ فقد سعى بعضهم بالفعل، مثل عالِم الطبيعة السويدي كارولوس لينيوس — الذي قدَّم في الطبعة العاشرة من كتابه «نظام الطبيعة» (١٧٥٨) نظام التسمية الثنائية المعروف (اسم الجنس، والنوع) في تصنيف الكائنات الحية (على سبيل المثال، الإنسان العاقل) — بحث «الأعراق البشرية» وتصنيفها.
المخطط الزمني لاختراع العرق (١٤٠٠-١٨٠٠)
لم يكن العرق أبدًا مسألةً تتعلَّق بالفئات التصنيفية، وإنما كان مسألة تتعلق بإنشاء التدرجات الهَرَمية.
ميَّز التوسُّع، والغزو، والاستغلال، والاسترقاق، جانبًا كبيرًا من التاريخ البشري على مدى الخمسة آلاف عام الماضية أو نحو ذلك، لكن لم يؤدِّ أيٌّ من هذه الأحداث السابقة على العصر الحديث إلى نشأة أيديولوجيات أو نُظمٍ اجتماعيةٍ قائمة على العرق.
في أوائل القرن الخامس عشر، حينما كان السفر سيرًا على الأقدام أو على ظهور البعير، لم يحدث قط — حتى للمسافرين الأكثر حنكةً حول العالم — أن صنَّفوا البشر؛ لأن ما رأوه كان تغيُّرًا تدريجيًّا.
بالنسبة إلى الأوروبيين، تغيَّر ذلك الوضع في القرن السادس العشر والقرن السابع عشر، عندما تسنَّى لهم ركوب قارب، والإبحار لشهور، والوصول إلى قارةٍ مختلفة. وعندما نزلوا فيها، أدهشهم مدى الاختلاف الذي بدا عليه الجميعُ هناك. إنَّ فئاتنا العرقية التقليدية هي ببساطة نقاط النهاية في شبكات التجارة القديمة الواقعة وراء المحيط.
في أوائل القرن السابع عشر، لم يكن الإنجليز يفكِّرون بأسلوبٍ عِرقي. كانت المكانة الاجتماعية والدِّين هما الأمران اللذان يحظيان بأهمية أكبر. استُقِبلَت بوكاهانتس استقبالًا حسنًا في لندن لأنها كانت من الأميرات.
لم يكن يُنظَر في البداية إلى الأفارقة الأوائل الذين وصلوا إلى جيمستاون عام ١٦١٩ على أنهم عبيد؛ إذ استلزم الأمر إدخال العبودية وإقرارها كعُرفٍ جديد في هذه المستعمَرات.
لاذَ [الخَدَمُ البِيض والسود] بالفرار معًا، ولعبوا معًا، وثاروا معًا.
تصاحَبوا وتزاوَجوا، وأنجبوا أعدادًا ضخمة من السكان المختلطين. وفي خضمِّ هذا، أنشأ الخَدَمُ السود والبِيض — الذين يُمثِّلون غالبية سكان المستعمرة — منطقةً عِرقيةً عجيبة … كان حاجزُ التقسيم الرئيسي … بين الخَدَم والأحرار، وكان ثمة بِيضٌ وسود على كلا جانبَي هذا الحاجز.
[هذه هي] أول إشارةٍ واضحة للعبودية الصريحة … لم يصدر حُكم كهذا ضد أجير من البِيض في أيِّ مُستعمَرةٍ إنجليزيةٍ معروفة حتى ذلك الحين.
عندما أصبح الاستيطان الدائم هو الاهتمام الأساسي لدى الإنجليز … والأرض هي الغاية، سيطرت صورة الهنود كهمجيِّين مُعادين على أذهان الإنجليز … كان الهدفُ من ترسيخ صورةٍ نمطية للهنود على أنهم برابرة همجيُّون هو حلَّ معضلةٍ أخلاقية قائمة. لو كان الهنود ودودين وكُرماء ومتحمِّسين للتجارة حقًّا، فما التبرير الذي يُمكن تقديمه إذن للاستيلاء على أراضيهم؟ أما إذا كانوا همجيِّين، لا دينَ لهم أو ثقافة، فربما أمكن الدفاع عن أفعال المستعمرين.
في فرجينيا، اتحدَ البِيض والسودُ — خدمًا وعبيدًا وأحرارًا — ممَّن سُلبت أراضيهم، فأعلنوا التمرُّد على الظروف الاقتصادية الجائرة وإساءة استعمال السلطة في المُستعمَرة. تمكَّنت القوات البريطانية من قمع التمرُّد، إلا أنه كَشَفَ لأصحاب المزارع من البِيض الأثرياء عن خطر تحالُف البِيض الفقراء مع نظرائهم السود.
كان حلُّ هذه المشكلة هو العنصرية، أي فَصْل العناصر الَخطِرة من البِيض الأحرار عن العناصر الخطِرة من السود العبيد عن طريق حاجز الازدراء العرقي. ومن خلال مجموعة من القوانين، بذلت الجمعية العمومية [لولاية فرجينيا] كلَّ ما في وسعها لتعزيز ازدراء البِيض للسود والهنود.
كان القرن الثامن عشر يمثِّل العصر الذهبي للتصنيف. غمرت الرحلات الاستكشافية أوروبا بأعدادٍ هائلة من نماذج النباتات، والحيوانات، والبشر، الجديدة والغريبة. وسعى مؤرِّخو الطبيعة — في محاولةٍ لإعمال العقل في شئون الطبيعة الصعبة التناوُل — إلى تطبيق مبادئَ جديدةٍ وبسيطة يُلتزَم بها عالميًّا.
لينيوس والأعراق الأربعة
-
العرق الأمريكي: العرق الأحمر، سريعُ الغضب، مُنتصِبُ القامة،
صعبُ المِراس، مُبتهِجٌ، حُرٌّ، يطلي نفسه بخطوطٍ حمراء، يحتكم إلى العادات والتقاليد.
-
العرق الأوروبي: العِرق الأبيض، مُتفائل، مفتولُ العضلات،
دمث الخلق، ذكي، مبدِع، يرتدي ملابس متحفظة.
-
العرق الآسيوي: شاحب، سوداوي، قوي،
صارم، متغطرس، متكالِب، يرتدي ملابس فضفاضة، يحكمه الرأي والاعتقاد.
-
العرق الأفريقي: العرق الأسود، بارد الطباع، مُسترخٍ،
ماهر، كسول، متقاعس، يدهن نفسه بالزيت، يحكمه الهوى.
ومن ثمَّ، ارتأيتُ على سبيل الشك فحسب أنَّ السود — سواءٌ أكانوا في الأصل عِرقًا مختلفًا، أو صاروا عِرقًا مختلفًا بمقتضى الوقت والظروف — أدنى شأنًا من البِيض فيما يتعلق بالهبات الجسدية والعقلية لكلٍّ منهما … ويُمثِّل هذا الاختلافُ المُؤسِف في اللون، وربما في المَلَكات العقلية، عائقًا قويًّا أمام تحرير هؤلاء الأشخاص.
أوضحت الدراسات التاريخية المعاصرة أنَّ «العرق» كان اختراعًا حديثًا نسبيًّا في التاريخ البشري (ألين ١٩٩٤، ١٩٩٧، فريدريكسون ٢٠٠٢، هانافورد ١٩٩٦، سميدلي ٢٠٠٧). يشير المؤرِّخون إلى أن معتقداتنا الشائعة عن الأعراق البشرية لم تكن موجودة قبل أواخر القرن السابع عشر. يتَّفق هؤلاء المؤلفون على أن العرق كان في الأساس اختراعًا ثقافيًّا عن الاختلافات البشرية التي كان أساسها في الأحوال الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. وعلى الرغم من أن معظم الأمريكيِّين لا يزالون يعتقدون أن الاختلافات الجسدية المنعكسة في لون البشرة هي أساس التصنيفات العرقية، فإن تلك الاختلافات لا تُخبرنا شيئًا عن طبيعة التنوع الجسدي بين البشر ولا عن حقائق النشوء الحيوي الغامضة. يرى العِلمُ الحديث الآن أنه لا أساسَ في العِلم لتصنيفات البشر التي نطلق عليها أعراقًا (الجزء الثاني).
نشأ العرق كأيديولوجيةٍ شعبية عن الاختلافات بين البشر وشكَّلته المعتقداتُ والمواقف المُتعلِّقة بهذه الاختلافات. ظهرت هذه المواقف والمعتقدات على مدى فترة بدأت تقريبًا في تسعينيات القرن السابع عشر واستمرَّت خلال القرن الثامن عشر، وهي فترةٌ تتزامن أيضًا مع القوانين العديدة التي أقامت نظام العبودية في أمريكا. ومن أواخر القرن الثامن عشر فصاعدًا، دعَّم هذه المعتقدات الشائعة ظهورُ حُججٍ علميةٍ موضوعة بهدف تأكيدها.
(١-١) أهمية التاريخ
شرع الإنجليزُ عام ١٦٠٧ في إنشاء المستعمرات في أمريكا الشمالية، على غرار الإسبان والبرتغاليين، بهدف كسب الثروة. حاول عبثًا المستعمرون الأوائل، الذين استولوا على معظم الأراضي، إجبارَ الهنود المُحتَلين على العمل قسرًا. بيد أن الهنود لم يَقبلوا العمل القسري برحابة صدر؛ إذ لقي الكثيرُ منهم حتفهم جراء الأمراض الأوروبية، بينما لاذ آخرون بالفرار إلى أراضٍ غير معروفة. اتجه الإنجليز بعد ذلك إلى استجلاب أفرادٍ من الجزر البريطانية للعمل كخدم بموجب عقودٍ طويلة الأجل، والعديد منهم كانوا من الأيرلنديين الذين أُسِروا خلال الحرب. وكان هؤلاء من الرجال الفقراء، وبعضهم كانوا نساءً، سُمِحَ لهم بالعمل لسداد ديون نَقلِهم؛ ومن ثمَّ نيل حريتهم فيما بعد. كانت الحاجة إلى العمل ماسَّةً وشديدةً؛ بالكاد ما استطاع المستعمرون الأوائل العيشَ على ما استطاعوا إنتاجه بأنفسهم، وارتفع معدلُ الوفيات كما نعلم. وسرعان ما أدركوا أن التبغ هو المحصول الوحيد الذي من شأنه أن يُدرَّ عليهم ثروةً طائلة، وهو من المحاصيل التي تتطلب عمالةً كثيفة للغاية.
لم يُعتبَر الأفارقةُ الأوائل، الذين وَطِئت أقدامهم مُستعمَرة فرجينيا عام ١٦١٩، عبيدًا في بادئ الأمر. كانوا يحملون أسماءً إسبانية أو برتغالية، وكانوا على دراية بالثقافة الأوروبية. وكانوا يُعامَلون، شأن غيرهم من العُمَّال الفقراء، على أنهم خدم بعقودٍ طويلة الأجل يستطيعون أيضًا نَيل حريتهم بعد سداد ديونهم. بعضُ هؤلاء الأفارقة عملوا بجدٍّ واجتهاد، وحازوا أراضي وبيوتًا وماشية ومعداتٍ خاصةً بهم. يتَّفق المؤرخون الآن على أن العبودية بمعناها الصريح لم يكن لها وجودٌ في العقود الأولى من المُستعمَرات الإنجليزية في أمريكا الشمالية (راجِع ألين ١٩٩٧، فريدريكسون ٢٠٠٢، إدموند مورجان ١٩٧٥، بي مورجان ١٩٩٨، بيرانت الابن ٢٠٠٣). بالإضافة إلى ذلك، تندر — أو تنعدم — الأدلة التي تُشير إلى أن الأفارقة كانوا يُعامَلون على نحوٍ مُختلف عن غيرهم مِمَّن ينتمون إلى الفئة نفسها. وأُدمِج الأفارقة في مجتمع المُستعمَرة شأنهم شأن غيرهم. وعندما حازوا الأراضي، شاركوا في الجمعية العمومية، وهي الهيئة الحاكِمة للمستعمرة، وأدلوا بأصواتهم، وعَمِلوا في هيئات المحلَّفين، وكوَّنوا علاقاتٍ اجتماعيةً مع أصحاب المزارع البِيض.
ثمَّة أدلةٌ كثيرة على أن سكان فرجينيا خلال هذه السنوات كانوا على استعدادٍ للتفكير في الزنوج الأفارقة على أنهم أعضاءٌ فعليون أو مُحتمَلون في المجتمع وفقًا للشروط نفسها المُطبَّقة على غيرهم من الأشخاص، وكانوا على استعدادٍ أيضًا لإلزامهم بمعايير السلوك نفسها. كان الرجالُ السود والبِيض الذين يخدمون نفس السيد يعملون ويأكلون وينامون معًا، واشتركوا معًا في الهروب والفرار والعقاب (١٩٧٥: ٣٢٧).
ويكتب مضيفًا: «كان من الشائع أن يهرب الخدم والعبيد معًا، ويَسرقون الخنازير معًا، ويحتسون الخمر معًا. ولم يكن من المُستغرَب ممارسة الجنس معًا» (٣٢٧) في واقع الأمر، لم يكن ثمَّة وصمة عارٍ تَرتبط بما نُطلق عليه اليوم الزواج «بين الأعراق».
حتى بداية القرن الثامن عشر، كانت صورة الأفارقة بين معظم الأوروبيين إيجابية بوجهٍ عام. كانوا من المزارعين ومربي الماشية؛ كانت لديهم صناعاتٌ ومهارات وحِرف وحكومات وتجارة. علاوةً على ذلك، كانوا يتمتَّعون بمناعة تُحصِّنهم من أمراض العالَم القديم، وكانوا العُمَّال الأفضل أداءً في الأحوال المناخية الاستوائية للمُستوطَنات الجنوبية، ولم يكن لديهم ملاذٌ يفرُّون إليه ويَختبئون فيه عندما نُقِلوا للعيش في العالَم الجديد (إدموند مورجان ١٩٧٥، سميدلي ٢٠٠٧).
كانت ثمة أسبابٌ قوية لتفضيل الأفارقة. في وقتٍ مبكِّر يعود إلى ثلاثينيات القرن السابع عشر، عبَّر أصحابُ المزارع عن رغبتهم في الحصول على عُمَّالٍ أفارقة (إذ كتبوا يتمنَّون: «لو أنَّ لدينا فقط بعض الأفارقة!») توضِّح سجلات أصحاب المزارع في منطقة البحر الكاريبي وفي مستعمرات فرجينيا وماريلاند أن الأفارقة كانوا يُعتبَرون في البداية أناسًا مُتحضِّرين وسهلي الانقياد، لديهم دراية وخبرة بالزراعة الاستوائية. وكانوا يألفون النظام والانضباط، وهذه من السمات المُميِّزة للسلوك المتحضِّر، فضلًا عن العمل في مجموعاتٍ على نحو مُتضافر. كانوا على دراية بزراعة الذرة، والتبغ، وقصب السكر، والقطن في أراضي بلادهم، ولم تكن تلك المحاصيل معروفة في أوروبا. وكان الكثيرُ من الأفارقة على دراية بصنع الأدوات المعدنية، والنِّجارة، وتربية الماشية، وصنع الطوب، والنسيج، وصنع الحِبال، ودِباغة الجلود، وغيرها من مهاراتٍ أخرى عديدة. وسرعان ما أدرك المُستعمِرون أن مشروعاتهم، دون وجود الأفارقة، ستبوء بالفشل؛ فأعلنوا: «لا يمكننا العيش دون الأفارقة!»
بحلول مُنتصف القرن، واجهت المستعمرات أزمة؛ استولى بعضُ الرجال من بين المستوطنين الأوائل على الأراضي الخصبة، فأقاموا المزارع الضخمة وجَنوا الثروات الطائلة من زراعة التبغ عندما كان لديهم عددٌ كافٍ من العاملين. وجَد الخدم الفقراء ممَّن نالوا حريتهم أنَّ من الصعب الحصول على أراضٍ، وصار الفقراءُ والخدم الذين نالوا حريتهم، والذين كان من بينهم آنذاك الأوروبيون والأفارقة والمولاتو وبعض الهنود، غير راضين عن نصيبهم، ولا سيَّما في وجود الفساد واستغلال السُّلطة من جانب الرجال الأثرياء الذين كانوا يحكمون المستعمرة. هدَّدوا بالتمرُّد، ونَهبوا جيرانهم، وأظهروا احتقارهم وازدراءهم لزعماء المستعمرة، وأثاروا الاضطرابَ والشغب في كلِّ أنحاء المستوطنة.
وقع التمرُّد الأشهر عام ١٦٧٦. كانت هذه الثورة — بقيادة ناثانييل بيكون — التي شارك فيها آلافُ العُمَّال الفقراء في فرجينيا أولَ تهديدٍ رئيسي للاستقرار الاجتماعي. انقشع غبارُ التمرُّد بعد وفاة بيكون، بيْد أن المُفوَّضين المَلَكيين البريطانيين الذين أُرسِلوا لقمع الثورة أدركوا أن كلَّ السكان عن بكرة أبيهم قد ساندوا التمرُّد وكان «الغضب والعناد» يسيطر عليهم. إذ التقوا ذات مرة مع «حشدٍ» مكوَّن من «٤٠٠ أفريقي و٦٠٠ أو ٧٠٠ من العُمَّال الأوروبيين المرتبطين بعقودٍ طويلة الأجل، من الأيرلنديين في الأغلب» (ألين ١٩٩٤: ٢١٨). سرعان ما أدرك زعماء المستعمرات الحاجة إلى استراتيجية للحيلولة دون وقوع تلك الأحداث في المُستقبَل، ولضمان توفير عددٍ كافٍ من العُمَّال السهلي الانقياد لأصحاب المزارع.
(١-٢) ترسيخ العبودية
أسفرت القراراتُ التي اتخذها زعماء المستعمرة خلال العقود الأخيرة من القرن السابع عشر والربع الأول من القرن الثامن عشر؛ عن ترسيخ العبودية العِرقية. بدأ هؤلاء الزعماء في تمرير مجموعة من القوانين التي من شأنها عزل الأفارقة وذُريَّتهم، وتقييد حقوقهم وحركتهم، وفرضُ حالة من العبودية الدائمة عليهم. صار الأفارقة في ذلك الوقت يُجلَبون من أفريقيا مباشرةً، لا من المجتمعات الأفريقية المقامة في أوروبا أو المستعمرات الأوروبية الأخرى. وكانوا مختلفين عن الأفارقة الأوائل من حيث إنهم كانوا كفَّارًا مُلحدين؛ أي ليسوا مسيحيِّين، ولم تكن لديهم درايةٌ باللغات والعادات والتقاليد الأوروبية، كانوا غير حصينين ضد أي قيود تُوضَع عليهم. بدأ بعضُ زعماء المُستعمَرة يزعمون أنه لا حقوقَ للأفارقة بموجب القوانين الأوروبية؛ ومن ثمَّ يمكن إخضاعهم للعمل القسري والدائم دون خشية العقوبة.
بدأت عناصر الخدم الإنجليز في التراجع في الجزء الأخير من القرن السابع عشر؛ حيث أصبحت الوظائف متوافرة في الوطن. وزادت تجارة الرقيق مع أفريقيا حيث وفَّرت الحروب والصراعات الداخلية في أفريقيا المزيد والمزيد من الأشخاص لتجارة الرقيق. كان لزعماء المُستعمَرات، الذين كان جميعهم من أصحاب المزارع الكبار، هدفان: فرض ضوابطَ اجتماعيةٍ فعَّالة على السكان ومنع التمرُّد، وتزويد أنفسهم بالعمالة الرخيصة والسهلة الانقياد. وسرعان ما أدركوا أنَّ في مقدورهم عَزْلُ السكان العاملين — بالنظر إلى صفاتهم الجسدية المختلفة — وفرضُ العبودية الدائمة على بعضهم. يرى أنتوني بيرانت (٢٠٠٣) أن طبقة أصحاب المزارع القوية، التي عملت على تعزيز مصالحها الاقتصادية، جلبت عن قصدٍ شكلًا جديدًا من العبودية، وهو العبودية العرقية، إلى فرجينيا خلال الفترة من ١٦٩٠ إلى ١٧٢٥. في هذه الفترة، وُضِعَت الكثيرُ من القوانين التي تُقيِّد حقوق الأفارقة وذُريَّتهم، وتفرض عليهم العبودية الدائمة، وتمنع سادتهم من إعتاقهم. وبحلول عام ١٧٢٥، مُنِعَ الزنوج، حتى الأحرار منهم، من التصويت.
في الوقت نفسه، كان زعماءُ المستعمَرات بصدد القيام بشيءٍ آخر؛ كانوا يؤسِّسون لاختراع فكرة العرق والهُويَّات العِرقية؛ فقد شرعوا في تصنيف كل الأوروبيين، بصرف النظر عن الانتماء الإثني أو المكانة أو الطبقة الاجتماعية، في فئةٍ جديدة. كانت المرة الأولى التي ظهرت فيها كلمة «أبيض»، بدلًا من كلمة «مسيحي» أو أي اسم يتعلَّق بالانتماء الإثني (إنجليزي، أيرلندي، اسكتلندي، برتغالي، ألماني، إسباني، سويدي)، في قانون صدر عام ١٦٩١ يحظر زواج الأوروبيين «البِيض» من الزنوج، والهنود، والمولاتو (سميدلي ٢٠٠٧: ١١٨). أتاحت فئة الزنوج، التي مُورِست ضد أفرادها سياسة فَصْلٍ عنصري واضحة بوصفهم عبيدًا، للخدم الأوروبيين الذين نالوا حريتهم حديثًا فُرصًا لتحقيق طموحاتهم وتوحيد مصالحهم العامة مع الأثرياء وذوي السلطة. كما قدَّمت القوانين الجديدة مزايا ماديةً وامتيازاتٍ اجتماعيةً للبِيض الفقراء. وبهذه الطريقة، اخترع زعماءُ المستعمرات بوعي وإدراك آلية ضبطٍ اجتماعي للحيلولة دون اتحاد العُمَّال الفقراء (ألين ١٩٩٧). وصارت الملامح الجسدية علاماتٍ دالةً على المكانة (الاجتماعية) العِرقية. وحسبما أكَّد حاكِمُ فرجينيا ويليام جوتش، سعت الجمعية العمومية إلى «وضع وَسْمٍ دائم على الزنوج والمولاتو الأحرار» (ألين ١٩٩٧: ٢٤٢).
(١-٣) تسويغ العبودية وتبريرها
إنَّ الأساسَ المنطقي الأول للعبودية العرقية لا يستحضر الاختلافات المتعلقة بالملامح الجسدية، وإنما يُعرِّف الأفارقة على أنهم ملحدون غير متحضِّرين. كان «الهمجيون» الأوائل الذين اختلقهم الإنجليزُ في أذهانهم هم «الأيرلنديون البدائيون». في أواخر القرن السادس عشر، بعد قرونٍ من الصراع والحروب الغاشمة مع الأيرلنديين، أعلنت الملكة إليزابيث أن الأيرلنديين «همجيون» بطبيعتهم، عاجزين عن قبول الحضارة والتمدُّن. وفي الواقع، أوشك الإنجليزُ في العصر الإليزابيثي على تصنيف الأيرلنديين كعِرقٍ مختلف. وبالفعل، في القرن الثامن عشر، نعتَهم الكثيرُ من كُتَّاب التاريخ بكلمة «عرق» وخلَعوا عليهم أوجُهًا من أيديولوجية العرق.
اعتُبِرَ الأمريكيون الأصليون «همجيين» عندما قاوموا احتلال الإنجليز لأراضيهم واستيلاءهم عليها، بيد أن هذه الصورة تغيَّرت في أواخر القرن الثامن عشر إلى شكل أكثر اعتدالًا؛ فوصفوهم بأنهم «همجيون نُبلاء». حتى ذلك الوقت، كان معظم الأمريكيين الأصليين في طريقهم إلى الفناء أو كانوا يُساقون بالقوة إلى محميات، وهي عملية بدأت في القرن العشرين في المستعمرات الشمالية الشرقية. في تلك الأثناء، اخترع الإنجليزُ همجيين جُددًا عن طريق إحالة الأفارقة إلى العبودية الدائمة، ومنْع مالكي العبيد من إعتاق العبيد وتحريرهم، والحيلولة دون تعليمهم وتدريبهم. ومن القرن الثامن عشر فصاعدًا، شكَّلت التوصيفات السلبية التي خُلِعت على الأفارقة جزءًا من تسويغٍ جديد للعبودية والاسترقاق. وأصبحت هذه التوصيفات صورًا نمَطية للعِرق والاختلافات العرقية التي توارثناها في القرنين التاسع عشر والعشرين. في تلك الأثناء، كان زعماءُ المستعمرات بصدد تأسيس جماعاتٍ غير متكافئة، أُطلِق عليها الأعراق، وإسباغ معانٍ اجتماعيةٍ مختلفة عليها. وبينما هم يُنشئون الجوانب المؤسسية والسلوكية للعبودية، كان المستعمرون بصدد هيكلة العناصر الأيديولوجية للعِرق. بَالغَ مناصرو العبودية في الاختلافات القائمة بين الجماعات البشرية ووضعوا أيديولوجية عن هذه الاختلافات جرَّدت «الزنوج» من الصفات الإنسانية، وجعلتهم دون البشر، وحَطَّت من قَدرهم في أعين العامة إلى مرتبةٍ أقرب إلى القِرَدة، واضعين عبءَ العبودية ومسئوليتها على عاتق ضحاياها.
انتهت العبودية رسميًّا في الجنوب عام ١٨٦٥ عقب الحرب الأهلية، إلا أن «العرق» ظلَّ موجودًا بوصفه منزلةً اجتماعية وأساسَ الهوية البشرية. ترسَّخت أيديولوجية العرق في الاعتقاد بوجود جماعاتٍ منفصلة، ومميَّزة، ومقصورة على نفسها، خلقها الله غير متساوية، أو هكذا صارت بحُكم الطبيعة. كان الأمريكيون الأفارقة، وهم الأدنى منزلةً، يأتون في نهاية التدرُّج الهرمي، بينما يأتي «بعضُ» البِيض الأوروبيين في مقدمته، وكان يُعتقَد أن لكل عِرق صفاتٍ جسديةً وسلوكيةً مختلفة؛ ومن ثمَّ تشكَّلت الصورة النمطية المستمرَّة للأمريكيين الأفارقة التي تُصوِّرهم على أنهم أناسٌ يفتقرون إلى الذكاء، ويتَّسمون بالكسل والرغبات الجنسية الجامحة، والاندفاع، واللاعقلانية، مُولَعون بالموسيقى، وعاطفيون، ويؤمنون بالخرافات. وأخيرًا، اعتُقِدَ أن هذه الاختلافات العرقية موروثة وغير قابلة للتغيير؛ ومن ثمَّ لم يكن من المُمكن تغييرها أو تجاوزها (راجِع سميدلي ٢٠٠٧).
بعد الحرب الأهلية، تأقلم الأمريكيون البِيض كثيرًا مع الاعتقادات القائلة بدُونية الأعراق الأدنى منزلةً (السود والهنود) التي لم يستطيعوا أن يَقبلوا أصحابها كمواطنين مساوين لهم. وبذلوا جهودًا ضخمة لإبقائهم مُنعزلين وأقل شأنًا، ونجحوا في ذلك إلى حدٍّ كبير حسبما توضِّح الإحصاءات التي أُعِدَّت حتى في وقتنا الحاضر حول رفاهية السود والهنود ومكانتهم الاجتماعية والاقتصادية (جونز ٢٠٠٩، ماكارتني ٢٠١١). على الجانب الآخر، بانتخاب باراك أوباما رئيسًا للولايات المتحدة، ومع حدوث كثير من التغييرات الاجتماعية، يرى الكثيرُ أن قوة أيديولوجية العرق في سبيلها إلى التراجع والانحسار داخل الولايات المتحدة، ويتوقع البعضُ زوالها تمامًا في كل مكان.
- ميا باي: في الواقع، لم تظهر كلمة «عِرق» حتى القرن الخامس عشر ولم تكن تعني ما نظنُّ اليوم أنها تعنيه، أو حتى ما كانت تعنيه في القرن التاسع عشر، آنذاك. بل بدأت كمفهوم عن النَّسب؛ عِرق المرء هو مَن يَنتسبُ إليهم، فأسرة المرء هي عِرقه، وعائلته الممتدَّة هي عِرقه.
-
ثيدا بيردو: من الأمور التي حدثت مع حلول عصر الاستكشاف أنَّ الأوروبيين
اضُطروا إلى التصدي لوجود بشر في العالم لم يكونوا يعلمون عنهم
شيئًا من قبلُ. وبذلك، كانت النتيجة أنهم تعيَّن عليهم تفسير
وجودهم. لا يتضمَّن سِفرُ التكوين معلوماتٍ واضحة في هذا الشأن.
بمعنى أن المرءُ يتعيَّن عليه التوسُّع قليلًا في تفسيره ليجد
تفسيرًا للأشخاص الذين يبدون مختلفين تمامًا عن الأوروبيين؛ ومن
ثمَّ شرَع الأوروبيون في البحث عن أسبابٍ لتفسير السبب، ليس فقط
وراء اختلاف هؤلاء الأشخاص عن الأوروبيِّين، وإنما أيضًا وراء
اختلاف أساليب حياتهم ومعتقداتهم.
لم يُفكِّر الناسُ في القرن السابع عشر في الاختلافات بين البشر بالطريقة التي يُفكرون بها في تلك الاختلافات في الوقت الحاضر؛ فقد كانوا على الأرجح يَميلون إلى التمييز بين المسيحيين والمُلحِدين أكثر من التمييز بين البشر البِيض البشرة وغيرهم ممَّن يختلفون عنهم في لون البشرة. بعبارةٍ أخرى، كانوا ينظرون إلى مكانة الشخص [الدينية] في الحياة على أنها أهم وأكثر محوريةً من لون الشخص أو من خلفيته المحدَّدة. وبذلك، أصبح مفهومُ الاختلاف موجودًا بالتأكيد لدى الأوروبيين في القرن السابع عشر، بيد أنه لم يكن مفهومًا مُناظِرًا للمفاهيم الحديثة عن العرق.
- جيمس هورتون: فَكِّر في الأمر لبُرهة من الوقت. إذا أجريت مقابلة مع أول عبدٍ يترجَّل من أول سفينة للرقيق في جيمستاون، لم يكن من سبيلٍ لأن يقول لك هذا الشخص: «إنني من أفريقيا.» بل كان سيُحدِّد أُمَّة، أو جماعةً إثنية أو عائلية أو سياسية. كان سيجد لديه شيئًا أكثر تحديدًا ليقوله بشأن هُويته.
- إيرا برلين: في القرن السابع عشر، يمكننا القول إن منطقة تشيسابيك كانت في الواقع مجتمعًا متعدِّد الأعراق؛ بمعنى أنها كانت مجتمعًا يعيش فيه الأمريكيون الأصليون مع الأفارقة والأشخاص ذوي الأصول الأوروبية. واختلطوا معًا بطُرقٍ شتى، وفعلوا أمورًا من قبيل ما يفعله الناسُ عندما يختلطون معًا؛ فكانوا يعملون معًا، ويلهون معًا، ويتخاصمون ويتشاجرون، ويتزاوجون.
- روبن كيلي: بمرور الوقت، انكسَرت تلك الروابط والتحالفات، ومع انكسارها، بات واضحًا أنَّ الكثير من البِيض الفقراء الذين يَنحدرون من أصولٍ أوروبية شَرَعوا في تمييز أنفسهم، إنْ لم يكن على أنهم من البِيض الأثرياء على نحوٍ مباشر، فبالتأكيد على أنهم بِيض البشرة … كوسيلة لتمييز أنفسهم عن الأشخاص ذوي البشرة الداكنة الذين ربطوهم في أذهانهم بالعبودية الدائمة.
- ميا باي: ثمة تقسيمٌ عِرقي يتبدَّى للعيان بدأ الناس يرونه أمرًا طبيعيًّا، ويُمثِّل جزءًا من الأساس الذي انبثقت عنه فكرة العرق. إنه مجرد استعداد لدى الناس لأنْ يروا علاقات السلطة القائمة على أنها تَخلَع عليهم ميزةً طبيعية من نوعٍ ما.
- روبن كيلي: والمشكلة التي كان يتعيَّن عليهم أن يحلُّوها هي كيف يُمكننا تعزيز التحرُّر، والحرية، والديمقراطية على جانب، ومنظومة استعباد البشر من غير البِيض واستغلالهم على الجانب الآخر.
- جيمس هورتون: والطريقة التي يتسنى بها لهم فعل ذلك هي أن يقولوا: «حسنًا، بيد أنك تعلم، ثمة شيءٌ مختلف بخصوص هؤلاء البشر. هذا الشأن برمَّته المتعلق بالحقوق غير القابلة للمُصادَرة … أمرٌ جيد لكنه لا يَنطبِق إلا على بعض البشر بأعينهم.»
- إيرا برلين: يتراءى لي أن الأمر الأكثر إيلامًا في هذه العملية أنَّ هؤلاء يُمثلون وجهَيْن لعُملة واحدة؛ أنَّ عملية تحديد مَن ينتمون إلى جانبٍ ما؛ هي أيضًا عملية تحديد مَن يُقصَون بعيدًا إلى الجانب الآخر.
- جيمس هورتون: يقدِّم توماس جفرسون بطرقٍ عديدة تجسيدًا لأمريكا؛ فهو شخصٌ صاحبُ فِكَرٍ جليلة، وقد دوَّن فِكَره تلك في وثيقة المجتمع الأمريكي المقدَّسة، وهي إعلانُ الاستقلال. وتلك هي الكلمات السِّحرية للمجتمع الأمريكي … فِكَرٌ جليلة وأهدافٌ سامية على نحوٍ رائع … لكن لم يكن جفرسون — شأنه شأن أمريكا — يعيش وفقًا لمبادئه. كان يَعلمها، وكان يَضيق ذرعًا بها. كان يعيش في نوعٍ من التشوُّش والبلبلة، في واقع الأمر، بين ما يقوله وما يفعله. إنه شخصٌ تعهَّد بالدفاع عن حرية الإنسان وفي الوقت نفسه احتفَظ بمائتي إنسانٍ كعبيد عنده. وكان يعلم أن ذلك تناقضٌ هائل.
أمريكا مثله تمامًا؛ وأعني بذلك أننا مجتمعٌ قائم على المبادئ وعلى استعدادٍ للموت حرفيًّا في سبيلها، وهي مبادئُ رائعةٌ لدرجة تجعل عينَيك تغرورقان بالدموع. بيد أننا مجتمعٌ يسمح لنفسه، في أغلب الأحيان، ألا يعيش وفقًا لتلك المبادئ.
(نُسخت بتصريح من كاليفورنيا نيوزريل.)
المراجع
-
Berlin, Ira:2003 Generations of Captivity: A History of African-American Slaves. Cambridge, MA: The Belknap Press of Harvard University Press.
-
Gordon-Reed, Annette:2008 The Hemingses of Monticello: An American Family. New York: W.W. Norton and Company.
-
James, C. L. R.:1989 The Black Jacobins: Toussaint L’Ouvrture and the San Domingo Revolution. Rev. 2nd edition. New York: Vintage Books.
-
Meillasoux, Claude:1991 [1986] The Anthropology of Slavery: The Womb of Iron and Gold. A. Dasnois, trans. Chicago: The University of Chicago Press.
أودري سميدلي: نشأة أيديولوجية العرق
-
Allen, Theodore W.:1994 The Invention of the White Race, vol. 1: Racial Oppression and Social Control. London: Verso.
-
Allen, Theodore W.:1997 The Invention of the White Race, vol. 2: The Origin of Racial Oppression in Anglo America. New York: Verso.
-
Fredrickson, George M.:2002 Racism: A Short History. Princeton: Princeton University Press.
-
Hannaford, Ivan:1996 Race: The History of an Idea in the West. Washington, D.C.: Woodrow Wilson Center Press; Baltimore: The Johns Hopkins University Press.
-
Jones, Stephanie J., ed.:2009 The State of Black America: Message to the President. New York: National Urban League.
-
Macartney, Suzanne:2011 Child Poverty in the United States 2009 and 2010: Selected Race Groups and Hispanic Origin. American Community Survey Briefs. United States Department of Commerce. http://www.census.gov/prod/2011pubs/acsbr10-05.pdf, accessed January 4, 2012.
-
Morgan, Edmund:1975 American Slavery, American Freedom: The Ordeal of Colonial Virginia. New York: W. W. Norton.
-
Morgan, Philip D.:1998 Slave Counterpoint: Black Culture in the Eighteenth-Century Chesapeake and Lowcountry. Chapel Hill: University of North Carolina Press.
-
Parent, Anthony S., Jr.:2003 Foul Means: The Formation of Slave Society in Virginia, 1660–1740. Chapel Hill: University of North Carolina Press.
-
Smedley, Audrey:2007 [1993] Race in North America: Origin and Evolution of a Worldview. 3rd edition. Boulder: Westview Press.
اختراع العرق (١٤٠٠–١٨٠٠)
-
Bennett, Jr., Lerone:1987 Before the Mayflower: A History of Black America. 6th edition. Chicago: Johnson Publishing Company.
-
Jefferson, Thomas:1955 [1787] Notes on the State of Virginia. 2nd edition. William Peden, ed. Chapel Hill: University of North Carolina Press.
-
Jordan, Winthrop D.:1968 White over Black: American Attitudes toward the Negro, 1550–1812. Baltimore: Penguin Books Incorporated.
-
Nash, Gary:1970 Red, White, and Black: Origins of Racism in Colonial America. In The Great Fear: Race in the Mind of America. Gary Nash and Richard Weiss, eds. New York: Holt, Rinehart and Winston.
-
Schiebinger, Londa:1993 Nature’s Body: Gender in the Making of Modern Science. Boston: Beacon Press.
-
Smedley, Audrey:1999 [1993] Race in North America: Origin and Evolution of a Worldview. 2nd edition.