مقدمة
(١) أليس العرق واضحًا من الناحية البيولوجية؟
لعلك سمعت ما يُقال عن أن العرق شيءٌ وراثي، أو بيولوجي، أو جسماني. فغالبية الأمريكيين يعتقدون أن هناك واقعًا ملموسًا لا يقبل الشك فيما يتعلَّق بالعرق، وأن العرق له أساسٌ خلقيٌ واضح؛ فالعرق في جيناتنا الوراثية، العرق أمر يبدو بديهيًّا؛ أمرٌ مؤكَّد وعلمي، العرق شيء مُتعارَف عليه عالميًّا، العرق حقيقةٌ واقعة. ولعلَّك قد تقبَّلت، دون كثير من التفكير، حقيقة أن العرق واقعٌ حقيقي بيولوجيًّا وقاعدةٌ علميةٌ عالمية بوصفها حقيقةً صحيحة لا تقبل الشك. إنه حقيقة! فالعرق موجود فحسب، شأنه شأن الهواء الذي نتنفسه.
ولكن الحقائق تختلف عما تُخبرنا به أعيننا.
إن الأشخاص، ببساطة، مختلفون. ونحن نرى هذا الاختلاف بأعيننا أولًا، ثم بواسطة القياس وأجهزة الميكروسكوب.
غير أن هذا لا يعني أن الأعراق حقيقية. إن التباين البشري أمر حقيقي، والعرق يعدُّ تفسيرًا لذلك التباين، ولكن لدينا تفسيراتٍ أفضل؛ فالتطور تفسير أكثر ديناميكية وملاءمة بكثير. ولكن لا تزال ثقافتنا تحافظ على فكرة أن العرق يفسر التباين كأثر من زمنٍ ما، ليس بعيدًا جدًّا، حين كنا نظن أن ما هو قائم اليوم كان قائمًا على الدوام. العالم لا يتغير، ولكنه يتطور، وتلك العملية التطورية تُفسِّر أوجه الاختلاف والتشابه فيما بيننا. أما العرق، على الجانب الآخر، فلا يحقِّق ذلك.
في الجزء الثاني، نستكشف التباين البشري، ونستكشف أنماطًا من الاختلافات والتشابهات من شخص إلى آخر ومن جماعة إلى أخرى. ونقوم بوصف الأنماط التي نلاحظها عبر المكان والزمان إلى جانب طرقٍ أخرى للنظر إلى الاختلاف. والسؤال الذي نطرحه هو: كيف نشأت تركيبة التبايُن البشري، أو تلك الأنماط التي نراها؟ في بعض الحالات، لا سيما فيما يتعلق بلون البشرة والخلية المنجلية، نستعين بوسائل التقصِّي العلمي لتوضيح كيف تؤدِّي التفاصيل الخاصة بالتطور والتاريخ إلى هذه الاختلافات المعروفة. بعد ذلك نستكشف أسباب كون العرق تفسيرًا معيبًا، بل ضارًّا.
ربما تَندهِش من كم الاختلافات الجسمانية، أو ما يُطلِق عليه البيولوجيون اختلافات النمط الظاهري الخارجية، فيما بيننا. إن البشر يأتون في مختلف الأحجام والأشكال؛ فتتباين ألوان البشرة، وكذا ألوان العين، ويَختلف الشعر في اللون والملمس. إن أعيننا ترى الكثير والكثير من الاختلافات، وخلف هذه الاختلافات الظاهرية تكمن اختلافاتٌ أكثر تتنوَّع بين الحجم والشكل ووظائف الأعضاء الداخلية، وحتى التغيرات الفردية في التركيبات الكيميائية للجزيئات، مثل البروتينات والدنا.
«ولكن هذه الاختلافات لا تندرج تحت العرق.»
ربما يتذكر البعض إعلانًا واسع التداول لشركة أمريكان إكسبريس، يظهر فيه ويلت تشامبرلين، لاعب كرة السلة السابق، والفارس السابق ويلي شوميكر. كان الاثنان متشابهَين في الملبس؛ إذ كانا يرتديان ثيابًا رسمية باللون الأبيض تحت السماء الزرقاء. وكان من بين الاختلافات العديدة بينهما لون البشرة والطول؛ فتجد ويلي قصيرًا وذا بشرة فاتحة، بينما ويلت طويل القامة وذا بشرة داكنة. يبرز شكل ٧-١ أيضًا شخصيتين من مشاهير عالم السلة؛ المُدرِّب جيف فان جاندي، مرتديًا حلته، وياو مينج، لاعب كرة السلة بزيه الرياضي ذي اللونين الأحمر والأبيض.
أمهل نفسك برهة لتتأمَّلهم وفكر بشأن جميع جوانب الاختلاف والتشابه بينهم. يُطلق جون بارلو ريد، وهو جيولوجي وأستاذ سابق بكلية هامبشير، على هذا التمرين «الصفحة ١». في الصفحة رقم واحد، يسعى الطلاب لوصف ما يرونه بأفضل ما يُمكنهم دون تنظير للتفسير الخاص بالحقائق التي يَصفونها. وغالبًا ما لا يكون من السهل «النظر» دون السعي إلى «التفسير».
يوجد العديد من التشابُهات، مثل التشابه في الملبَس، وعدد الأذرع والأرجل، وأشياء من ذلك القبيل مما نعتبرها من المسلَّمات. ولعلَّ أكثر الاختلافات وضوحًا هو الحجم، ولا سيما القامة. فتجد جيف قصير القامة، بينما ياو طويلٌ للغاية؛ إذ يزيد طوله على سبعة أقدام. كذلك يَختلف جيف وياو في ملمَس الشعر ولون الشعر والبشرة. وهذه الاختلافات الأخيرة، في منظومة التصنيف العرقي الأمريكية، تُعدُّ علامات على العرق. وكما أشرنا فيما سبق، فقد اكتسبت هذه العلامات البيولوجية معنًى أعمق؛ نظرًا لترسُّخها داخل دائرة من التفكير العرقي، وهي دائرة معيبة. ونظرًا لهذه الاختلافات، يُصنَّف جيف وياو عرقَين مختلفَين في الولايات المتحدة.
ولكن العرق لا يُفسِّر جميع الاختلافات المذهلة فيما بينهما. لا شك أن العرق لم يكن ليُفسِّر السبب وراء إجادة أحدهما للتدريب وإجادة الآخر للعب كرة السلة. يفسر الحجمُ بعضًا من ذلك ولكن ليس كله. وتلك السمات العرقية المزعومة، مثل لون البشرة وملمس الشعر، هي أيضًا مجرد أجزاء من نطاق التباين البشري الرائع. ولا توجد صلة تربط بين كيفية حدوثها — من خلال قصص التطور والتاريخ الرائعة — وبين ابتكار الإنسان للأنماط العرقية. وفي الفصول القادمة نروي قصة اثنتين من هذه السمات، هما لون البشرة والخلية المنجلية، اللتَين لا تُعدَّان من دلالات العرق، بل من معجزات التطور.
ما الذي نقصده — «وما لا نَقصده» — بتلك الجملة التقريرية القصيرة من أنَّ العِرق لا يُفسِّر التباين البشري؟ في هذا الجزء سوف نتناول بالبحث الافتراضات التالية:
-
فكرة العِرق فكرة حقيقية. ومثل جميع الفِكَر، فهي «حقيقية» من حيث إنها تؤثِّر على الفِكَر والأفعال. فنحن لا نرى كل شيء دون الشروع في التصنيف والسعي إلى الفهم وإيجاد معنًى. وقد كان العرق فئة ذات معنًى يومًا ما. إن الفِكَر من قبيل «الديمقراطية» و«التفوق» فِكَر قوية ذات تأثير، والعِرق مِن بين أقوى الفِكَر وأكثرها تأثيرًا.
-
يختلف البشر على المستوى البيولوجي، مثلما تُبيِّن أعيننا وأجهزتنا العلمية؛ فالتباين حقيقي أيضًا. وسوف نَستكشف هذا التباين على المستوى المرئي (النمط الظاهري) وكذلك على المستوى الجيني، وبنتائجَ مذهلةٍ.
-
التباين البشري شيءٌ حقيقي، ولكن فكرة العرق، كوسيلة لتفسير ودراسة التباين البيولوجي، تَفتقِر إلى الدقة واقعيًّا ونظريًّا وعَفَّى عليها الزمن. وكما يُصرِّح عنوان هذا الجزء، «العرق ≠ التباين البيولوجي البشري». والغرض الأساسي لهذا الجزء هو توضيح هذه «الحقيقة».
-
بالإضافة إلى ذلك، ما كنا لنصبح أفضل حالًا علميًّا واجتماعيًّا لو توقَّفنا عن استخدام العرق كمسئول عن التباين البشري البيولوجي واستخدمناه فقط كمُسمًّى اجتماعيٍّ ثقافي. إن فصل حقيقة التباين البشري عن فكرة العرق صحيح علميًّا ويُعدُّ في الوقت نفسه مسألة عدالة اجتماعية.
بعبارةٍ أخرى، العرق والتباين البشري البيولوجي كلاهما حقيقي، ولكن مِن نواحٍ مختلفة. فلا يُمكن لأحدهما أن يُختزَل في الآخر. لقد كان هناك ارتباط بين البيولوجي والاجتماعي، غير أن دراساتنا تُوضِّح لنا أن طريقة ارتباطهما — والتي تتمثَّل أساسًا في كون البيولوجي تفسيرًا للاجتماعي — خاطئة. وكما سنرى لاحقًا، فقد كان لفكرة العرق الاجتماعية خسائرُ بيولوجية فيما يتعلق بالصحة. ولكن الآن يمكننا أن ندفع بأن التباين البيولوجي البشري وفِكَر العرق الاجتماعية في حال أفضل في ظل الانفصال الكامل بينهما.
في الجزء الأول من هذا الكتاب رَوينا قصة كيفية اختراع فكرة العرق وكيف أصبحت حقيقية (انظر النقطة الأولى في قائمة التعداد النقطي الواردة بهذا الفصل). وفي هذا الجزء نصبُّ تركيزنا على النقطتين التاليتَين، اللتين تُوضِّحان أن التباين البيولوجي البشري حقيقي، ولكنه ليس مساويًا للعرق. وفي هذا الإطار نعمل على إيقاع الطلاق بينهما نظرًا لوجود اختلافات لا يُمكن تجاوزها بين فكرة العرق وحقيقة التباين البيولوجي البشري. لقد كان ولَعُ أحدهما بالآخر بمنزلة علاقةٍ غراميةٍ مُراهِقة لا أكثر، وعندما عاشا معًا، صارت حياتاهما متشابكة ومُتداخِلة. ولكن حين صارا يافعَين، صار كلٌّ منهما بعيدًا عن الآخر على نحو يتعذَّر معه إحداث أي توافق. لقد حان الوقت لقطع الحبل الأيديولوجي الرابط بينهما.
إذن، لماذا نَعتبِر هذا اختلافًا خطيرًا؟ لم هذا الطلاق البارد؟
من الدروس الأساسية المستقاة من دراسة كلٍّ من العلم (الذي يُعد نوعًا من الثقافة) والمجتمع؛ أن الفِكَر ذات قوةٍ مؤثرة. والعرق، بالطبع، من بين أقوى الفِكَر تأثيرًا على مر العصور. والاعتقاد هنا بأن العرق والتباين البيولوجي البشري مُتشابهان إلى حدٍّ كبير هو جزء من التاريخ العميق والمؤلم دائمًا للعرق والعرقية.
إن هذا الربط بين العرق والتباين البيولوجي البشري ليس سوى السلاح الأساسي للعُنصريِّين. ولا شك أن تحقيق هذا الربط مُتعمَّد في جزء منه وتصادفيٌّ في أجزاءٍ أخرى. وبمجرد أن ترسَّخ هذا الربط، أمكن استغلاله من قِبَل علماء عنصريِّين وآخرين كانت لديهم نية عميقة لاستغلاله لدعم العبودية والمؤسَّسات الأخرى القائمة على العرق. ولكن يظلُّ الأهم أن سحابة الضباب العرقية قد دفعَت كثيرين لاعتبار المؤسسات العرقية طبيعية، وبدلًا من مناهضة العنصرية، ساعدنا العنصرية وشجَّعناها. وقد حان الوقت لتعطيلها وتجريدها من سلاحها.
لسنا من السذاجة لكي نعتقد أننا سنقضي على العنصرية تمامًا بفصل فكرة العرق عن التنوع البيولوجي البشري، لكن الفِكَر ذات قوةٍ مؤثرة، ومن خلال توضيح أن العرق ليس كالتبايُن البيولوجي البشري، فإننا بذلك نُقوِّض واحدة من العقائد الأيديولوجية الأساسية للعنصرية.
فكِّر في الأيديولوجية كأنها سلاحٌ مملوء بالطلقات. لقد حان الوقت لإخراج تلك الطلقات واحدة تلو الأخرى.
في هذه المقدمة للجزء الثاني سوف نعرض نقطتين أساسيتين هما: (١) أن البشر متباينون بيولوجيًّا بالفعل، و(٢) أن تفسير هذا التباين هو التطور (وليس العرق). بعد ذلك، في الفصول الثلاثة المؤلِّفة للجزء الثاني، سوف نستوفي التفاصيل من أجل فهمٍ أكثر استيفاءً للاختلافات الأساسية بين العرق «كفكرة»، وبين التباين البيولوجي البشري كمجموعة من السمات القابلة للقياس والقابلة للخضوع للبحث والتقصي العلمي.
(٢) البشر مختلفون بيولوجيًّا بالفعل
تأمَّل هذه التجربة الفكرية. أنت جالسٌ بارتياح في غرفة، إنها غرفةٌ كبيرة مثل صالة للألعاب الرياضية. يَدخل مائتان من أعضاء نوعك (الإنسان العاقل الحديث)، واحدًا تلو الآخر، مائة منهم قادمون من نيروبي، كينيا، والمائة الآخرون يَنحدِرون من أوسلو، بالنرويج؛ أي يفصل بينهم حوالي ٧١٠٩ كيلومترات. فور دخولهم الغرفة، يَصطفُّون بمحاذاة الجدران ويُمكنك أن تُحرِّكهم وتُنظِّم ترتيبهم عبر الغرفة بأيِّ طريقة شئت. ومهمَّتك بسيطة: أن تضع تخمينًا مدروسًا لتحديد مَن هو قادم من نيروبي ومن هو قادم من أوسلو.
سرعان ما تُلاحظ أن الأفراد مختلفون في لَون البشرة، وكذا لون العين ولون الشعر. بل إنك تشعر بأن ثمَّة مجموعتين من الأفراد، إحداهما ببشرةٍ فاتحةٍ شاحبة وشعرٍ فاتحٍ منسدل، والأخرى ذات بشرةٍ داكنةٍ مائلة إلى اللون البنِّي وشعرٍ داكن ومجعَّد. وتلاحظ أيضًا مجموعةً مُتنوِّعة من الأحجام والأشكال؛ الطويل والقصير، النحيف والممتلئ. ولكن لا يبدو أن هذه الاختلافات في الحجم مرتبطة باختلافات اللون، فتكفَّ عن التركيز عليها. وبالطبع تُخمِّن أن ذوي البشرة والشعر الفاتحَين مِن أوسلو، وأن أولئك ذوي البشرة والشعر الأكثر دُكنةً مِن نيروبي. وتكون شبه واثق من أنك على صواب. وتُوضِّح الصور اختلافاتٍ جلية، في النوع الاجتماعي، والملبس، والشكل الجسماني. في الواقع ربما تكون مُصيبًا تمامًا، فقد وُضع الجميع في خانةٍ تصنيفيةٍ معينة، وتم تصنيفهم على نحوٍ صحيح.
ما الذي أثبَتَه هذا؟ إن الإثبات يتأتَّى فقط مع التأكيد المُتكرِّر للنتائج؛ لذا فإن هذا لا يُثبِت الكثير من الناحية الفنية، فيما عدا أنك قد أدَّيتَ عملًا رائعًا في هذا اليوم في فصل أفراد من موقعَين مختلفَين تُباعد بينهما آلافُ الأميال. على الرغم من ذلك، سوف تتَّفق الأغلبية على أنه يُبيِّن أن الأنماط الظاهرية البشرية تتباين جغرافيًّا على ما يبدو. فالأنماط الظاهرية، والتي تُعرَّف بأنها النتيجة القابلة للقياس للتفاعل بين الجينات والبيئة، تميل للاختلاف حسب الموقع. بل إن الأنماط الجينية، والاختلافات في الألائل، والاختلافات على مستوى المجموع الجيني أو الجينوم، كما سنرى لاحقًا، تختلف أيضًا حسب الموقع، ولكن الأمر المُثير هنا أنَّ بعض جوانب النمط الظاهري، لا سيما لون البشرة، التي نَستطيع نحن البشر أن نراها جميعًا، تتغَّير على نحوٍ خاصٍّ حسب الجغرافيا على ما يبدو.
إذا كان قد سبق لك شراء منزل، فلا شك أنك قد لاحظتَ أن بعض المنازل أكثر تَكلفة من الأخرى؛ فمساحة المنزل أمرٌ مهم شأنها شأن الجودة. ولكن العاملين في مجال العقارات لهم رأيٌ آخر؛ فحين يتعلَّق الأمر بالسِّعر، تجد الوكلاء العقاريين مولَعين بقول: «الموقع، ثم الموقع، ثم الموقع.» فأهم ثلاثة عواملَ فاصلةٍ في تحديد تكاليف السكن هي الموقع «والموقع والموقع».
الشيء نفسه يَسري على التنوع البيولوجي البشري؛ فالموقع يحدد الاختلاف. وسوف نُركِّز في الفصلين العاشر والحادي عشر على كيفية اختلاف القوى التطورية وفقًا للجغرافيا، وأنها القوة المحرِّكة التي تقف خلف الاختلاف الجغرافي الذي نراه.
(٣) التباين ≠ العرق
لو أنك عشتَ خلال القرن الثامن عشر أو التاسع عشر، لم يكن ليَتوافر لديك أيُّ بديلٍ معرفي، أو إطارٍ مفاهيمي سوى الاعتقاد بأن التباين البيولوجي الذي تلاحظه في الشارع، أو في عيادتك الطبية، أو حتى درسته في معملك لا يختلف إطلاقًا عن العرق. لقد كان التبايُن البشري يندرج تحت العرق؛ فقد كان العرق هو وسيلتك الوحيدة لوصف التباين وتفسيره؛ لذا بطبيعة الحال، وبالعودة مرةً أخرى لاستخدام استعارة الأداة، يستخدم المرء مطرقةَ العِرق للطَّرق على مسمار الاختلاف وتثبيته. وقد بذلتَ أقصى ما لديك بهذه الأداة. وأينما تتعطَّل المطرقة عن العمل، مؤدية إلى ثنْي المسمار في الغالب، كنت تكتفي بتجاوُز الموقف وتتجاهل أنها لم تعمل، وتلتقط مسمارًا آخر. إن هذه النزعة الطبيعية لا تختلف عن تجاهل التباين في الحجم لأنه لا يُساعد في تحديد مَن كان مِن أوسلو؛ فقد أصبحَت فكرة العرق ذات وجودٍ مادي وتحوَّلت إلى وحدةٍ واحدة مع حقيقة التبايُن البيولوجي. نحن لا نرغب في الإيعاز بأن القيام بهذا كان مُؤامرةً مدبَّرة، ولكن من الواضح أن القيام بهذا ساعد على تبرير أنظمة الظلم واللامساواة، مثل العبودية، بل وحتى الفروق المُعاصرة في الثروة. وقد ساعَدَ بناء مثل هذه الاختلافات على إيمانٍ مغلوط بمواضع النقص والتفوق البيولوجية؛ على جعلها تبدو أقل غبنًا.
لا يزال العديد من العلماء والغالبية العظمى من غير العلماء (من الساسة، والمعلمين، وجامعي القمامة … وهكذا) يُفكِّرون بهذا الأسلوب. فقد صرَّحت اختصاصية الأنثروبولوجيا البيولوجية أليس بروز لصحيفة نيوزويك بأن: «إذا هبطتُ بمنطاد في نيروبي، أعلم أنني لست في أوسلو.» وثمَّة مُتخصصٌ آخر في الأنثروبولوجيا البيولوجية، وهو فينسنت سريتش، كان يقول إن التجربة التي فُصِل فيها النرويجيُّون عن الكينيين تُثبت أن العرق أمرٌ حقيقي.
غير أن التبايُن الذي لاحظتُه للتو — الذي منحنا انطباعًا قويًّا بأنه بديهي وواضح — «ليس» عرقًا. لماذا لا يُعدُّ كذلك؟ الإجابة المختصرة هي أن فكرة العرق تصفُ التباين البيولوجي البشري وتُفسِّره على نحوٍ غير وافٍ. وفيما يلي خمسة أسباب رئيسة تُفسِّر لماذا لا يتشابه العرق مع التباين البشري:
-
(١)
«التطور، وليس العرق، يفسر التباين البيولوجي البشري.» تقوم فكرة تشابُه العرق مع البيولوجيا على الفكرة الخاطئة بوجود أنماطٍ راسخة، ومثالية، وثابتة. لقد كانت الفئات العرقية في البداية فكرةً شعبيةً أوروبيةً قادمة من عصرٍ كان يُنظر فيه إلى العالم بوصفه عالمًا ثابتًا ولا يتغير. وكما هو موضَّح في الفصل الرابع، كان العلماء الأوروبيُّون يعتقدون يومًا ما أن العالم ثابت وجامد. وقد تغيَّر كل ذلك بفضل نظرية التطور؛ فقد كان وَهمُ الأنماط العرقية الثابتة متناقضًا تمامًا مع نظرية التطور.
-
(٢)
«التباين البشري مُستمر.» تميل تواتُرات الألائل، أو التباينات في الدنا، إلى الاختلاف تدريجيًّا؛ لذلك «لا يوجد مكانٌ واضح لتحديد مكان بدء عرق ومكان انتهاء آخَر.» فلون البشرة، على سبيل المثال، الذي يُعدُّ أكثر السمات الجسمانية التي نستخدمها لتمييز «الأعراق»، يتغيَّر ببُطء من مكان إلى مكان، ومن شخص إلى شخص.
إذا تأتَّى لشخصٍ ما أن يسير من النرويج إلى نيجيريا، فسوف يُصادف تغيُّراتٍ بطيئةً وتدريجية في لون البشرة. ولا مجال لتحديد مَوضِع انتهاء البشرة السوداء وموضع بدء درجات البشرة الفاتحة على نحوٍ واضح. فالتبايُن مُتواصِل.
ونفس ما يسري بشأن التبايُن المُعتدِل بين الجماعات يسري أيضًا على التباين داخل الجماعات. نَظِّم مجموعةً من الأفراد في صفٍّ حسب الطول وسترى أن التبايُن في الأطوال مُتواصِل. مزيد من التوضيح للتباين المُتواصِل في الطول في النص داخل المربع.
-
(٣)
«التباين البيولوجي البشري يتضمن العديد من السمات التي عادةً ما تتغير على نحوٍ مستقل.» لا يرتبط لون البشرة، على سبيل المثال، إلا ببعض السمات القليلة الأخرى، مثل لون الشعر والعين، تاركًا عددًا ضخمًا من السمات الأخرى خارج نطاق التوقُّعات. فبينما قد تكون لدينا القدرة على التنبؤ بأن الشخص ذا البشرة الفاتحة أكثر ميلًا لأن يكون ذا شعرٍ فاتح، فإننا لا نستطيع التنبُّؤ بأيِّ سماتٍ أخرى تقريبًا. وهكذا يُصبح من الحقائق البديهية أن «العرق مجرد شيءٍ سطحي.»
يقدم شكل ٧-٥ تمثيلًا مرئيًّا لظاهرة استقلال السمات تلك، وقام بوضعه في الأساس باول إرليش وريتشارد هولم (١٩٦٤). تخيَّل أن هناك أربع سمات ممثَّلة بأربع طبقات. افترض في هذه الحالة أن لون البشرة يأتي في الطبقة العليا، يليه لون العين والشعر وشكل الشعر. غير أنه مِن المُمكن اختيار أيِّ سماتٍ أخرى، وبالطبع يوجد آلاف السمات للاختيار من بينها، تتراوَح من البسيط إلى المعقَّد. اعتبر «الأعمدة» الأربعة إما أفرادًا أو مجموعات. يتميَّز الاثنان إلى اليمين بلون بشرة فاتح، ولكنهما يَختلفان في السمات الأخرى. ويُعزى هذا إلى أن الطبقة العليا، أو لون البشرة، لا تتنبَّأ بالتباين في السمات/الطبقات الأخرى؛ فلون البشرة مستقلٌّ بذاته عن معظم السمات الأخرى.
-
(٤)
«التباين الجيني «داخل» ما يُسمَّى بالأعراق أكبر بكثير من التبايُن فيما «بينها».» قد يَعتقد المرء أن التباين الجيني بين الأعراق كبير؛ غير أنه في الواقع لا يوجد سوى اختلاف جيني محدود بين الجماعات التي صرنا نُطلق عليها أعراقًا. على سبيل المثال، قد يكون هناك اختلافٌ على المستوى الجيني بين فردَين قد يُصنَّفان ﮐ «بيض» أكبر بكثير من التباين بينهما وبين شخص مصنَّف من «السود». علاوةً على ذلك، بدلًا من اعتبار الأوروبيين والآسيويين «أعراقًا»، قد يكون من الأدقِّ أن ننظر إليهم كمجموعاتٍ متفرعة من الأفارقة مختلفة في الشكل؛ إذ إنَّ بني البشر مُنحدِرُون من بشرٍ يَعيشون على أرض تلك القارة. وفي ضوء هذه الحقائق الوراثية، يَعجز العرق ببساطة عن تبرير التباين الجيني فيما بيننا. وهذه الظاهرة موضَّحة تفصيليًّا في الفصول اللاحقة.
-
(٥)
«لا يُمكن تصنيف البشر دومًا وفقًا للعرق.» من المستحيل إيجاد تعريفٍ ثابت وشامل للجماعات العرقية، وإذا لم يكن بالإمكان تعريفُ الجماعات، فلا يُمكن وضع تعميماتٍ علمية بشأنها؛ فالجماعات العرقية غير مستقرة في المقام الأول؛ نظرًا لتغيُّر الخط اللوني المحدَّد اجتماعيًّا عبر الزمان والمكان. فالشخص الذي يُعتبَر «أبيض» في البرازيل يُمكن اعتباره «أسود» في الولايات المتحدة؛ والشخص الذي يعيش بوصفه «أبيض» في الولايات المتحدة اليوم ربما كان يُعتبر «مكسيكيًّا» قبل جيلٍ مضى. ويُصنَّف أطفال طائفة الروما والرضَّع الآخرون «ذوو البشرة الداكنة» في رومانيا كمُواطنين أدنى درجة، بل وحتى «سود» وغالبًا ما كانوا يُعرضون للتبنِّي في زمن سقوط النظام الشيوعي. وفي الولايات المتحدة؛ حيث كان الأزواج البيض يُطالبون بتبنِّيهم بشدة، كان هؤلاء الأطفال يُعتبَرون «بيضًا». فقد كان تصنيفهم العرقي خاضعًا تمامًا للدولة. ولما كان لا يوجد وسيلة ثابتة ودائمة لتصنيف التنوُّع البيولوجي البشري باستخدام الفئات العرقية، فلا يُمكننا الاستعانة بهذه الفئات لقول أيِّ شيءٍ علمي بشأن التنوع البيولوجي البشري.
ملخص
ثمَّة عدد من الأسباب المترابطة تدفَع بنا إلى حثِّ القارئ بقوة على إعادة التفكير بشأن العلاقة بين فكرة العرق وبنية التباين البشري. فلأسبابٍ نظرية، ولأسبابٍ عملية، وأخرى علمية، يَعجز العرق عن تفسير أو وصف التباين البشري. والنتيجة المترتِّبة على استخدام العرق على نحوٍ غامض هي أن الأفراد غالبًا ما يتَّجهون نحو اتخاذ موقفٍ اعتيادي بتقبُّل فكرة أن العرق له صلة بالوراثة والتطور؛ ومن ثم يُمكن تفسير التفاوت في الصحة وجوانب الحياة الأخرى بناءً على علم الوراثة العرقي. ولكن هذا غير صحيح على المستوى النظري والواقعي. فيبدو الآن أنَّ ارتفاع ضغط الدم لدى جماعات الشتات الأفريقي، على سبيل المثال، (انظر الفصل السادس عشر) يَرتبط بطرُق فهم الاختلاف والديناميات الاجتماعية للون البشرة أكثر مما يَرتبط بالبيولوجيا الكامنة وراءه. وبالطبع لا يُعبِّر لون البشرة عن العرق. علاوةً على ذلك، فقد أعاق التركيز على العرق كشيءٍ وراثي إجراء استكشافٍ وافٍ لعَواقِب التفكير العرقي والعرقية.
في فصول الجزء الثاني نَستكشِف التفاصيل الخاصة بكيفية حدوث التباين في الخلية المنجلية ولون البشرة، وما الذي تَعنيه التوزيعات الجغرافية العالمية لهذه السِّمات. بعدها سوف نَستكشِف تفصيلًا البِنية الأساسية للتبايُن الوراثي البشري، ذاكرين بعض النتائج المُدهِشة.
الطول، والتاريخ، والتباين البشري
ليس كل الاختلاف مرتبطًا بالعرق؛ فبعض التبايُن، مثل الطول، يختلف حسب المجموعة؛ غير أن الشيء اللافت هو درجة التبايُن في الطول والمُتغيِّرات الأخرى الخاصة بالحجم داخل الجماعات. كذلك وجَد علماء الآثار والمؤرِّخون أن الطول يتباين أيضًا عبر العقود، والقرون، والألفيات. ولا غرابة في أنهم قد وجدوا أن الأطوال تتغيَّر مع ازدهارِ وتدهورِ التغذية، والصحة، والظروف المعيشية الأخرى. فهي بمنزلة مقياسٍ بيولوجي لنوعية الحياة. ويُعدُّ الطول مثالًا لسِمَةٍ معقَّدة لها العديد من المسبِّبات الجينية والبيئية.
يأتي البشر في جميع الأحجام. وقد تغيرت أطوالنا، تاريخيًّا، بناءً على الظروف المعيشية. ومن الواضح أيضًا أن هناك قدرًا كبيرًا من التبايُن داخل أيِّ مجموعة بشرية.
يعدُّ الطول أحد جوانب التغيير التي تُظهِر بوضوح فكرة أن التباين مُتواصِل ومستمر. ويبين شكل ٧-٧ ثلاث طرُق للنظر إلى اختلاف الطول. في شكل ٧-٧أ يَظهر ثلاثة أفراد من الجانب. بإمكانك أن تميِّز بوضوحٍ الشخص القصير القامة عن الشخص المتوسِّط والطويل. ولكن مع إضافة أفرادٍ آخرين، في شكل ٧-٧ب، وشكل ٧-٧ﺟ، يُصبح تحديد موضع الخط الفاصل بين الأفراد أكثر صعوبة؛ فالطول يتحوَّل من سمةٍ متفردة ذات اختلافاتٍ واضحة بين المجموعات إلى سمةٍ متواصلة. وفي الحالة الأخيرة يُصبح من الصعب تحديد مكان وضع الحد الفاصل بين الطويل والقصير على نحوٍ قاطع.
ملاحظات ختامية
التباين أمرٌ رائع. غير أنه لا يَنطبِق على فكرة العرق؛ فالتباين، كما أشرنا من قبلُ، مُتواصِل دون فترات انقطاعٍ واضحة. ونمط التباين في سمةٍ ما يُعدُّ مؤشِّرًا ضعيفًا للتباين في سمةٍ أخرى؛ ومن ثم فنحن حقًّا مخلوقات معقَّدة. فلا يُمكنك أن تحدِّد الكثير من أيِّ سمة بمُفردها.
المراجع
-
Ehrlich, Paul, and Richard Holm:1964 A Biological View of Race. In The Concept of Race. Ashley Montagu, ed. pp. 153–179. New York: Free Press of Glencoe.
مصادر أخرى
-
American Anthropological Association:1998 AAA statement on race. Anthropology Newsletter, September. p. 3. (www.aaanet.org/stmts/racepp.htm.).
-
AAPA (American Association of Physical Anthropologists):1996 AAPA Statement on Biological Aspects of Race. American Journal of Physical Anthropology 101: 569-570.
-
Brace, C. Loring:1964 A Nonracial Approach Towards the Understanding of Human Diversity. In The Concept of Race. Ashley Montagu, ed. pp. 103–152. New York: Free Press of Glencoe.
-
Diamond, Jared:1994 Race Without Color. Discover 15(11): 82–89.
-
Goodman, Alan:1997 Bred in the Bone? Sciences 37(2): 20–25.
-
Loveyoy, A. O.:1936 The Great Chain of Being. Cambridge, MA: Harvard University Press.
-
Marks, Jonathan:1995 Human Biodiversity: Genes, Race, and History. New York: Aldine de Gruyter.
-
Montagu, A.:1963 Race, Science and Humanity. New York: Van Nostrand.
-
Montagu, A.:1964 Man’s Most Dangerous Myth: The Fallacy of Race. Meridian Books: New York.