شنتمرية ابن رزين
وقد اطلعنا على ذيل لكتاب «البيان المغرب في أخبار ملوك الأندلس والمغرب» لأبي العباس بن عذارى المراكشي طبعه الأستاذ لاوي بروفنسال مع الجزء الثالث من كتاب ابن عذارى، وفيه نتف من أخبار ملوك الطوائف. ومن الجملة ذكر دولة بني رزين هؤلاء. قال الكاتب: ذكر دولة بني رزين ملوك شنتمرية الشرق، وهي مدينة عظيمة في شرقي الأندلس، ويعرفون ببني الأصلع، لما اشتعلت الفتنة بالأندلس في ثورة ابن عبد الجبار، وثار كل رئيس بموضع، ثار ابن الأصلع بشنتمرية ويقال لها السهلة، واسمه هذيل بن خلف بن لب بن رزين البربري، وكنيته أبو محمد بويع لها بها سنة ثلاث وأربعمائة، وكان من أكابر ناس الثغر، وكان بارع الجمال، حسن الخلق، جميل العشرة، ظاهر المروءة، لم ير في الأمراء أبهى منه منظرًا مع طلاقة لسانه، وإدراك حوائجه ببيانه، وكان أرفع الملوك همة في اكتساب الآلات، واقتناء القينات، اشترى جارية الطبيب أبي عبد الله الكناني بثلاثة آلاف دينار.
ثم إن الأمير هذيل اشترى كثيرًا من الجواري الحسنات المشهورات بالتجويد، طلبهن في كل جهة، فكانت ستارته أحسن ستائر ملوك الأندلس. وكان مع هذه الأوصاف كنفًا للقصاد، ومنهلًا عذبًا معينًا للورّاد، سهل المأخذ، لم يزل على أحسن حالاته إلى أن أدركته منيته، فمات بالسهلة، سنة ست وثلاثين وأربعمائة، فكانت دولته ثلاثًا وثلاثين سنة كاملة آمنة هادئة.
وولي بعده ابنه عبد الله بن هذيل بن خلف بن لب بن رزين، بويع له يوم موت أبيه سنة ست وثلاثين وأربعمائة، وكان في أيام أبيه يسمى حسام الدولة، وكان بالعكس من أبيه. قال ابن حيان: وكان سيئة الدهر، وعار العصر، جاهلًا لا متجاهلًا، وخاملًا لا متخاملًا، قليل النباهة، شديد الإعجاب بنفسه، بعيد الذهبة بأمره، زاريًا على أهل عصره، إن ذكرت الخيل فزيدها، أو الدهاة فسعدها وسميدها، أو الشمراء فجرولها وأسيدها، أو الأمراء فزيادها ويزيدها، أو الكتاب فبديع همذان، أو الخطابة فقس وسحبان، أو النقد فقدامة، والعلم ليس منه ولا كرامة، خلِي من المعارف، وشعره أهتف من كال هاتف، ومنه قوله الذي هو جسم بلا روح، وليل بلا صبوح:
وقوله أيضا:
وقوله:
إلى غير هذا من سخفه. انتهى كلام ابن حيان. ومن لعمري لا يوافقه عليه؟
وذكره الفتح بن خاقان في كتابه «قلائد العقبان» فأثنى عليه بما ليس فيه من المحاسن، ووصفه بصفات ليس هو بأهل لها، ثم قال بعدها: إلا أنه كان يتشطط على ندامة، ولا يرتبط في مجلس مدامة، فربما عاد إنعامه بؤسًا، وانقلب ابتسامه عبوسًا، فلم تتم معه سلوة، ولا فقدت في ميدانه كبوة، وقليلًا ما كان يقبل، ولا يناجي المذنب عنده إلا الحسام الصقيل.
ففهم من هذا الوصف هوره وحماقته، وسرعته إلى القتل، ولم يزل على ذلك من أفعاله إلى أن مات بحصن السهلة، غدوة الاثنين التاسع من شعبان سنة ست وتسعين وأربعمائة، فكانت دولته ستين سنة. انتهى.
قلنا: فما كان أصبر رعيته على نار هذه المحنة، التي استمرت ستين سنة! ثم جاء في هذا الذيل ذكر ولده يحيى بن عبد الملك بن هذيل بن خلف بن لب بن رزين، بويع له يوم موت أبيه، بعهده ووصيته، وسلك في التخلف مسلك أبيه، مدمنًا للخمر، مكثرًا من الغثيان، ضعيف العقل، وممن ضعف عقله أن الفنش (يعني به الأذفونش السادس) لما أخذ الثغور وتملكها، أهدى إليه كل ملك من ملوك الطوائف الهدايا الجليلة، فلم يلتفت إلى أحد منهم، ولا كافأه على هديته. فأهدى إليه حسام الدولة يحيى هذا هدية جليلة، من الحلي والحلل، والخيل والبغال، وتحف الملوك، يعجز عنها الوصف، فأعجب الفنش هديته، فكافأه عليها بقرد. فكان من ضعف عقله يفخر بذلك القرد على ملوك الأندلس. فانظر إلى هذا السخف وهذا الخذلان! ولم يزل على سخفه وخذلانه إلى أن خلعه المرابطون بيوم الاثنين الثامن من رجب سنة سبع وتسعين وأربعمائة، فكانت دولته سنة واحدة. وانقرضت دولتهم. ا.ﻫ.
ولما كانت شنتمرية ابن رزين معمورة بالعرب، خرج منها عدد من أهل العلم لأنهم أينما حلوا كانوا يقيمون سوق المعارف على ساقها.