كتلونية
هذه البلدة هي قائمة بذاتها من قديم الدهر، وكثيرًا ما كانت مستقلة عن سائر أسبانية، ولم تتحد مع أراغون وقشتالة إلا بعد طرد المسلمين من الأندلس، وأهلها أمة يقال لها الكتالان، لسانهم غير الإسبانيول، والفرق بينهما أن الإسبانيول مشتق من اللاتيني، وهو أقرب إلى اللاتيني من اللغة الكتلونية، وأن هذه اللغة أقرب إلى لغة بروفنسة، التي هي لغة جنوبي فرنسة. وجنس الكتلان على وجه الإجمال لا يود الجنس القشتالي. قال لي رجل من الكتلان، ونحن آتون من مجريط إلى برشلونة: نحن والقشتاليون كالماء والزيت، بمجرد اختلاطنا ينفصل كل فريق منا عن الآخر.
أما تاريخ كتلونية في القرون الأولى من القرون الوسطى فلا يزال إلى اليوم غامضًا وقد ذكر مؤرخو الإفرنجة أن العرب استولوا على كتلونية في القرن الثامن للمسيح.
قال ابن خلدون عن دخول موسى بن نصير إلى الأندلس:
نهض من القيروان سنة ثلاث وتسعين، في عسكر ضخم، من وجوه العرب والموالي وعرفاء البربر، فوافوا خليج الزقاق، ما بين طنجة والجزيرة الخضراء فأجاز إلى الأندلس وتلقاه طارق فانقاد واتبع، ويقال إن موسى لما سار إلى الأندلس عبر البحر من ناحية الجبل المنسوب إليه، المعروف اليوم بجبل موسى، وتنكب النزول على جبل طارق، وتمم الفتح وتوغل في الأندلس إلى برشلونة من جهة المشرق، وأربونة في الجوف، وضم قادس في المغرب، ودوخ أقطارها وجمع غنائمها، وأجمع أن يأتي المشرق من جهة القسطنطينية، ويتجاوز إلى الشام دروب الأندلس ودروبه ويخوض إليه ما بينهما من بلاد أمم النصرانية، مجاهدًا فيهم، ومستلحمًا لهم، إلى أن يلحق بدار الخلافة من دمشق.
ونمى الخبر إلى الخليفة الوليد فاشتد قلقه بمكان المسلمين من دار الحرب، ورأى أن ما هم به موسى تغرير بالمسلمين، فبعث إليه بالتوبيخ والانصراف، وأسر إلى سفيره أن يرجع بالمسلمين، إن لم يرجع هو، وكتب له بذلك عهده. ففت ذلك في عزم موسى، وقفل عن الأندلس، بعد أن أنزل الرابطة والحامية في ثغورها. واستعمل ابنه عبد العزيز لسدها وجهاد عدوها، وأنزله بقرطبة، فاتخذها دار إمارة. إلى آخر ما ذكره ابن خلدون، مما يدل على أن فتح العرب لبرشلونة وقع في زمن موسى بن نصير نفسه، بل يقول إنه أوصل الغزو إلى أربونة، إلا أنه يقول بعد ذلك: ثم تتابعت ولاة العرب على الأندلس، تارة من قبل الخليفة، وتارة من قبل عامله بالقيروان، وأثخنوا في أمم الكفر، وافتتحوا برشلونة من جهة الشرق، وحصون قشتالة وبسائطها من جهة الجوف، وانقرضت أمم القوط. وأوى الجلالقة ومن بقي من أمم العجم إلى جبال قشتالة وأربونة وأفواه الدروب، فتحصنوا بها، واجتازت عساكر المسلمين ما وراء برشلونة من دروب الجزيرة، حتى احتلوا البسائط وراءها وتوغلوا في بلاد الفرنجة، وعصفت ريح الإسلام بأمم الكفر من كل جهة، وربما كان بين جنود الأندلس من العرب اختلاف وتنازع أوجد للعدو بعض الكرة، فرجع الإفرنج ما كانوا غلبوهم عليه من بلاد برشلونة، لعهد ثمانين سنة من لدن فتحها ا.ﻫ.
ثم إنه في نفخ الطيب مذكور فتح هشام بن عبد الرحمن الداخل لمدينة أربونة الشهيرة من جنوبي فرنسة، ولا يقدر الأمير هشام المذكور أن يفتح أربونة وهي في الجوف، على مسافة غير قصيرة إلى الشمال من البرانس، أو جبل البرتات، إلا إذا كان استولى على كتلونية. وجاء في نفح الطيب أن الأمير هشام بعث سنة ست وسبعين ومائة وزيره عبد الملك بن عبد الواحد بن مغيث، لغزاة العدو، فبلغ ألبة والقلاع، وأثخن في نواحيها، ثم بعثه بالعساكر سنة سبع وسبعين إلى أربونة وجيرندة فأثخن فيهما، ووطئ أرض برطانية. ا.ﻫ.
وعلقت على هذا الكلام ما يلي: سليمان الأعرابي الكلبي أمير برشلونة كانت بينه وبين شارلمان علاقات، مذ كان أميرًا بسرقسطة. وانظر ما يقوله صاحب أخبار مجموعة: ثم ثار سليمان الأعرابي بسرقسطة، وثار معه حسين بن يحيى الأنصاري، من ولد سعد بن عبادة، فبعث إليه الأمير (يعني عبد الرحمن الداخل) ثعلبة بن عبد في جيش، فنازل أهل المدينة، وقاتلهم أيامًا، ثم إن الأعرابي طلب الفرصة من العسكر فلما وضع الناس عن أنفسهم الحرب، وقالوا قد أمسك عن الحرب، أغلق أبواب المدينة، وأعد خيلًا، ثم لم يشعر الناس حتى هجم على ثعلبة فأخذه في المظلة فصار عنده أسيرًا، وانهزم الجيش، فبعث به الأعرابي إلى قارلة، فلما صار عنده طمع قارلة في مدينة سرقسطة من أجل ذلك، فخرج حتى حل بها، فقاتله أهلها ودفعوه أشد الدفع، فرجع إلى بلده. انتهى
وقلت بعد ذلك إن العرب يسمون شارلمان قارلة كما كانوا يسمون جده شارل مارتل وسيأتي ذكر قصة الأمير سليمان هذا الذي مالأ شارلمان على قومه، وكيف انتهى أمره. انتهى
وقد ورد في «أخبار مجموعة» ذكر سليمان الأعرابي في محل آخر حيث يقول: ثار على الأمير (أي عبد الرحمن الداخل) عبد الرحمن بن حبيب الفهري، الذي كان يقال له السقلابي بتدمير، فكاتب سليمان الأعرابي الكلبي، وكان ببرشلونة، ودعاه إلى الدخول في أمره، فكتب إليه الأعرابي: إني لا أدع عونك. فامتعض الفهري من جوابه؛ إذ لم يجمع له فغزاه. فهزمه الأعرابي، فكر الفهري إلى تدمير. ا.ﻫ.
وجاء في «أخبار مجموعة» في مكان آخر: أن حسين بن يحيى الأنصاري عدا على الأعرابي يوم جمعة، فقتله في المسجد الجامع في سرقسطة، وصار الأمر لحسين وحده، فنزل به الأمير، وكان عيسون بن سليمان الأعرابي قد هرب إلى أربونة، فلما بلغه نزول الأمير بسرقسطة، أقبل فنزل خلف النهر، فنظر يومًا إلى قاتل أبيه قد خرج عن المدينة، وصار على جرف الوادي، فاقتحم عيسون فرسًا له، كان يسميه الناهد، وقتله، ثم رجع إلى أصحابه فسمى ذلك الموضع مخاضة عيسون. ا.ﻫ.
ونقلت في كتابي «غزوات العرب في أوربة» عن المستشرق رينو ما يلي:
وسنة ٧٧٧ ثار أميران من أمراء المسلمين في مقاطعات نهر أبره، وخرجا من طاعة السلطان في قرطبة، فاجتازا البيرانة، قاصدين شارلمان في فستقالية، حيث كان منعقدًا مجلس حافل، وكان أحد هذين الأميرين، وهو المسمى سليمان، قد قاتل عساكر قرطبة، وأخذ قائدها أسيرًا، وجاء به، وقدمه كهدية إلى شارلمان، ويزعم مؤرخونا أن هذا الأمير دخل في طاعة الإمبراطور الفرنسي.ا.ﻫ.
وعلقت على هذا بقولي: استشهد رينو على ذلك بمجموعة الدون بركه، وكذلك بتاريخ ابن القوطية. وأما مؤرخو العرب فلم يتفقوا على اسم هذا الأمير، لأن بعضهم يسميه سليمان بن قحطان الغربي، والآخرين يسمونه مطرف بن العربي. وقد تقدم أن هذا الأمير هو سليمان الأعرابي الكلبي. وأما أسيره الذي أرسله إلى شارلمان فهو ثعلبة بن عبد الذي أسره بحيلة كما تقدم. ا.ﻫ.
بينما كان شارلمان في مدينة «اكسلا شابيل» جاء مستنجدًا به أمير برشلونة المسلم، وعم الحكم أمير قرطبة (نقل رينو هذا الخبر عن الدون بوكة) وفي تلك السنة نفسها بينما كان لويس بن شارلمان ملك أكيطانية عاقدًا مجمعًا في طلوزة جاءه رسول من الأذفونش ملك جليقية وأشتورية، يلتمس حشد جميع القوات المسيحية، وتجريدها لقتال العدو العام، ثم وفد أيضًا على هذا المجمع رسول من قبل أمير مسلم، في ناحية وشقة، يقال له «باهلوك» يريد أن يسالم المسيحيين، فظهر أن الغرة كانت لائحة لأخذ الثأر من المسلمين، وللدخول إلى أسبانية. وكان لويس ملك أكيطانية، وأخوه شارل، قد شنا الغارات في أطراف المقاطعات التي تشرب من نهر أبره: ثم عاد لويس فأجاز البيرانة من جهة أراغون، وحاصر وشقة، التي كان أميرها قد أرسل بمفاتيحها إلى شارلمان، ولكن لما جاء الفرنسيس لتسلم بلدته، امتنع عليهم ولبس لهم جلد النمر.
وفي ذلك الوقت كان عبد الله، عم الحكم أمير قرطبة، قد استولى على طليطلة وعمه الآخر سليمان استقر في بلنسية، فسرح جيشًا لقتال عمه عبد الله في طليطلة، وسار هو بنفسه مع جيش من الفرسان قاصدًا البيرانة، فأدخل في الطاعة برشلونة وغيرها من المدن التي كانت أشرطت نفسها للعصيان. انتهى
وأيدت رواية رينو برواية نفح الطيب عن هذه الحوادث، وهي هذه: وفي سنة اثنتين وتسعين ومائة جمع لذريق بن قارلة، ملك الفرنج، جموعه، وسار لحصار طركونة، فبعث الحكم ابنه عبد الرحمن في العساكر فهزمه، ففتح الله على المسلمين وعاد ظافرًا. ولما كثر عبث الفرنج في الثغور، بسبب اشتغال الحكم بالخارجين عليه، سار بنفسه إلى الفرنج سنة ست وتسعين، فافتتح الثغور والحصون، وخرب النواحي، وأثخن في القتل والسبي، وعاد إلى قرطبة ظافرًا. ا.ﻫ.
قلت: لعل صاحب نفح الطيب يعني بلذريق بن قارلة لويس بن شارلمان، أما الأمير المسلم الذي كان في ناحية وشقة ويسميه الإفرنج «بهالوك» فنرجح أنه هو بهلول بن مخلوق، من عمال قرطبة. وكان قد انضم إلى لويس بن شارلمان في تلك الغارة.
فالمؤرخ كوندي الإسبانيولي يقول: إن الحكم لم يتمتع طويلًا بالراحة التي كان وطد أطنابها بتعبه وجهاده، ففي سنة ٨٠١ مسيحية، وفق ١٨٥ هجرية، تحرك ملك أشتورية وأراد التجاوز على المسلمين، ولما كان يعلم نفسه أضعف من أن يقدر عليهم، استنجد بشارلمان، وهذا أسرع لنجدته، مؤملًا بذلك الاستيلاء على أسبانية الشمالية وضمها إلى مملكته، فجعلت أمداد شارلمان تثوب إلى الإسبانيول، تحت قيادة ولده لويس ملك أكيطانية، فزحف لويس واستولى على مدينة جيرونة وجاء فحاصر برشلونة، وانضم إليه بهلول بن مخلوق (الذي نحت منه الإفرنج اسم باهلوك) من عمال أمير قرطبة، وسار بالفرنسيس إلى طرطوشة، فزحف الحكم بنفسه، ومعه عمروس، ومحمد بن مفرج، قائد الخيالة. الذي كان عظيم الاعتماد عليه، نظرًا لدهائه وإقدامه، ثم أغار الحكم على نبارة وبنبلونة، ودخل وشقة. فخشي الأذفونش على بلاده، وحشد عساكره، وزحف إليه يوسف بن عمروس، فأوقعه الأذفونش في كمين، وأخذه أسيرًا، فدفع عليه أبوه فدية جسيمة حتى أنقذه.
وأما الحكم فكان يتوقد صدره إحنة على بهلول بن مخلوق عامله، الذي انحاز إلى الفرنسيس، ومشى بين أيديهم. ولما عرف أنه في جوار طركونة، عمد إليه من فوره، ولم يزل في أثره حتى ثقفه في طرطوشة بعد أن هزمه، ثم احتز رأسه، ورجع الحكم إلى قرطبة بدون أن يتعرض لبرشلونة، وذلك خوفًا من الفشل في حصارها ا.ﻫ.
وقال المستشرق رينو — الذي اعتمدنا على كتابه «غارات العرب في بروفنس وبيمونت وسويسرة» لأنه أشهر كتاب في هذا الموضوع، وكل جملة فيه تقريبًا مدعومة بالوثائق، مؤيدة بروايات مؤرخي ذلك العصر، سواء من الإفرنج أو من العرب — ما يلي:
وكان الفرنج في حصارها، قد قسموا جيشهم إلى ثلاثة أقسام: قسم منهم كان يهاجم نفس برشلونة، وقسم ثان، يقوده غليوم كونت طلوزة، كان يرابط في الممر الذي كانت تفيض منه جيوش المسلمين المقبلة من قرطبة لنجدة برشلونة، وقسم ثالث كان يقوده الملك لويس نفسه. وكان في جبال البرانس يحمل على المسلمين حتى وجد الفرصة ملائمة، وكان الإفرنج قد تقاسموا أعمال الحصار فيما بينهم، حتى يتهيأ لكل فريق منهم أن يتقن عمله، فمنهم من كان شغله وضع السلالم، والتسلق على الأسوار والأبراج، ومنهم من لم يكن له شغل غير جلب الميرة والعدة. ومنهم من كان موكولًا إليه الحفر والنقب. ومنهم من كان معهودًا إليه بوظائف أخرى. فاشتد الحصار إلى درجة غير معهودة، وجاءت جيوش المسلمين لتفرج عن برشلونة، فلم تقدر على النفوذ إليها، فتحولت إلى بلاد اشتورية، وهزمت أهلها، فبقي أمير برشلونة منفردًا بقوته، والمدد بعيد عنه، وخرج في إحدى المعارك لقتال الإفرنج المحاصرين، فأخذ أسيرًا ثم حمل الإفرنج على البلدة حملتهم الأخيرة ففتحوها.
وكان فتح الإفرنج لبرشلونة سنة ٨٠١ بعد أن بقيت تسعين سنة في أيدي المسلمين. فلما دخلوها بادروا بتحويل جوامعها كنائس، وأرسل الملك لويس إلى أبيه شارلمان جانبًا من الغنائم، من دروع، وزرود، وخوذ، وخيول مسرجة بأفخر السروج، وبعد ذلك أصبح لفرنسة منطقتان في شمالي أسبانية: إحداهما كتلونية، وقاعدتها برشلونة، والثانية غشقونية، ومن مضافاتها نبارة وأراغون.
أما مؤرخو العرب فينسبون سقوط برشلونة على تأثير الفتنة التي أثارها سليمان وعبد الله، عما الحكم الأموي، وشغلته عن أمجاد تلك المدينة، كما جاء في كلام أبي الفداء وابن خلدون والمقري وغيرهم، وهذا هو الصحيح.
وبقيت برشلونة وما يليها من كتلونية، حاشا طركونة، ولاردة، وطرطوشة، خارجة عن حكم العرب، حتى في زمن عبد الرحمن الناصر، برغم كثرة غزواته، وعظمة دولته. وقد ذكر المسعودي، وهو ممن عاصر الناصر وولده المستنصر، أن الحدود بين المسلمين والنصارى كانت في ذلك الوقت طرطوشة، ومنها إلى أفراغه. وقال ابن خلدون إنه لأول وفاة الناصر طمع الجلالقة في الثغور، فغزاهم الحكم المستنصر بنفسه، ونازل شفت اشتابين، وفتحها عنوة، فبادروا إلى عقد السلم معه، وانقبضوا عما كانوا فيه، ثم أغزى غالبًا مولاه بلاد جليقية وسار إلى مدينة سالم لدخول دار الحرب، فجمع له الجلالقة، فهزمهم واستباحهم.
وكان شائجه بن ردمير، ملك البشكنس، قد انتقض، فأغزاه الحكم التجيبي، صاحب سرقسطة، في العساكر، وجاء ملك الجلالقة لنصره فهزمهم، ثم أغزى الحكم بن يعلى ويحيى بن محمد التجيبي إلى بلاد برشلونة، فعاثت العساكر في نواحيها.
قال ابن خلدون: ثم بعث ملكَا برشلونة وطركونة يسألان تجديد الصلح، وإقرارهما على ما كانا عليه، وبعثا بهدية، وهي عشرون صبيًّا من الخصيان الصقالبة، وعشرون قنطارًا من صوف السمور، وخمسة قناطير من القصدير، وعشرة أذرع صقلبية، ومائتا سيف إفرنجية. فتقبل الهدية وعقد على أن يهدموا الحصون التي تضر بالثغور، وأن لا يظاهروا عليه أهل ملتهم، وأن ينذروا بما يكون من النصارى في الإجلاب على المسلمين.ا.ﻫ.
ومن هنا يعلم أن برشلونة وطركونة ونواحيهما كانت في ذلك الوقت، وهو أواسط القرن الرابع للهجرة، في أيدي أهلها، إلا أن ملوك تلك النواحي كانوا يعدون أنفسهم تحت سيادة الخليفة في قرطبة.
وفي زمن أبي مروان المظفر عبد الملك بن المنصور بن أبي عامر كانت غزاة المسلمين في كتلونية، لأن ابن عذارى ذكر أنه في سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة كانت أولى غزوات المظفر إلى بلاد الإفرنج، وفتح حصن «ممقصر» من ثغر برشلونة عنوةً، وأسكنه بالمسلمين ودوّخ بسيط برشلونة، وما اتصل به. قال ابن حيان: وأظهر عبد الملك المظفر الجد في أمر هذه الغزوة، غرة رجب من السنة، أي ٣٩٣، ودفع المعاريف والصلات إلى طبقات الأجناد الغازين معه فيها، ووافت الحضرة طوائف كثيرة من مطوعة العدوة المجاهدين، فيهم جماعة كبيرة من أمرائهم وفقهائهم، وتعرّض قوم من أمراء هذه القبائل لصلة عبد الملك، فأطلق لهم عند تكاملهم ببابه خمسة عشر ألف دينار عينًا، وزعها عليهم بحسب مقاديرهم، معونة على جهادهم، قبلوها منه بالتأوّل. وتحرج آخرون ممن وافى معهم عن فعلهم.
واتصل ورود المطوعة من كل قوم، وكل ناحية، فتكاملت الحشود بالحضرة، ودنا وقت المعركة، فصب المال صبًّا. وعهد عبد الملك إلى خزان الأسلحة بتوزيع خمسة آلاف درع، وخمسة آلاف بيضة، وخمسة آلاف مغفر، على طبقات الأجناد الدارعين.
وركب عبد الملك إلى المسجد الجامع لشهود عقد الألوية، على عادة أمراء الأندلس قبله وذلك يوم الجمعة لثمان خلون من شعبان من تلك السنة، ثم خرج يوم الاثنين لإحدى عشرة ليلة خلت من شعبان، من باب الفتح الشرقي، من أبواب الزاهرة، وقد اجتمع الناس لرؤيته، فخرج عليهم شاكي السلاح، في درع جديدة سابغة، وعلى رأسه بيضة حديد مثمنة الشكل، مذهبة، شديدة الشعاع، وقد اصطفت القواد والموالي والغلمان في أحسن تعبئة، وسار عبد الملك إلى أن نزل بمنية أرملاط، أول محلاته، ثم سار إلى أن وصل طليطلة، لسبع بقين من شعبان فتلوّم بها يوم الجمعة، ورحل يوم السبت إلى مدينة سالم، فوافاه هناك عدة زعماء من وجوه النصارى وفرسانهم، أرسل بعضهم ملك القوط يومئذ، أذفونش بن أردن، المعروف بابن البربرية ومعهم آخرون ممن أرسل بهم خاله شانجه بن غرسية، زعيم الجلالقة، وصاحب قشتيلة وألبة، وحضر هؤلاء الأرهاط للغزو بين يدي عبد الملك، على ما تضمنه شرط سلمهم المنعقد أول هذه السنة، فأحسن عبد الملك قبولهم، وأوسع إنزالهم، وأصعد عن مدينة سالم إلى الثغر الأعلى، فاحتل سرقسطة.
ثم غدا المسلمون على القتال بعد صلاة الفجر، فناهضوا أعداء الله بأصح عزيمة، وقامت الحرب على ساق، فصبر المسلمون على مباشرتها أكرم صبر سمع به، حتى ولّى العدو الأدبار، فاقتحموا عليهم الأسوار، وأخذوا كثيرًا منهم، وركب الحاجب عجلًا بنفسه، مع أكابر أهل مركبه، فارتقى إلى باب قصبتهم، واقتحم الناس على أعداء الله القصبة، فملكوها، وخلصت طائفة منهم إلى محل منيع بهذه القصبة، فساورهم أولياء الله بذروة ذلك المحل، فأيقنوا بالهلاك، وسألوا النزول على حكم الحاجب فأنزلهم، وحكم فيهم بحكم ابن عمه سعد بن معاذ، رضي الله عنه، فقتل جميعهم وملك الحصن، وحاز الغنائم.
وعهد الحاجب إلى المسلمين ألا يحرقوا منزلًا، ولا يهدموا بناءً، بما ذهب إليه من أسكان المسلمين هناك، فشرع للوقت في إصلاح الحصن، ونادى في المسلمين: من أراد الإثبات في الديوان بدينارين في الشهر، على أن يستوطن في هذا الحصن، فعل، وله مع ذلك المنزل والمحرث. فرغب في ذلك خلق عظيم، واستقروا به في حينهم.
ولما استكمل الحاجب ما أراده من أمر هذا الحصن، أقام كلمة الإسلام منه بأرض لم تر الإسلام قط، رحل عنه إلى بسيط برشلونة، فدوّخ بلاد الكفرة، وانبسط المسلمون في عرصاتهم، يحرقون ويهدمون، وانبسطت خيل المغيرة في أرضهم إلى أن أتى بسيطًا كثير العمارة، فاحتلوه، وعمّوا جميعه، ووقعوا على كثير من عيال الجالية من هذه الحصون، فردوهم سبيًا إلى المحلة، وأبلغوا في النكاية، وأحرزوا الأجر الجزيل.
وعيّد الحاجب والعسكر عيد الفطر بأرض برشلونة، فإنه رحل يوم عيد الفطر غرة شوال من السنة المؤرخة، فأدركه وقت صلاة العيد وهم سائرون، فنزلوا للصلاة. ولما قضى الحاجب صلاته، تبوأ بمصلاه مقعدًا، لتهنئته بما سنّى الله له من التعبيد في سبيل جهاده، فتقدم إليه أكابر الناس على مراتبهم، ثم ركب فرسه، فتقدم إليه طبقات الأجناد، مبتهلين بالدعاء له، وسار العسكر، ونزل بالبطحاء، ثم رحل من منزل إلى منزل، فعم ذلك كله غارة وانتسافًا.
قال حيان بن خلف: ورأى الحاجب عبد الملك أن قد بلغ الغاية من التدويخ لأرض العدو، فرحل بالعسكر منكفئًا نحو أرض الإسلام، وأمر كاتب الرسائل أحمد بن برد أن يكتب بالفتح نظيرين: أحدهما إلى الخليفة هشام المؤيد بالله، والآخر يقرأ على كافة المسلمين بقرطبة، وتنفذ نسخته إلى الأقطار، فعجل ذلك وأنفذه نحو حضرة قرطبة، وكان جملة ما تضمنه كتاب الفتح من عدد السبي خمسة آلاف وخمسمائة وسبعين رأسًا، وعدد الحصون التي افتتحت عنوة، فقتلت مقاتلتها، ستة حصون، وكان عدد الحصون التي أخلاها العدو فخربت ودمرت خمسة وثمانين حصنًا، وكلها قد سميت في كتابه، وأذن الحاجب لجميع المطوعة في القفول إلى بلادهم، إذ قد قضوا ما قصدوا له من جهاد عدوهم، فقفلوا فرحين مستبشرين.
ورحل العسكر من مدينة لاردة يوم الثلاثاء لثمان خلون من شوال، فدخل قرطبة لخمس خلون من ذي القعدة فتلقاه أهل قرطبة وعلماؤها ووجوهها مهنئين شاكرين ثم دخل الحاجب إلى الخليفة هشام، فرفع مجلسه وكساه من ملابسه السنية ثلاث رزم، قرن بها سبعين من خاص سيوفه، فأظهر عبد الملك السرور بذلك، وشكر الخليفة، وقبل يده، وانصرف إلى قصره بالزاهرة.
وجلس يوم الأربعاء ثاني يوم وصوله مجلس التهنئة في أبهة فخمة، وأذن للناس في الوصول على مراتبهم، فوصل في أوائلهم كبار قريش، من بيت الخليفة، المروانيون، ثم القضاة والحكام والفقهاء، ثم وجوه أهل الأسواق والأرباض من قرطبة، ثم وصل الشعراء والأدباء، فأنشد منهم من رسمه الإنشاد، ووضع سائرهم الأشعار بين يدي الحاجب. انتهى نقلًا عن ابن عذارى ببعض اختصار.
ومما هو جدير بالذكر من خبر برشلونة أن عليًّا بن مجاهد العامري، ملك دانية أصدر أمرًا تاريخه ٤٥٠ وفق ١٠٥٨ للمسيح، يضع فيه أسقفيات دانية، وأوريولة، وجزر ميورقة، ومينورقة، ويابسة، تحت رئاسة أسقف برشلونة.ا.ﻫ.
قلنا إن واقعة عقبة البقر هذه هي واقعة شهيرة، تحرير خبرها أن عبد الرحمن بن المنصور بن أبي عامر، وهو الملقب بشنجول، لأن أمه إسبانيولية، بنت الملك شانجة، كان من الحمقى، وعلى يده انتهت الدولة العامرية، ذلك أنه حمل الخليفة هشام المؤيد بالله على توليته عهده بمحضر من الملأ، وكان يومًا مشهودًا، فقرئ العهد عليهم، وهو من إنشاء أبي حفص بن برد، فنقم أهل الدولة على شنجول هذه الجرأة الفظيعة، ولاسيما أقارب الخليفة هشام، من الأمويين والقرشيين، وتمشت رجالاتهم في أمر القيام على شنجول، وقتلوا صاحب شرطته، وهو غائب في إحدى غزواته، وكان ذلك سنة تسع وتسعين وثلاثمائة. وخلعت قرطبة هشامًا المؤيد، وبايعت هشام بن عبد الجبار بن أمير المؤمنين الناصر لدين الله، وطار الخبر إلى عبد الرحمن شنجول بمكانه من الثغر فقفل إلى الحضرة بجيشه، فلما قرب من قرطبة وثب عليه من احتز رأسه. وحمله إلى محمد بن هشام الخليفة الجديد، الذي تلقب بالمهدي. وكان العرب قد كرهوا البربر، لمظاهرتهم المنصور بن أبي عامر وأولاده، ونسبوا ما حل من الضعف بدولة بني أمية إليهم، وأخذ المهدي بإهانتهم، ونهبت العامة بعض دورهم، فتمشت رجالاتهم، واشتوروا في تقديم هشام بن سليمان بن أمير المؤمنين الناصر، فعرف بذلك المهدي، فأمر بالقبض على هشام وأخيه أبي بكر، وضرب أعناقهما، وفر سليمان بن أخيهما الحكم ومعه البربر، واجتمعوا بظاهر قرطبة، فبايعوه، ولقبوه بالمستعين بالله، ونهضوا به إلى طليطلة، حيث استجاش المستعين، بشانجة بن غرسية بن فردلند، ثم نهض بجموع البربر والنصارى إلى قرطبة، وبرز المهدي إليهم بجموع قرطبة، فكانت الدائرة على المهدي والقرطبيين، فقتل منهم البربر والنصارى عشرين ألفًا، وهلك في هذه الواقعة من خيار الناس والعلماء، وأئمة المساجد عدد كبير. ودخل المستعين الحضرة ختام المائة الرابعة. وقيل إن الذي هلك من أهل قرطبة ثلاثون ألفًا، وقالوا إنها كانت أول ما أخذ النصارى من إثاراتهم عند المسلمين، وكان ذلك على يد فرقة من أنفسهم، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
•••
ولما سقطت الملكية سنة ١٩٣١ جرت حركة شديدة في كتلونية، لأجل الانفصال عن سائر أسبانية، ولكن المعتدلين من الكتلان كانوا يكتفون لكتلونية بالاستقلال الداخلي، ولما كانوا في أيام الملكية قد اتفقوا مع زعماء الحزب الجمهوري على ذلك، بموجب معاهدة وقع عليها الفريقان، لم يقدر زعماء هذا الحزب بعد أن قبضوا على ناصية الحكم، إلا أن يجيبوا الكتلان إلى بعض مطالبهم بالأقل، فلم يكن رضى الكتلان عن الحكومة الكتلونية الجديدة تامًّا، ولبثوا يترقبون الفرصة لأجل استكمال حريتهم.
وفي أثناء ما نحن نكتب هذه السطور تشتعل نيران الحرب الأهلية في أسبانية بين الحزبين الكبيرين الحزب المحافظ، ومعه القسوس، والأحبار، وأكثر قواد الجيش، والفئة الملكية، والفئة الجمهورية المعتدلة. والحزب الاشتراكي، ومعه العملة، والشيوعيون، والصعاليك، والفلاحون من طلاب الأراضي، والجمهوريون الغلاة الثائرون على القديم. ولقد مضى إلى ساعة رقم هذه الأحرف نحو من خمسة عشرة يومًا والفتنة تضطرم في جميع مدن أسبانية، والقوتان متكافئتان إلى هذا اليوم، لا يقدر الناظر إلى الحوادث أن يستخلص منها حكمًا بترجيح الظفر لإحدى الفئتين. وقد وقعت الوقائع في برشلونة أيضًا، وانتصب الميزان نحوًا من ثلاثة أيام، إلا أن كفة حزب اليسار رجحت فيها على كفة الحزب المحافظ، وسارت العساكر الموالية للجمهورية ومعها عصائب من الأهالي، قاصدة إلى سرقسطة، لإخضاع الجيش الثائر فيها على الحكومة. وقد مرت هذه القوة الزاحفة ببلدة قشب، وأدخلتها في الطاعة، ولا نعلم ماذا يتم في سرقسطة؟
فظهر من هنا أن سكان السواحل من كتلونية لا تزال تنزع فيهم من الحرية أعراق تتجلى فيهم عند كل فرصة.
•••
ولما كنت في ميورقة جرى التعارف بيني وبين قسيس كبير طاعن في السن، قيل لي إنه من كبار العلماء، وإنه صنف كتابًا بالغًا عدة مجلدات في فرائد اللغة الكتلونية.
وهذه اللغة وإن كانت لاتينية محضة في أصلها فقد دخل فيها ألفاظ كثيرة جرمانية وألفاظ كثيرة بروفنسية، وألفاظ كثيرة عربية، وهي في كثرة الداخل عليها من العربي أشبه بالإسبانيولية القشتالية.
والغالب على الكتلان أنهم يميلون إلى ذكر الأحداث الواقعة المحسوسة أكثر من ميلهم إلى العواطف والخيالات، ولذلك نجد لهم في التاريخ كتبًا قيّمة وكان جقوم الأول، الملقب بالفاتح، قد كتب هو نفسه تاريخًا لغزواته، مملوءا بالوقائع، وقد طبع هذا التاريخ طبعته الأولى في برشلونة سنة ١٥١٧، وهذا الملك كان قد سن قانونًا بحريًّا لبثوا مدة طويلة يعملون بموجبه في البحر المتوسط، ثم دخلت منه قواعد كثيرة في القوانين البحرية الحديثة. لهذا كان هذا الملك معدودًا من أعظم الأدباء الذين خدموا اللغة الكتلونية. وفي القرن الرابع عشر اشتهر بتره الثالث ابن جقوم الأول، فأمر بكتابة تاريخ عن مغازي والده ومغازيه هو.
وكان مبدأ انحطاط اللسان الكتلوني في القرن السابع عشر، واستمر إلى الثامن عشر وزاد الطين بلة أن فيليب الخامس أمر بإلغاء الامتيازات الكتلونية، وبعدم تحرير أوامر الحكومة باللغة الكتلونية. وصاروا يؤلفون الكتب في كتلونية باللغة القشتالية، ولكن برغم تضييق الدولة الأسبانية على هذه اللغة، بقيت فيها بقايا صالحة من شعراء وكتاب، مثل فرنسيسكو بالار، وإينياسيو فريره، وأوغسطين أوره، وغيرهم.
وبقيت اللغة الكتلونية تتقهقر إلى الوراء إلى أيام الثورة الفرنسية، التي تلقى الكتلان مبادئها بشوق عظيم، فحصلت نهضة سياسية صحبتها نهضة لغوية، ونشطت هذه اللغة ثانية من عقالها، وتنظمت جامعة برشلونة على نسق جديد، وتألفت أكاديميات، وانتشرت صحف، ونشأ ناشئة كتلونية، تنزع إلى إحياء أدبها القديم.