السقوط في بحيرة الجليد!
فتح «أحمد» الباب بحذر وهو يختفي خلفه، فوجد «كاتي» تبتسم في قلق، فبادرها قائلًا في دهشة: سيدة «كاتي» … مساء الخير!
كاتي: سيد «أحمد» … كان يجب أن ألقاك.
أحمد: ألَا يصلح البوفيه للقاء؟
كاتي: لو لم يكن في ذلك خطر عليك، لاتصلتُ بك … والتقينا في مكان ما. فأفسح «أحمد» لها الطريق لتدخل، وتستقر على أول مقعد قابلها. ثم أخرج رأسَه من الباب يبحث في الممر عمَّا إذا كان هناك مَن يراقبها ثم أغلق الباب في حذر، وعاد ليسألها قائلًا: ماذا وراءَكِ سيدة «كاتي»؟
كاتي: سيد «أحمد» … إنني همزة الوصل بين «سايبرسبيس»، ومافيا تجارة السلاح من ناحية، ومن ناحية أخرى … أقوم بمراقبة الاتفاق بينك وبينهم لصالحنا.
أحمد: لصالحكم أنتم «سايبرسبيس»؟
كاتي: نعم وقد شممتُ رائحةَ خطر عليك.
أحمد: ممن؟!
كاتي: سيد «ألبرتو»، فقد أثاره تمسكك بمقابلة جماعة «إس إس»، رغم أن هدفك الرئيسي السلاح!
أحمد: وما الغريب في ذلك؟
كاتي: إنه يشكُّ أنك تبحث وراءهم.
أحمد: حتى إن كان هذا حقيقيًّا، فماذا يضرُّه ما دمتُ لا أبحث وراءه هو؟
كاتي: لا … إن في ذلك كثيرًا.
أحمد: مثل ماذا؟
كاتي: أولًا بين «سايبرسبيس» ومافيا السلاح علاقة عمل، وهم يحترمون ذلك جيدًا … ويحمون مَن يتعامل معهم، ويعتبرون أن الخطر الملحق به … هم مسئولون عنه … ما داموا يستطيعون أن يردُّوه.
أحمد: وثانيًا؟
كاتي: إنك تخدعهم لتُوقعَ بـ «إس إس»، وفي هذا إهانة لهم.
أحمد: وما الخطر الملحق بي؟
كاتي: سيقتلونك.
أحمد: دون البحث خلفي … ومعرفة لمن أنتمي؟
كاتي: لا يهمهم هذا … لأنهم يتعاملون مع مَن يقابلهم أولًا بأول.
أحمد: وماذا ترَين أنتِ؟
نظرَت «كاتي» له مليًّا … وهي مستغرقة في التفكير، فقطعه عليها «أحمد» قائلًا: أنت لا زلتِ تتشكَّكين في نيَّتي، ولكن هناك ما يُثير حيرتي، وهو أنكم تستطيعون أن تقابلوني بمن لا أعرفه، على أنه فريق «سايبرسبيس».
كاتي: ليس المهم أن نخدعك … المهم هو … هل أنت جادٌّ في إتمام صفقة السلاح أم لا؟
أحمد: وإذا كنت جادًّا، ولكن في عقد صفقة خاصة معك أنت، على أن تصلك عمولتُك كاملة عن هذه العملية … دون أن أُتمَّها.
كاتي: نظير ماذا؟
عرف «أحمد» أن «كاتي» يهمها في المقام الأول مصلحتها الشخصية، وأنها لم تأتِ لتحذرَه خوفًا عليه كما تقول. فقرر أن يستفيد منها، وأن يتحدث معها بشكل مباشر؛ فقد يكون ذلك كمينًا نصبَه له «ألبرتو». وفي حذر قال لها: نظير أن ألتقيَ بـ «سايبرسبيس».
كاتي: «سايبرسبيس» أخطبوط ضخم … له أذرعٌ في كل مكان، فكيف سأجمعه لك؟
أحمد: أريد رأسه.
كاتي: لتقطعها؟ … إن كلَّ ذراع له ستتحول إلى رأسٍ يدبِّر ويخطط.
أحمد: ومَن قال لك إنني سأقطعها؟!
كاتي: إذن ماذا تريد؟!
أحمد: أن أُصبح عميلَه في الشرق الأوسط.
شعر «أحمد» أن حيلته قد صدقَتها «كاتي»؛ لأنها سألته إن كان ذلك سيتمم صفقة السلاح أم سيؤجلها أم سيلغيها، فطلب تأجيلَها حتى يقابل الرأس الكبير «سايبرسبيس». وفي هذه اللحظة سمع صوت طرقات عنيفة على باب الحجرة، فنظر في تساؤل ﻟ «كاتي» التي بدَا عليها القلق الشديد. فرفع سماعة التليفون ليطلبَ أمنَ الفندق، فهي أنسب وسيلة، ليُوقع مَن بالباب في الحرج. ولكنهم لم يُمهلوه حتى يتمَّ اتصالُه؛ فقد دفعوا الباب بقوة، ودخل رجلٌ مسلَّحٌ ومعه سيدتان ملامحهما حادة، ونظرتهما قاسية، فنظروا جميعًا ﻟ «كاتي» نظرةَ توعُّد، ثم اصطحبوها في صمتٍ إلى خارج الغرفة دون أن يتعرَّضوا ﻟ «أحمد» أو يتعرَّض لهم. وقد كان ما يُحيره فيما يجري، أن الفتاة لم تُبدِ أية مقاومة، وأن القلق الذي رآه في عينَيها … لم يكن صادقًا!
مما دفعه لأن يتساءل: هل كل ما كان يحدث … تمثيلية من إخراج «ألبرتو»؟ وهل كانت «كاتي» تتفاوض معه في حدود دورها؟ أم أنها تخطَّت ذلك إلى مصلحتها الشخصية كما فهم هو؟
ومن خلف زجاج النافذة، رآها تخرج من باب الفندق ومن خلفها السيدتان تسيران بشكل طبيعي. يسبقهم الرجلُ المسلح إلى سيارة شيروكي تقف على جانب الطريق. وبعد أن ركبوها جميعًا. وتحركت السيارة أمتارًا قليلة، توقَّفَت، ونزل الرجل يُلقي نظرة على العجلات الخلفية ثم ظهر على وجهه عدمُ الارتياح، وهو يُخرج آلة الرفع من مؤخرة السيارة ويُخرج معها العجلة الاحتياطية، وتنشقُّ الأرض في هذه اللحظة عن شابٍّ يعرض عليهم المساعدة … تأكَّد «أحمد» حين رآه أنه هو الذي أفرغ هواء العجلة.
فقد كان الشابُّ هو «بو عمير» الذي أشار له إشارة خفية بعد أن أنهى مهمته، وهمَّت السيارة بالانصراف، ومَن بها يوسعونه شكرًا.
فأبدل «أحمد» ملابسَه بسرعة … وغادر غرفته في الفندق ليلحق به قبل أن يركب سيارة كانت على جانب الطريق. وفي السيارة سأله «أحمد» قائلًا: من أين أتيتَ بهذه السيارة؟
بو عمير: إنها خاصة بالمنظمة.
أحمد: هل اتصلت بهم هنا؟
بو عمير: لا … بل هم الذين اتصلوا … ويحذرونك من مافيا السلاح.
أحمد: وكيف عرفت بوجودهم عندي؟ ومَن الذي أفرغ لهم هواء العجلة؟ ولماذا ظهرَت الآن بالذات؟ ولماذا ساعدتَهم؟ ولماذا؟ …
بو عمير: مهلًا … مهلًا … رفقًا بي يا رجل، إنك مراقَب من رجال العصابة وهم وأنت مراقبون منَّا، أي إننا نسيطر على الموقف حتى الآن، أما لماذا ساعدتهم؟ فلكي أُثبت في سيارتهم جهازَ التتبُّع الذي تسمع إشارته الآن.
فنظر «أحمد» إلى تابلوه السيارة، فرأى ضوءًا أخضر يظهر ويختفي، وصفارة حادة متقطعة، تضعف تارة وتقوى الأخرى.
فسأله قائلًا: هل تعتقد أنهم متجهون الآن إلى أحد مواقع «إس إس»؟
بو عمير: هذا إذا خرجوا من «سويسرا».
أحمد: إننا نسير في الطريق إلى قرية «أنماس» على الحدود الفرنسية.
بو عمير: على الحدود تكثر مواقع العصابات، لسهولة الهروب.
أحمد: تقصد أننا ذاهبون إلى «المافيا» الآن؟
بو عمير: نعم.
قبل دخول قرية «أنماس»، توقَّفت السيارة الشيروكي على جانب الطريق بين الأشجار، ونزل منها كلُّ مَن بها ما عدا «كاتي» التي انطلقَت بأقصى ما في السيارة من سرعة، وكأنها تحاول الهرب ممن يتتبَّعها، فاندهش «أحمد» لذلك، فكيف عرفت «كاتي» أن هناك مَن يراقبها؟ ولماذا هربت هي، ولم يهرب مَن كانوا معها؟! ولم يكن هناك غير احتمال أن تكون على موعد هام مع قيادتها.
فطلب من «بو عمير» النزولَ خلف السيدتَين والرجل، وتابع هو السير خلف «كاتي» لعله يَصِل إلى طرف الخيط الذي يُوصله إلى «سايبرسبيس» أو «إس إس».
طال السير ﺑ «أحمد» خلف «كاتي» حتى دخلَت قرية «أنماس». فانحرفت إلى بوابة خشبية مفتوحة لسور سلكي، يُحيط بحديقة شديدة الاتساع، يظهر في مؤخرتها مبنًى أبيض اللون شديد الفخامة فعبرت البوابة، وأكملَت سيرها وعند منتصف الحديقة مالَت السيارة ميلًا شديدًا … ثم اختفت … فاندهش «أحمد» لما رأى. وبأقصى ما في السيارة من سرعة، انطلق صوب نفس الموقع، الذي اختفت عنده سيارة «كاتي»، ولكن بمجرد عبوره البوابة الخشبية، انطلقَت عليه وحوله إشعاعاتُ ليزر من مكان مرتفع، وهو يبعد عنها منحرفًا بالسيارة يمينًا وشمالًا. حتى بلغ نفسَ الموقع الذي اختفَت عنده «كاتي». ولكن سيارته لم تَمِل ولم تختفِ. فأكمل السير، حتى بلغ المبنى الأبيض، فترك السيارة بجواره … وفي خفة وحذر تسلَّق المساحة المكشوفة المرتفعة، التي تُحيط بالمبنى. ليرى أمامه الدور الأول كله عبارة عن أبواب وحوائط زجاجية ومن خلفها تظهر أرضية بيضاء لامعة تتوسطها نافورة كبيرة. … تتناثر حولها مجموعة من النافورات الصغيرة البديعة المنظر. وتملأ المكان شجيرات صغيرة، تُماثل تمامًا أشجار الغابات العملاقة. إنها نتاج أبحاث الهندسة الوراثية التي استطاعَت أن تخلق نخلة ناضجة في حجم أصبع الموز، وتجعل الحصان صغيرًا في حجم الكلب.
ووسط هذا المنظر الخلَّاب، يقف سلَّمٌ بلوريٌّ … شفافٌ، تعكس درجاتُه ألوانَ أشعة الشمس التي تسقط عليه من النوافذ العلوية، فيُخيَّل لمن يراه أنه ينزل من السماء، جرى «أحمد» حول المبنى، يبحث عن ثقبِ مفتاح يُعالجه ليدخل … فلم يجد، ولم يجد بابًا مواربًا. وكان كلما لامس زجاج باب أو حائط، ظهرَت عليه صورتُه ملونة. فحاول ركْلَ أحدِ الأبواب بقدمه … فآلمَته ألمًا شديدًا ولم يتحرك الباب، وعندما أعيَته الحِيَل، قرر الرجوع من حيث أتى، لكن فجأة رأى كلبًا صغيرًا لا يظهر منه غير عينَيه وأنفه، وكأنه كرةٌ من الشعر الأبيض؛ فقد خرج من مكان حول المبنى. فتتبَّعه أن وجد نفسه داخل المبنى ولم يفكِّر كيف حدث ذلك. فقد بهرَه كلُّ ما رآه ولم يَعُد أمامه غير صعود السلم، لاكتشاف ما بالمبنى.
وخلف كرة الشعر البيضاء. جرى صاعدًا السلَّم البلوري. ولكنه لم يجد السلَّمَ الذي رآه … بل رأى نموذجًا آخر يشبهه، تنتهي درجاتُه السفلى داخل بحيرة مجمدة، وشعر ببرودة شديدة في قدمَيه، فتعجب لذلك ومن أعلى الغرفة … سقط شعاعُ ليزر أحمر … فرسم دائرةً على البحيرة حول السلَّم.
وبعده شعاعٌ آخر أزرق يرسم دائرة أوسع … وتتابعَت الأشعة بألوان جذابة … تلوَّنَت بها البحيرة … وانعكست ألوانها على زجاج الأبواب والحوائط، في مهرجان ألوان رائع … وانبعث من البحيرة دخانٌ كثيف، وشعر «أحمد» وسط انبهاره بدفءٍ في قدمَيه. ثم فجأةً تهاوَى السلَّمُ كلُّه، في شلَّال ماء. وسقط «أحمد» في قلب البحيرة وعقله متوقف عن التفكير، من شدة انبهاره ودهشته لما يحدث؛ فقد كان السلَّم من الثلج وكان القرار الوحيد الذي اتخذه وهو في هذه الحالة أن يغوص إلى قاع البحيرة … ليعرف إلى ماذا يُفضي؟ وقد كان قرارًا جريئًا وشجاعًا. وفي قاع البحيرة، وجد كرةً برتقالية مضيئة … كانت هي أول ما رآه في القاع.
فسبَح ومدَّ يدَه ليلتقطَها … ولكنها راوغَته يمينًا وشمالًا وكأنها تُلاعبه. فسكت عنها … فتحرَّكَت إليه وعندما هَمَّ بالإمساك بها … راوغَته مرة أخرى. وفي هذه اللحظة شعر باختناق شديد، فصَعِد إلى سطح الماء في سرعة خارقة … وشعر أنه لو كان قد تأخَّر ثانية واحدة … لمات مختنقًا. وعلى سطح الماء … وبعد أن تنفَّس الكثير من الأوكسجين، بدأ عقله يعمل مرة ثانية؛ فالمخ غذاؤه الأوكسجين، وبدأ يفكر في ماهية هذا الكائن الكروي البرتقالي … المضيء؟ وهل هو كائن حي؟ … أم آلة؟
وهل هو كائن طبيعي أم مخلَّق؟ وهل هو من ثمار الهندسة الوراثية أيضًا؟ وهل سلوكه معه … سلوك طبيعي؟ أم أن هناك مَن يُوجِّهه؟ لقد كان بمظهره الأخَّاذ … وسلوكه الذكي هذا سوف يؤدي به إلى الهلاك.
وتساءل بينه وبين نفسه هل هو مدرب؟ … أم هناك مَن يقوم بتوجيهه؟
وبعد أن استراح وأخذ كفايته من الأوكجسين، توجَّه إلى قاع البحيرة … قاصدًا ذلك المخلوق … ولكنه … وهو في الطريق إليه، واتَته فكرةٌ ذكية … فلربما كان هذا المخلوق يقصد بسلوكه هذا أن يصرف الانتباه عن شيءٍ هامٍّ وحيوي بقاع البحيرة. وهو إن لم يورد مَن يراه موردَ التهلكة مختنقا تحت الماء … فإنه يلفت انتباهَه وبذلك يصرف نظرَه عن شيء هام.
لذلك حاول ألَّا ينشغلَ به، وأن يبحث حوله عمَّا يحميه هذا المخلوق، فرأى حلقة ذهبية كبيرة نسبيًّا … تكفي لأن يُدخل فيها كفَّ يده كاملًا.
عندما توجَّه إليها ليفحصها … هاجمه ذلك المخلوق … مندفعًا إلى وجهه، فأخطأ الطريق إلى الحلقة، ثم أعاد المحاولة مرة أخرى … وفي كل مرة يهاجمه المخلوق … فلا يستطيع الانقضاض على الحلقة … أو عليه.
شاغلَه لحظاتٍ بمحاولة الإمساك به، وقرَّب في نفس الوقت مشطَ قدمِه ليُدخلَه في الحلقة … إلا أن المخلوق البرتقالي، جرى إلى الحلقة ولمسها، فارتعد «أحمد» وكأنه يسير في حدة تيار كهربائي قوي. فأبعد قدمه في فزع … وصَعِد إلى سطح الماء مرة أخرى، وحاول الخروج من البحيرة، إلا أن الأرض كانت زلقةً للغاية، فباءَت كلُّ محاولاته بالفشل … فشعر أنه لا محالةَ مقضيٌّ عليه في هذا المكان.
كان الإجهاد قد تسلَّل إليه مع برودة مياه البحيرة، فزاد من شعوره بالإعياء، مما جعله يضرب الماء سابحًا جيئةً وذهابًا، ليبثَّ الدفء في أوصاله، ويُبعدَ الشعور باليأس والاستسلام عن نفسه، فرأى الكائن البرتقالي يُشاغله مرة أخرى على سطح الماء، فعرف أنه يريد أن يتركه ميتًا.
فامتلأ بالغيظ منه، وانقلب في سرعة جنونية، فأصبحَت رأسه في مواجهة القاع، وكالصاروخ … غاص في الماء متوجهًا إلى الحلقة الذهبية، وقدماه تدوران في الماء، تضربان الكرة البرتقالي، التي كانت تحاول الإفلاتَ منه، والمرور إلى الحلقة الذهبية.
إلا أنه لم يُعطِها الفرصة، بل جعَل جسدَه كلَّه كتيبةَ دفاع، تمنع هذا الكائن الغريب من المرور إلى الحلقة … سر أسرار هذه البحيرة والتي بدأ الماء فيها يبرد بصورة سريعة حتى إنه يشعر بأطرافه تكاد تتجمد.
وراودَته في هذه اللحظة أفكارٌ مزعجة من أن هذه البحيرة كانت متجمدةً قبل سقوط أشعة الليزر عليها، وستعود لتتجمَّد مرة أخرى بعد زوال تأثير الأشعة، وسيتحول هو معها إلى مستطيل من الثلج. ولكي يزيدَ من مقاومته النفسية أخذ يتساءل بينه وبين نفسه!