شيء سطحي؟
(١) الحياة تحت الشمس: توازنٌ تطوريٌّ
تنشأ التبايُنات في ألوان البشرة من الفاتح إلى الداكن بين الجماعات السُّكانية المُتجاوِرة وكذا الأفراد، على ما يبدو، مِن اختيار الحياة تحت الشمس. إنه انتصار للتطور الإنساني وقصة تتكشَّف خيوطها …
(٢) الشمس: العامل المحفِّز
تُنظِّر أخصائية الأنثروبولوجيا التطورية نينا يابلونسكي وآخرون (طالع مقالها الوارد بهذا الفصل) لأنَّ ألوان البشرة المختلفة قد تطورت من أجل تعويض الحاجة إلى الفولات وفيتامين د. يتفاوت كم أشعة الشمس التي يتعرَّض لها الأشخاص حسب المناطق التي يَقطنون بها. فالبشرة الأكثر دُكنة تُثبِّط امتصاص المزيد من الأشعة فوق البنفسجية المدمِّرة للفولات. أما البشرة الأفتح لونًا، فتسمح بامتصاص المزيد من الأشعة فوق البنفسجية، وتُتيح لك تصنيع المزيد من فيتامين د. ووفقًا لنظرية يابلونسكي الرائعة، يعدُّ لون البشرة لدى أي مجموعة من السكان مصدر توازن بين الحاجة إلى حماية الفولات والحاجة إلى إنتاج ما يكفي من فيتامين د من أجل النمو والحفاظ على هيكلٍ عظميٍّ صحي.
تكيَّفت فصيلة الأناسيات (البشر الأوائل) مع ضغوطٍ انتقائية جديدة عندما انتقلوا من بيئات السافانا الشجرية إلى بيئات السافانا الأكثر دفئًا. على سبيل المثال، أدى ازدياد درجة الحرارة إلى فقدانهم الكثير من شَعر رءوسهم (عدا مناطقَ معينة مثل أعلى الرأس)، واكتساب القدرة على إفراز العرق. بعدها بفترةٍ وجيزة ربما يكونون قد اكتسبوا بشرة أكثر دُكنة أيضًا.
وتشير الأدلة الحفرية والجينية إلى أن البشر الأوائل عاشوا في أفريقيا منذ ما يتراوح بين ١٥٠ ألف و٢٠٠ ألف عام. وأغلب الظن أن بشرتهم قد اكتسبَت صبغةً داكنة من أجل حمايتهم من التعرُّض بمعدَّلٍ مرتفع إلى الأشعة فوق البنفسجية. أما السكان الذين هاجروا من خط الاستواء واستقروا عند خطوط عرض أعلى حيث يقلُّ التعرُّض إلى الأشعة فوق البنفسجية، فقد اكتسبوا بشرةً أفتح على مدار عشرات الآلاف من السنين. وتُعدُّ الطبيعة التدرجية للتغير في لون البشرة عبر المناطق الجغرافية المتجاورة مثالًا لتبايُن مُتواصِل في سِمةٍ ما.
(٣) لون البشرة
يأتي جلد الإنسان في مجموعة من الألوان، وإن كانت تلك المجموعة تُغفل العديد من الألوان المثيرة. فلدينا الكثير من درجات البنِّي والبُرونزي، ولكن لا توجد درجات من الأزرق والأخضر. ولا توجد مخلوقات كثيرة تَحمل ألوان بشرة بدرجاتها الأساسية مثل الأزرق أو الأحمر. ويَحوي النطاق الكثير من درجات الأبيض، والكريمي، والأسود، والبني؛ ولكن ذلك لا يعوق أعينَنا عن ملاحظته أو يعوق ثقافتنا وأدمغتنا عن إيلاء اهتمامٍ كبير به.
ثمَّة سببٌ بيولوجيٌّ بسيط لتبايُن لون البشرة؛ ألا وهو أنه يرتبط بالأساس بكم «الميلانين» في الطبقات الأعمق من الجلد. فعبر مسار التطور، ربما يكون إنتاج البشر من الميلانين قد زادَ للوفاء بالحاجة البيئية الجديدة للتعرُّض على نحوٍ أكبر للأشعة فوق البنفسجية. ولعلَّ هذا قد ارتبط بفقدان الشَّعر من أجل توزيعٍ أفضل لفقدان الحرارة في المنطقة الاستوائية. يتمُّ إنتاج الميلانين عن طريق خلايا تسمى «الخلايا الميلانينية» توجد أسفل الطبقات الخمس للبشرة (الجلد الخارجي)، والمعروفة بالطبقة القاعدية. يوجد الميلانين أيضًا في العينين (في الحدقة)، وبصيلات الشعر. والشكل الأكثر شيوعًا (الميلانين السوي)، ولونُه بنيٌّ داكن، مسئول بالأساس عن الكثير من التبايُن الذي نراه في لون البشرة ما بين الداكن والفاتح.
(٤) لون البشرة والشمس والتطور
تُعزى جميع ألوان البشرة، سواء كانت داكنةً أو فاتحة، ليس إلى المفهوم الجامد للعرق، بل إلى تكيُّف الإنسان المُتواصِل مع الحياة تحت الشمس.
لمَ كلُّ هذه الأهمية التي تحظى بها أشعة الشمس؟ مثلما توضِّح يابلونسكي (طالع مقالها في هذا الفصل)، كان العلماء في وقتٍ ما يَفترضون أن اختلاف لون البشرة هو نتاج التعرُّض إلى حرارة وبرودة مُفرطتَين.
عُرف عن البشرة الداكنة منذ وقتٍ طويل ارتباطها بتزايُد التعرُّض لِلَسعة الصقيع، وبقدر ما قد يبدو هذا خطيرًا، فإنه مِن غير المُحتمَل أن يُشكِّل ضغطًا حقيقيًّا على التطور. فرغم كل شيء، لدينا قفازات وأحذيةٌ طويلة، وسُكان الإسكيمو، الذين لا يَحظون ببشرة فاتحة على نحوٍ خاص، يعيشون في بعضٍ من أكثر البيئات برودة. والواقع أن الإسكيمو يُشكِّلون لغزًا تطوريًّا مثيرًا فيما يتعلق بلون البشرة؛ فهم يقطنون واحدًا من الأماكن الواقعة في أقاصي الشمال، إلا أن لون بشرتهم ليس فاتحًا كما كان للمرء أن يتوقَّع لو كانت درجة الحرارة أو دائرة العرض هي السبب الأساسي وراء التباين في لون البشرة. دعنا نُرجئ الإجابة عن هذا اللغز لبرهة. إن البشرة الفاتحة، مثلما قد يكون طبيب الأمراض الجلدية أو والدتُك قد حذَّراك، عُرضة لحروق الشمس وسرطان الجلد، أو الميلانوما. ومهما بلغت حدة هذا النوع من السرطان، فإن من المُستبعَد أن يَقتلك في سنٍّ مبكرة، والسن المبكرة هي السن التي يعمل فيها التطور بأقصى درجة.
ويقودنا ذلك إلى مشكلات التغذية في مرحلة الطفولة. إنَّ نقص الفولات واحد من المسبِّبات الأساسية للعيوب الخلقية لدى الأطفال اليوم؛ فالفولات، وكذلك فيتامينات ب الأخرى، ذو أهميةٍ بالغة للتكوين الصحيح للجهاز العصبي المركزي؛ ولذلك فمِن غير المُستبعَد أن يكون نقص الفولات قوةً انتقائيةً شديدة.
بالمثل، نحن نعلم أن نقص فيتامين د يُسبِّب مرض الكساح لدى الأطفال، وهو أحد أمراض التغذية (انظر شكل ٨-٧ وشكل ٨-٨). يؤدِّي الكساح إلى تقوُّسٍ ملحوظٍ للساقين، وفي شكله الحاد يُمكن أن يؤدِّي إلى تكوين مشوَّه للحوض؛ مما يُسبب صعوبةً حادة لدى النساء المُصابات بهذه الحالة في الولادة، ما يعني أن المشكلات التناسُلية واضحة. علاوة على ذلك، يعدُّ كساح الأطفال من الأمراض المعروفة التي توجد، على سبيل المثال، بين أبناء الفقراء في إنجلترا في العصر الفيكتوري، الذين كانوا يعملون في المحالِّ والمصانع طوال النهار ولا يتعرَّضون لضوء الشمس إلا قليلًا.
يتَّسم السكان الأصليون لألاسكا وكندا ببشرة أكثر دُكنة مما قد نتوقَّع. ويُعزى هذا إلى سببَين؛ الأول أنهم يتعرَّضون لمعدلاتٍ مرتفعة من الأشعة فوق البنفسجية خلال فصل الصيف، والتي تنعكس من سطح الثلج والجليد، وبشرتهم الداكنة تُمثِّل حماية لهم من هذا الضوء المنعكس. أما السبب الثاني، فيتمثل في أنه على الرغم من أن بشرتهم الداكنة تبطئ عملية إنتاج فيتامين د في الجلد، فإن هذه المشكلة يُعوِّضها نظامهم الغذائي التقليدي، الذي يتألَّف بالأساس من أطعمة غنية بفيتامين د، مثل الفقمة، والفظ، والسمك.
قياس لون البشرة
من السهل ملاحظة لون البشرة. غير أن قياسه على نحوٍ قابل للقياس والتكرار ليس بهذه السهولة. فالبشر يتبايَنون في لون البشرة على نحوٍ موسمي. فالرضَّع يتميَّزون ببشرةٍ فاتحة تزداد دُكنة مع التقدم في العمر. وثمة أجزاء معينة بالجسم، مثل راحة اليد، تتميز ببشرة أفتح من أجزاء الجسم الأخرى.
حتى أواسط القرن العشرين، لم يكن هناك وسيلة عليها إجماع واسع لقياس لون البشرة، وكان مُعظم علماء الأنثروبولوجيا يُصنِّفون الجماعات ببساطة في فئاتٍ عرقيةٍ تقريبية: فاتح، بني، أسود … إلخ. وفي مرحلةٍ ما تمَّ الاستقرار على استخدام الجزء الداخلي من الذراع كموضعٍ موحَّد لتقييم لون البشرة.
كان من بين المحاوَلات التي بُذلت لتوفير مقارنةٍ أكثر موضوعية تلك التي قام بها عالم الأنثروبولوجيا النمساوي فليكس ريتر فون لوشان. وضع فليكس فون لوشان مجموعة من ٣٦. مربعًا لونيًّا لا تَختلِف عن تلك التي يستخدمها مُصمِّمو الديكور وعمال الطلاء اليوم. حينئذٍ أمكَنَ مُقارنة لون بشرة الفرد بالمربَّعات اللونية اﻟ ٣٦ (انظر شكل ٨-٩). تقدَّمْ وجرِّب. لسوء الحظ، ومثلما قد تكتشف، تبدو معظم الألوان الفاتحة متشابهة إلى حدٍّ كبير، ومن الصعب الحصول على نفس القياس في كل مرة تستخدم فيها مقياس فون لوشان اللوني.
أما اليوم، فيستطيع الباحثون قياس لون البشرة بمزيد من الدقة من خلال قياس النسبة المِئَوية للضوء المنعكس من الجلد. ويُطلَق على هذه التقنية اسم قياس الطيف الضوئي لانعكاس الضوء، وتُنفَّذ بالاستعانة بجهاز قياس الطَّيف الضوئي للانعكاس (شكل ٨-١٠). تعكس البشرة الأفتح مزيدًا من الضوء. ولعلَّ من الأمثلة الرائعة لاستخدام هذا الجهاز دراسة أجراها كلارينس جرافلي، عالم الأنثروبولوجيا بجامعة فلوريدا. قام جرافلي بقياس لون البشرة مُستعينًا بهذه الطريقة في بورتريكو، ثم قارن المقياس «الموضوعي» للون البشرة بكيفية تصنيف الأفراد أحدهم للآخر وفق المصطلح الإسباني «لون». بالطبع كان هناك ترابط بين المقياسَين، ولكن ليس على نحوٍ تامٍّ. المُثير في الأمر أن التصنيف الاجتماعي يرتبط، فيما يبدو، بالتبايُن في ضغط الدم أكثر من ارتباطه بالتصنيف الموضوعي (انظر الفصل السادس عشر).
يخلو الجلد البشري في الأغلب من الشَّعر، ويأتي في مجموعة من الألوان. بعض الأشخاص لهم بشرةٌ داكنة للغاية شبه سوداء، وآخرون لهم بشرةٌ شاحبة للغاية شبه بيضاء. أما مُعظم الأشخاص الآخرين، فيتميَّزون ببشرةٍ ذات لونٍ يقع بينَ بينَ. يتباين لون البشرة على نحوٍ ملحوظ لدى الأشخاص من مكانٍ إلى مكان، وبدأت التباينات في لون البشرة تُلاحَظ منذ آلاف السنين حين شرع الناس في السفر والترحال على نحوٍ واسع، والمشاركة في التبادل التجاري عبر مسافاتٍ طويلة. وقد لاحَظ المُراقِبون أن الناس الذين عاشوا تحت أشعة الشمس الشديدة بالقرب من خط الاستواء اكتسبوا بشرةً داكنة، فيما اكتسَب أولئك الذين عاشوا تحت أشعةٍ أقلَّ شدة بعيدًا عن خط الاستواء بشرةً فاتحة. ولكن لماذا؟
منذ قرونٍ عدة، خمَّن بعض الفلاسفة اليونانيين والرومان الأوائل وجود ارتباط بين لون البشرة وبعض السمات الأخرى وبين المناخ؛ فدرجات البشرة الداكنة، وفقًا لهم، نتجت عن الحرارة المُفرطة، بينما نتجت درجات البشرة الفاتحة عن البرودة المفرطة. بحلول مُنتصف القرن الثامن عشر، لاحَظ الفلاسفة الطبيعيون، وكان مِن بينهم الفيلسوف الأمريكي صمويل ستانهوب سميث، أن صبغة لون البشرة تختلف درجتها بوضوح وفقًا لدائرة العرض، من الداكن بالقُرب من خط الاستواء إلى الفاتح في اتجاه القطبين. وقد ربَط هذا على نحوٍ أساسي بالاختلافات في مقدار أشعة الشمس التي يتعرَّض لها الأشخاص عند مختلف دوائر العرض. فكتَب سميث يقول: «إن هذا الاتساق العام في التأثير إنما يُشير إلى وجود تأثير للمناخ، والذي سوف يعمل، تحت نفس الظروف، على نفس الشاكلة.» ولكن هل كانت الحرارة المُنبعثة من الشمس أم شيءٌ آخر في أشعة الشمس هو العاملَ الذي استجابت له البشرة؟
بحلول منتصف القرن العشرين، قرَّر علماء مثل فريدريك لوميس أن لون البشرة اقترن على أقوى نحو بالأشعة فوق البنفسجية المُنبعثة من الشمس. بل إن بحثي يُبيِّن أن الأشعة فوق البنفسجية مسئولة عن أكثر من ٨٧٪ من التبايُن في لون البشرة لدى البشر. إذن كيف يُمكن إثبات أن صبغة بشرة الإنسان هي تكيُّفٌ تطوُّريٌّ فعليٌّ مع الأشعة فوق البنفسجية؟ التكيُّف، في لغة التطور، هو سمة لكائن تُتيح له التناسل بنجاحٍ أكبر تحت ظروفٍ بيئية معيَّنة أكثر من الكائنات التي لا تحظى بهذه السمة. ونحن نحتاج أولًا إلى أن نفهم ما هي الأشعة فوق البنفسجية تحديدًا وماذا تفعل.
الأشعة فوق البنفسجية هي شكلٌ نَشِط للغاية وغير مرئي من الإشعاع الشمسي، قادر على إيقاع الكثير من الضرر بالكائنات الحية. والحياة على الأرض، في العموم، في مأمن مِن الأشعة فوق البنفسجية الضارَّة بفعل الغلاف الجوي؛ ولكن لا يزال قدرٌ من الأشعة فوق البنفسجية يتوغَّل ويخلف آثارًا بيولوجيةً قوية. فالأشعة فوق البنفسجية تُدمِّر الدنا، وهذا النشاط يُمكن أن يتسبب في النهاية في الإصابة بسرطان الجلد. وسرطان الجلد مرضٌ خبيث، إلا أنه قلَّما يكون مُميتًا ويصيب الأشخاص في العموم بعد سنوات الإنجاب. وثمة آثارٌ ضارة أُخرى للأشعة فوق البنفسجية يُمكن أن يكون لها آثارٌ أفدح بكثير على النجاح التناسُلي. فبعض الأطوال المَوْجية للأشعة فوق البنفسجية تقوم بتكسير جزيئاتٍ بيولوجيةٍ مهمَّة أخرى، مثل بعض أشكال الفولات في الجسم. والفولات هو أحد فيتامينات ب اللازمة لإنتاج الدنا ودعم أيض الخلايا. وعادةً ما نحصل على الفولات من الخضراوات الورقية الخضراء، والفواكه الحمضية، والحبوب الكاملة في نظامنا الغذائي. وبدون الحصول على ما يَكفي من الفولات، لا نستطيع إنتاج كمياتٍ كافيةً من الدنا للحفاظ على المستويات الطبيعية لانقسام الخلايا في أجسامنا. وانقسام الخلايا ضروري من أجل الحفاظ على وظائف الأعضاء والأنسجة في أجسامنا، وذو أهمية خاصة في الأنسجة ذات التدوير المُرتفِع، مثل بطانة الأمعاء وبطانة الفم. يحدث انقسام الخلايا أيضًا على نحوٍ سريع في المراحل الأولى لتكوين الجنين وفي مرحلة إنتاج الحيوانات المنوية. فخلال الأسابيع القليلة الأولى من نموِّ الجنين، يؤدي الانقسام السريع والدقيق للخلايا إلى إنشاء الخطة الجسمانية الأولى للجسم، ونمو الجهاز العصبي والدورة الدموية الأوليَين. وإذا تباطأ انقسام الخلايا أو أُعيق في هذه الفترة الحاسمة، يُمكن أن تحدث عيوبٌ خلقيةٌ خطيرة أو حتى مميتة؛ ومن ثم تُصبح حماية إمدادات الجسم من الفولات أمرًا مهمًّا من أجل تناسُلٍ ناجح. والتناسل الناجح هو محور التطور. إذن كيف أمكن ضمان ذلك؟
حين هاجر بعضٌ من أسلاف الإنسان الحديث من أشد المناطق المشمسة في أفريقيا إلى جنوب أفريقيا، وآسيا، وأوروبا، وجدوا مستوياتٍ أقل من الأشعة فوق البنفسجية. وكان هذا يعني مواجهة ضررٍ مُحتمَل أقل لأجسامهم جراء الإشعاع الضار، ولكن كان هناك جانبٌ سلبي أيضًا؛ فالأشعة فوق البنفسجية ليست بالشيء السيئ في مجملها؛ والشيء الجيد المهم الوحيد الذي تقوم به هو بدء عملية تصنيع فيتامين د في الجلد. ويساعدنا فيتامين د على بناء هيكلٍ عظميٍّ قوي والحفاظ عليه عن طريق تنظيم امتصاص الكالسيوم من الأطعمة التي نتناولها. وبدون وجود ما يكفي من فيتامين د، لا تنمو العظام على نحوٍ صحيح وتُصاب بالضعف. كذلك يساعد فيتامين د في الحفاظ على صحة الجهاز المناعي. فإذا لم نحصل على قدرٍ كافٍ من فيتامين د، يُمكن أن تُصبِح أجسامنا ضعيفة وعرضة للأمراض. ثمَّة أطوالٌ مَوْجيةٌ معيَّنة من الأشعة فوق البنفسجية هي وحدها القادرة على بدء عملية إنتاج فيتامين د في الجلد، وهي توجد في نطاق الموجة المتوسطة من الأشعة فوق البنفسجية. ويَستقبِل خط الاستواء الكثير من الأشعة فوق البنفسجية ذات الموجات المتوسطة على مدار العام، ولكن تقلُّ هذه الموجات كثيرًا شمال وجنوب المنطقة الاستوائية (٢٣٫٥° شمالًا و٢٣٫٥° جنوبًا)، وتظهر موسميًّا إلى حدٍّ كبير. والبشرة الداكنة التي تحوي الكثير من الميلانين الواقي من الشمس تُبطئ من عملية إنتاج فيتامين د في الجلد؛ ومن ثم فرَضت هذه الظروف تحدِّيًا جديدًا على أسلافنا. فكيف أمكن الحفاظ على إنتاج فيتامين د لدى الأشخاص الذين كانوا يعيشون تحت ظروف انخفاض الأشعة فوق البنفسجية المتوسِّطة الموجات؟ الإجابة هي: بالبشرة الفاتحة.
البشرة الفاتحة هي في الواقع بشرةٌ منزوعة الصبغة. حين شرَع الناس في الهجرة من الأماكن المشمسة للغاية التي تتميَّز بمستويات أعلى من الأشعة فوق البنفسجية ذات الموجات المتوسِّطة، استطاع الأفراد ذوو البشرة الفاتحة البقاء في حالةٍ صحية أفضل وتركوا وراءهم نسلًا أكبر، فيما يُمثِّل عودة التطور إلى العمل من جديد. لقد مرَّ الأفراد ذوو البشرة الفاتحة بطفراتٍ جينيةٍ معيَّنة أدَّت إلى خفض إنتاج الميلانين؛ ومن ثم انخفاض الواقي الطبيعي من الشمس في جلودهم. وكانت هذه الأنماط الجديدة من التباين الجيني ناجحة للغاية. ونرى الدليل على ذلك، في الواقع، في كون «عمليات المسح الانتقائي» — وهي فترات من التطوُّر مسرَّعة إلى حدٍّ كبير بفعل عملية الانتخاب الطبيعي — أدت إلى اتساع نطاق جينات البشرة الفاتحة في غضون فترة لم تتجاوز بضع آلاف من الأعوام.
لعلَّ من أهمِّ الأشياء وأكثرها إثارة بشأن عملية نزْع الصباغ أنها لم تَحدث مرةً واحدة فقط. فالأدلة الجينية تُظهِر أن أسلاف الأوروبيين الغربيين المعاصرين وأسلاف الآسيويين الشرقيِّين المُعاصرين قد مرُّوا بتغيرات جينية مستقلَّة أدت إلى تطور بشرةٍ أفتح. وقد تخلَّل هذه التغيرات طفراتٌ جينيةٌ مختلفة، دُعمت بعد ذلك بفعل عملية الانتخاب الطبيعي. بعبارةٍ أخرى، لقد تطوَّرت عملية نزع الصباغ على نحوٍ مُستقلٍّ لدى كلتا سلالتَي البشر المعاصرين الذين بدءوا في استيطان دوائر العرض الأعلى من نصف الكرة الشمالي. كذلك نعرف من فحص الدنا أن فقدان صبغة الجلد نتيجة للانتخاب الطبيعي حدَث لدى أبناء عمومتنا البعيدين المُنقرضين، النياندرتال، الذين استوطنوا جزءًا كبيرًا من أوروبا الشرقية والمنطقة حول البحر المتوسط في أثناء العصر الجليدي الأخير.
مع تنقل البشر المعاصرين حول العالم بأعدادٍ أكبر وعبر مسافاتٍ أطول منذ فترة تراوَحَت ما بين ٥٠ ألف و١٠ آلاف عام، حدَث الكثير من التكيُّف في تطور اصطباغ الجلد. ومع انتقال السكان إلى أجزاء من العالم مختلفة من حيث مستويات الأشعة فوق البنفسجية، مرُّوا بتغيرات جينية عدلت تصبغ الجلد لديهم. فمع انتقال الناس من آسيا إلى الأمريكتين، على سبيل المثال، نرى أدلة على أن بعض الجماعات السكانية الذين دخلوا بيئاتٍ ذات مستوياتٍ مرتفعة من الأشعة فوق البنفسجية مرُّوا بتغيراتٍ جينية أتاحت لهم اكتساب سمرة بسهولة. والاسمرار هو القدرة على اكتساب تصبُّغ مؤقَّت بالميلانين في الجلد استجابة إلى الأشعة فوق البنفسجية، وقد تطوَّر مراتٍ عدة لدى الشعوب التي تعيش تحت أنماطٍ موسمية لأشعة الشمس إلى حدٍّ كبير.
خلال اﻟ ١٠ آلاف عام الأخيرة، أصبحنا أفضل وأفضل في حماية أنفسنا ضد الكميات المفرطة من الأشعة فوق البنفسجية بوسائلَ حضارية؛ فالثياب المخيطة والمساكن المبنية تحمينا الآن من أشعة الشمس القوية، وتُعزِّز الحماية التي تُوفِّرها صبغة الميلانين الطبيعية. وفي بيئات أقصى الشمال، تعمل الأنظمة الغذائية المكوَّنة من أطعمةٍ غنية بفيتامين د مثل الأسماك الزيتية والثدييات البحرية كمُكمِّل لفيتامين د الذي نستطيع إنتاجه في جلودنا، في ظل ظروف انخفاض الأشعة فوق البنفسجية. المشكلة الكبرى التي نواجهها اليوم هي أننا نستطيع السفر لمسافاتٍ بعيدة بأقصى سرعة. والكثير من الناس اليوم يعيشون أو يقضون العطلات بعيدًا عن أرض أسلافهم. وهذا يعني أن لون بشرتنا غالبًا ما لا يَتوافق مع مُستويات الأشعة فوق البنفسجية التي نتعرض لها. والأشخاص ذوو الصبغة الداكنة الذين يعيشون في بيئات يقلُّ فيها مستوى الأشعة فوق البنفسجية، والأشخاص الذين يعملون داخل المكاتب طوال الوقت يواجهون خطورةً كبيرة من الإصابة بنقص فيتامين د. أما الأشخاص الذين يعيشون في بيئاتٍ ذات مستوياتٍ عالية من الأشعة فوق البنفسجية، فيُواجِهون خطورةً كبيرة من الإصابة بسرطانات الجلد. ولا بدَّ من إدراك هذه المشكلات من أجل تجنُّب المشكلات الصحية الخطيرة.
يُوفر تصبُّغ الجلد واحدًا من أفضل نماذج التطور من خلال تأثير الانتخاب الطبيعي على جسم الإنسان. إن حقيقة أن لون البشرة كان في غاية الاستجابة للقُوى التطورية حقيقةٌ مُبهرة وتُشكِّل أهمية للمجتمعات البشرية الحديثة. لقد تطورت ألوان مشابهة للبشرة — داكنة وفاتحة على حدٍّ سواء — على نحوٍ مُستقلٍّ عدة مرات في التاريخ الإنساني. وحين نُفكِّر كيف كانت الأعراق تُعرَّف في الماضي باستخدام لون البشرة، يمكننا أن نرى المشكلة في الحال. فإذا كان لون البشرة نفسه يتطوَّر عدة مرات على نحوٍ مُستقلٍّ في أماكنَ مختلفة، فإن قيمته كعلامةٍ فريدة على الهوية تزولُ ويصير العرق الذي يُعرَّف على هذا النحو بلا معنًى. فقط استمتع بكونك «إنسانًا ذا لون متفرِّد!»
(٦) لون البشرة لا يُفسِّر السمات الأعمق
تُخبرنا الصور والكاميرات التلفزيونية أن الناس في أوسلو بالنرويج، والقاهرة بمصر، ونيروبي بكينيا يَبدُون مختلفين للغاية من حيث الشكل. وحين نلتقي فعليًّا أناسًا من هذه المناطق المتفرِّقة، يُمكننا أن نرى صورًا لتلك الاختلافات على نحوٍ مباشر. ولكن إذا سار أحدهم عبر نهر النيل من القاهرة إلى الخرطوم في السودان ومنها إلى نيروبي، فلن يكون هناك حدٌّ واضح يفصل بين كل شعب والشعب الذي يليه. نفس الأمر يسري إذا توجَّه أحدهم شمالًا من القاهرة متَّجهًا إلى روسيا، ليَعرج في النهاية غربًا إلى اسكندينافيا. فتجد الناس في أيِّ محطاتٍ مُجاورة عبر الطريق يشبه أحدهم الآخر أكثر مما يُشبهون أي شخصٍ آخر؛ إذ إنهم في النهاية تربطهم صلات قرابة. وكقاعدةٍ عامة، يتزوَّج الفتى من الفتاة التي تَسكن في جواره في كل أنحاء العالم، ولكن الفتى الذي في المنزل المُجاور يَتنقَّل بلا توقُّف من منطقة إلى أخرى.
بالطبع غالبًا ما يكون لون البشرة بمنزلة «العلامة» العِرقية الأساسية في الولايات المتحدة وأماكنَ أخرى. ولكنه في الواقع واحد من أنفع سمات «النمَط الظاهري» لإظهار القيود التفسيرية للعرق البيولوجي. ويُعزى هذا إلى أن الافتراضات الكامنة خلف التصنيفات التقليدية القائمة على العِرق تُناقض المفهومَين المرتبطَين بالتبايُن البيولوجي البشري.
إن لون البشرة لا صِلة له، علميًّا، بالعرق. وكما أوضَحنا أعلاه، فإن للون البشرة تفسيرًا مختلفًا؛ ألا وهو التطوُّر؛ فلون البشرة، بالذات، يتباين نتيجة اختيار القدرة على معالجة فيتامين د في مقابل الوقاية من تدهور الفولات. علاوة على ذلك، يتبايَن العديد من الأفراد ذوي البشرة الداكنة؛ من جنوب الهند وسريلانكا، ومن أفريقيا الوسطى ومن جُزر المُحيط الهادئ على نحوٍ كبير في سماتٍ أخرى، وتطوَّروا على نحوٍ مُنفصِل. بلغةٍ شعبية، سوف نُصنِّفهم بوصفهم من أعراقٍ مختلفة، على الرغم من التشابه الكبير في ألوان بشرتهم.
المفهوم الأول الموضَّح بالأمثلة في توزيع لون البشرة هو «التبايُن المُتواصِل». ومرةً أخرى، ستجد التوزيع الجغرافي للون البشرة موضَّحًا في شكل ٨-٤. يجدر بك ملاحظة أن الامتزاج التدريجي لألوان البشرة أحدها داخل الآخر عبر التغيُّرات المتدرِّجة والجماعات السكانية هو دالة للمساحة الجغرافية ولا يتوافَق إطلاقًا مع أي فصلٍ واضح بين هذه الجماعات السكانية. ونتيجة لذلك يُعتبَر التمييز العرقي القائم على لون البشرة (والسمات المُتواصلة الأخرى) مُجحفًا؛ أو على الأقل غير مُبرهن.
الدرس المُهم الأخير هو أن لون البشرة لا يُفسِّر العديد من التبايُنات الأخرى. تذكَّر المُكعَّب ذا الطبقات الأربع (انظر شكل ٧-٥، مكعَّب التبايُن)؛ حيث تُمثِّل كل طبقة توزيعًا لسِمةٍ مختلفة. في هذا المثال، تكون الطبقة العليا هي لون البشرة، يليها لون العين، ثم لون الشعر، ثم شكل الشعر. يُمكننا أن نتخيَّل سماتٍ أخرى، مثل الطول والوزن أو سماتٍ جينية. الآن أقمنا أربعة أعمدة لكشف الطبقات الأربع. من المُمكن أن يُمثِّل كلُّ عمود فردًا أو جماعة، مع ملاحظة أن العمودَين إلى اليمين لهما نفس لون البشرة. ولكن لاحظ الآن الاختلاف في الطبقات الأعمق. بعبارةٍ أخرى، لم تتنبَّأ الطبقة العليا بالطبقات الأعمق.
يُعزى هذا إلى ضعف ارتباط لون البشرة بمُعظم السمات البشرية الأخرى. فلا يُمكن للون البشرة أن يتنبأ بالسمات الأخرى. المُثير في الأمر أن الشيء نفسه يسري بالنسبة إلى جميع السمات الأخرى. فالسِّمات ذات الصِّلة باللون تتلازَم بشكلٍ محدود إحداها مع الأخرى، شأنها شأن السمات المرتبطة بالحجم. ولكن السمات الخاصة بالحجم لا ترتبط بأي شكلٍ بالسِّمات الخاصة باللون، كذلك فإن كلًّا مِن السمات الخاصة بالحجم وتلك الخاصة باللون لا تَرتبِط على أيِّ نحوٍ قوي وذي معنًى بالسمات الجينية الأخرى أو بالسمات المعقَّدة. وهذا ما يُطلَق عليه عدم التوافُق أو استقلال السمات. ومعناه أن التطوُّر يَميل إلى انتخاب بعض السمات معًا، ولكن ليس مجموعاتٍ كبيرةً منها. ويَعني أيضًا أنه إذا كان العرق هو لون البشرة، فهو مجرد شيءٍ سطحي.
ملاحظات ختامية
إلى أيِّ مدًى سيَستمر تبايُن لون البشرة، والعرق، والعنصرية في التطوُّر المُشترك معًا في الولايات المتحدة؟ ليس هذا بالأمر الذي يسهُل التنبؤ به. إن تبايُن لون البشرة جانبٌ مهم وشائق من تاريخ الإنسان وصحته. في الواقع، إن اكتساب فهمٍ إيكولوجي للون البشرة أمرٌ حيوي لحِماية الدنا والحفاظ على معدَّلاتٍ صحية من فيتامين د والفولات، اللذَين يُشكِّلان أهميةً بالغة لنمو وتطوُّر الهيكل العُظمى والصحة الإنجابية.
يُشير البعض إلى أننا عندما نُصبِح أكثر مرونة إزاء تراث أمتنا المتعدِّد الأعراق، سوف تُصبِح التصنيفات والهويات العرقية أكثر سلاسة. ولكن حتى في المناطق من العالم حيث الهويات العرقية أكثر تعقيدًا بالفعل من تلك المُعتمدة تقليديًّا في الولايات المتَّحدة، يظلُّ التمييز على أساس لون البشرة مستمرًّا. وفي هذا تأكيد على الحاجة إلى التنازُل عن فكرة الأعراق البيولوجية البشرية من الأساس. وبقدر ما نتمنَّى أن يكون هذا الأمر واضحًا، فإن هذا لا يَعني معارضة وجود الاختلافات البيولوجية بين الشعوب البشرية. بل إنه خطوةٌ مُهمة نحو فهم أيٌّ من هذه الاختلافات مُهم؟ ولماذا يجب أن نَستكشفها ونحتفي بها في النهاية؟
إن التبايُن، حسبما يوضِّح عالم الأنثروبولوجيا البارز سي لورينج بريس، رهن التقييم المتواصل. وذاك واحد من الدروس الواضحة المستفادة من لون البشرة. ثمة درسٌ آخر أعمق هو أن التطور، وليس العرق، يُفسِّر التباين الملحوظ؛ فالحياة، كما سنوضح في الفصل التاسع، ميزانٌ رائع.
مصادر أخرى
-
Blum, H. F.:1961 Does the Melanin Pigment of Human Skin Have Adaptive Value? Quarterly Review of Biology 3: 50–63.
-
Brace, C. Loring:2005 “Race” Is a Four Letter Word: The Genesis of the Concept. Oxford University Press, New York.
-
Jablonski, Nina G.:2006 Skin: A Natural History. Berkeley: University of California Press.
-
Jablonski, Nina G., and George Chaplin:2000 The Evolution of Human Skin Coloration. Journal of Human Evolution 39(1): 57–106.
-
Loomis, W. F.:1967 Skin-Pigment Regulation of Vitamin-D Biosynthesis in Man. Science 157: 501–506.
-
Relethford, J. H.:2000 Human Skin Color Diversity is Highest in Sub-Saharan African Populations. Human Biology; An International Record of Research 72(5): 773–780. PMID 11126724.
-
Roberts, D. F.:1977 Human Pigmentation: Its Geographical and Racial Distribution And Biological Significance. Journal of the Society of Cosmetic Chemists 28: 329–342.