سرقسطة أو الثغر الأعلى وبنبلونة
قد تقدم لنا ذكر منبع وادي أبره، وقول الناس إن أصله راشح من وادي «هيجار» حتى قالوا إنه إذا جرت سيول بسبب الزوابع اضطرب لها وتعكر ماء هيجار بتعكر أيضًا ماء أبره. وعلى كل حال فأبره يمده وادي «هيجار» ومنبع «رينوزة» وهو حياة مملكة أراغون، وقسم من كتلونية. وكلما تقدم إلى الشرق تنضم إليه أنهر من الشمال ومن اليمين، ولا سيما الأنهر التي تأتيه من الشمال، فهي ذات بال، وينحدر إلى أراغون من البيرانس مياه لا تحصى أنهارها.
ومن مباني العرب المشهورة في سرقسطة، المحفوظ منها جانب إلى اليوم، قصر الجعفرية، شرقي البلدة، على ضفة أبره. وهو الآن ثكنة عسكرية. قرأت في دليل بديكر أن بانيه هو أبو جعفر أحمد، بناه في القرن الحادي عشر للمسيح، ولم أطلع على ترجمة لأبي جعفر أحمد هذا، ويغلب على ظني أن باني هذا القصر هو المقتدر بالله بن هود، ملك سرقسطة، وقد كان يكنى بأبي جعفر فقيل لقصره الجعفرية، نسبة إليه. وكذلك كان يقال للمستعين الثاني ابن هود «أبو جعفر».
وقد زرت هذا القصر في شهر يونيو سنة ١٩٣٠، فلم أجد فيه من آثار العرب المحفوظة سوى جامع صغير ومقصورة. وفي هذا القصر الغرفة التي ولدت فيها سنة ١٢٧٠ القديسة اليصابات ملكة البرتغال. وبالاختصار فمن جهة الصنعة تتلاقى في سرقسطة أوربة وآسية. وفي قصر الجعفرية مثال بارز لهذا الأمر. وقد كان ملوك أراغون بعد أن استولوا على سرقسطة، جعلوا إقامتهم في هذا القصر، ثم صار مركزًا لديوان التفتيش. وسنة ١٨٠٩ في أثناء الحرب بين الفرنسيس والإسبانيول، تهدم الجانب الأعظم من الجعفرية، ثم رمموه، وجعلوه ثكنة للعساكر.
وفي سرقسطة حارات جديدة بشوارع واسعة، على الطراز الحديث، ولكن لا يزال فيها أيضًا حارات قديمة، ذات شوارع ضيقة، وأما القناة الإمبراطورية المشتقة من أبره فإنما سميت بذلك نسبة للإمبراطور شارلكان، وكان الابتداء بشقها سنة ١٥٢٨، وهي تتبع الضفة اليمنى من أبره، وطولها ٨٨ كيلومترًا.
وجاء في معجم البلدان لياقوت الحموي عن سرقسطة ما يلي:
سرقسطة، بفتح أوله وثانيه، ثم قاف مضمومة، وسين مهملة ساكنة، وطاء مهملة: بلدة مشهورة بالأندلس، تتصل أعمالها بأعمال تطيلة، ذات فواكه عذبة لها فضل على سائر فواكه الأندلس، مبنية على نهر كبير، وهو نهر منبعث من جبال القلاع، وقد انفردت بصنعة السمور، ولطف تدبيره، يقوم في طرزها بكمالها، منفردًا بالنسج في منوالها، وهي الثياب الرقيقة المعروفة بالسرقسطية. هذه خصوصية لأهل هذا الصقع. هذا السمور المذكور هنا لا أتحقق ما هو، ولا أي شيء يعني به: إن كان نباتًا عندهم، أو وبر الدابة المعروفة؟ فإن كانت الدابة المعروفة فيقال لها الجندبادستر أيضًا، وهي دابة تكون في البحر، وتخرج إلى البر وعندها قوة ميز. وقال الأطباء: الجندبادستر حيوان يكون في بحر الروم، ولا يحتاج منه إلا إلى خصاه، فيخرج ذلك الحيوان من البحر، ويسرح في البر، فيؤخذ ويقطع منه خصاه، ويطلق، فربما عرض له الصيادون مرة أخرى، فإذا علم أنهم ماسكوه استلقى على ظهره، وفرج بين فخذيه، ليريهم موضع خصيته خاليًا، فيتركونه حينئذ.
وفي سرقسطة معدن الملح الذراني، وهو أبيض صافي اللون، أملس خالص، ولا يكون في غيرها من بلاد الأندلس.
قال: ولها مدن ومعاقل، وهي الآن بيد الإفرنج، صارت بأيديهم منذ سنة ٥١٢ انتهى.
ثم ذكر من ينسب إلى سرقسطة من العلماء، وسنأتي على هذا البحث. وقد تقدم فيما نقلناه عن نفح الطيب ما ذكره العرب بين مزايا هذه المدينة، وقالوا إنها هي أم تلك الكورة التي يقال لها الثغر الأعلى، وكانت تسمى بالبيضاء. ونقلوا عن الحجاري في كتابه «المسهب» أن السمور الذي يعمل من وبره الفراء الرفيعة، يوجد في البحر المحيط بالأندلس، من جهة جزيرة برطانية، ويجلب إلى سرقسطة، ويصنع بها. جاء في نفح الطيب: ولما ذكر ابن غالب وبر السمور الذي يصنع بقرطبة قال: هذا السمور المذكور هنا لم أتحقق ما هو، ولا ما عني به إن كان هو نباتًا عندهم، أو وبر الدابة المعروفة، فإن كانت الدابة المعروفة، فهي دابة تكون في البحر، وتخرج إلى البر، وعندها قوة ميز. وقال حامد بن سمحون الطبيب، صاحب كتاب «الأدوية المفردة»: هو حيوان يكون في بحر الروم، ولا يحتاج منه إلا إلى خصاه، فيخرج الحيوان من البحر في البر، فيؤخذ، وتقطع خصاه ويطلق، فربما عرض للقناصين مرة أخرى، فإذا أحس بهم، وخشي أن لا يفوتهم، استلقى على ظهره، وفرّج بين فخذيه، ليرى موضع خصيته خاليًا، فإذا رآه القناصون كذلك تركوه. قال ابن غالب: ويسمى هذا الحيوان أيضًا الجند باستر، والدواء الذي يصنع من خصيته هو من الأدوية الرفيعة، ومنافعه كثيرة. إلخ.
قلنا: أنت ترى أن هذه العبارات هي عبارات ابن غالب في وصف هذا الحيوان، وهو الذي قال: وهذا السمور المذكور هنا لا أتحقق ما هو، ولا أي شيء يعنى به. والحال أن ياقوت الحموي يذكر هذه العبارة بدون أن يرويها عن ابن غالب، بل يسوقها كأنها منه، وإنما تصرف في بعض جملها، وزاد ونقص. وبدلًا من قول ابن سعيد: قال حامد بن سمحون الطبيب، جعل: قال الأطباء. فأخل ياقوت هنا بأمانة النقل.
وأما أن سرقسطة لا تدخلها عقرب ولا حية، وإذا جيء إليها بشيء من ذلك مات لحينه، وأن القمح لا يتعفن ولو بقي مائة سنة، وأن العنب يؤكل فيها ولو تعلق ستة أعوام، وأنه لا يسوس فيها الخشب، ولا يدخل العث على أثوابها، صوفًا كان أو حريرًا أو كتانًا، إلى غير ذلك مما جاء في كتب العرب، فلم أجد شيئا من هذه الأوصاف في كتاب الأوربيين عن سرقسطة. وسألت عن ذلك بعض أدباء الإسبانيول فلم يجيبوني بأجوبة شافية.
وسنة ٨٥٢ لما تولى الأمير محمد الأموي كان موسى بن قصيّ عاملًا له على سرقسطة وتطيلة ووشقة، وكان أشبه بأمير مستقل، وطالما تبادل الهدايا مع ملوك النصارى، مثل شارل الأصلع، ملك فرنسة، إلا أنه في سنة ٨٦٠ تغلب أوردونة الأول ملك ليون على موسى، ولم يلبث أن قُتل بعد ذلك بسنتين، وبعد موته انتقض بنو قصي على خلائف قرطبة. فعول الأمير محمد الأموي على التجيبيين لإدخال بني قصيّ في الطاعة، وولى عبد الرحمن التجيبي على الثغر الأعلى.
والتجيبيون عائلة عربية استقرت في سرقسطة من أول الفتح (وكان أهالي سرقسطة ونواحيها عربًا صراحًا كما هو معلوم في التاريخ). وفي سنة ٨٨٨ بلغ الأمير عبد الله الأموي خبر مكيدة تدبّر عليه في سرقسطة، فولى محمد بن عبد الرحمن التجيبي الملقب بالأنقر، وأمره بالفتك بعامل سرقسطة، فأنفذ الأمر، ولكنه استبد بالإمارة، وقتل محمد بن لب زعيم بني قصيّ، وتوارث الإمارة عقبه إلى زمن عبد الرحمن الناصر، الذي أحسن إلى التجيبيين، ولكن أحدهم محمد بن هاشم خلع الطاعة سنة ٩٣٤، وانضم إلى روميروه الثاني ملك ليون، وإلى ملك نبارة، وأثار جميع أهالي الثغر الأعلى على الخليفة، فزحف الخليفة بنفسه، وأخذ قلعة أيوب عنوة، وحاصر سرقسطة وضيق عليها، إلى أن لاذ محمد بن هاشم بطلب العفو، فعفا الناصر عنه، وأقره على إمارته، وخلفه ابنه يحيى التجيبي، الذي صار من قواد الناصر، وابنه الحكم المستنصر. وتولى سرقسطة سنة ٩٧٥.
وفي أيام حجابة المنصور بن أبي عامر أراد عامل سرقسطة عبد الرحمن بن مطرف بن محمد بن هاشم التجيبي أن يشق عصا الطاعة. فتغلب عليه المنصور وقتله سنة ٩٨٩. ولما سقطت الخلافة في قرطبة كان الوالي على سرقسطة أحد أحفاد يحيى المذكور، وخلفه ولده المنذر، الذي اتفق مع الصقالبة على البربر، وأعلن نفسه ملكًا على سرقسطة، وتعاهد مع ملوك قشتالة وبرشلونة، وفي أيامه استتبت الراحة في سرقسطة وازداد عمران البلدة، وبلغت أوج مجدها.
قال لاوي بروفنسال: إنه لا يوجد عندنا معلومات كافية عن أيام دولة بني هود، وإن أرقام التواريخ المتعلقة بهم يناقض بعضها بعضًا. وقد ثبت أنه قبل استيلاء النصارى على سرقسطة بتسع سنوات كان جيش المرابطين قد احتلها، وأدخلها تحت حكم علي بن يوسف بن تاشفين، وذلك في أول ذي القعدة سنة ٥٠٣.
وممن ينتسبون إلى سرقسطة من العلماء المحدّث الكبير أبو علي الحسين بن محمد بن قيرة بن حبون الصدفي، المعروف بابن سكرة، ولد سنة ٤٥٢، وقتل شهيدًا في واقعة كتندة سنة ٥١٤، ولأجل تراجم تلاميذه جمع ابن الأبار المعجم الذي نشره قديرة في المجلد الرابع من المكتبة العربية الأسبانية. ا.ﻫ.
قلنا: وكان لبني هود في سرقسطة قصور متعددة لم يبق لها أثر، منها دار السرور ومنها قصر الذهب، اللذان يقول فيها ابن هود:
وجاء في صبح الأعشى ذكر سرقسطة قال: قال في تقويم البلدان: سرقسطة بفتح السين والراء المهملتين، وضم القاف، وسكون السين الثانية، وفتح الطاء المهملة، وهاء في الآخر: مدينة من شرقي الأندلس، موقعها في أواخر الإقليم الخامس من الأقاليم السبعة، قال ابن سعيد: حيث الطول إحدى وعشرون درجة وثلاثون دقيقة، والعرض اثنتان وأربعون درجة وثلاثون دقيقة، قال في تقويم البلدان: وهي قاعدة الثغر الأعلى، وهي مدينة أزلية بيضاء في أرض طيبة، قد أحدقت بها من بساتينها زمردة خضراء، والتف عليها أربعة أنهار، فأضحت بها مرصعة مجزعة، ولها متنزهات، منها قصر السرور، ومجلس الذهب.
ثم قال في محل آخر: وأما سرقسطة والثغر فاستولى عليهما بقية بني هود، إذ كان منذر بن يحيى بن مطرق بن عبد الرحمن بن محمد بن هاشم التجيبي، صاحب الثغر الأعلى بالأندلس، وكانت دار إمارته سرقسطة. ولما وقعت فتنة البربر آخر أيام بني أمية، استقل منذر هذا بسرقسطة والثغر، وتلقب بالمنصور، ومات سنة أربع عشرة وأربعمائة، وولي مكانه ابنه يحيى. وتلقب بالمظفر، وكان أبو أيوب سليمان مستقلًّا بمدينة تطيلة ومدينة لاردة، من أول الفتنة، وجدهم هود هو الداخل إلى الأندلس، فتغلب سليمان المذكور على المظفر يحيى بن المنذر، وقتله سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة، وملك سرقسطة والثغر من أيديهم، وتحول إليها، وتلقب بالمستعين واستفحل ملكه. ثم ملك بلنسية ودانية، وولى على لاردة ابنه أحمد المقتدر، ومات سنة ثمان وثلاثين وأربعمائة، فولي ابنه أحمد الملقب بالمقتدر سرقسطة وسائر الثغر الأعلى، وولي ابنه يوسف الملقب بالمظفر لاردة، ومات أحمد المقتدر سنة أربع وسبعين لتسع وثلاثين سنة من ملكه. فولي بعده ابنه يوسف المؤتمن، وكان له اليد الطولى في العلوم الرياضية، وألّف فيها التآليف الفائقة، مثل «المناظر» و«الاستكمال» وغيرهما، ومات سنة ثمان وسبعين وأربعمائة. وولي بعده ابنه أحمد الملقب بالمستعين، ولم يزل أميرًا بسرقسطة إلى أن مات شهيدًا سنة ثلاث وخمسمائة، في زحف ملك الفرنج إليها. وولي بعد ابنه عبد الملك، وتلقب عماد الدولة، وزحف إليه الطاغية أذفنش ملك الفرنج، فملك منه سرقسطة، وأخرجه منها واستولى عليها سنة ثنتي عشرة وخمسمائة، ومات سنة ثلاث عشرة. وولي ابنه أحمد، وتلقب سيف الدولة والمستنصر، وبالغ في النكاية في الطاغية ملك الفرنج، ومات سنة ست وثلاثين وخمسمائة. وكان من ممالك بني هود هؤلاء طرطوشة، وقد كان ملكها مقاتل أحد الموالي العامريين سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة، ومات سنة خمس وأربعين. وملكها بعده يعلى العامري، ولم تطل مدته، وملكها بعده نبيل أحدهم، إلى أن نزل عنها لعماد الدولة أحمد بن المستعين بن هود سنة ثنتين وخمسين وأربعمائة، فلم تزل في يده ويد بنيه بعده إلى أن غلب عليها العدو المخذول فيما غلب عليه من شرق الأندلس. انتهى
هوامش
وجاء ذكر بنبلونة في صبح الأعشى هكذا: قال في تقويم البلدان بفتح الياء المثناة من تحت وسكون النون وضم الباء الموحدة واللام ثم واو ساكنة ونون مفتوحة وهاء في الآخر، وموقعها في أوائل الإقليم السادس من الأقاليم السبعة. قال ابن سعيد: حيث الطول اثنتان وعشرون درجة وخمس عشرة دقيقة والعرض أربع وأربعون درجة.
قال في تقويم البلدان: وهي مدينة في غرب الأندلس خلف جبل الشارة. قال: وهي قاعدة النبري أحد ملوك الفرنج وتعرف هذه المملكة بمملكة نبرة بفتح النون وتشديد الباء الموحدة المفتوحة وفتح الراء المهملة وهاء في الآخر، وهي مملكة فاصلة بين مملكتي قشتالة وبرشلونة وهي مما يلي قشتالة من جهة الشرق. انتهى.
قلنا: إن هذه المملكة هي نبارة Navarra وكونها فاصلة بين مملكتي قشتالة وبرشلونة هو صحيح، ولكن قوله إنها في غرب الأندلس فليس بصحيح لأنها في شمالي الأندلس أو في جوفيها على قول الأندلسيين، ثم إن البلدة بنبلونة يبدأ اسمها بالباء وهو هكذا عند الإفرنج، وفي تقويم البلدان يبدأ الاسم بالياء وهو خلاف الصحيح، وقد كان يمكن الظن بأن الباء انقلبت ياء بخطأ في النسخ ولكنه يصرح بقوله «الياء المثناة».
ثم قال: إن ابن عساكر في تاريخه طول ترجمته، وقال إن صنعاء المنسوب إليها قرية من قرى الشام، وليست صنعاء اليمن. وفي تاريخ ابن الفرضي أن حنشًا كان بسرقسطة وأنه الذي أسس جامعها. وبها مات. وقبره معروف عند باب اليهود بغربي المدينة.
قلنا: قد روى ابن عساكر عن الحميدي صاحب تاريخ الأندلس أن حنشًا كان مع موسى بن نصير، ويقال إنه هو الذي اختط جامع سرقسطة.
وذكروا «القناطر» بقرب «روطه» من عمل سرقسطة، ينسب إليها أحمد بن سعيد بن علي الأنصاري القناطري، يكنى أبا عمر، سمع بقرطبة، ورحل إلى المشرق، وتوفي بأشبيلية سنة ٤٢٨.
وذكروا «أشبرة» من قرى سرقسطة، ينسب إليها أناس من أهل العلم، منهم خلف بن موسى بن فتوح الأشبري.
وذكروا «إشكرب» بكسر أوله وراء ساكنة، وباء موحدة، ينسب إليها أبو العباس يوسف بن محمد بن فاره الإشكربي، نشأ بحيان، وسافر إلى الشرق، ومات ببلخ سنة ٥٤٨.
وذكروا «بيطرة» وقال ياقوت: إنها من حصون سرقسطة.
وذكروا «منيونش» وقالوا إنها من نواحي بربشتر من عمل سرقسطة.
وقد تعذر علينا المطابقة بين أسماء هذه الأماكن بالعربي، وأسمائها بالإسبانيولي ولم نشأ التخمين.
وأما نهر شلون Jalon فهو جار في عمل سرقسطة، وله ناحية اسمها شلون ينسب إليها إبراهيم بن خلف بن معاوية من أصحاب أبي عمرو المقرئ.