علامة السيف المكسور
لاحَت أفرُع الغابة بلونها الرمادي كأنها ألف ذراع، ولمعَتْ أوراقُها بلونها الفضي وكأنها مليون أُصبع. بينما أخذتِ النجوم تتوهَّج وتنطفئ مثل قِطع الجليد المُتناثرة في سماءٍ تلوَّنت بلونٍ أزرقَ ضاربٍ إلى الخُضرة الداكنة مثل صخر الإردواز. تيبَّس المشهد في أنحاء ذلك الريف الكثيف الأشجار القليل السكان بصقيعٍ قارس وريح صرصر. وبدَت الثغرات السوداء بين جذوع الأشجار كأنها كهوف سوداء بلا قرار مثل تلك التي في جحيم الأساطير الإسكندنافية، جحيم لا حدَّ لبرودتِه. وحتى بُرج الكنيسة الحجري المربع بدا شماليًّا إذ كان يطل على الشمال نحوَ المنطقة التي تدين بالديانة الوثنية الجرمانية، كما لو كان بُرجًا بدائيًّا بين صخور أيسلندا البحرية. كانت ليلةً غريبة ليُقدِم فيها أيُّ أحدٍ على استكشاف مدفن إحدى الكنائس. إلا أنه ربما كان حقيقًا بالاستكشاف.
يَبرُز المدفن على حين غِرة بين الأطلال الرمادية في الغابة كأنه حدَبَة أو مَنكِبٍ من العُشب الأخضر الذي بدا رماديًّا في ضوء النجوم. كانت أغلب القبور على مُنحدر، كذلك كان الطريق المؤدي إلى الكنيسة مُنحدِرًا مثل الدرَج. وعلى قمَّة التل، في البقعة الوحيدة المسطحة والبارزة، يقع الأثر الذي اشتُهر به المكان. تناقَضَ هذا الأثر تناقُضًا غريبًا مع القبور الرتيبة المُحيطة به، فقد كان من إبداع أحد أعظم نحَّاتي أوروبا في العصر الحديث؛ إلَّا أنَّ شُهرتَه نُسِيَت في الحال أمام شُهرة الرجل الذي جسَّد صورته. كشفت لمسات الشعاع الفضِّي الضعيف لضوء النجوم، عن تمثالٍ معدني ضخم لجُندي مُنبطح، وقد ضمَّ يدَيه القويَّتيَن في صلاةٍ دائمة، واتَّخذ من سلاحه وسادةً لرأسه الكبير. أما الوجه المهيب فقد كان مُطلَق اللِّحية، أو بالأحرى الشوارب، على غرار موضة الكولونيل نيوكوم القديمة للشارب الكثيف. إلا أنَّ الزي الرسمي، رغم اللمسات البسيطة القليلة المعبِّرة عن بساطته، كان زيَّ حربٍ اندلعت في العصر الحديث. كان على يمينه سيف، كُسِر طرفه، وعلى يساره الإنجيل. وفي فترات ما بعد الظهيرة في أيام الصيف الدافئة كانت تأتي العربات الصغيرة التي تجرُّها الخيول مليئة بالأمريكان وسكان الضواحي المُثقفين لرؤية الضريح، لكن حتى في ذلك الوقت كانوا يشعرون أن أرض الغابة الرحيبة بقُبَّتها المُنخفضة العريضة لكنيستها موضع مُصمت ومهمل على نحوٍ غريب. في هذا الظلام المُتجمِّد في منتصف الشتاء قد يخطر للمرء أنه ربما يُترك وحيدًا مع النجوم. بيد أنه في سكون تلك الغابات الجامدة صدَر صرير عن بوابةٍ خشبية، وارتقى جسدان مُبهمان مُتَّشِحان بالسواد المسار الصغير المؤدي إلى الضريح.
كان ضوء النجوم البارد خافتًا جدًّا لدرجة تعسَّر معها الاهتداء إلى شيءٍ يتعلَّق بهما سوى أنَّ كلًّا منهما اتَّشح بالسواد. كان أحدهما بالِغَ الضخامة، والآخر (ربما على النقيض) يكاد يكون ضئيلًا لدرجةٍ تُثير الاندهاش. هكذا صعَدا إلى الضريح الكبير الراسخ للمُحارب القديم، ووقفا يُحدِّقان فيه لدقائق قليلة. لم يكن ثمة إنسي، وربما خلا المكان من حولهم من أي شيءٍ تدبُّ فيه الحياة؛ حتى إنه قد يتراءى لخيالٍ كئيبٍ التساؤلُ عما إن كانا هما أنفسهما بشرًا. على أي حال، ربما بدا مُستهَل حوارهما غريبًا. بعد الصمت في البداية قال الرجل الضئيل للآخر: «أين يخفي الحكيم حصاة؟»
فأجابه الرجل الفارع الطول بصوتٍ خفيض: «على الشاطئ.»
أومأ الرجل القصير برأسه، وبعد صمتٍ وَجِيز قال: «أين يخفي الحكيم ورقة شجر؟»
أجاب الآخر: «في الغابة.»
ساد صمتٌ لفترةٍ أخرى، ثُمَّ استأنف الرجل الطويل كلامه وقال: «هل تقصد أنه من الدارج حين يُضطر رجل حكيم لإخفاء ألماسةٍ حقيقية أن يُخفيها وسط الألماس المزيف؟»
هنا قال الرجل الضئيل ضاحكًا: «كلا، كلا، فنحن سنطوي صفحة الماضي.»
ضرب الأرض بقدَمَيه الباردتَين للحظةٍ أو لحظتَين، ثم قال: «ليس هذا ما أفكر فيه على الإطلاق، وإنما أفكر في شيءٍ آخر؛ شيء غريب بعض الشيء. هلا أشعلتَ عود ثقاب؟»
تحسَّس الرجل الضخم جَيبَه، وسريعًا ما توهَّج عود الثقاب بعد حكِّه وأضاء بوهجه الذهبي الجانبَ المُسطح من النُّصب بأكمله. كان محفورًا عليه بحروفٍ سوداء الكلمات الشهيرة التي كان الكثير جدًّا من الأمريكيِّين يقرءونها بإكبار: «إجلالًا لذكرى الجنرال السير آرثر سانت كلير، البطل والشهيد، الذي طالما قهَر أعداءه وطالما عفا عنهم، ثم ذبحوه غدرًا في النهاية. فليُعوِّضه الرب الذي آمن به ويثأر وينتقم له.»
أحرق عودُ الثقاب أصابع الرجل الضخم، واسودَّ لونه وسقط. أوشك أن يُشعل واحدًا آخر، لكن رفيقه الضئيل الجسم أوقفه قائلًا: «لا بأس أيها الرجل العجوز، فلامبو؛ فقد رأيتُ ما أردته، أو بالأحرى لم أرَ ما لم أُرد رؤيته. والآن علينا السَّير مِيلًا ونصف مِيل على طول الطريق حتى نصل إلى النزل التالي، وسأحاول أن أُخبرك بالأمر كله. فالمرء بحاجةٍ حقًّا لمِدفأة وَجعةٍ حين يُقدِم على رواية حكاية كتلك.»
نزل الاثنان من فوق المسار الشديد الانحدار، وأعادا إغلاق مزلاج البوابة الصَّدِئة، وانطلقا في مسيرةٍ مثقلة الخطوات صاخبة على طول طريق الغابة المُتجمد. كانا قد قطعا رُبع ميل بالكامل قبل أن يبدأ الرجل الضئيل بالحديث مرة أخرى. فقال: «أجل؛ يُخفي الرجل الحكيم الحصى في الشاطئ. لكن ماذا يفعل إن لم يكن ثمة شاطئ؟ هل تعلم أيَّ شيءٍ عن مشكلة سانت كلير العظيم تلك؟»
أجاب الرجل الضخم ضاحكًا: «أنا لا أعلم شيئًا عن الجنرالات الإنجليز، أيها الأب براون، لكن أعلم القليل عن رجال الشرطة الإنجليز. لا أعلم سوى أنك أجبرتَني على مشقَّة السفر لمسافاتٍ طويلة لكل أضرحة هذا الشخص، أيًّا كان شأنه. وإنه ليُخيَّل للمرء أنه قد دُفن في ستَّة أماكن مختلفة. فقد رأيتُ نُصبًا تذكاريًّا للجنرال سانت كلير في دير وستمينستر. ورأيتُ تمثالًا للجنرال سانت كلير على هيئة فارس على حصان مُتأهِّب للهجوم على ضفاف نهر التايمز. ورأيتُ جداريةً لسانت كلير في الشارع الذي وُلد فيه؛ وجداريةً أخرى في الشارع الذي عاش فيه؛ وها أنت الآن تسُوقني بعد حلول الظلام لتابوتِه في مقابر كنيسة القرية. بدأ يعتريني بعضُ الكَلَل من شخصيته العظيمة، لا سيما أنَّني لا أدري مُطلقًا من كان. فما الذي تبحث عنه في كل هذه السراديب والتماثيل؟»
قال الأب براون: «لا أبحث إلا عن كلمة واحدة. كلمة ليست موجودة هنا.»
فسأله فلامبو: «حسنًا، هل ستُخبرني بأي شيء عن هذا الأمر؟»
قال القس: «لا بدَّ أن أُقسِّم هذا إلى جزأين. أولًا، ثمة ما يعلمه الجميع؛ ثُم هناك ما أعرفه أنا. أما ما يعرفه الجميع فهو قليل وجليٌّ بما فيه الكفاية. كما أنه خطأ كليةً؛ خاطئ كليًّا.»
قال الرجل الضخم، الذي يُدعى فلامبو، في مرح: «إنك على حق. لنبدأ من الطرف الخطأ. لنبدأ بالشيء الذي يعرفه الجميع، والذي ليس صحيحًا.»
استأنف الأب براون كلامه وقال: «إن لم يكن غير صحيح كليةً، فهو على الأقل غير وافٍ بالمرة؛ فكل ما لدى العامة من علمٍ في الواقع لا يزيد عن هذا تحديدًا: يعتقد العامة أن آرثر سانت كلير كان جنرالًا إنجليزيًّا عظيمًا وناجحًا، ويعلمون أنه بعد أن شنَّ حملات هائلة لكن حذِرة في الهند وأفريقيا، قاد حملةً ضدَّ البرازيل حين أصدرَ المُناضل العظيم أوليفييه إنذاره النهائي. إنهم يعتقدون أن سانت كلير آنذاك شنَّ هجومًا بقوةٍ صغيرة جدًّا على أوليفييه الذي كانت لديه قوة كبيرة جدًّا، وأنه أُسِر بعد مقاومةٍ باسلة. ويعتقدون أن سانت كلير شُنق على أقرب شجرة بعد أسْرِه، مما أثار سُخط العالم المُتحضر. فقد عُثر على جثته مُتدليةً من تلك الشجرة بعد انسحاب البرازيليين، وكان سيفُه المكسور مُعلقًا حول عنقه.»
سأله فلامبو مقترحًا: «وتلك القصة الشهيرة غير صحيحة؟»
قال صديقه بهدوء: «كلا، تلك القصة صحيحة تمامًا، حتى هذا الجزء.»
قال فلامبو: «حسنًا، أعتقد أنَّ هذا كافٍ! لكن إن كانت القصة الشهيرة صحيحة، فما اللُّغز؟»
كانا قد عبرَا مئات الأشجار التي بدَتْ رماديةً كأنها أشباح قبل أن ينطق القسُّ الضئيل بالإجابة. فقد عضَّ على أصبعه مُفكرًا وقال: «حسنًا، اللغز إنما هو لُغز حالة نفسية، أو بالأحرى لُغز حالتَين نفسيَّتَين. في هذه المسألة البرازيلية، أتى اثنان من أشهر رجال التاريخ الحديث بتصرُّفاتٍ سطحيةٍ تُناقِض شخصيتَيهما تمامًا. فلتضعْ في اعتبارك أن أوليفييه وسانت كلير كانا بطلَين من الطراز القديم، ودون أدنى شكٍّ كان الأمر أشبه بالصراع بين هيكتور وأخيل. فما رأيك إذن في مسألةٍ كان فيها أخيل هيَّابًا جبانًا وكان هيكتور خائنًا؟»
قال الرجل الضخم بنفاد صبر بينما عضَّ الآخر على أصبعه مرة أخرى: «استرسل.»
أكمل براون حديثه وقال: «كان السير آرثر سانت كلير جُنديًّا من النوع المُتديِّن القديم — النوع الذي أنقذنا أثناء ثورة الهند. فكان حرصه على الواجب يعلو دائمًا على الاندفاع؛ وإلى جانب كلِّ ما تمتَّع به من شجاعةٍ في شخصيتِه كان قائدًا حصيفًا بلا جدال، ساخطًا بوجهٍ خاصٍّ على أي خسارةٍ بلا ضرورةٍ للجنود. ورغم ذلك أقدَمَ في معركته الأخيرة على شيءٍ حتى الطفل يستطيع أن يُدرك مدى عَبثيَّتِه. فلسْتَ بحاجة لأن تكون خبيرًا استراتيجيًّا لترى أنه كان تصرُّفًا طائشًا كالريح؛ تمامًا مثلما لا تحتاج لأن تكون خبيرًا استراتيجيًّا لتبتعد عن طريق حافلة. حسنًا، ذلك هو اللغز الأول؛ ما الذي أصاب عقل الجنرال الإنجليزي؟ واللغز الثاني، هو ما الذي غيَّر قلب الجنرال البرازيلي؟ ربما يُقال عن الرئيس أوليفييه إنه حالم أو يُسبِّب الضرر لمن حوله؛ لكن حتى أعداءه يُقرُّون أنه وصل في نُبله لدرجة شهامة الفرسان المُتجوِّلين بحثًا عن مغامراتٍ لإثبات شهامتهم. فجميع السُّجناء الآخرين تقريبًا الذين أسرَهُم أُطلق سراحُهم أو حتى حُمِّلوا بالعطايا. وحتى الرجال الذين أساءوا إليه إساءةً بالغةً تركوه تأثُّرًا بتواضعِه ولُطفِه. فلأي سببٍ قد يثأر لنفسه بهذه الطريقة الشيطانية لمرةٍ واحدة فقط في حياته؟ وانتقامًا بالتحديد من الضربة الوحيدة التي ما كانت لتؤذيه؟ حسنًا، هذا هو بيت القصيد. أحد أكثر الرجال حكمةً في العالم تصرَّف مثل الأحمق بلا سبب. وأحد أفضل الرجال في العالم تصرَّف كالشيطان بلا سببٍ أيضًا. هذا كلُّ ما في الأمر إجمالًا وتفصيلًا؛ وسأترك لك الحُكم يا بني.»
قال الآخر وهو يزفر: «لا، لن تفعل ذلك، سأترُك الحكم لك؛ وستحكي لي عنه بلا شك.»
استأنف الأب براون كلامه قائلًا: «حسنًا، ليس عدلًا أن أقول إنَّ الانطباع العام هو ما قلته بالضبط، دون أن أُضيف شيئَين حدَثَا بعد ذلك. ولا يمكنني القول إنهما يُلقيان ضوءًا جديدًا؛ فلا أحد يستطيع أن يجدَ فيهما منطقًا. إلا أنهما ألقَيا عَتمةً من نوعٍ جديد؛ إنهما يُلقيان العتمة في اتجاهاتٍ جديدة. الأمر الأول هو أن طبيب عائلة سانت كلير تشاجر معهم، وشرع ينشُر سلسلة مقالاتٍ عنيفة، قال فيها إنَّ الجنرال الراحل كان مهووسًا دينيًّا؛ لكن حسب الرواية، بدا أن المقصود بهذا أكثر قليلًا من رجل مُتديِّن. على أي حال، تلاشَت القصة. كان الجميع يعلمون بالطبع أن سانت كلير اتَّسم ببعض السِّمات الغريبة من التقوى المُتزمِّتة. الحدث الآخر كان أكثر إدهاشًا بدرجةٍ كبيرة. كان في الكتيبة السيئة الحظ وغير المدعمة التي شنَّت الهجوم الطائش في النهر الأسود نقيب يُدعى كيث، كان في ذلك الوقت خاطبًا لابنة سانت كلير، ثم تزوَّجها بعد ذلك. كان واحدًا من الذين أسرَهم أوليفييه، ويبدو أنه لاقَى معاملةً كريمةً وأُطلق سراحُه في الحال مثل الآخرين جميعًا باستثناء الجنرال. بعد ذلك بنحو عشرين عامًا، نشر هذا الرجل، الذي صار حينذاك المُقدِّم كيث؛ شيئًا شبيهًا بالسيرة الذاتية بعنوان «ضابط بريطاني في بورما والبرازيل». في الموضع الذي يبحث فيه القارئ بتلهُّف عن بعض الأخبار المتعلقة بلُغز مأساة سانت كلير ترِد الكلمات التالية: «لقد قصصتُ في كل موضعٍ من هذا الكتاب الأشياء كما حدثتْ بالضبط، مُتمسكًا كما اعتدتُ بالرأي القديم القائل بأن مجد إنجلترا عريق بما يكفي ليُعبِّرَ بنفسه عن نفسه. الحالة التي سأستثنيها في هذا الشأن هي الهزيمة التي مُنِينا بها في النهر الأسود؛ ورغم أن هذا يرجع إلى أسبابي الخاصة، إلا أنها أسباب مُشرِّفة وقهرية. لكنني سأضيف هذا إنصافًا لذكرى رجُلين مرموقين. فقد اتُّهم الجنرال سانت كلير بالتقصير في هذه الواقعة؛ يمكنني على الأقل أن أشهد بأن هذا التصرُّف، عند فهمه بطريقةٍ صحيحة، كان أذكى وأعقل تصرُّفٍ في حياته. وبناءً على روايةٍ شبيهة، يُتَّهم الرئيس أوليفييه بالظلم والوحشية. وأعتقد أنه إنصافًا لشرَف العدو عليَّ أن أقول إنَّ تصرُّفه في هذا الموقف جاوز ما تميَّز به من خصالٍ طيبة. وبإيجاز، أستطيع أن أؤكد لأبناء وطني أن سانت كلير لم يكن مُطلقًا ذلك الأحمق ولا كان أوليفييه همجيًّا كما بدا الأمر. هذا كل ما لديَّ لأقوله؛ ولن تُجبرَني أيُّ اعتبارات دنيوية على إضافة كلمةٍ واحدة إليه.»
شرع يلُوح قمرٌ كبير مُتجمِّد مثل كرة جليد برَّاقة من خلال شبكةٍ من الأغصان أمامهما، فاستطاع الراوي بضوئه أن يُنعش ذكرياته بشأن نصِّ النقيب كيث بقصاصةٍ من ورق مطبوع. وبينما هو يطويها ويُعيدها إلى جيبه، عبَّر فلامبو عن يأسه بإيماءةٍ فرنسية صنعها بيده.
صاح فلامبو في حماس: «انتظر قليلًا، انتظر قليلًا. أعتقد أنَّ باستطاعتي تخمين الأمر من أول محاولة.»
ذرَع مُتقدِّمًا، بأنفاسٍ لاهثة، مشرئبًّا برأسه الأسود وعنقه العريض، كمن يريد الفوز بسباق سير. أما القسُّ الضئيل، مستمتعًا ومهتمًّا، فقد واجه بعض الصعوبة في الهرولة بمُحاذاته. كانت الأشجار قبالتَهما قد انحسرتْ إلى الوراء قليلًا على اليمين وعلى اليسار، وامتدَّ الطريق إلى الأسفل مُفضيًا إلى وادٍ بدا واضحًا تحت ضوء القمر، حتى هوى ثانيةً مثل أرنبٍ إلى أسوار غابة أخرى. بدا المدخل إلى الغابة الأبعد صغيرًا ودائريًّا، مثل مدخلٍ مُعتم لنفق سكك حديدية بعيدة، لكنه كان على بُعد بضع مئات الياردات، وانفرج مثل كهفٍ قبل أن يستأنف فلامبو كلامه.
صاح فلامبو أخيرًا، ضاربًا فخذَه بيده الضخمة: «لقد فهمت. بعد أربع دقائق من التفكير، أستطيع أن أحكي بنفسي قصتك كاملة.»
رضخ صديقه وقال: «حسنًا، فلتقْصُصْها عليَّ.»
رفع فلامبو رأسه، لكنه خفَض صوته، وقال: «كان الجنرال السير آرثر سانت كلير ينحدر من عائلةٍ توارثَت الجنون؛ وكان مُجمَل هدفه أن يُخفي هذا عن ابنته، بل وعن زوج ابنته المُستقبلي إن أمكن. وحين اعتقد، سواء كان مُصيبًا أو مُخطئًا في اعتقاده، أن انهياره الأخير وشيك، قرَّر الانتحار. إلا أن الانتحار بصورته المألوفة كان سيذيع الفكرة نفسها التي كان يخشاها. ومع اقتراب الحملة تكاثَفَت الغيوم التي غَشِيَت رأسَه؛ وأخيرًا في لحظة جنون ضحَّى بواجبه العام من أجل واجبه الخاص. فاندفع بتهوُّرٍ في المعركة، مُتمنيًا أن يسقط بأول طلقة. وحين رأى أنه لم ينتهِ لشيء سوى الأسر والخزي، انفجرت القنبلة الحتمية في رأسه، فكسر سيفه وشنق نفسه.»
أخذ يُحدِّق بثباتٍ في الواجهة الرمادية للغابة المُترامية أمامه، بالفجوة السوداء الوحيدة الموجودة فيها، مثل فتحة قبر، يهبط إليها مسارهما. قد يكون ثمَّة شيءٌ مُنذرٌ بالشر في هبوط الطريق على هذا النحو هو الذي أزكى رؤيته الحيَّة للمأساة، إذ انتابته رجفة.
قال: «قصة مروعة.»
قال القس مُكررًا برأسٍ منحنٍ: «قصة مروعة، لكنها ليست القصة الحقيقية.»
ثم ألقى رأسه للخلْف في شيءٍ من اليأس، وصاح: «آه، ليتها كانت كذلك.»
أدار فلامبو الطويل القامة وجهه، وحدَّق فيه.
صاح الأب براون وقد تأثَّر تأثُّرًا عميقًا: «قصتك منطقية. قصة لطيفة وبريئة وصريحة، في وضوح ونصاعة ذلك القمر. فالجنون واليأس على قدْرٍ كبير من البراءة. لكن ثمة أشياء أسوأ يا فلامبو.»
رفع فلامبو بصره إلى القمر يتفرَّسه عند الاستشهاد به؛ فرآه من حيث يقِف وقد تقوَّس خلاله فرع شجرة أسود فبدا تمامًا كأنه قرْن شيطان.
هتف فلامبو، مُؤديًا الإيماءة الفرنسية، ومُتقدمًا بخطوات أسرع: «أيها الأب، أيها الأب، هل تقصد أن الأمر كان أسوأ من ذلك؟»
كرَّر الأب الكلام كأنه صدى صوتٍ جاد: «أسوأ من ذلك.» ثم هبطا إلى داخل ممرِّ الغابة المُدلَهم، الذي أخذهما في نسيجٍ مُتداخل من جذوع الأشجار، كأحد الممرات المعتمة التي نراها في الأحلام.
وسُرعانَ ما أصبحا في أكثر بواطن الغابة استتارًا، وشعرَا بدنوِّ أوراق شجرة لم يستطيعا رؤيتها، حين قال القس مرةً أخرى:
«أين يُخفي الرجل الحكيم ورقةَ شجر؟ في الغابة. لكن ماذا يفعل إن لم يكن ثمة غابة؟»
صاح فلامبو مُغتاظًا: «حسنًا، حسنًا، ماذا يفعل؟»
قال القس بصوتٍ خافت: «يزرع غابةً ليُخفيَها فيها. خطيئة مريعة.»
صاح صديقه وقد نفد صبره؛ إذ أتلفَتِ الغابة المُظلمة والجملة المُبهمة أعصابَه بعض الشيء، وقال: «فلتُصغِ إليَّ، هل ستُخبرني بهذه القصة أم لا؟ ما الأدلة الأخرى المُتوفِّرة لنستدلَّ بها؟»
قال الأب براون: «ثمة ثلاثة أدلَّة أخرى نقَّبتُ عنها في كل مكان إذ كانت مخفية؛ وسوف أذكرها حسب ترتيبها المنطقي لا الزمني. أولًا، بالطبع مَرجعنا في مسألة المعركة وواقعتها موجود في رسائل أوليفييه، وهي واضحة بما فيه الكفاية. فقد كان مُتحصِّنًا مع كتيبتَين أو ثلاث على المرتفعات التي تدرَّجت نزولًا إلى النهر الأسود، الذي كان على الجانب الآخر منه أرض سبخة أكثر انخفاضًا. كان وراء هذا منطقةٌ أخرى مرتفعة، أُنشئ عليها أول مركز للقوات العسكرية الإنجليزية، دعمتْه قوات أخرى، مع أنها كانت تقع على بُعد كبير من مؤخرة هذا المركز. كانت القوات البريطانية بوجهٍ عام متفوقةً كثيرًا من حيث العدد؛ لكن هذه الكتيبة تحديدًا كانت بعيدة عن قاعدتها لدرجةٍ كافية لتجعل أوليفييه يفكر في مشروع عبور النهر بهدَف عزلها. إلا أنه مع حلول الغروب قرَّر الاحتفاظ بموقعه، الذي كان قويًّا للغاية. ومع بزوغ فجر الصباح التالي بُهِت لرؤية أن هذه القلة القليلة من الإنجليز المعزولين، بلا أي دعم من المؤخرة نهائيًّا، وقد وزَّعوا أنفسهم في أنحاء النهر، نصفهم عن طريق جسر إلى اليمين، والنصف الآخر عن طريق مَعبر ضحْلٍ في الأعلى، واحتشدوا في أرجاء الضفَّة السبخة أسفلَه.»
كان احتمال أن يشنُّوا هجومًا بتلك الأعداد ضدَّ ذلك الموقع أمرًا غير معقول على الإطلاق؛ لكن أوليفييه لاحظ شيئًا أكثر غرابة. فبدلًا من محاولة السيطرة على المزيد من الأراضي اليابسة، لم تزد هذه الكتيبة المجنونة عن الانغراز هناك في السبخ مثل الذُّباب في الدبس، وقد أولَتِ النهر ظهرها في هجمةٍ طائشة. غنيٌّ عن القول إنَّ البرازيليين قد اخترقوا صفوفهم بفجواتٍ كبيرة بالمدفعية، التي لم يستطيعوا الردَّ عليها إلا بنيران بنادق حادَّة ولكنها ضئيلة. إلا أنهم لم ينهاروا قط؛ وتنتهي قصة أوليفييه المُجتزأة بتحية إعجاب قوية لبسالةِ هؤلاء الحمقى المُلغِزة. كتب أوليفييه قائلًا: «تقدَّم صفُّنا في النهاية، ودفعهم إلى النهر؛ وأسرْنا الجنرال سانت كلير نفسه وعدَّة ضباط آخرين. أما العقيد والعميد فقد سقطا في المعركة. لا أستطيع منع نفسي من أن أقول إنَّ التاريخ لا يحتوي على مشاهد كثيرة أروع من مشهد المقاومة الأخيرة لهذه الكتيبة الاستثنائية؛ فقد كان الضباط المُصابون يلتقطون بنادق الجنود الموتى، والجنرال نفسه تصدَّى لنا على صهوة جواده حاسِرَ الرأس وبسيفٍ مكسور.» ويلتزم أوليفييه الصمت مثله مثلَ النقيب كيث حيال ما جرى للجنرال بعد ذلك.»
قال فلامبو مُزمجرًا: «حسنًا، فلتنتقِلْ إلى الدليل التالي.»
قال الأب براون: «استغرق الدليل التالي بعض الوقت للعثور عليه، لكنه لن يستغرق وقتًا طويلًا في حَكيِه. لقد وجدتُ أخيرًا في ملجأ للمعوزين جنوبًا في منطقة مُستنقعات لينكولنشاير جنديًّا مُسنًّا لم يُصَب في موقعة النهر الأسود فحسب، لكنه في واقع الأمر جثا على ركبتَيه بجانب عقيد الكتيبة حين مات. كان ذلك الأخير العقيد كلانسي، وهو رجل أيرلندي ضخم البِنية؛ ويبدو أن الغضب لعِبَ الدور نفسه الذي لعبه الرصاص في القضاء عليه. فلم يكن مسئولًا، بأي حال من الأحوال، عن تلك الغارة الحمقاء؛ لا بدَّ أن الجنرال هو الذي أجبره عليها. وآخر ما نطق به من كلماتٍ كاشفة، حسْب ما أخبرني به الراوي، كان: «وها قد سقط الحمار العجوز اللعين وقد انكسر طرف سيفه. ليتَه كان رأسه.» ستلاحظ أنَّ الجميع قد أشاروا إلى هذه النقطة المتعلقة بنصل السيف المكسور، رغم أن أغلب الناس ينظرون إليها بشيءٍ من الإجلال باستثناء العقيد كلانسي الراحل. والآن إليك الجزء الثالث.»
طفق مسارهما في الغابة يرتفع، فتوقَّف المُتحدِّث قليلًا ليلتقِط أنفاسه. ثم استأنف الحديث بنفس النبرة العملية:
«منذ شهر أو شهرَين قضى مسئول برازيلي نَحْبَه في إنجلترا، بعد أن تشاجر مع أوليفييه وترك بلده. وكان إسبانيًّا يدعى إسبادو، وشخصية معروفة هنا وفي القارة الأوروبية؛ وقد عرفتُه شخصيًّا، كان عجوزًا مُتأنقًا شاحب الوجه، معقوف الأنف. لقد أُذن لي برؤية الوثائق التي تركها لعدة أسباب خاصة؛ فقد كان كاثوليكيًّا، بالطبع، وكنت بصحبته قبيل النهاية. لم يَلقِ أيٌّ من أشيائه الضوءَ على أيٍّ من جوانب مسألة سانت كلير الحالِكة، إلا خمسة أو ستة دفاتر تدريبية عادية امتلأتْ بيوميات أحد الجنود الإنجليز. لا أملك سوى افتراض أن البرازيليين قد عثروا عليها لدى أحد الذين سقطوا. على أي حال، توقفَّتِ اليوميات فجأة في الليلة السابقة للمعركة.
إلا أن قصة اليوم الأخير في حياة ذلك الشخص المسكين كانت بالتأكيد تستحق القراءة. إنها معي؛ لكن الظلام هنا حالك لدرجة تمنع القراءة، لذا سأعطيك مُوجزًا بها. يزخَر الجزء الأول من ذلك التدوين بالنِّكات، التي يبدو جليًّا أنها كانت متداوَلة بين هؤلاء الرجال، عن شخصٍ يُدعى النسر. ولا يبدو أن هذا الشخص كان، أيًّا كان، واحدًا منهم، أو حتى رجلًا إنجليزيًّا؛ كما أنهم لا يتحدَّثون عنه كما لو كان أحد الأعداء حتى. بل يبدو بالأحرى وسيطًا غير مقاتلٍ من السُّكَّان المحليين؛ ربما كان مُرشدًا أو صحفيًّا. لقد كان يختلي بالعقيد كلانسي العجوز؛ لكن كثيرًا ما كان يُرى وهو يتحدَّث مع العميد. لا شكَّ أن العميد يطغى إلى حدٍّ ما على حكايات هذا الجندي؛ وكان رجلًا هزيلًا أسود الشعر، يُدعى على ما يبدو موراي، وهو بروتستانتي من شمال أيرلندا. وتواصلت الدُّعابات حول التناقُض بين تزمُّت هذا الرجل الأيرلندي الشمالي وحب العقيد كلانسي للمرح. كذلك تَرِد بعض الدُّعابات عن ارتداء النسر ثيابًا زاهية الألوان.
لكن يعترِض كل هذه الدُّعابات ما يمكن أن نُسمِّيه صوتَ البوق. فقد كان يمتدُّ أحد الطرق الكبيرة القليلة في تلك المنطقة خلْف المعسكر الإنجليزي وفي شِبه توازٍ مع النهر. وفي الغرب كان الطريق ينعطف في اتجاه النهر، الذي امتدَّ فوقه الجِسر المذكور آنفًا. وفي الشرق كان الطريق يمتدُّ لمساحةٍ شاسعة مُتقهقرًا إلى الغابات، وعلى بُعد مِيلين من امتداده كان موقع المركز العسكري الإنجليزي التالي. في ذلك المساء، جاء من هذا الاتجاه على طول الطريق وَمِيضٌ وجلبةُ خيَّالةٍ خفيفة، استطاع حتى كاتب اليوميات البسيط أن يُميِّز فيها مُندهشًا الجنرال مع مُساعديه. كان يمتطي الجواد الأبيض المُطهَّم الذي رأيتُه كثيرًا في المجلات المُصوَّرة وصور الأكاديمية؛ ولك أن تتأكَّد أن التحية التي أدَّوها له لم تكن رسمية فحسب. لكنه، هو على الأقل، لم يُضِع الوقت في الرسميات، وإنما قفز من فوق السرْج في الحال، واختلط بمجموعةٍ من الضباط، واستغرق في خطبةٍ حازمة اللهجة لكن سرية. أكثر ما أدهش صديقَنا كاتب اليوميات كان مَيله الخاص إلى مناقشة الأمور مع العميد موراي؛ لكن، ما دام هذا الاختيار لم يُميَّز بطريقةٍ ما، لم يكن بالتأكيد مُستغربًا على الإطلاق. إذ كان الرجلان مُتوافقَين تمامًا؛ كانا رجُلَين «قارئين للإنجيل»؛ كان كلاهما من نوعية الضباط الإنجيليين القُدامى. وأيًّا كان ما تحدَّثا فيه، فالمؤكد أن الجنرال حين امتطى صهوة جواده ثانيةً كان لا يزال يتحدَّث حديثًا جادًّا مع موراي؛ وأنه حين سار بجواده ببطءٍ على طول الطريق المُؤدِّي إلى النهر، ظلَّ الرجل الأيرلندي الشمالي الطويل يسير بجانب لجام سرجه في مناقشة جادة. راقب الجنود الاثنين حتى اختفيا وراء أجَمةٍ من الأشجار حيث تحوَّل الطريق ناحية النهر. عاد العقيد إلى خيمته، وعاد الرجال إلى مواقع المُراقبة؛ في حين بقِيَ كاتب المذكرات أربع دقائق أخرى، ثم رأى مشهدًا عجيبًا.
فقد أسرع الجواد الأبيض المُطهَّم الذي كان يتقدَّم على مهلٍ هابطًا الطريق، مثلما كان يسير في كثيرٍ من المواكب، يركض إلى الخلف، يقطع الأرض مُسرعًا صوبَهم كأنه قد ثار به الجنون للفوز بسباقٍ ما. في البداية ظنُّوا أنه قد فرَّ بالرجل الذي على صهوته؛ لكن سرعان ما رأَوْا أنَّ الجنرال نفسه، وهو فارس ماهر، كان يحثُّه على الجري بأقصى سرعة. هُرع الرجل والجواد صاعدَين إليهم مثل زوبعة؛ ثم كبح الجنرال الجواد المُسرع، وأدار وجهه إليهم مُتَّقدًا كالشُّعلة، ونادى على العقيد كأنه بُوق يُوقظ المَوتى.
يبدو لي أنَّ جميع الأحداث الصادمة لتلك الكارثة تراكمَتْ فوق بعضها مثل الحطب في عقول الرجال من أمثال صديقنا صاحب اليوميات؛ إذ وجدوا أنفسهم، وقد أصابهم الذهول كما لو أنهم في حلم، يتجمَّعون في صفوفهم، وعرفوا أنَّ هجومًا سيُشنُّ في الحال في الجهة الأخرى من النهر. قيل إن الجنرال والعميد قد وجدا شيئًا ما عند الجسر، وكان الوقت بالكاد كافيًا لشنِّ هجومٍ من أجل النجاة. وكان العميد قد رجع في الحال لاستدعاء جنود الاحتياط المُوزَّعين على الطريق في الخلف؛ وكان من المشكوك فيه أن المَدَد قد يصل إليهم في الوقت المناسب حتى مع هذه الاستغاثة الفورية. إلا أنه كان لزامًا عليهم أن يعبروا الجدول تلك الليلة، ويُسيطروا على المرتفعات بحلول الصباح. ومع اضطراب تلك المسيرة الليلية الحالمة تنتهي اليوميات بغتةً.»
كان الأب براون قد سبق في الصعود؛ إذ ازداد ضِيقُ ممرِّ الغابة وانحداره وتَعرُّجه، حتى شعرا كأنَّهما يرتقيان درجًا حلزونيًّا. وهكذا جاء صوت القسِّ من علٍ في الظلام.
«كان ثمة شيء آخر بسيط وبالغ الأهمية في الوقت ذاته. حين كان الجنرال يُحفزهم على مَهمَّتهم النبيلة أخرج سيفه حتى النصف من غمده؛ وبعد ذلك، كأنه خجل من مثل تلك الميلودراما، فأدخله في غمده مرةً أخرى. وهذا ذِكر جديد للسيف كما ترى.»
تخلَّل ضوء الفجر الواهن الفروع المُتشابكة فوقهما، ليُلقي بظلِّ شبكةٍ حول أقدامهما؛ إذ كانا صاعدَين مرةً أخرى إلى مصدر الضوء الخافت في ذلك الليل البهيم. شعَر فلامبو أن الحقيقة تُحيط به من كل جانب كأنها هواء وليس فكرة. فأجاب بعقلٍ ذاهل: «حسنًا، ما شأن السيف؟ فالضباط بوجهٍ عام يملكون سيوفًا، أليس كذلك؟»
قال براون بلا مُبالاة: «لا يكثُر ذكرها في الحروب الحديثة، ومع ذلك في هذه القصة نجد السيف المُبارك في كل مكان.»
قال فلامبو مُتبرمًا: «حسنًا، وماذا في ذلك؟ كانت حادثة غير ذات أهمية؛ لقد كُسر نصل العجوز في معركته الأخيرة. يمكن لأي أحد أن يتوقَّع ملاحظة الصحف لهذا الأمر، كما حدث بالفعل. ولذلك تراه على كل هذه القبور والأشياء الأخرى مكسور الطرف. أرجو ألَّا تكون قد اصطحبْتَني في هذه الحملة القُطبية فقط لأن رجُلَين لديهما اهتمام بالصور رأَوْا سيف سانت كلير مكسورًا.»
صاح الأب براون بصوتٍ حادٍّ كأنه طلقة مسدس: «لا، لكن، من الذي رأى سيفه غير المكسور؟»
صاح الآخر، قائلًا: «ماذا تقصد؟» ووقف دون حَراك أسفل النجوم، فقد خرجا سريعًا من البوابات الرمادية للغابة.
أعاد الأب براون قوله في إصرار: «قلتُ من الذي رأى سيفه غير المكسور؟ ليس كاتب اليوميات على أي حال؛ فقد وضعه الجنرال في غمده في الوقت المناسب.»
أخذ فلامبو يُحدِّق في الأب براون في ضوء القمر، وكان يبدو مثلما يبدو رجلٌ كفيفُ البصر في ضوء الشمس؛ واستأنف صديقه كلامه، بلهفةٍ لأول مرة؛ إذ صاح: «أنا لا أستطيع إثبات هذا يا فلامبو، حتى بعد البحث بين القبور. لكنني على يقينٍ منه. دعْني أُضِفْ حقيقةً أخرى صغيرة ستقلب الأمر برمته رأسًا على عقب. كان الكولونيل — في مُصادفة غريبة — مِن أول الذين أصابتهم الطلقات، لقد أُصيب قبل أن تقترب القوات منه بمدَّة طويلة، لكنه رأى سيف سانت كلير مكسورًا. لماذا كان مكسورًا؟ وكيف انكسر؟ لقد انكسر قبل المعركة يا صديقي.»
فقال صديقه بشيء من المزاح البائس: «حقًّا! وأين إذن الجزء الآخر؟»
قال القس سريعًا: «بوسعي إخبارك؛ إنه في الجانب الشمالي الشرقي من مقابر الكاتدرائية البروتستانتية في بلفاست.»
تساءل الآخر: «حقًّا؟ هل بحثتَ عنه؟»
أجابه براون بأسفٍ صريح: «لم أستطع. فيوجد نُصب هائل من الرخام فوقه؛ نُصب للعميد موراي البطل، الذي سقط وهو يحارب ببسالةٍ في معركة النهر الأسود الشهيرة.»
بدا كأن فلامبو قد بُعث فجأة للحياة. فقد صاح بصوتٍ مبحوح وقال: «هل تريد أن تقول إن الجنرال سانت كلير كرِه موراي، وقتله في ميدان المعركة لأن …»
قال براون: «ما زلتَ مُفعمًا بالأفكار الطيبة البريئة. كان الأمر أسوأ من هذا.»
قال الضخم فلامبو: «حسنًا، لقد نفد مخزون الخيال الشرير لدي.»
بدا القس حقًّا في حيرة من أين يبدأ، وفي النهاية قال مرةً أخرى:
«أين يُخفي الرجل الحكيم ورقة شجر؟ في الغابة.»
لم يُحر الآخر جوابًا.
«إن لم يكن ثمة غابة، فإنه سيصنع غابة. وإن أراد إخفاء ورقةٍ ميتة، فإنه سيصنع غابة ميتة.»
وعندما استمرَّت حالة الصمت من جانب مُحاوِره، أضاف القسُّ بلِينٍ وهدوءٍ أكثر:
«وإن اضطر رجل لإخفاء جثة، فسيصنع غابة من الجثث حتى يخفيها فيه.»
بدأ فلامبو يتقدَّم ضاربًا الأرض بقدَميه وقد ضاق ذرعًا بالتأخُّر في الزمان أو المكان، لكن الأب براون واصل كلامه كأنه يستكمل الجملة الأخيرة:
«كان السير آرثر سانت كلير، كما ذكرتُ آنفًا، رجلًا قارئًا لإنجيله؛ وكانت هذه هي مشكلته. متى سيَعي الناس أنه من غير المُجدي أن يقرأ الرجل إنجيله ما دام لم يقرأ إنجيل كلِّ شخصٍ آخر؟ فعامل الطباعة يقرأ الإنجيل بحثًا عن الأخطاء المطبعية، وصاحب العقيدة المورمونية يقرأ إنجيله فيجد فيه تعدُّد الزوجات، ويقرأ تابع جماعة العِلم المسيحي إنجيله، فيجد أننا لا نملك أذرُعًا ولا سيقانًا. أما سانت كلير فقد كان جنديًّا بروتستانتيًّا إنجليزيًّا هنديًّا عجوزًا. فلتتأمَّلْ فقط فيما قد يعنيه هذا؛ ولا تنحرف عنه بحقِّ السماء. فقد يعني أن يعيش رجل ضخم البِنية تحت شمس مدارية في مجتمع شرقي، مُستغرقًا دون منطقٍ ولا توجيه في كتابٍ شرقي. لقد قرأ العهد القديم لا العهد الجديد بالطبع. ووجد في العهد القديم بطبيعة الحال كل ما أراده — الشهوة والطغيان والخيانة. أعتقد أنه كان أمينًا، على حدِّ وصفكم. لكن ما جدوى أن يكون الرجل أمينًا في عبادته للضلال؟
في كل بلدٍ من البلدان الحارَّة والسرية التي ذهب إليها هذا الرجل، كان له حرملك، وعذَّب شهودًا، وكدَّس ذهبًا بأساليب مُخزية؛ لكنه كان بالطبع يقول، بعينَين لا يرفُّ لهما جفن، إنه فعل ذلك من أجل مجد الرب. يُعبِّر عن دِيني تعبيرًا وافيًا سؤال: أي رب؟ على أيِّ حال، هذا هو حال مثل هذا الشر، فهو يفتح بابًا تلوَ الآخر في الجحيم، ودائمًا ما يؤدي إلى حجراتٍ أصغر فأصغر. هذه هي حقيقة الجريمة، فالرجل لا يزداد جموحًا، وإنما يزداد دناءة؛ فسُرعان ما ضاق الخناق على سانت كلير بمُشكلات الرشوة والابتزاز؛ واحتاج إلى المزيد والمزيد من المال، وبحلول وقت معركة النهر الأسود كان قد سقط من عالمٍ إلى عالم؛ إلى ذلك المكان الذي اعتبرَه دانتي أسفل سافلِي الكون.»
هنا سأله صديقه مرةً أخرى: «ماذا تقصد؟»
فأجابه القسُّ بسرعة: «أقصد ذلك.» وأشار بغتةً إلى بِركة مُغطاة بجليد كان يلمع في ضوء القمر. ثم قال: «هل تذكُر من الذي وضعَه دانتي في آخر دوائر الجليد؟»
قال فلامبو: «الخونة.» ثم ارتجف. وبينما هو يجُول ببصره في مشهد الأشجار الذي خلا من البشر، بمعالم رئيسية مُتهكمة وتكاد تكون مُنفِّرة، أوشكَ أن يتخيَّل أنه دانتي، وأنَّ القسَّ بصوته الهادئ كجدول ماء، كان فيرجيل يُرشده بالتأكيد في أرضٍ ذات خطايا أبدية.
ثم قال الصوت مُسترسلًا: «كان أوليفييه كما تعلم مِثاليًّا، ولا يسمح بوجود مُخابرات سِرية وجواسيس. لكن هذا الأمر كان يحدُث، مثل كثيرٍ من الأشياء الأخرى، من وراء ظهره. كان يتولَّاه صديقي القديم إسبادو؛ الذي كان يتأنَّق في ملابس زاهية الألوان، وقد كُني بالنسر نظرًا لأنفه المعقوف. وبينما كان يتظاهر بأنه رجل مُحسن ومُحبٌّ للخير في الجبهة، كان يتحسَّس طريقه في الجيش الإنجليزي، وأخيرًا وقعَتْ يداه على الرجل الوحيد الفاسد فيه — رُحماك يا إلهي — وكان هذا الرجل على القمَّة. فقد كان سانت كلير في حاجةٍ ماسَّة للمال، أكداس مُكدَّسة منه. كان طبيب الأُسرة الموصوم يُهدِّد بتلك الفضائح الخارجة عن المألوف، التي حدثت فيما بعد ثم توقَّفَت؛ حكايات عن أشياء بشِعة وهمجية في طريق بارك لين؛ وأشياء ارتكبها مُبشِّر إنجليزي وشَتْ بقرابين بشرية وحشود من العبيد. كان بحاجةٍ للمال أيضًا من أجل مَهْر ابنته؛ فقد كانت الشهرة بالثراء بالنسبة إليه في نفس حلاوة الثراء ذاته. هكذا قطع الشعرة الأخيرة، وباح بالسرِّ للبرازيل، وتدفَّقت الأموال من أعداء إنجلترا. إلا أنَّ ثمَّة رجلًا آخر تحدَّث مع إسبادو النسر كما تحدَّث هو. بطريقة ما كان العميد الشاب الغامض المُتجهِّم من شمال أيرلندا قد خمَّن الحقيقة البغيضة؛ وبينما كانا يسيران على مهلٍ معًا في الطريق المؤدي إلى الجسر أخبر موراي الجنرال أنه عليه الاستقالة في الحال، وإلا فإنه سيخضع لمُحاكمة عسكرية وسيُرمى بالرُّصاص. فسايَرَه الجنرال حتى بلغا إطار الأشجار المدارية بالقُرب من الجسر؛ وهناك على مقربة من النهر الشادي وأشجار النخيل التي أضاءتها الشمس (فبوسعي تخيُّل المشهد) استلَّ الجنرال سيفه وطعن به العميد.»
انحنى الطريق الكئيب البارد عند جُزء مرتفع من الأرض وسط صقيعٍ حادٍّ، بدَتْ فيه الشجيرات والآجام أشكالًا سوداء قاسية؛ لكن خُيِّل لفلامبو أنه رأى وراء هذا حافةَ هالةٍ من ضوء لم يكن ضوء النجوم أو ضوء القمر، وإنما نار كالتي يُشعلها البشر. فظلَّ يُراقبها بينما أشرفت الحكاية على نهايتها.
«كان سانت كلير كلبًا شيطانيًّا، لكنه كلب من سُلالة جيدة. أُقسِم أنه لم يكن قطُّ بصفاء التفكير والقوة كما كان حين سقط موراي المسكين كتلةً هامدة عند قدمَيه. فلم يكن الرجل العظيم كما قال النقيب كيث بحق، في كل انتصاراته، بالعظمة التي أظهرها في هذه الهزيمة الأخيرة المقيتة. نظر ببرود إلى سلاحه ليمسح عنه الدماء؛ فرأى أن الطرف الذي غرزه بين مَنكِبي ضحيَّته قد انكسر في جسده. رأى في رَباطة جأشٍ تامَّة، كمن ينظُر من خلال زجاج نافذة، كلَّ ما يعقُب ذلك بالضرورة. فرأى أن الرجال حتمًا سيجدون هذه الجثة الغريبة، ولا بدَّ أنهم سيستخرجون طرف السيف غير المُفسَّر، ولا بدَّ أنهم سيلاحظون السيف المكسور الغريب — أو عدم وجود السيف. إذن فقد قتلَه ولكنه لم يُسكِتْه. إلا أنَّ ذكاءه الجبَّار اتَّقدَ في مواجهة العقبة؛ فما زال ثمة سبيل. فيمكنه أن يخلق سببًا لوجود الجثة! بإمكانه أن يصنع تلًّا من الجثث ليخفي فيه هذه الجثة. وفي غضون عشرين دقيقة كان ثمانمائة جندي إنجليزي يسيرون إلى حتفهم.»
زاد اتِّقاد وسطوع الوهَج الدافئ القادم من خلف الغابة المُعتمة الباردة، فهرول فلامبو ليصل إليه. كذلك أسرع الأب براون في سيره؛ لكن بدا أنه كان مُستغرقًا في حكايته وحدَها.
«هكذا كانت شجاعة هؤلاء الجنود الإنجليزيين البالغ عددهم ألفًا وهكذا كانت عبقرية قائدهم، حتى إنهم لو كانوا قد شنُّوا هجومًا على التلِّ على الفور آنذاك لربما كان زحفُهم المجنون صادف شيئًا من الحظ. لكن كان للعقل الخبيث الذي تلاعَبَ بهم مثل بيادق الشطرنج أهدافٌ وأسباب أخرى. فكان لا بدَّ لهم أن يبقَوا في المُستنقعات بالقُرب من الجسر على الأقل حتى يصير منظر الجثث البريطانية مألوفًا هناك. ثم كان المشهد العظيم الأخير؛ أن تنازل القديس المُقاتل الأشيَبُ عن سيفه المكسور للحيلولة دون المزيد من القتل. كان الأمر حسَنَ التنظيم بالنظر إلى كونه مُرتجلًا، لكني أعتقد (فليس بإمكاني إثبات هذا)، أن شخصًا ما انتابَه الشكُّ وشخصًا آخر خمَّن، بينما هم عالقون هناك في هذا المُستنقَع الدموي.»
لازم الصمتَ لبُرهة، ثم قال: «ثمَّة صوت من المجهول يُخبرني بأن الرجل الذي خمَّن كان العاشق … الرجل الذي كان سيتزوَّج ابنة العجوز.»
فسأله فلامبو: «لكن ماذا عن أوليفييه والشنق؟»
قال الراوي مُفسِّرًا: «نادرًا ما كان أوليفييه يُثقل زحفه بأسرى، بدافع من النُّبل من ناحية، وبدافعٍ سياسي من ناحية أخرى. فكان يطلق سراح الجميع في أغلب الحالات. وفي هذه الحالة أطلق سراح الجميع.»
فبادرَه فلامبو قائلًا: «الجميع ما عدا الجنرال.»
قال القس: «الجميع.»
عقد فلامبو حاجبَيه الأسودَين، وقال: «لم أفهم الأمر كاملًا بعد.»
قال براون بصوته الخفيض الأكثر غموضًا: «ثمة صورة أخرى، لا أستطيع إثباتها؛ لكن بوسعي فعل أكثر من ذلك؛ يُمكنني رؤيتها. أرى معسكرًا ينفضُّ على التلال الحارة المكشوفة، وملابس عسكرية برازيلية مُحتشدة في تكتُّلاتٍ وصفوف من أجل الزحف. وها هو أوليفييه واقفًا في قميصه الأحمر بلحيتِه السوداء الطويلة التي تتطايَر وهو واقف، ويُمسك قُبَّعتَه ذات الحافة العريضة في يده. إنه يقول وداعًا للعدو العظيم الذي يطلق سراحه — المحارب الإنجليزي المُخضرم المُتواضِع الذي اشتعل الشَّيب في رأسه كالثلج، والذي يَشكره باسم رجاله. بينما يقِف الباقون من الجيش الإنجليزي في الخلف مُنتبِهين؛ وبجانبهم إمدادات ومركبات من أجل الانسحاب. تُقرَع الطبول؛ والبرازيليون يتحرَّكون؛ والإنجليز يقفون مثل الأصنام. هكذا يمكثون في أماكنهم حتى يتلاشى في الأفق المداري آخِر ما للعدو من صوتٍ وصورة. ثم يُبدِّلون وضعَهم في الحال، مثل موتى يعودون للحياة؛ فيُديرون وجوههم الخمسين صوب الجنرال — وجوهًا لا يمكن نسيانها.»
وثبَ فلامبو عاليًا وصاح: «مهلًا، هل تقصد …»
قال الأب براون بصوتٍ خفيض ومؤثِّر: «أجل، يدٌ إنجليزية هي التي وضعتِ الحبلَ حول عُنق سانت كلير؛ وأعتقد أنها اليدُ ذاتها التي وضعَتِ الخاتم حول أصبع ابنته. فقد كانت الأيادي الإنجليزية هي التي جرجرَتْه لترفعه إلى شجرة الخِزي؛ أيادي الرجال الذين عشِقوه واتَّبَعوه للنصر. وكانت الأرواح الإنجليزية (ليُسامحنا الرب ويعفُ عنَّا جميعًا!) هي التي أخذت تُحدِّق فيه وهو يتأرجح تحت تلك الشمس الأجنبية في مشنقةٍ خضراء من سعَفِ النخيل، ودَعَتْ في كراهيةٍ بالغةٍ أن يهوي منها إلى الجحيم.»
حين وصلا إلى قمَّة الحافة سطع عليهما ضوء قرمزي وهَّاج لنزل إنجليزي ذي ستائر حمراء. كان يقع على جانب الطريق وكأنه يريد أن يُعلن عن نفسه وما يتَّسم به من رحابةٍ وحُسن ضيافة. فُتحت أبوابه الثلاثة بترحاب؛ حتى إنهما استطاعا حيث وقفا أن يسمعا همهمة وضحك أشخاصٍ غمرتهم السعادة لليلة.
قال الأب براون: «لستَ بحاجةٍ لأُخبرك بالمزيد! فقد حاكموه في البرية وقضَوا عليه؛ ثم، حفاظًا على شرَف إنجلترا وابنته، تعاهدوا على كتمان قصة ثروة الخائن ونصل سيف القاتل إلى الأبد. وربما — أعانهم الرب — حاولوا نسيانها. على أي حال، فلنُحاول نحن أن ننساها؛ ها هو نزلنا.»
قال فلامبو: «من كل قلبي.» وما كاد يخطو إلى الحانة المُضيئة الصاخبة حتى تراجع وكاد يسقط على الطريق.
صاح فلامبو: «انظر، بحق الشيطان!» وأشار في جمودٍ إلى اللافتة الخشبية المربعة المُعلَّقة على الطريق. لقد كشفَتْ على نحوٍ خافت شكلَ مقبض سيفٍ ونصل قصير؛ وكان محفورًا عليها بحروف قديمة مُقلدة: «علامة السيف المكسور.»
فسأله الأب براون برفق: «ألم تكن مُستعدًّا؟ إنه معبود هذا البلد؛ فنصف الحانات والحدائق والشوارع سُمِّيت تيمُّنًا به وبقصَّته.»
صاح فلامبو قائلًا: «اعتقدتُ أننا فرغْنا من أمر هذا المنبوذ.» ثم بصق على الطريق.
قال القس، خافضًا بصره: «لن تفرغ من سيرته في إنجلترا أبدًا، ما دام النحاس والحجر لم يَبلَيا. ستظل تماثيله المنحوتة من الرخام تُقيم نفوس الصبية ذوي الأنفة الأبرياء لقرون، وسيظلُّ قبره في القرية يفوح برائحة الولاء كما يفوح برائحة الزنابق. وسوف يُحبه الملايين الذين لم يرَوْه قطُّ كأب — هذا الرجل الذي عاملته القلَّة المُتبقية التي عرفته كالحُثالة. وسيغدو قدِّيسًا؛ ولن يُكشَف النقاب عن حقيقته أبدًا، لأنني حسمتُ أمري أخيرًا. ثمَّة الكثير من الخير والشر في إفشاء الأسرار، لذا اختبرتُ سلوكي. كل هذه الجرائد ستندثر؛ وقد انتهى بالفعل رواج مُعاداة البرازيل؛ ويشهد أوليفييه تكريمًا في كل مكان. إلا أنني حدَّثت نفسي أنه إن كان سيُخلَّد اسم العقيد كلانسي أو النقيب كيث أو الرئيس أوليفييه أو أي رجل بريء اتُّهم ظلمًا في أي مكان بالمعدن أو بالرخام مثل الأهرامات، فعندئذٍ سأتكلَّم. أما إن اقتصر الأمر على مدح الجنرال سانت كلير دون وجه حق، فسألزم الصمت. وهذا ما سأفعله.»
دخلا الحانة ذات الستائر الحمراء، التي لم تكن مُريحة فحسْب من الداخل، وإنما كانت فاخرة أيضًا. وجدا على منضدةٍ نموذجًا من الفضة لقبر سانت كلير، برأسه الفضية المحنية والسيف الفضي المكسور. وعلى الحوائط عُلِّقت صور ملوَّنة للمشهد نفسه، ولمجموعة العربات التي كانت تحمل السائحين الراغبين في رؤيته. جلس الاثنان على المقاعد المُبطَّنة الوثيرة.
قال الأب براون: «هيا، فالطقس بارد؛ لنحتسِ بعضَ النبيذ أو الجعة.»
فقال فلامبو: «أو براندي.»