سهرة … على نهر السِّين!
كان الشياطين يجلسون في كافيتريا في شارع «الشانزلزيه» أضخم شوارع باريس. عندما ظهر «أحمد» في الباب وقفوا جميعًا.
ابتسم «أحمد» وهو يتقدم إليهم. لكن فجأةً سأل «فهد»: أين «باسم»؟
جلس «أحمد»، وحكى لهم ما حدث. ثم أضاف في النهاية: أرجو ألا يتأخر!
أخذَت الجميع حالةٌ من الصمت قطَعها «أحمد» مبتسمًا: لا بأس. لقد شَعَرتُ بالحزن أنا أيضًا عندما تركتُه وحده في مطار الدار البيضاء.
سكت لحظةً ثم أضاف: ليس هذا هو المهم. إن المهم ما حدث بعد وصولي إلى مطار «أورلي» وأنا في الطريق إلى المدينة!
أخذ يحكي لهم ما حدَث من السيارات التي ظهرَت في الطريق. وعندما انتهى قال «قيس»: من المؤكَّد أنها مسألةٌ مقصودة، ويبدو أن «هربرت» يريد أن يُخيفَنا بها، وكأنه يرسل رسالةً تُنذِرنا بأننا مكشوفون!
ردَّ «مصباح»: إنني أستبعد ذلك تمامًا؛ فإذا كان «هربرت» كما يظن «أحمد»، فإنه لن يتصرف بهذه الطريقة؛ لأنها طريقةٌ ساذجةٌ تمامًا. إن المهم هو مرور شحنة «الماء الثقيل» وليس المهم هو تخويفنا.
كان «أحمد» ينظر إليه في اهتمام، فاستمر «مصباح»: وإذا عرف «هربرت» بوجودنا في باريس، فقد أضعنا عليه مفاجأةَ وصولنا السِّري!
قال «أحمد» هامسًا: هذا صحيحٌ. وهو خطأٌ لا أغفره لنفسي.
قال «مصباح»: إذن، علينا أن نستفيد من الموقف، إن «هربرت» يعرف أن الشياطين الآن في باريس، ولكننا لا نريده أن يعرف من الموجود؛ لهذا يجب أن يذهب «أحمد» إلى المقرِّ في شارع «سان ميشيل»، وعلينا أن نختفي، حتى اللحظة المناسبة. إن الاتصالاتِ بيننا سوف تكون مستمرةً و«أحمد» سوف يلتقي مع «هربرت» وحده، ونحن نعرفُ التفاصيل بعدها. إن أحدًا منَّا لم يتصل ﺑ «هربرت» حتى الآن، وعلينا أن نَلحَق «باسِم» قبل أن يُحدِث خطأً جديدًا.
سأل «أحمد»: هل ذهبتُم إلى المقَر؟
ردَّ «مصباح»: لا. وقد قصدنا ذلك، حتى نجتمعَ ثم نقرِّر. وقد عَرفْنا بوصول «فهد» من «بون» عن طريق جهاز الاتصال، الذي عرفتَ أنت أيضًا بوجودنا عن طريقه. وحتى إذا وصل «باسم» إلى المقَر، وعَرفَ «هربرت» بوجوده، إذن فإنكما، أنت و«باسم»، اللذان حضرتُما لتنفيذ المغامَرة!
ابتسم «أحمد» وقال: إنني موافقٌ تمامًا على هذه الأفكار. وأعرف أن «باسم» لن يقع في خطأ؛ فهو يعرف أننا نُحاوِل أن نُضلِّل «هربرت» حتى نتأكَّد!
ثم أضاف: ينبغي أن أنصرفَ الآن. وأنتم، إلى أين ستذهبون؟
قال «قيس»: سوف ننزل في أحد فنادق المدينة!
قال «أحمد»: ينبغي أن يكون فندقًا بعيدًا عن العيون!
ثم وقف قائلًا: سأنصرف قبل أن يحدُث شيءٌ جديد. وسوف نكون على اتصال!
ثم ودَّعَهم وانصرَف. عندما وقف في شارع «الشانزلزيه» المتَّسِع جدًّا ألقى نظرةً بعيدة على قَوس النصر، ثم قال لنفسه مبتسمَا: أرجو أن نَمُرَّ تحت القوس، كما فعل نابليون، بعد النصر!
ركب السَّيارة، ثم أخذ طريقه إلى شارع «سان ميشيل»، الذي لا يبعُد كثيرًا عن «الشانزلزيه». غادر السَّيارة، ثم دخل المقرَّ. إن مقرَّ الشياطين في باريس مجرد شقةٍ عاديةٍ في عمارة. وكان مقصودًا أن يكون كذلك، حتى لا يَلفِت الأنظار. أما داخل الشقة، فقد كانت هناك كلُّ أجهزة الاتصال المطلوبة.
فتح «أحمد» البابَ ودخل. توقَّف لحظةً يتشمَّم الهواء، فلم يجد رائحةً غريبة، أو مختلفة. الشقةُ هادئة. ويبدو أن أحدًا لم يدخلها. قال في نفسه: إن «باسم» لم يصِل بعدُ. وربما تكون وسيلة السفر معقدةً الآن بالنسبة له.
فجأة شعَر بدفء جهاز الاستقبال. عرف أنها رسالة. أخذ يستقبلها. كانت رسالةً شفريةً، تقول: «٢٣»، نقطة، ٨ – ٣٤ – ٦ – ٣، «نقطة»، ١٥ – ١٠ – ٢٢ – ١ – ١٠ – ٨، «نقطة»، ١٠ – ١٩ – ١٠ – ١١ – ١، «نقطة»، ٢٨ – ٢٨ – ٣٠ – ١٠ – ٢٥ – ١ – ٢٥، «نقطة»، ١٠ – ١٢ – ٤ – ٣، «نقطة»، ١٠ – ٢٨ – ٢٢، «نقطة»، ٩ – ١٠ – ١ – ٢٢ – ١٩، «نقطة»، ١٢ – ٣ – ١، «انتهى».
ابتسم وقال في نفسه: مسكين «باسم»، لقد هبَّت الريحُ من حيث لم نظن. ألقى نظرةً على جوانب الشقة. ثم وقف قليلًا يفكِّر. قال في نفسه: أحتاج إلى حمامٍ دافئٍ الآن، لأُفيق؛ فقد كان السفر مُتعِبًا، ثم أُجري اتصالي بعميل رقم «صفر».
أسرعَ إلى الحمام، وأخذ دشًّا. فجأة، قال في نفسه: أحتاج إلى بعض الوقت لكي أُعيدَ حساباتي مع «هربرت»!
ملأ البانيو بالماء الدافئ. ثم تمدَّد فيه. شَعَر أنه يسترخي تمامًا، وأنه يحتاج إلى النوم. ابتسم وقال: إنها فكرةٌ ليست طيبة، ينبغي أن أتحرَّك بسرعة، حتى لا يضيع الوقت.
قفز من «البانيو»، ثم ارتدَى ثيابه. وضَع بعض البارفان، فأحَسَّ بالانتعاش. تمطَّى واستنشَق ملءَ رئتَيه، ثم قال: الآن. إلى العمل.
رفَع سمَّاعة التليفون. مرَّت لحظاتٌ، ثم جاء صوتٌ يقول: إنني لستُ في البيت الآن … اترك رسالة، ورقم تليفونك، وسوف أتصل بك عندما أعود. شَردَ لحظةً، ثم قال في نفسه: إنه صوتُ تسجيل. لا بأس.
ترك رسالةً ﻟ «هربرت» وقال إنه في المقَر، ولن يغادره؛ لأنه وحده. وضع السمَّاعة وقال: من حسن الحظِّ أن «باسم» لم يصِل بعدُ.
فكَّر لحظة، ثم أخذ يدقُّ أزرار جهاز الإرسال. كان يرسل رسالةً شفريةً إلى الشياطين. كانت الرسالة: «٢٢ – ١٧ – ٢٨»، نقطة، «٩ – ١٠ – ١٩ – ٢٧»، «نقطة»، ١٢ – ١٣ – ١، «نقطة»، ٢٧ – ٢٦، «نقطة»، ١٠ – ٢٨ – ٣٠ – ١٠ – ٢٥ – ١ – ٢٥، «نقطة»، ٢٢ – ٦ – ٩، «نقطة»، ١٠ – ٢٦ – ٨ – ١٤ – ١٠ – ١ – ٢٥، «انتهى».
عندما انتهت الرسالة، دقَّ جرس التليفون، وكان المتحدث «هربرت»، قال: أهلًا بك … هل جئتَ وحدَك؟
ردَّ «أحمد»: نعم. وإذا كانت المغامَرة تحتاج للآخرين، فسوف يصلون حالًا!
جاء صوتُ «هربرت»: لا بأس. ماذا ستفعل؟
ردَّ «أحمد»: إنني في انتظارك!
قال «هربرت»: إذن. دعني أدعوك لسهرةٍ صغيرة، نتحدثُ خلالها.
دهِش «أحمد» لهذه الدعوة. لكنه لم يرُد؛ فقد انتظر «هربرت» أن يكمل كلامه …
جاء صوتُ «هربرت»: ما رأيك؟ … إنني لم أسمع منك ترحيبًا بالسهرة!
قال «أحمد» بسرعة: بالعكس. إن هذا يُسعِدني جدًّا. فقط أنتظِر ترتيباتك!
قال «هربرت»: إذن سأمُرُّ عليك بعد ساعةٍ. هل تكفي؟
ردَّ «أحمد»: بالتأكيد. وسوف أكون في انتظارك!
وضع «هربرت» السمَّاعة، فوضع «أحمد» السمَّاعة، ثم شرد. كان يفكِّر: ما سبب هذه الدعوةِ … إنني سوف أكون وحدي. هل تعني هذه الدعوة شيئًا، وهل يمكن أن يكون «هربرت» قد دبَّر شيئًا سوف ينفِّذه الليلة؟
كانت أسئلةٌ كثيرةٌ تدور في رأسه. في النهاية استقرَّ رأيه على أن يرسل رسالةً إلى الشياطين، يخبرهم بما تم. ويطلُب منهم أن يكونوا خلفه؛ فإن أحدًا لا يدري ماذا يمكن أن يحدُث.
عندما انتهت الرسالة انتظر لحظة، فجاءه الردُّ يقول: إنهم ينزلون في فندق «المارتينز». وهو لا يبعُد كثيرًا عن المقَر. ويقع في شارعٍ جانبي. وإنهم سوف يكونون وراءه. وإنه قد لا يعرفهم؛ فقد قرَّروا أن يلعبوا لعبةً ما، وحتى لا ينكشفوا، ولا يراهم «هربرت».
ابتسَم «أحمد» للرسالة، وقال في نفسه: إن الشياطين جاهزون دائمًا لكل الاحتمالات. أخَذ يجهِّز نفسه للسهرة. لبِس «بدلةً» أنيقة، ثم أخذ يُعِدُّ أسلحتَه، وضع بعضَ كُرات الدخان في جوربه، ومسدسًا تحت إبطه، وخنجرًا مربوطًا على ساقه، ثم أخفى جهاز الشياطين الدقيق في جيبه الداخلي حتى يعرفَ الشياطين مكانه في أية لحظة. لقد أطلق «عثمان» اسم الشياطين على جهاز التوجيه الذي يحمله كلُّ واحدٍ منهم؛ فهو يُعطِي إشاراتٍ تحددُ مكانَ حاملِه. وعندما يكون موجودًا في المنطقة التي تتسع دائرتها إلى ثلاثين كيلومترًا، فإن «جهاز الشياطين» يعطي إشارة. أما إذا لم يكن موجودًا، فإنه لا يرسل هذه الإشارات.
عندما كان يضعُ الجهاز في جيبه الداخلي، تذكَّر «عثمان». ابتسم وقال: كان يجب أن نُسمِّيه جهاز «عثمان». كانت الساعة قد مرَّت، عندما نظر في ساعة يده. فجأةً جاءته رسالة. كانت من الشياطين. استقبلها، ثم ابتسم. كانوا يقولون في رسالتهم: لقد انتهت الساعة. انزل الآن.
غادر الشقة بسرعة وركب المِصعَد ثم هبط ثلاثة طوابق، حيث باب العمارة … وما كاد يخطو خطوةً واحدةً خارج الباب حتى كانت سيارةٌ سوداءُ أنيقةٌ ماركة «بيجو» تقفُ أمامه، ثم يُفتحُ بابها. انحنى ينظُر من بداخلها، فوجد «هربرت»، الذي كان يبتسم قائلًا: أهلًا … أظُن أنني لم أتأخَّر.
ركِب «أحمد» وهو يبتسم قائلًا: إنني أشكر لك هذه الدعوة؛ فقد كنتُ أشعر بالملل!
ضحك «هربرت» بصوتٍ خافت، ثم سأل: هل تُحب مكانًا هادئًا. أو صاخبًا؟!
ابتسم «أحمد» وقال: إن ذلك يخضع لطبيعة الحديث بيننا!
ضحك «هربرت» مرةً أخرى، وقال: تعجبني جدًّا إجابتك الذكية.
ثم أضاف: إذن نذهب إلى مكانٍ هادئ، على نهر «السين»!
أخذت السَّيارةُ طريقها. أما الشياطين، فإنهم لم يكونوا بعيدين عنهما في هذه اللحظة.