حادثٌ غريبٌ في الطريقِ إلى المطار!

عندما هبطَت الطائرةُ في مطار «الدار البيضاء» كان أوَّل ما فعلَه «أحمد» أن أسرعَ إلى مكاتب شركات الطيران في المطار، يبحث عن تذاكر إلى باريس، وكانت المفاجأة أنه لم يجد. وقف ينظُر إلى «باسم» الذي قال مبتسمًا: إن الأفكار المجنونة سوف تُعطِّلنا كثيرًا!

ردَّ «أحمد»: لا بأس. لكنها سوف تعطي نتائجَ طيبة!

سأل «باسم»: ما الذي نفعله الآن؟

انتظر «أحمد» لحظةً قبل أن يقول: لقد تركنا اسمَينا على قائمة الانتظار في كلِّ شركات الطيران، وعلينا أن نبقى في المطار؛ فقد تحدَّث مفاجأةٌ ويتخلَّف أحدٌ عن السفر! ألقى نظرةً على ورقةٍ في يده، تحمل مواعيد إقلاع الطائرات من مطار «الدار البيضاء»، قال في نفسه: يجب ألا نفقد الأمل.

كان «باسم» يتأمل وجه «أحمد» المستغرق في التفكير. كان هو الآخر يفكِّر: لو أن الظروف عاكسَتْهما، فلم يجدا طائرةً واحدةً لعدة أيام، ماذا يمكن أن يحدُث؟

نظر له «أحمد» مبتسمًا، ثم قال: لا تفقد الأمل. إننا نتصرَّف بشكلٍ طيب.

قال «باسم»: أرجو أن تكون النتائج طيبةً أيضًا!

كان الوقت يَمُر، وهما في انتظار أن يسمعا صوتَ مذيعة المطار، تُعلِن اسمَيْهما، لكن ذلك لم يحدث. قال «أحمد»: هيَّا نشرب شيئًا!

اتجها إلى كافيتريا المطار وطلَبَا شايًا، كان هناك بعض المسافرين، أخذ «أحمد» يتأمَّل الموجودين، ابتسم بينه وبين نفسه، وفكر: هل يتحدَّث إلى أحدهم، ويطلُب منه التنازل عن تذكرة سفره؟!

كانت فكرةً غير معقولة. لكنه كان يُقلِّب كلَّ الأمور في خاطره. فجأة، حدث ما لم يتوقَّعاه، خصوصًا بعد أن فقدا الأمل في السفر اليوم، كانت المفاجأة أن سمع «أحمد» اسمه يتردَّد من خلال ميكرفون المطار، نظر له «باسم» وسأل في دهشة: هل تسمع؟

قال «أحمد» هامسًا: نعم، هل تكون المعجزة قد حدثَت، وتجد تذكرتَي سفَر!

قال «باسم»: من يدري؟ ما دُمتَ لم تفقد الأمل!

قفز الاثنان من مقعدَيهما، وأسرعا إلى غرفة الميكروفون، قالت المذيعة: شركة الطيران الفرنسية تطلبك!

أسرعا إلى حيث مكتب الطيران الفرنسي، وهناك عرفا أن مسافرًا قد تخلَّف وأن أحدهما يستطيع السفر، نظرا إلى بعضهما، وقال «باسم» بسرعة: فيم تفكِّر؟ عليك بالسفر حالًا، وسوف ألحق بك.

ثم ابتسم مضيفًا: إلا إذا كنت تتصوَّر أنني لن أستطيع التصرُّف!

شدَّ «أحمد» على يدَي «باسم» وهو يقول: الشياطين يعرفون جيدًا كيف يتصرَّفون.

انتظَر لحظةً ثم أضاف: إذا حدث أي شيء، فسوف أترك لك رسالةً شَفريةً في المقَر.

ثم انصرَف مسرعًا إلى حيث باب الدخول إلى صالة السفر، وظل «باسم» يرقُبه وهو يختفي؛ فعليه الآن أن يبحث عن وسيلةٍ حتى يَلحَق بالشياطين.

عندما استقرَّ «أحمد» في مقعده داخل الطائرة كانت المقاعد كلُّها مشغولة. كان يتملَّكه شعورٌ حزينٌ وهو يترك «باسم» وحده، ورغم أنه ظل يُحاوِل أن يمنع هذا الشعور، إلا أنه ظل يملأ أعماقه؛ فالشياطين دائمًا يتحرَّكون كفردٍ واحد.

قال «أحمد» في نفسه: هذه الأفكار المجنونة الملعونة هي السبب!

لكنه ردَّ على نفسه: إنها أفكارٌ طيبة. وهكذا ينبغي أن يفكِّر الشياطين.

حلَّقَت الطائرة في الفضاء في طريقها إلى باريس، فكر «أحمد»: هل وصل «فهد» من «بون»، وهل وصل «مصباح» و«قيس» من مدريد، إن كانت الطائرات سوف تكون مُيسَّرةً لهم في هذا الوقت بالذَّات، والناس تزحف من كلِّ مكانٍ لمشاهدة مباريات كأس العالم؟

ألقى نظرةً سريعةً على مَن يجلس بجواره، كانت سيدةً في حدود الخمسين من عمرها، مستغرقةً في قراءة كتاب. جرى بعينَيه سريعًا فوق سطور الكتاب، فعرف أنه رواية. تذكَّر كتاب «صائد الجواسيس» الذي اشتراه. أخرج الكتاب، ثم استغرق وهو يقول لنفسه: إن هذا هو الحل الوحيد حتى أهرب من أفكاري ومشاعري.

مرَّ الوقت، وهو مُستغرِقٌ في قراءة عالم الجواسيس المثير. ولم يُفِق إلا على صوت مذيعة الطائرة تُعلِن قرب وصولهم إلى مطار «أورلي» في باريس، وأن على الركَّاب أن يربطوا الأحزمة. أغلق كتابه وربط الحزام، ثم ألقى نظرةً من نافذة الطائرة. كان الليلُ في الخارج يبدو كقطعةٍ من القطيفة السوداء وقد تناثَرَت فيها ثقوبٌ قليلة. بعد قليلٍ بدأَت أضواء باريس تلمَع، كانت كعقود الماس، تتلَألَأ، ثم أخذَت الطائرة تهبِط في مطار «أورلي».

عندما لمسَت عَجَلات الطائرة أرض المطار ارتجَّت الطائرة قليلًا، ثم استمرَّت في طريقها حتى توقَّفَت. وفي دقائق، كان يأخذ طريقه للخروج خارج المطار، في منطقة انتظار السيارات. وجد سيارةً في انتظاره. أخرج مفاتيح، ثم فتح السيارة، وأخذ مكانه خلف عَجلة القيادة. إن المعروف أن للشياطين سياراتٍ في كل مكانٍ من العالم. وعندما يصل أحدهم إلى مكان فدائمًا السيارة في انتظاره، ودائمًا عندما يخرج الشياطين في مغامَرة يحملون المفاتيح الخاصة بمنطقة المغامَرة، وإن كانوا في بعض الأحيان يستقلُّون تاكسيًا، إذا كانوا يريدون تنفيذَ فكرةٍ ما.

أدار «أحمد» موتور السيارة، ثم ضغط زرَّ الراديو. فجأةً وصلت رسالة. مرحبًا بك في باريس … عَرفَ أن الرسالة من عميل رقم «صفر»، «هربرت جليم هاي».

ابتسم وهو يهمِس: سوف نلتقي يا عزيزي «هربرت». ضغط زرَّ الراديو ورفع سماعة التليفون. ترددَّ جرسٌ في الجانب الآخر. ظل يسمع الجرَس. لكنَّ أحدًا لم يرُد. قال في نفسه: هل لم يصل أحدٌ من الشياطين حتى هذه اللحظة؟

وضَع السمَّاعة وبدأَت أفكاره تجري في كل اتجاه. أخرج جهازًا صغيرًا من حقيبته، ثم ضغط زرًّا فيه، ولم تَمضِ لحظة، حتى كان الجهاز يعطي إشارةً حمراء متقطِّعة، ابتسم وأغلق الجهاز وهو يهمِس لنفسه: الشياطين دائمًا جاهزون.

فجأةً أعطى جهاز الاستقبال في الحقيبة إشارة. عرف أن هناك رسالة. أخرج الجهاز ووضَعه بجواره على المقعد الآخر. فجأةً لمَع ضوءٌ قويٌّ في الاتجاه المقابل فأغمض عينَيه، وعندما فتحَهما كانت السيارة في الاتجاه المقابل قد اختفَت. انتظر لحظة، ثم ضغط زرًّا في الجهاز، فبدأ يسمع الرسالة. كانت رسالةً شفريةً تقول: «٢٧ – ٢٠ – ٤ – ٨ – ٩»، نقطة، «٨ – ٢٩ – ٢٧ – ٩»، نقطة، «٢٦ – ٤ – ٢٦»، نقطة، «١٠ – ٢٢»، نقطة، «٩ – ٢٨ – ٢٦ – ٣٠ – ١٤ – ٢٥»، نقطة. انتهت.

كان يُترجِم الرسالة، وبعد أن انتهى ابتسَم ابتسامةً عريضة؛ فقد عرف أن الشياطين ليسوا في المقَر، وإنما هم يجلسون في مكانٍ عَرفَه من الرسالة. فجأةً لمَع ضوءٌ قويٌّ يأتي من الخلف، لكنه انعكس على عينَيه من مرآة السيارة، فاضطُر أن يُغمِض عينَيه، وينحرف بالسيارة إلى يمين الطريق؛ فقد فهم أن السيارة تأتي بسرعةٍ وتريد المرور. قال في نفسه: إن السائق قد ارتكب خطأً فادحًا؛ لأن الطريق السريع خالٍ. ومن حسن الحظِّ أنه لم تكن هناك سيارةٌ في يمين الطريق … إذن لكانت هناك حادثة.

مرَّت السيارةُ بجواره في سرعةٍ رهيبة، ثم فجأةً أطلقَت دخانًا كثيفًا جعلَه لا يستطيع الرؤية. خرج عن الطريق بسيارته، ثم توقَّف، فكَّر: هل هذه مسألةٌ مقصودةٌ … أو … أنها مجرد مُصادَفة، لكن، لماذا هذا الدخان الكثيف؟ ظلَّ في مكانه لا يتحرك. مرةً أخرى قال لنفسه: هل تكون هذه بدايةَ ألاعيب «هربرت جليم هاي»، وهل ما فكَّر فيه صحيح؟

ظل مستغرقًا في تفكيره. لكنه بعد دقائق عاد بالسيارة مرةً أخرى إلى الطريق. وظل متقدمًا في أول حارةٍ من الطريق؛ فهو يعرف أن اتساع الطريق مُقسَّم إلى حارات، كلُّ حارةٍ لها سرعةٌ معينةٌ لا يتجاوزها السائق. وهو حريصٌ على اتباع الإرشادات؛ فأيُّ خطأٍ يمكن أن يتسبَّب في كارثة.

فجأةً مرةً أخرى، لمَع ضوءٌ قويٌّ في الاتجاه المقابل. كان الضوء مبهرًا جدًّا، حتى إنه حاوَلَ ألا ينظر في اتجاهه. لكن النور كان يغطِّي السيارة تمامًا. قال في نفسه: هل أستدعي الشياطين فربما كانت هذه مسألةً مقصودة؟ لكنه لم يفعل، ظل متقدمًا بنفس سرعة الحارة التي يمشي فيها.

فكَّر: لقد عَرفَ «هربرت» موعد وصولي عن طريق السيارة، ولو كنتُ ركبتُ تاكسيًا ما عَرفَ أنني موجود. وهو يعرف أن الشياطين موجودون أيضًا. إن هذا خطأٌ وقعتُ فيه. ضغط بنزين السيارة، فاندفعَت أكثر، ثم انتقل إلى حارةٍ أخرى. فجأةَ جاء ضوءٌ قويٌّ من الخلف مع ضوءٍ قويٍّ من الأمام، فهِم أن هذه مسألةٌ مقصودة، وأنها لا يمكن أن تكون صدفة. ضغط زرًّا في تابلوه السيارة، فاندفع سائلٌ أخضرُ اللون يغطِّي الزجاج الأمامي للسيارة، فيحجُب عنه الضوء تمامًا، ضغط قدم البنزين، فاندفعَت السيارة كالصاروخ، وانتقل إلى حارةٍ أخرى، لكن في نفس اللحظة كانت السيارة الخلفية قد أوشكَت أن تصل إليه، انحرف بسرعة إلى الحارة المجاورة فمرَّت السيارة الأخرى وكأنها سهمٌ انطلَق من قَوسِه.

قال في نفسه: إنها محاولةٌ لمعركةٍ لا أعرف مصدرها لكنِّي لن أدخُلها الآن؛ فوقتُ المعركة لم يَحِن بعدُ.

ظل متقدمًا في الطريق. كانت أضواء باريس قد بدأَت تلمع؛ فمطار أورلي يقع خارج المدينة. قال في نفسه: لا أظن أن المطاردة سوف تستمر داخل باريس. والمهم الآن أن نصل إلى هناك قبل أن أدخل المعركة!

ضغَط قدَم البنزين أكثر، فكادت السيارة أن ترتفع عن الأرض لشدة سرعتها، في نفس الوقت لم تظهر سيارةٌ أخرى، دخل المدينة فأبطأ من سرعة السيارة، ها هي باريس عاصمة الفن والفكر والثقافة.

قال في نفسه: كَم من الجرائم … تُرتكب في هذا الليلِ الجميل!

ثم تردَّدَ في خاطره سؤال: هل بدأَت المغامرة الآن فعلًا، وهل «هربرت» طرفٌ فيها وليس مجرد مصدرٍ للمعلومات؟ ظل السؤال يتردَّد في خاطره، بينما كان يأخذ طريقه إلى حيث يُوجَد الشياطين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤