مدينة سالم
ثم مدينة سالم، والإسبانيول يقولون لها مدينة «سالي» ويلفظونها بالثاء لا بالسين، وهي في موضع رفيع منيع، وقد كان للعرب فيها قلعة شهيرة، جعلوها من أهم الثغور في وجه الإسبانيول والبلدة المعروفة من قبل العرب ولا تزال فيها آثار رومانية من القرن الأول بعد المسيح إلا أن العرب حصنوها واعتنوا بها وكانت مركزًا عسكريًّا عظيمًا. وكان يقال لمدينة سالم «الثغر الأوسط»، فقد كانوا يقسمون الثغور إلى كور منها: الثغر الأعلى، ويقال له أيضًا الثغر الأقصى، وهذا الثغر هو سرقسطة وكورتها، ثم الثغر الأوسط ويقال له أحيانًا الأدنى، وهو مدينة سالم وكورتها وطليطلة، وكان يوجد ثغر ثالث، وهو ثغر «قويمرة» وربما أضيف إلى الثغر الأوسط بعض الأحيان.
وكان ولاة هذه الثغور قوادًا، وكان أكثرهم من أبناء البيوتات، سواء من العرب، أو من البربر، أو من المولدين، وذلك مثل التجبييين، وبني هود، وبني رزين، وبني ذي النون، وبني قسي، وهؤلاء أسبانيون دانوا بالإسلام، وكان من أشهر قواد الثغور في زمن بني أمية غالب بن عبد الرحمن، فهو الذي في سنة ٣٣٥ هجرية رمم حصون مدينة سالم، بعد أن خربت، وهو الذي في سنة ٣٤٢ زحف على قشتالة، وأوقع بأهلها، وبقي في قيادة الثغر الأوسط إلى زمن الحكم المستنصر، فانتدبه لإمارة الجيوش في أفريقية، عندما عزم على محاربة الأدارسة. وفي إحدى غزواته بين العدوة استصحب معه القاضي محمد بن أبي عامر، فاتصل به، وانعقدت بينهما مودة أكيدة، انتهت بأن غالبًا أزوج محمد بن أبي عامر ابنته، وبواسطة هذه المصاهرة ترقى ابن أبي عامر. وحاز رتبة ذي الوزارتين، ومازال يترقى في الدولة حتى صار هو الحاجب الكبير، وحتى غلب على الدولة كلها، وحجر الخليفة هشام، ولم يبق له إلا اسم الخلافة، وأخيرًا وقعت الوحشة بين القائد الكبير غالب بن عبد الرحمن وصهره محمد بن أبي عامر، الذي تلقب بالمنصور، وذلك بعد أن استفحل أمره، ورأى فيه غالب خطرًا على الدولة، فأدى ذلك إلى الحرب بينهما، وجرح غالب بن عبد الرحمن في الواقعة ومات، وفقدت الدولة الأموية بموته ركنًا من أعظم أركانها.
وجاء في صبح الأعشى: مدينة سالم قال ابن سعيد: وهي بالجهة المشهورة بالثغر من شرقي الأندلس (والحقيقة أنها من شماليها إلى الشرق أو من جوفيها على رأي الأندلسيين) قال: وهي مدينة جليلة. قال في تقويم البلدان: وبها قبر المنصور بن أبي عامر.
هوامش
قال لسان الدين بن الخطيب: واصل رحمه الله الغزو بنفسه فيما يناهز سبعين غزوة، وفتح فيها البلاد، وخضد شوكة الكفر، وأذل الطواغيت، وفض مصاف الكفار، وكسر الصلبان، وبلغ الأعماق، وضرب على العدو الضرائب، إلى أن تلقاه عظيم الروم نفسه ببنته، وأتحفه بها في سبيل الرغبة في مهره، فكانت أحظى عقائله، وأبرت في الدين والفضل على سائر أزواجه. انتهى. نقل هذا دوزي في كتابه «المباحث عن تاريخ أسبانية وآدابها في القرون الوسطى» وقد سمى المؤرخون غزاة المنصور الأخيرة التي توفي على أثرها بغزاة قلعة أنيازور Calatanazor وزعم مؤرخو الإسبانيول مثل لوكاس دوتوي Lucas de Tuy ولذريق الطليطلي Rodrigue de Tolède أن المنصور انكسر في تلك الغزاة، وقد فند دوزي زعمهم بما سنذكره في القسم التاريخي من هذا الكتاب، عند الوصول إلى أخبار الدولة العامرية.
وجاء في نفح الطيب نقلًا عن ابن حيان: ثم خرج المنصور لآخر غزواته، وقد مرض المرض الذي مات فيه، وواصل شن الغارات، وقويت عليه العلة، فاتخذ له سرير خشب، ووطئ عليه ما يقعد عليه، وجعلت عليه ستارة، وكان يحمل على أعناق الرجال، والعساكر تحف به، وكان هجر الأطباء في تلك العلة، لاختلافهم فيها، وأيقن بالموت، وكان يقول: إن زماني يشتمل على عشرين ألف مرتزق، ما أصبح فيهم أسوأ حالة مني. ولعله يعني من حضر معه تلك الغزاة وإلا فعساكر الأندلس ذلك الزمان أكثر من ذلك العدد، واشتغل ذهنه بأمر قرطبة، وهو في مدينة سالم، فلما أيقن بالوفاة أوصى ابنه عبد الملك وجماعته، وخلا بولده، وكان يكرر وصياته، وكلما أراد أن ينصر يرده، وعبد الملك يبكي، وهو ينكر عليه بكاءه، ويقول: وهذا من أول العجز. وأمره أن يستخلف أخاه عبد الرحمن على العسكر، وخرج عبد الملك إلى قرطبة، ومعه القاضي أبو زكوان، فدخلها أول شوال، وسكن الأرجاف بموت والده، وعرف الخليفة كيف تركه، ووجد المنصور خفة فأحضر جماعة بين يديه، وهو كالخيال لا يبين الكلام، وأكثر كلامه بالإشارة كالمسلم المودع، وخرجوا من عنده، فكان آخر العهد به. ومات لثلاث بقين من شهر رمضان، وأوصى أن يدفن حيث يقبض، فدفن في قصره بمدينة سالم، واضطرب العسكر، وتلوم ولده أيامًا، وفارقه بعض العسكر إلى هشام، وقفل هو إلى قرطبة، فيمن بقي معه، ولبس فتيان المنصور المسوح والأكسية، بعد الوشي والحبر والخز، وقام ولده عبد الملك المظفر بالأمر، وأجراه هشام الخليفة على عادة أبيه، وخلع عليه، وكتب له السجل بولاية الحجابة. وكان الفتيان قد اضطربوا، فقوم المائل، وأصلح الفاسد، وجرت الأمور على السداد، وانشرحت الصدور بما شرع فيه من عمارة البلاد. انتهى.