الفصل الأول
كان في مدينة نابولي فتى اسمه بيبو، وفتاة تُدعى جرجونة، وهما أخوان أمهما امرأة رقاصة، توفيت حين كان عُمر بيبو عشرة أعوام وعمر شقيقته خمسة، فأُدخِل الغلامان مدرسة الأيتام الفقراء، ثم خرجا منها إلى أزِقَّة المدينة يتجوَّلان فيها، فزاول الفتى كل الحِرَف ولم يفلح في واحدة منها، وإنما بقيت له مزية واحدة هي حُسن الخط، ولا يدري أحد كيف حذق الخط وأتقنه!
أما الفتاة فكانت تبيع الأزهار، ولا بد من أن نقول إنها بهيَّة الطلعة لطيفة الشكل. ثم كبر الغلامان، فلما بلغت جرجونة الخامسة عشرة عمدت إلى حرفة أمها — الرقص — تزاولها في أحد الملاهي، لكنها ما لبثت أن تركت حرفة الرقص خيفة السقوط، لا لعفافٍ؛ ولكنها أبت أن تزل بها القدم دون نفع كبير يُذكر أو غنيمة جسيمة تُدَّخَر. فاضطر أخوها بيبو إلى الجد والكد؛ لتحصيل رزقه ورزقها معًا.
وقد ذكر أنه كان حسن الحظ؛ فاتَّفَقَ أن كان في المجلس البلدي منصب خالٍ في قلم التسجيل، وقدر الوظيفة — الماهية — أربعون فرنكًا في الشهر، فرفع بيبو عريضة بطلب المنصب الخالي، كتبها بخطِّه الجميل، فحازت القبول.
ولم يلتفت رؤساؤه إلى كَسله، وإنما أُعجبوا بمحكم تصويره واستواء سطوره، فارتقى إلى منصب رئيس القلم، وصارت وظيفته ستين فرنكًا في الشهر.
وكان بيبو كسلان قاعد الهمَّة يطمئن إلى الخمول، ولا ينهض من فراشه إلا إذا نبَّهته أخته، وفضلًا عن ذلك فقد كان عمله في المجلس البلدي قليلًا فزاده كسلًا وقعودًا، وفي ذات يوم أيقَظَتْهُ شقيقته من نومه وقالت له بغضب: قُم فقد أَزِفَ الظُهر وأنت نائم!
فنهض مستمهلًا يتثاءَب ويتمطَّى، ويقول: لماذا أيقظتِنِي؟ وماذا جرى؟ فهل احترق البيت؟! قالت: ليته يحترق وأنت فيه إلى يوم القيامة، ألا تخجل من قعودك وتخلُّفك عن مكتبك حتى الساعة؟
قال: ما كنت لأبالي بمكتب أكسب من عملي فيه ستين فرنكًا، ولئن تخلَّفتُ عنه فالمكتب البلدي لا يُصاب بالإفلاس. قالت: ليست الستون فرنكًا قدرًا كبيرًا ولكنه كافٍ لنا، وإلَّا فماذا يحل بنا إذا طردوك؟ قال: الأمر يسير، تعودين إلى الرقص، فجوقة «سان كارلو» لا تمتنع عن قبولك. قالت: ولكنني أنا أمتنع.
ولبس بيبو ثيابه غير ملتفت إلى شقيقته، إلى أن قال لها: هل عزمتِ عزمًا حقيقًا على ترك الملاعب؟ أجابت: نعم. قال: إن فتاة حسناء مثلك لا ينبغي أن تتشبَّث بالفضيلة هذا التشبُّث.
قالت: ليس امتناعي عن الرقص في الملاعب فضيلة، وما أرى المتاجرة بجمالي عيبًا؛ ولكني لا أجد في الملاعب من يصلح لشرائه، فأنا أوثر ما نحن فيه من الفاقة على ذاك الارتزاق القليل، ولمَّا نزل بيبو من البيت التقى بشيخٍ فقير ضعيف طاعن في السن اسمه الدوق دي لوقا، فحيَّاه وقال له: ادخل لعلَّكَ تجد بقية طعام عند جرجونة.
ومدَّ يده للسؤال أول مرة وهو لا يزال مرتديًا بملابس حسنة، فكان الناس يعجبون منه ويتصدَّقون عليه. فإذا اجتمع له فرنك واحد اكتفى به وترك التسوُّل، وقصد إلى غرفة له حقيرة مجاورة لغرفة الفتيين بيبو وجرجونة، ولكن ما لبث أن ذاق طعم البؤس لمَّا انقطع الناس عن التصدُّق عليه، وصار معدودًا في عامة المتسوِّلين، ولولا أن العناية سَخَّرَت له ذينك الفتيين لهلك جوعًا؛ وذلك لأن جرجونة وأخاها تعلَّقا به فكانا يعطفان عليه، ويشاطرانه قُوتَهُمَا القليل على ما بهما من فقر، وكان هذا الدوق المفلس قد بلغ الثمانين من عمره.
وكان يسمع شكاة الفتاة الحسناء من سوء الحال ويرقُّ لها. قالت في ذلك اليوم: لقد سئمت عيشتي هذه، ومن كانت مثلي يشقُّ عليها احتمال الفاقة. قال: أصبتِ والله، فأنتِ لم تُخلقي لهذا الشقاء، ويعزُّ عليَّ أن يعبث بهاتين العينين الساحرتين، او بهذا الشعر الفاحم، وبهذه القامة الهيفاء، ممثل لا يرى السعادة إلا من وراء ستار، إنَّمَا أنتِ ربَّةً تستَحِقِّينَ ما هو أسمى وأشهى. قالت: فما عسى أن أفعل؟ فأطرق الشيخ، ثم قال وكأنَّه يخاطب نفسه: وَايْم الحق إذا تمَّ ذلك كان عجبًا!
وسمعَتْهُ فقالت: ما معنى هذا الكلام؟ أجاب: هو خاطر خطر لي. قالت: تكلم. قال: لا يَرُوعُني خوفًا عليكِ إلَّا ضِعة نسبكِ، فهو يحول دون ارتقائكِ بسهولة. قالت: إني أُدعى جرجونة، وحسبي بهذا الاسم نسبًا. قال: نعم؛ أي إنكِ «لا شيء»، فلو كنتِ ذات اسم يدل على مَحْتِدٍ كريم لكان لكِ شأن آخر. قالت: وما فائدة هذا التمنِّي؟ فنهض الشيخ وانحنى أمامها وقال لها: إن أنا إلَّا متسوِّل مثلكِ يا جرجونة، وقد بلغتُ الثمانين من عمري … غير أنني مركيز دي كوريولو، وكونت دي كاستلو، ودوق دي لوقا، وهذه ألقاب شريفة ورثتها عن آبائي، فهل يعجبكِ أن تكوني كونتة، ودوقة، ومركيزة؟ هل تريدين أن تكوني زوجتي؟
فظنَّت أولًا أنه يمزح، لكنها عرفت من لهجته أنه يقول الجد، فصاحت تقول: أتدري ما أفعل باسمك لو دعيت به؟ لو دُعيتُ به لاستخدمته ليرفعني لا ليخفضني، وربما اتخذته سلاحًا أضرب به، ولكني لا أريد أن تناله مني غضاضة أو يمسه خزي وعار. فأبقِ اسمك لنفسك يا سمو الدوق، فهو لا يصلح لي، ولئن صرت امرأة ساقطة فاسم جرجونة لا يُعاب بل يبقى اسمي وأعتذر به، ومهما أفعل فإنني أرجع إلى حيث كنت وكانت أمي من قبل! ولكنني إذا حملت اسم دوقة دي لوقا عددت امرأة سافلة، وآذيت كل شريف في شرفه!
فأثَّر هذا الكلام في الشيخ وقابل بينه وبينها، فرأى أنه أحط قدرًا من تلك الابنة المتشرِّدة، وفهِم أن العظمة قد تكون في النفوس الخاملة، فخجِلَ من نفسه وطرأ انقلاب على فكره، فضمَّ الفتاة إلى صدره سُرورًا بنزاهة ضميرها وسُمُو خُلُقها، ثم تركها ومضى إلى غرفته المجاوِرَة فانطرح على فراشه، وقد خارت قِواهُ عَقيب ذلك الانفعال، فأحسَّ بأنه مشرفٌ على الموت، ولم تمضِ بضع دقائق على هذا الحادث حتى دخل بيبو البيت، فصاحت شقيقته تقول له: ما بالك رجعت؟! إنك تسرق مال الحكومة! فلم يُجِب بل أوصد الباب وراءه وأقبل عليها، فقالت له: لعلك خائف من اللصوص؟
أجابها: رُبما …
وجاء فوضع محفظته على خوان وقال: هُنا عشرون مليونًا؟ فبهتت ثم جعلت تكرر قوله: هنا عشرون مليونًا! أرِنِي إيَّاها.
فأمسك ساعدها، وقال: اصمتي واخفضي صوتكِ لئلَّا يسمعنا سامع، فالعشرون مليونًا ها هنا إنما هي مدفونة، ولا بد من الحفر لاستخراجها، قالت: لم أفهم مرادك!
فبدأ يشرح لها الخبر ومؤدَّاهُ أنه وردت مراسلة خطيرة إلى رئيس مكتب السجلَّات البلدية في نابولي، أي إلى بيبو، وأجاب عليها بما عنَّ له أن يجيب، وذلك أن رجلًا من باريس كان وكيل أشغال معيَّنًا رئيس محكمة السين في باريس ومديرًا قضائيًّا، وكان قد كتب إلى بلدية نابولي يخبرها بأنه عُهِدَ إليه بتصفية شركة رجل تُوفي عن مال كثير، واسم هذا الرجل «جياكومو بلميري»، وقد ترك وصية يذكر فيها أصله ونسبه، ويقول: إنه ينتمي إلى قوم فقراء من نابولي لم يبقَ منهم إلا هو وشقيق له أصغر منه سنًّا اسمه أنطونيو بلميري، وكابد الأخوان نكد الأيام دهرًا ثم عزما على المهاجرة لعلَّهما يصيبان ثروة، وكانا قد تعاهدا على السفر معًا غير أن الأحوال قضت بافتراقهما، فسافر جياكومو إلى أوروبا وارتحل أنطونيو إلى آسيا، فأقام الأول في باريس ومكث الثاني في كلكتا، وتراسلا بضعة أعوام تراسلًا غير منقطع، ثم بدأ التواني في المراسلة وأدَّى أخيرًا إلى الانقطاع التام.
ويقول جياكومو في وصيته إن آخر نبأ تلقَّاه من أخيه أنه تزوَّجَ امرأة إيطالية اسمها نينا ألسَّندرى، ورُزِقَ منها غلامًا دعاه أنيبال، وابنة دعاها كلوديا. ثم كتب جياكومو إلى أخيه مرتين وثلاثًا فلمَّا لم يرد عليه جواب، وأخيرًا ملَّ المكاتبة وتوقَّف عنها، ثم شغلته الشواغل فخدم مصرفًا فأظهر نشاطًا في الخدمة وكفاءةً وأمانةً في العمل فاكتسب ثقة رؤسائه، ثم صار شريكًا لهم إلى أن ابتاع منهم حصصهم واستأثر بالمصرف وحده، وفي أقل من خمسة عشر عامًا أصاب ثروةً جسيمة، إلا أن دأبه في العمل أثَّرَ في جسمه، فاعتلَّ واشتدَّت عليه العِلَّة، فذكر حبه لأخيه وأنه رُزِقَ ولدين، غلامًا وابنة، فكتب وصيَّته وبها يأمر بالتفتيش عن أخيه أنطونيو بلميري الذي سافر إلى الهند الإنكليزية في وقت كذا، ثم أقام في كلكتا، فأوصى بثروته من بعده لأخيه إذا كان حيَّا أو لأرملته وولديها إذا كان ميتًا، أما إذا لم يوجد منهم أحد في قيد الحياة فثروته تُنفق على الأعمال الخيرية.
ولمَّا طالع وكيل الأشغال تلك الوصيَّة رأى أن يُفتِّش أولًا في مدينة نابولي؛ لأنها الوطن الأصلي لأنطونيو بالميري.
ووصلت هذه المراسلة إلى بيبو فكتب إلى وكيل الأشغال يُنبئه بوصولها، ثم عمد إلى الاستعلام رأسًا فكتب إلى قنصل إيطاليا في كلكتا طالبًا إليه أن يبعث إليه بالإيضاحات والأوراق التي تتعلَّق بهذه الشركة. ثم لم يعُد يُفكر في هذه المسألة. فلمَّا وصل بيبو إلى هذا الموضع من خبره صاحت به أخته تقول له: وأين العشرون مليونًا؟! فقال لها: صبرًا حتى أستوفي كلامي. قالت: فامضِ فيه عاجلًا.
وقال: في هذا اليوم تلقَّيتُ جوابًا من قنصل إيطاليا في كلكتا وفيه هذه الأوراق التي ترينها أمامكِ، وهنا يجب أن تعلمي أن قنصل إيطاليا في كلكتا رجل إنكليزي، وهذا أمر يحدث كثيرًا في البلاد النائية، إلَّا أن الأوراق مكتوبة باللغة الإيطالية وعليها توقيع ذلك القنصل، وفي رسالته أن أنطونيو بلميري وزوجته نينا ألسَّندرى أقاما في كلكتا معًا بعد أن تزوَّجا على يد القنصل، ثم رُزِقَا ولدين هما أنيبال وكلوديا إلا أنهما توفيا إلى رحمة الله. قالت جرجونة: من الذي توفي؟ أجاب بيبو: كل العيلة، أي: الوالدان والولدان بالوباء الذي تفشَّى في الهند منذ خمسة عشر عامًا.
- أولًا: عقد اقتران أنطونيو بلميري بنينا ألسَّندرى.
- ثانيًا: شهادة بمولد أنيبا بلميري وكلوديا بلميري.
- ثالثًا: شهادة بوفاة الوالد والوالدة.
- رابعًا: شهادة بوفاة كل من الولدين.
فهذه سبع أوراق.
قالت: إذن لم يبقَ إلا إيداع العشرين مليونًا أحد المستشفيات الخيرية؛ لأن الوارثين الشرعيين أموات، أجاب: نعم، إلَّا إذا اعترضنا ضياع العشرين مليونًا على هذا الوجه، قالت: أوضِح، أجاب: الأمر يسير، فاسمعي وافترضي أولًا: أن ولدي أنطونيو بلميري ونينا ألسَّندرى لم يموتا، وأن لا وجود لشهادتَيْ وفاتهما بين هذه الأوراق، وافترضي أيضًا أنهما أقبلا على المجلس البلدي ليُثبتا حقيقة نسبهما ووفاة والديهما، وافترضي كذلك أنهما بالشهادتين اللتين معهما أثبتا حقهما في إرث جياكومو بلميري، فماذا يحدث إذ ذاك؟
أجابت: يحدث أن الحكومة تعطيهما العشرين مليونًا ولا شك في ذلك ولا ريب، ولكن لسوء حظهما أنهما ماتا، وأن الافتراض لا يُغني ولا يُجدي فتيلًا!
قال: بقي عليكِ أن تفترِضِي أيضًا أنني أنا بيبو أُدعى أنيبال بلميري، وأنَّكِ جرجونة تُدعين كلوديا بلميري أختي، فمن يستطيع أن يقول عكس ذلك؟ أجابت: كل نابولي تعرفنا. قال: نعم، كل نابولي ولكن كل باريس تجهلنا، وإنما يكون تسليم الإرث في باريس لا في نابولي. قالت: إذا كنت قد فهمت كلامك فخطتك تقضي بأن تحل محل ولدي بلميري الميتين وتقبض إرثهما. أجاب: هو ذاك. قالت: ولكن هذه سرقة. قال: هبي أنها سرقة فهي لا تضر أحدًا، ولو لم يوجد الوارثان لآل الإرث إلى الحكومة، وأنتِ تعلمين أن سرقة الحكومة لا تُحسب سرقة؛ لأنها لا تضرّ أحدًا …
فأطرَقَت جرجونة تُفكر. فقال لها أخوها: ما بالكِ؟ أجابت: افترِض أنت كذلك أننا فعلنا كل ما قلته وأخذنا جميع هذه الأوراق بدلًا من أن نحبسها في محافظ المجلس البلدي، وسافرنا إلى فرنسا ولقينا وكيل الأشغال، وقلنا له نحن أنيبال وكلوديا، وأبرزنا له هذه الأوراق، فهل يقتنع أنها أوراقنا، أو لا يقول لنا ربما تكونان سارقين إياها؟ وإذ ذاك يبدأ التحرِّي والتحقيق ولا يكون نصيبنا من تلك الملايين إلا الخيبة فالسجن بضع سنين!
فتبسَّمَ بيبو وقال: يا لكِ من فتاة ساذجة، لماذا لا تثقين بأخيكِ؟ انظري إلى هاتين الورقتين، فما هما؟ أجابت: هما جوازان إذا امتلأ الفراغ الذي فيهما ووُقِّعَ في ذيلهما، أما في هذه الحالة فلا فائدة منهما. قال: أصبتِ، ولذلك عزمت على إملاء الفراغ فيهما.
وجلس إلى الخوان لساعته، وأخذ يكتب الجوازين وفيهما وصف بيبو وأخته وصفًا تامًّا، وقد ذكر اسميهما أنيبال وكلوديا، ثم قلَّدَ التواقيع التي يجب تذييل الجوازين بهما، فدُهِشَتْ جرجونة وقالت: لله درك يا أخي! ما أقدرك على الإتقان! والآن فما عسى أن نفعل؟ أجاب: لا شيء سوى حمل هذه الأوراق ما عدا شهادتي وفاة الولدين، فإنهما تحترقان على مذبح ثروتنا الجديدة.
قال هذا القول وتناول الشهادتين فأحرقهما في الحال، ثم قال: بقي عليَّ أن أكتب إلى وكيل الأشغال في باريس بتوقيعي الحقيقي، وصفتي الرسمية، فأُخبره بقرب قدوم أنيبال وشقيقته كلوديا بلميري إلى باريس، وهما الوارثان اللذيْنِ يبحث عنهما، ويحضران معهما جميع الأوراق الدالة على صحة نسبهما، وبعد ثمانية أيام نسافر أنا وأنتِ، وإذ ذاك نقبض العشرين مليونًا ونتسمَّى باسمَي بلميري.
قالت: لا بأس بالثروة أما الاسم فلا يعجبني، فنظر إليها وهو حائر، فقالت: ألا تراني أستحق تاج دوقة؟ أجاب: بلا شك، بل تستحقِّين تاج إمبراطورة، ولكن يهمنا أن نجد دوقًا أو إمبراطورًا يقدِّم لكِ تاجه. قالت: ولكن الدوق دي لوقا نفسه يقدِّم لي تاجه. قال: لله دره ما أكرمه! فهل عانقتِهِ مكافأة له على هذه العطيَّة؟ أجابت: بل رفضتها، أما الآن بعد حدوث ما حدث فلستُ أرفُض، وها أنا ذا ذاهبة لأخبره بقبولي عطيَّته، وسوف ترى.
وهنا حدَّثَت بيبو بما دار بينها وبين الشيخ الضعيف، فهزَّ رأسه وقال: عسى أن لا يكون المسكين قد عدل عن رأيه، فتبسَّمَت الفتاة وقالت: تعال معي إذن، ودخلا في الغرفة المجاورة، وكان الشيخ دي لوقا مضطجعًا مغمض العينين، فألقت جرجونة يدها على كتفه، ففتح عينيه وقال لها: لقد سرَّني أن أراكِ أيَّتُها الحبيبة، وأن أرى أخاكِ أيضًا؛ لأن ساعاتي معدودة، وقد اقترحت عليكِ منذ هنيهة أن تكوني زوجتي فلو رضيتِ لصرتِ أرملة بعد وقت قصير جدًّا. فأجابته: إنني أتيت راضية بالاقتراح، فأنا أريد أن أصير زوجتك.
فنظر إليها مستفهِمًا، فقالت: لقد انكشف لي سر عظيم، وظهرت لي أسرة غنيَّة. قال: لستُ أريد أن أسألكِ، ولكن رجلًا مثلي ينتسب إلى آل لوقا لا يرجع عن كلامه، إذن ثقي بأنكِ ستُدعين الدوقة دي لوقا، وفي اعتقادي أنكِ تحرصين على شرف هذا الاسم حرص أصحابه عليه من قبل، ولكن لا بد من التعجيل، والذي أراه أن للحكام الحق في عقد مثل هذا الزواج غير العادي … فليأتِ بيبو بواحدٍ منهم ويقل له إنه يوجد رجل مُشرِف على الموت وهو يدعوه، ثم فليدعُ لي قسِّيسًا بعد ذلك.
فمضى بيبو والحمى تفترس الشيخ، وجرجونة تعطف عليه، وتبلل شفتيه بالماء البارد، إلى أن عاد بيبو ومعه موظف كبير وأربعة شهود وقسيس، فكتب العقد وتمكَّنَ الدوق المحتضِر من التوقيع عليه بيدٍ مرتجفة، أمَّا جرجونة فوقَّعت عليه باسم كلوديا بلميري، ولما سألها الموظَّف عمَّا يُثبِت نسبها أرته عقد مولد كلوديا بلميري المصدَّق عليه من قنصل إيطاليا في كلكتا، فلم يُخامر الرجل شكٌّ في صدقها، وشهد مع الشهود الذين جُمعوا من قارعة الطريق، ثم خرج الكل وبقي القسيس عند الدوق الشيخ فسمع اعترافه.
وبعد يومين قضى الرجل وعيناه محدِّقتان إلى وجه تلك الفتاة الحسناء التي ترك لها لقبه، وهو كل ما يمتلك من دنياه.
أمَّا بيبو وجرجونة فلم يقيما في نابولي إلَّا أيَّامًا، فركبا القطار إلى باريس، وجرجونة تقول: أما الآن فإنني دوقة عظيمة؛ لأنني أمتلِك الملايين!
•••
فلندع الأخوين سائرين في طريق الغِنى ولننتقل والقارئ إلى مدينة بوندشيري في الهند؛ وهي عاصمة الأملاك الفرنساوية، فندخل قصر حاكم المُستعمرة وهو الكونت دي موري، نجد في إحدى غرفه فتاة في الخامسة عشرة من العمر هي ابنة حاكم المستعمرة، واسمها الآنسة بوليت دي موري، وكانت مضطجعة على مقعد، مُتَّشِحَة بثوب من الموصلينا البيضاء، صفراء اصفرارًا رائعًا كأنها مائتة، ويؤكد الطبيب روبلين أنها نجت من خطر الموت، ولا يتم لها الشفاء إلَّا بالحمية الطويلة الأمد والوقاية الشديدة، وكان والدها قرب فراشها وقد داخل نفسيهما شيء من الاطمئنان بعد طول القلق والانزعاج.
وكانت على مقربة منهما شقيقة الكونت دي موري، وقد تعوَّدا أن يدعوها: «العمَّة باسيليك»، وهي فتاة عانس رغبت عن الزواج، وبقيَت في بيت أخيها فصحِبَتهُ إلى تلك البلاد النائية، وقبل أن يخرج الطبيب من غرفة الفتاة المريضة قالت الكونتة: يجدر بنا الحصول على إجازة بضعة شهور نسافر فيها إلى فرنسا، فهواؤها ينفع ابنتي نفعًا جزيلًا، فقال لها الطبيب: حاذروا أن تفعلوا؛ فالخطر كل الخطر على المصابين بالحميات الهندية في الارتحال عن هذه البلاد قبل أن يتم لهم الشفاء؛ لأن الداء يعود إلى بدء اشتداده ثم يتعذَّر شفاؤه. فلا بدَّ من معالجته في موضع ظهوره، وإتمام المعالجة عندما يتَّفِق للمصاب به الشفاء وهو أمر نادر جدًّا! والرأي السديد أن تمكثوا ها هنا ستة شهور أيضًا بل سنة، ثم لا أعترِض على سفركم.
ولقد شغل مرض الفتاة والدها الكونت عن الاعتناء بأعماله فأحلَّ محله نائبه وهو المسيو جاستون دي فاليير، وكان فتًى شهمًا كريمًا كثير التردُّد إلى بيت الكونت، فلما اطمأن فؤاد الكونت من نحو ابنته أراد انتهاز الفرصة ومشاهدة حفلة تقام في ضاحية المدينة، ونعني بها الحفلة الزراعية التي تقام مرة في كل عام، ولوجود الحاكم الفرنسي فيها وقع حسن العائدة على النفوذ الفرنسي، فأمرَ باستعداد حاشيته لمرافقته، ثم مضى يتبعه «ملطار» خادمه المخصوص بخدمته أو حاجبه، وكان هنديًّا جامعًا لفضائل الهنود، خاليًا من عيوبهم، مخلصًا لسيِّدِه ولآل بيته إخلاصًا نادرًا. فوصل الكونت إلى مكان الاحتفال، وأراد تأدية الاحترام الواجب لديانة الهنود ومراسيمها؛ فظلَّ متعرِّضًا لحرارة الشمس المحرقة حتى قلق رجال حاشيته، لكنهم لم يجترِئُوا عليه بإبداء ملاحظة، وقال له ملطار: ليس من الحكمة يا سيدي أن تطيل وقوفك ها هنا، فأجابه الكونت إلى ما أراد وأشار إشارة الانصراف، ولما رجع رأى ابنته أحسن حالًا، ولما انقضى قسم من الليل أحسَّ الكونت ببردٍ شديد، ومن العجب أنه شعر أيضًا بأن ألسنة من نار تمر في عروقه كل هنيهة، فنام مضطربًا، وأصابه بُحران، ولما كان الصباح دخل عليه ملطار، فتراجع عنه مذعورًا؛ لأنه رأى وجهه متغيِّرًا وسمعه يشكو من آلام مجهولة، وطالما رأى ذلك الخادم أوروبيين يصابون بذلك الداء الخبيث، وتبدو عليهم أعراضه ثم يهلكون به، وهو قد شاهد منذ ثلاثة شهور تلك الأمراض التي ظهرت على ابنة الكونت، فسارع إلى الطبيب فأقبل من فوره، ولما شاهد الكونت علم أنه أصيب بالحُمَّى الهندية الخبيثة، لكنها لم تظهر بعد، فلا بد من مهاجمتها بالعلاج قبل ظهورها الذي يعقبه استفحالها فاستعصاؤها.
فخطر للطبيب أن يستدرِك الخطر بالفرار منه، فطلب مقابلة الكونتة، فقالت له: لقد أبكرت في الزيارة أيها الطبيب، فأجابها: ما أتيت هذه المرة لأعود الآنسة بوليت، فاصفرَّ وجهها وقالت: إذن لأجل من أتيت؟ أجاب: لأجل زوجكِ، فقد أصبح مريضًا، ولا مرض حتى الآن بادٍ، ولكن يبدو بعد حين قصير، ويظهر الخطر إذا نحن لم نستدركه في الحال، قالت: فما عسى أن يكون مرضه؟ أجاب: إنه الذي أصاب ابنتكِ، قالت: وا حرباه وامصيبتاه!
قال: مهلًا ولا تيأسي، وما دامت أعراض الحمى غير ظاهرة فالرجاء باقٍ، ولكن لا بد من ارتحال زوجكِ في الحال حتى يخلص من تأثيرات جو البلد، ولا بد من سفره بعد ساعة واحدة، وفي هذا اليوم؛ بل بعد ساعة تُقلِع باخرة مسافرة إلى أوروبا، فلا ينبغي أن يفوته السفر عليها، لئلَّا يضطر إلى الانتظار أسبوعين حتى يحل موعد سفر باخرة أخرى.
قالت: ولكن زوجي يمتنع عن السفر اليوم، قال لها: لا ينبغي الالتفات إلى إراداته، قالت: وكيف ذلك؟ أجاب: لا بد من تلافي الخطر سريعًا. قالت: هيهات، فإنك لا تستطيع التغلُّب عليه. قال: بل أرى تنويمه، ولا تنكري عليَّ اقتراحي، فهو غريب والعمل به يلقي علينا تبعة ثقيلة، أما أنا فإنني راضٍ بتحملها لأنقذ الكونت، قالت: وأنا أرضى لأنقذ زوجي. قال: إذن أنا أسقيه مخدِّرًا فتأهبي للسفر، واعلمي أن حياة زوجكِ تصبح غدًا في خطر إذا لم يسافر في هذا النهار، وأن حياة ابنتكِ تصبح كذلك إذا هي سافرت أيضًا فتدبَّرِي. قالت: ويلاه! لست أستطيع ترك زوجي يسافر بدوني وهو في هذه الحال، ولا مفارقة ابنتي وهي في دور النقاهة. قال: أما ابنتكِ فلا خوف عليها ما دامت مقيمة ها هنا، والرأي عندي أن تتركي عمتها عندها وتسافري مع زوجكِ، والوقت لا يتَّسِع للجدال فأسرعي.
وإذ ذاك دخلت العمَّة باسيليك فأطلعها الطبيب على ما جرى فوافقته على رأيه، وقالت: سافري يا لورانس مطمئنة القلب مع من يهمكِ شفاؤه، وأمَّا أنا فأبقى قرب ابنتكِ، وهي الآن نائمة فلا توقظيها ولا تدعيها تعرف بسفركِ الآن، بل أنا أُمَهِّد السبيل لإخبارها؛ لئلَّا تزعجها معرفة الحقيقة.
قالت: بل أدخل مخدعها وأقبِّلها وهي نائمة ثم أمضي، قالت: لا بأس، إنما حاذري أن تستيقظ.
فدخلت الوالدة مخدع ابنتها ولثمت جبينها بطرف شفتيها، ثم اجتذبتها العمة باسيليك، وبعد أقل من ساعة كان الكونت دي فوري وزوجته مسافريْنِ على باخرة قاصدين إلى فرنسا.
وفي ذلك الوقت كان بيبو وشقيقته جرجونة مسافريْنِ على مركبة السكة الحديدية إلى فرنسا أيضًا.