الهروب في أنبوبة!
هل الكائن ذكي إلى هذه الدرجة؟ أم أن هناك قوةً عاقلة تُحرِّكه؟ من المؤكد أنه هناك مَن يراقب «أحمد» من خلال كاميرا تليفزيونية، ويحرِّك هذا الكائن لينفِّذ ما يريد وهذا ما أشعر به.
ظل الكائن البرتقالي يُراوغه، ويندفع ليصطدمَ بوجهه بغتةً. في الوقت الذي بدأَت تقترب فيه درجةُ حرارة الماء من الصفر المئوي. فاستجمع كلَّ قواه، وانقضَّ على الحلقة الذهبية يشدُّها، فلم تستجِب له، وبدأ ماء البحيرة يتجمَّد وهو يحاول مع الحلقة، حتى سمع وهو يشدُّها صوتًا مكتومًا لاحتكاك جسمَين معدنيَّين، وبعده دارَت الحلقة في يده، وبدأ الدفءُ يسري في الماء مرة أخرى، فأدارها في الاتجاه المضاد، فرأى الكائن يتحرك لأسفل في دوامات. فتشبَّث بالحلقة الذهبية، حتى لا يجرفَه الماء فيصطدم بالقاع.
وأخذ يبحث بعينَيه عن الكائن البرتقالي، فلم يجده، فعرف أن دوره قد انتهى وخلَت البحيرةُ من الماء تمامًا، وأصبحَت كحمام السباحة العميق الفارغ. ولم يكن بها ما يُعينه على الصعود إلى قمتها، والخروج منها وتساءل: هل سيُمضي اليومَ كلَّه في قاع البحيرة، وملابسه مبتلة؟ وقد نال منه التعبُ قسطًا كبيرًا … أم ستحدث مفاجأة ويأتي مَن يُنقذه من هذا المأزق؟ ولكن هل سينتظر مَن يأتي ليُنقذَه؟! إلا أنها ليست مبادئ الشياطين ولا روحهم.
دارَت كلُّ هذه الأفكار في رأسه وهو جالس بقاع البحيرة فانتفض واقفًا، ينفض رأسَه مما به، وشعر أن الدماء تجري ساخنةً في عروقه، وأنه أتَته فجأة قوةُ ألفَي رجل، فجرى يطوف بأنحاء البحيرة، يبحث عن منفذ يمرُّ منه إلى خارجها. وتذكَّر الكائن البرتقالي، وفكرة وجود كاميرا تليفزيونية تُراقبه.
فدار يفحص حوائط البحيرة بعناية، ولفتَ نظرَه وجودُ نقوش متداخلة تسمح بإخفاء عين الكاميرا بينها، وكانت وحدات هذه النقوش كثيرةَ العدد، مما جعل فحصها أمرًا مرهقًا. وأصاب «أحمد» بتداخل في الرؤية، حتى إنه رأى إحدى هذه الوحدات تتسع وتضيق في بطء، فراقبها جيدًا، لعله لا يكون إرهاقًا، وتكون هذه هي عدسات الكاميرا، فبعد أن خلع جوربَه المبتلَّ ولصقه على هذه الوحدة، فجأة علَا صفيرٌ حادٌّ يصمُّ الآذان، وتردَّد بين جدران البحيرة، مما جعل «أحمد» يسدُّ أذنَيه بيده، من جراء ما تسببه من صداع وألم في رأسه.
وظهرَت في هذه اللحظة بقعةٌ مستديرة مظلمة، تتوسَّط قاع البحيرة، فجرى إليها … وقد كانت الأرضُ زلقة، فانزلقَت قدماه، وسقط داخلها وشعر أنه ينزلق بسرعة كبيرة داخل أنبوبٍ ضخمٍ ملتوٍ، وقد لفَّه الظلام، ثم سقط فجأة جالسًا على مقعد … في قاعة مضيئة … واسعة. لا يوجد بها غير شاشات الكمبيوتر، وروبوت يقف أمامه، له عينان حزينتان جعلَته رغم الإجهاد والجوع، يبتسم له في تعاطف، ولفت نظرَه في هذا الروبوت، أنه يجمع في تركيبه بين التكوين الصناعي والطبيعي؛ فهيكله مغطًّى بما يُشبه اللحمَ الحي، وعيناه غيرُ مصمتتَين، ويغطي غلافه الخارجي شعيرات دقيقة، وكأنها قرون استشعار، مما جعله يزداد يقينًا أنه نتاج تعاون بين علماء الإلكترونيات والميكانيكا والتكنولوجيا.
وكأنما تقرأ هذه الأجهزة أفكارَه؛ فقد نطق أحدها قائلًا: إنه نتاج علم حديث، يجمع بين علم الفيزياء، والميكانيكا، والبيولوجي، والنبات إنه نتاج علم حديث، إنه المعمار الكوني الجديد الذي يشارك فيه الإنسان والهدف منه هو خلق معاونين للعلماء، ذوي صفات خاصة جدًّا يحتاجهم لمهام لا يقدر عليها الإنسان.
فسأله «أحمد» بالإنجليزية: مثل ماذا؟
الكمبيوتر: كإرساله إلى الفضاء الخارجي لاستكشاف كواكب جديدة أو للعمل في المفاعلات الذرية، أو لإرساله لإقامة حياة، وصناعات في القطب الشمالي أو الجنوبي، أو للبقاء لفترة طويلة تحت الماء لإجراء البحوث في قاع البحار والمحيطات.
أحمد: وهل هو مهيأ لكل هذا؟
الكمبيوتر: إنه عدة أنواع. أقصد أكثر من تصميم، وكل تصميم له تركيب خاص، ومصدر إمداد بالطاقة يصلح للمهمة التي صُنع لأجلها.
أحمد: ومن أين يحصل على الطاقة؟
الكمبيوتر: منهم المدعم بتكوين نبات فيحصل على طاقته من الضوء.
أحمد: كعملية التمثيل الضوئي في النبات؟ والتي يحول فيها النبات ثاني أكسيد الكربون والهيدروجين إلى مواد كربوهيدراتية وأوكسجين!
الكمبيوتر: إنها نفس العملية.
أحمد: ومَن الذي يُنفق على هذه الأبحاث؟
في هذه اللحظة … تتابعَت المعلومات على شاشات الكمبيوتر في سرعة … وصدرَت من الكمبيوتر كلماتٌ متداخلة ليس لها معنًى، ثم ظهرَت على شاشة عملاقة تتصدر القاعة، شبكة عصبية معقَّدة، وشعاع يتحرك على مساراتها … فتخرج منه حروفٌ عندما اكتملَت كوَّنت كلمة «سايبرسبيس». علَت ملامح الدهشة على وجه «أحمد»، وعرف الدافع الذي أدَّى بمجموعة من العباقرة إلى استخدام أحدث تقنيات العصر في السرقة والنصب. فقال في نفسه: إن الهدف مهما كان ساميًا … لا يُبرِّر الوسيلة غير الشريفة … فلا يصحُّ أن نسرقَ لكي نعالجَ مريضًا … أو لنقويَ دعائم منزل معرَّض للانهيار؛ فانهيار منزل سيضرُّ إنسانًا أو اثنين أو خمسة، أما انهيار الأخلاق فستضر الإنسانية كلها.
كان الروبوت الأخضر … لا يزال واقفًا في مواجهة «أحمد» … وعيناه تفحصانه بدقة … وكأنه كائنٌ عاقل … فأوحى له سلوكه هذا بفكرة قد تحلُّ له مشاكله مع «سايبرسبيس»، فتفحص شكلَ وتكوين الروبوت الأخضر بدقة … وقد أُعجب كثيرًا بما في تكوينه من اندماج معقد بديع لعدة علوم. فغمغم قائلًا: يا لَك من «روبوت»!
فردَّ عليه الكمبيوتر قائلًا: إنه ليس «روبوت» … إنه كائن له خلايا عصبية وبمكوناته مادة حية، رغم أنه غيرُ حي، لأنه مخلق صناعي.
أحمد: أليست به روح؟!
الكمبيوتر: نعم … أما الروبوت … فإنه آلة معدنية … تقوم بفعلٍ صُمِّمت لأجله فقط، ولا تستطيع التصرف من تلقاء نفسها، مع ما يقابلها، وما يستجد عليها ولا تنمو … ولا تتكاثر …
فسأله «أحمد» مندهشًا: هل ينمو ويتكاثر؟
الكمبيوتر: ما دامت به مادة حية … فهو لا يستطيع ذلك.
شعر «أحمد» أن الوقت قد طال … وهو بملابسه المبتلَّة ما قد يعرضه للمرض … وشعر أيضًا بالجوع، فاضطرَّ إلى سؤاله عن مصيره. وهل يوجد مَن يتحدث معه ليضع نهاية لموقفه هذا؟
فأخبره الكمبيوتر أنه مدعوٌّ لاجتماع مع «سايبرسبيس»، فكادت الفرحة تتسلَّل إلى قلبه. لأنه وصل إلى هدفه إلا أنه عاد وسأل قليلًا: هل سأجتمع معهم اجتماعًا حيًّا … أم عبر شاشات الكمبيوتر؟
الكمبيوتر: لا تتوقع غير ذلك يا صديقي … فلن تلتقيَ معهم إلا عبر شبكة الإنترنت، ولا تنسَ أن اسمَهم هو أحد أسماء هذه الشبكة.
شعر «أحمد» بخيبة أمل شديدة، إلا أنه رأى أنها خطوة على الطريق، وانتظارًا لهذا الاجتماع، جلس أمام أحد الأجهزة، وبمهارة الخبير … تعامل مع لوحة أزراره، ودخل على شبكة معلومات جماعة «إس إس»، إلا أنه شعر أنها مراقبة فخرج منها، وجرب الاتصال ﺑ «بيتر» الذي كان في قمة سعادته عندما تلقَّى اتصاله على الشاشة وأخبره «أحمد» أنه في مأزق، وأنه يطلب منه أن يطلبه على الرقم القديم، ويبث على جهازه أرقاما وحروفا شفرية معينة.
وطبعًا لم يفهم «بيتر» أنها رسالة موجَّهة إلى رقم «صفر» … ولن يفهمَها غيرُه.
وعندما همَّ بالاسترسال في الاتصال … شعر بمن يقف خلفه، ويمدُّ يده ليُمسك بمعصمه بقوة، ويقوده إلى بوابة مستديرة … وعندما دخل منها وجد نفسه مرة أخرى داخل أنبوب ضخم لكنه مضاء … ولم يكن أمامه غير السير حتى نهايته … فوجده مسدودًا، فعاد مرة أخرى محاولًا الخروج فوجده مغلقًا من الناحية الأخرى.
ثم شعر به يتحرك، وكأنه نائم على سطح سيارة نقل … وقد كان هذا ما يحدث؛ فقد حملَته سيارة كبيرة، وهو داخل الأنبوب وخرجَت به من قرية «أنماس».
كان «بو عمير» في هذه الأثناء مختبئًا داخل أحد الشاليهات المهجورة على الطريق … ومعه رجلُ المافيا الذي كان مختطف «كاتي». وهو الذي أخبره عن مرور السيارة النقل التي تحمل «أحمد» في الطريق إلى جنيف … وتحت تهديد السلاح، أشار الرجل ﻟ «بو عمير» على السيارة عند اقترابها منه، فضربه، ففقد وعْيَه وجرى هو خلف السيارة، التي كانت تسير ببطء؛ حيث خلع خنجرًا حادًّا من على فخذه، وغمده في عجلة السيارة، فدار معها حتى أصبحت فوقه … ودوى صوتُ انفجارها، فانحرف بها سائقها، وتوقَّف على جانب الطريق ليستطلعَ ما يحدث … فخرج له من بين الأشجار «بو عمير» … وعرض عليه مساعدته، وكان الرجل وحده، فرحَّب كثيرًا، وبعد أن انتهى من تركيب العجلة، جمَع معدَّاتِه، وذهب إلى كابينة القيادة، ففوجئ بالسيارة تتركه وترحل، فأخرج مسدسه، وانهالَت طلقاتُه صوب السيارة، وعلَت صرخاتُ الرجل يأمر «بو عمير» بالرجوع بها حتى غابَت عن عينَيه.
وبعد فترة من السير، توقَّف داخل محطة بنزين لإعادة تموين السيارة … وتركها لعامل المحطة، وصَعِد إلى سطحها، يحاول فتْحَ الأنبوب، فلم يجد له منفذًا وليس هناك وقتٌ للتفكير، ورجال العصابة سيتوافدون للبحث عن السيارة … وما عليها. فملأ زجاجةً فارغة بنزينًا، وسكبه على قاعدة الأنبوب، ثم أشعل فيها النيران … وعندما رأى عامل المحطة ما يحدث، صرخ فيه يأمره بالابتعاد بها عن خزانات الوقود، فاستقلَّها «بو عمير»، وأسرع بها يُخفيها بين أشجار كثيفة الخضرة، متشابكة الأفرع على جانب الطريق.
وكان الأنبوب من البلاستيك السميك فأتَت النار على قاعدته التي سالَت مشتعلة على سطح السيارة، ودخل النور إلى «أحمد» الذي جرى خارجًا منه، غير عابئ بالنار، وقد ساعدَته على ذلك ملابسُه المبتلَّة، ثم قفز من فوق السيارة فاصطدم ﺑ «بو عمير»، وسقطَا سويًّا وسط ضحكاتهما على الأرض.
عندما وصلَا إلى محطة البنزين طلب «أحمد» من العامل الذي لم يرَه من قبل الاتصال بالبوليس؛ لأنه رأى سيارة مشتعلة بين الأشجار.
ثم استقلَّا تاكسيًا، توقَّفا به في الطريق، وانتظرَا حتى اختفى عن عيونهما، ثم استقلَّا تاكسيًا آخر حتى باب الفندق الخلفي … فغادره «أحمد» تاركًا «بو عمير» يحاسبه، وصَعِد هو إلى غرفته ليُبدل ملابسه، وينزل تحت الأغطية الثقيلة ليستمتعَ بدفءِ الفراش بعد برودة ماء البحيرة.
عندما التحق به «بو عمير» وجده، وقد نال منه الإعياء، فطلب من إدارة الفندق لهما عشاءً ومشروباتٍ ساخنةً، ثم فتح التليفزيون ليُريحَا أعصابهما، بعدما واجهاه طوال النهار، وتمدَّد على الفراش الآخر؛ فقد كانت الغرفة مزدوجة (أي ذات سريرين).
لم تمضِ دقائق حتى طرق البابَ عاملُ البوفيه، فأمره بالدخول، فوضع ما بيديه ثم قال لهما … ألم تشاهدَا الأخبار؟
أحمد: لماذا؟
العامل: هناك حريقٌ كبير على الطريق إلى «أنماس» بسبب انفجار سيارة نقل.
فقال «بو عمير» في قلق: على الطريق إلى «أنماس»؟!
العامل: نعم … وقد أدلَى البعضُ بأوصاف مَن كانوا بالسيارة …
أحمد: والبوليس يبحث عنهما؟
العامل: نعم.