اللقاء الخطير!
أكمل «أحمد» حديثَه قائلًا: والمدهش في الأمر … أنهم كانوا يحضرون كلَّ لقاءاتنا أنا و«بيتر» دون أن نعلم، وبالطبع … عرفوا أنني أبحث عنهم.
إلهام: وكيف عرف «بيتر»؟
أحمد: لقد اتصلوا به … وطلبوا منه الانضمام إليهم … وهو يحذِّرني من استخدام الكمبيوتر على نفس الرقم، ويطلب تغييرَه.
رقم «صفر»: هذه مهمة الخبراء. المهم أن تحاول إقناع «بيتر» بمعاونتنا … وأن يتصل بهم … ويُجاريهم إلى أن نستطيعَ تحديدَ أماكنهم بالضبط …
وفي اجتماع «أحمد» مع رقم «صفر» شرح له كيف يحاول إقناعَ «بيتر» بفكرته وهو أن يرميَ لـ «سايبرسبيس» طُعمًا وبذلك يحاولون الاتصال به لمعاونته.
أحمد: إن لديَّ خطة لم تكتمل معالمُها بعدُ، وأطلب مهلةً أربعًا وعشرين ساعة لإنهائها وسأعرضها على سيادتكم بعد ذلك.
رقم «صفر»: إذن لقد انتهى الاجتماع الآن وميعادي معك يا «أحمد» بعد يومين … شكرًا.
انصرف رقم «صفر» … واتجهَت أنظارُ الشياطين كلها لـ «أحمد» تتساءل … عن هذه الخطة التي وصلَت دقَّتُها … إلى حدِّ تحديدِ موعدِ اكتمالها، وترى إلى ماذا وصل «أحمد»؟
في معامل المقر، كانت أجهزة الكمبيوتر كلها تعمل … لسرعةِ حلِّ هذه القضية ومحاولة الاتصال ﺑ «سايبرسبيس». إلا أن «أحمد» … قد عاود الاتصال ﺑ «بيتر»، وطلب منه معلومات عن تجارة الأسلحة … وكيفية الدخول إلى هذا السوق، إلا أن «بيتر» اعترض على الحديث معه في مثل هذه الأمور الخطيرة، وقال له: إن لها رجالها … وهو لا يحبُّ أن يكون منهم. فوصفه «أحمد» بالجبن والقصور، فغضب لذلك كثيرًا، وهدَّد «أحمد» بقطع صلته به. ولكن الغريب في الأمر، أنه في اليوم التالي، اتصل به يعتذر له … ويسأله مؤكِّدًا … هل ما كان يقوله صحيحا؟ أم إنه كان يمزح معه؟ فأكَّد له «أحمد» صدْقَ نيته في هذا الأمر، فسأله «بيتر»: هل لديكم الأموال اللازمة لدخول هذا المجال؟
ردَّ «أحمد»: نعم، وأكثر من ذلك!
قال «بيتر»: ألستم تدَّعون أنكم مسالمون؟ … وأن الغرب ظلمكم بما يروِّجه عنكم؟!
أحمد: وما دخلُ هذا وتجارة السلاح؟
بيتر: أليست تجارة غير مشروعة؟ … ألا تزيد من الدمار في العالم؟
أحمد: بي أو بغيري ستستمر هذه التجارة، وسيستمر تدفُّق السلاح على دول العالم النامي.
انتهى اللقاء بين «بيتر» و«أحمد» … وهو على يقين أنه غيرُ راضٍ عنه.
في اجتماع «أحمد» مع رقم «صفر» … شرح له كيف يحاول إقناعَ «بيتر» بفكرته. في نفس الوقت، يرمي لـ «سايبرسبيس» طُعمًا، فسيحادثهم «بيتر» بما دار بينه وبين «أحمد»، مما سيسيل لعابهم، ويحاولون الاتصال به لمعاونته في هذه التجارة نظير مشاركته في الأرباح.
وقد صدق حدسُ «أحمد». ففي مساء نفس اليوم. اتصل به «بيتر» ليخبرَه بأنه تكلَّم في الأمر مع جماعة «سايبرسبيس»، وأنهم طلبوا منه، أن يأذن لهم للاتصال به، فشعر أن خطته تسير وفق ما أراد. وطلب عقد اجتماع عاجل يحدد فيه كيفية التفاوض معهم. وانتهى الاجتماع. ومرَّ يومان، ولم يتصل به أحدٌ كما توقَّع، فهو نوع من الحذر تمارسه الجماعة … كعامل أمان لهم.
ظل «أحمد» في غرفته ومعه الكمبيوتر انتظارًا لاتصالهم، وفي مساء اليوم الثالث اتصل به «بيتر» يُخبره بأنهم سيلتقون به حالًا، وأنهى معه الحديث، وبعد عشر دقائق، تلقَّى أول اتصال من «سايبرسبيس» يطلبون فيه، أن يُعدَّ نفسه للسفر إلى دولة سوف يحددونها له، حيث سيلتقي به أحدهم هناك.
في مساء اليوم التالي … تركوا له رسالةً عاجلة بأن اللقاء سيكون في فندق «لارباج» على بحيرة … «لمان» بسويسرا على أن يكون وحده.
كان «أحمد» في هذا اليوم خارج المقر، وعند عودته وتلقِّيه الرسالة، اتصل برقم «صفر» الذي أمره بالاستعداد للسفر كما طلبوا منه، على أن يلحق به «بو عمير» و«زبيدة» على الطائرة التالية، وقبل مغادرة المقر تلقَّى اتصالًا من «بيتر» يُخبره فيه أن أحدَ أعوان جماعة «إس إس» (اختصار سايبرسبيس)، سيترك له رسالةً مساءَ الغد في «المكسيم» ملتقى العرب في سويسرا.
غادر «أحمد» القاهرة، على الطائرة المتجهة إلى «سويسرا»، وفي رأسه العديدُ من التساؤلات؛ فهو حتى الآن لا يعرف مع مَن سيتعامل؟ هل مع جماعة الهواة المسمَّاة بـ «إس إس»؟ أم مع تجار السلاح الهواة؟ أم مع عصابات «المافيا»؟
ومَن يدري فربما كانت «سايبرسبيس» جزءًا من المافيا! وإن لم يكن الأمر كذلك، فهذا احتمال كبير … إنهم يتعاونون معهم، أو يؤدون لهم خدمات. المهم أن تجارة السلاح نفسها هي من أخطر الأنشطة التي تمارسها العصابات، فهي تمول بالمليارات، ولا مجال فيها للخطأ.
خرج «أحمد» من القاهرة وهو يحمل اسمه كما هو … ولكنه نسب لعائلة ثرية معروفة … هي عائلة «زايد» … وروَّج رقم «صفر» عنه أنه الوريث الوحيد لهذا الرجل، وأنه ورث عدة مليارات مكدسة في البنوك بأوروبا. وقد شُوهد كثيرًا في صالات القمار، وفي سباقات الخيل وهو يبحث عن مجال يستثمر فيه أمواله.
لم يخرج «أحمد» من شروده، إلا عندما سمع نداء إذاعة الطائرة الداخلية. تطلب من الركاب ربطَ الأحزمة استعدادًا للهبوط.
في مطار «جنيف» الفخم فوجئ بمن يستوقفه صائحًا: مستر «أحمد زايد» في «جنيف» يا لَها من مفاجأة، يا هلا هلا. ورحَّب به كثيرًا رغم أنه لا يعرفه. ولاحظ أنه يتعمَّد رفْعَ صوته بالحديث دون افتعال ظاهر، فهمس له قائلًا: مَن أنت؟
فرفع إبهامه في حذر، فشاهد شعار المنظمة مطبوعًا عليه. فجاراه في حرارة اللقاء، وعن بُعدٍ رأى فتاة حسناء تُراقبه في حذر، فعرف أنها من العصابة، وعرف قيمة ما يصنعه رقم «صفر» بدهائه الرائع. ومن خارج المطار، استقل تاكسيًا إلى فندق «لارباج» الذي أعجبه كثيرًا لفخامته وشموخه وموقعه الساحر على بحيرة «المان». فغادر التاكسي إلى موظفة الاستقبال التي أمرت له بمن يحمل الحقائب، وصَعِد معه إلى غرفته. وما إن اختلى بنفسه، حتى أخرج أسلحتَه الخفيفة من الجيوب السحرية بالحقيبة ثم أخذ حمَّامًا دافئًا، واستعدَّ للقاء «إس إس» في «المكسيم» ملتقى العرب.
كان «المكسيم» يعجُّ بالمغتربين العرب، الذين حضروا إلى «سويسرا» للسياحة والاستشفاء، والدراسة، والعمل … فشعر «أحمد» بينهم بأنه في موطنه؛ حيث كان يسمع اللغة العربية تتداول بكثرة بين أرجائه، والتفتَ يبحث عن ضالته، فرأى مَن يرفع يدَه صائحًا: مستر «أحمد زايد» … نورت «جنيف»!
فابتسم له … ثم نهض ذاهبًا إليه فحيَّاه بحرارة … ودعاه الرجل للجلوس معه. فعرف أنها أوامر رقم «صفر». وبعد دقائق تركه عائدًا إلى مائدته مرة أخرى. منتظرًا «إس إس».
مرَّ الوقتُ ثقيلًا … ولم يحضر الرجل … وقرب منتصف الليل، كان «أحمد» قد أصابه الملل … وظن أنه تعرَّض لخدعة … وجاءه «المتردوتيل» بفاتورة الحساب. فلاحظ أن ظهرَها مكتوبٌ عليه بخط اليد. فقلبها فوجدها رسالة من رجل «إس إس» يطلب منه أن يلقاه ظهرَ الغد في «البرستول». فسأله المتر إن كان يعرف مكانه، فأخبره أنه في «لوزان».
كان الليل قد انتصف. وبدأ النوم يتسلَّل إلى حواسه، فغادر «أحمد» «المكسيم» متجهًا إلى الفندق، فاستوقفَته فتاةٌ شقراء تُحادثه بلهجة شامية قائلة: أستاذ «أحمد أبو زايد»، ألَا تعرفني؟
فنظر إليها متسائلًا!
فعادَت تقول له: لقد عملتُ معك لفترة كسكرتيرة!
فقال لها «أحمد»: على العموم … لقد سعدت برؤيتك، هل أنت سورية؟
قالت الفتاة: نعم …
أحمد: إذن أنت تعرفين «فهد»؟
الفتاة: الأستاذ «فهد» مدير أعمالك؟
فتظاهر بالموافقة على كلامها، وقال لها: نعم … نعم …
إلا أنه شعر أن في لهجتها خللًا، فبادرها بعدة أسئلة متلاحقة، ففوجئ بها تضحك لما يحدث، ثم همسَت له قائلة: أنا «زبيدة» يا «أحمد».
ضحك «أحمد» كثيرًا لهذه المفاجأة التي توقَّعها رغم أن «زبيدة» كانت ترتدي عدسات زرقاء، وباروكة «صفراء»، وكان تنكُّرُها غايةً في الإتقان، فأنهى معها الحديث، وفارقها والجدية تبدو على ملامحه، فاستوقف تاكسيًا، وطلب من السائق أن يتجول به حول بحيرة «ألمان» ثم يعود به إلى الفندق. فانطلق السائق يعدو بلا توقُّفٍ. حتى شعر أن الطريق قد طال وأنه خرج من «جنيف»، فسأله بالألمانية: إلى أين أنت ذاهب؟
السائق: سأريك أحلى ما في «جنيف» … «القرية القديمة» … و«المطعم القديم».
أحمد: وهل طلبَت منك ذلك؟
السائق: لا … ولكن أعرف أنك سائح، وأنك تريد مشاهدة معالم المنطقة.
أحمد: أنت لستَ سائقَ تاكسي!
السائق: هذا صحيح. ثم سأله: ألستَ السيد «أحمد زايد»؟
أحمد: نعم، ولكن كيف عرفتني؟
السائق: في «المكسيم».
أحمد: وأنت من اﻟ «إس. إس»؟
السائق: هناك مَن ينتظرونك.
في الظلام وعلى طريقٍ تحفُّه الأشجار. غرقت السيارة في أحضان الخضرة الكثيفة. وبعد مسيرة عشر دقائق، توقَّفَت بجوار سيارة مرسيدس بيضاء فارهة. وبمجرد أن استقرَّت، شاهد «أحمد» زجاج السيارة «المرسيدس» الأمامي ينفتح، ويظهر رجلٌ أسودُ اللون، حادُّ البصر، حليقُ شعرِ الرأس والحاجبَين. ينظر أمامه في صمت، ثم يُدير رأسَه بحركة ميكانيكية. فيصوِّب عينَيه الضيقتَين لعينِ «أحمد»، وينظر له نظرةً متفحصة، وكأنه يحاول قراءة ما برأسه. ثم تقدَّم بالسيارة مترًا للأمام، فأصبحَت النافذة الخلفية في مواجهته وببطءٍ نزل زجاجها، ليرى سيدةً جميلة، في حوالي الأربعين من عمرها، تنظر له وعلى وجهها ابتسامةٌ ساحرة، ثم قالت بالإنجليزية: مستر «أحمد زايد» أليس كذلك؟
ردَّ «أحمد»: نعم … وأنت من منظمة «سايبرسبيس»؟
فنظرت إليه مليًّا، وأومأَت برأسها للسائق، فارتفع الزجاج مرة أخرى، وواصلَت السيارة المسير. وتَبِعتها السيارة التاكسي، وبها «أحمد»، وعيناه مفتوحتان عن آخرهما، وبداخله سؤالٌ حائر عن هذه السيدة، هل هي تاجرة سلاح؟ أم عضوة في منظمة «إس إس»؟ أو مضيفة تستقبله … لتُوصلَه إلى الرأس الكبير؟!
بعد مسيرة عشر دقائق، خرجت السيارتان من بين الأشجار، لتعود من جديد إلى الطريق الرئيسي، وفي اتجاه سهم على لوحة، مكتوب أمامه «زيورخ»، انطلقَت السيارتان تلتهمان الأرض. إلى أن اعترضَتهما سيارةُ «فولكس» خرجَت من عرض الطريق. فتوقَّفَا. ونزل من السيارة رجلٌ وقور أنيق متجهًا إليهم طالبًا منهم النزول فامتثلَا لأوامره، ثم أشار للسائقين فعادَا إلى سياراتهما. واقتاد بعد ذلك «أحمد» والسيدة الحسناء إلى حيث كانت تقف سيارة «كاديلاك» فارهة، طولُها يزيد على العشرين مترًا. وبداخلها قاعة اجتماعات، وثلاجة، وكل ما يحتاجه المرء للحياة المرفهة، فتأكد أنه سيقابل رجلًا هامًّا من رجال المافيا، وقد صدقَ حدْسُه؛ فقد شاهد خلفَ ظهرِ مقعدٍ ضخمٍ سيجارًا يخرج منه دخانٌ كثيف، وحين دار المقعد ليصير في مواجهته رأى رجلًا مهيبَ الطلعة، ذا ملامح جذابة. وقد ارتسمَت على وجهه ابتسامةٌ وقورة، يقول له: مرحبًا بك مستر «زايد» في «جنيف»، وأهلًا بك عميلًا لنا.
ثم استطرد قائلا: إن تجارة السلاح تجارة معقدة، ولكننا نَعِدُك بأن نقدِّمَ لك كلَّ العون؛ لتصيرَ من كبار عملائنا وتكون راضيًا عنَّا. هنا ابتسمَت السيدة الحسناء وهي تقول: ونكون نحن أيضًا راضين عنه.
شعر «أحمد» بأن الأمر أصبح خطيرًا؛ فهو بين براثن أخطر رجال العالم. ولم يَصِل بعدُ إلى جماعة «إس إس»، فهل يتورط معهم أكثر من ذلك، أم يحاول أن يُنهيَ المسألة من بدايتها؟ ووجد نفسَه مدفوعًا لأن يسألهم عن «سايبرسبيس»، فلم يحصل على إجابة شافية؛ فقد أخبروه أنهم يقدِّمون خدماتهم عبرَ شاشات الكمبيوتر فقط. ويحصلون مقابل ذلك على أرقام في البنوك تُضاف إلى أرقامهم … لا أحدَ يعرف عن أصحابها شيئًا.
شعر «أحمد» أنهم يكذبون. فكيف لا يعرف رجلُ عصابات مثله، يعمل في تجارة خطيرة كتجارة السلاح شيئًا عمن يتعاونون معه. وأصرَّ «أحمد» على أن يكون التعامل بوضوح أكثر وإلا فلا داعي لهذا التعاون؛ فهو يشمُّ رائحةَ عدم ثقة، فقاطعه الرجل قائلًا له: لا. أرجوك مستر «زايد» لقد تحريتُ عنك كثيرًا قبل أن أوافق على مقابلتك.
فابتسم «أحمد» وسأله قائلًا: وماذا عرفت؟
الرجل: عرفت أنك الرجل المناسب لهذا العمل.
فشعر «أحمد» بالزهو … لأنهم استطاعوا خداعَ عصابة مثل المافيا … بما لها من تاريخ في الدهاء، وقال له: إذن لماذا ترفضون أن أقابلَهم؟
فتدخلَت الحسناء قائلةً: أهناك ما يمنع ذلك مستر «ألبرتو»؟
فنظر لها «ألبرتو» مليًّا … ثم قال لها: وماذا ترَين يا «كاتي»؟
كاتي: سأدبِّر لهم لقاء.
ألبرتو: إذن سنؤجل حديثنا إلى أن تلقاهم.
شعر «أحمد» براحة كبيرة عندما تأجل الحديث عن الصفقة المزعومة، رغم أن الجوَّ حوله لم يكن مريحًا؛ فقد لزم «ألبرتو» الصمتَ خلال طريق العودة. وكأنه يترقَّب ما سيستجد من أحداث. بعد لقاء «أحمد» و«سايبرسبيس».
وخلال اليومين السابقين للقائه بـ «إس إس»، شعر أنه مراقبٌ في كل حركاته وسكناته. وقد آثر ألَّا يتصلَ برقم «صفر»، أو يتحدث مع «زبيدة» و«بو عمير» حتى لا يدفعَهم للبحث وراءهم. فيكتشفوا ما بينهم من علاقة فيُوقعهم في المشاكل. وبعد منتصف الليل سمع «أحمد» وقد كان نائمًا في غرفته بالفندق، طَرْقًا على الباب … وتعجَّب؛ فليس هذا ميعادَ تغيير أغطية … وهو لم يطلب عشاء … تُرى مَن يكون الطارق إذن؟