الحرية وموقعها في الطبيعة
(١) هل الحرية قوة سببية؟
لعلنا عالجنا الآن مشكلة الممارسة؛ ولم نعد نفهم الفعل من منطلق مهدِّد للحرية الليبرتارية، بوصفه نتيجة لرغبات تعترينا دون تفكير. فيمكن للفعل أن يتخذ شكلًا غير سببي تمامًا. ويمكن للفعل أن يحدث كقرار غير مسبب، دون أن تتأثر طبيعته من حيث كونه فعلًا أصيلًا ومتعمدًا. ولكن تظل مشكلة العشوائية قائمة. وحتى إن كانت أفعالنا موجهة نحو أهداف محددة، باعتبارها غير مسببة أو بوصفها غير محددة سببيًّا، فإنها لا تزال من عمل الصدفة البحتة. والنيات التي عقدناها يمكن أن تظل عشوائية لا ممارَسة لسيطرة أصيلة. وعلينا أن نظهر أن الليبرتاريين يمكنهم التمييز بين الحرية غير المحددة سببيًّا وعمل الصدفة البحتة، وكيف أن الليبرتاريين بالرغم من ربطهم الحرية بغياب التحديد بفعل أحداث سابقة فإنهم في الوقت ذاته لا يربطونها بالعشوائية.
تذكَّرْ أنه وفقًا لمذهب التشككية، فإن الحرية الليبرتارية لا تعدو كونها عشوائية. لذا لا يوجد سوى بديلين؛ فإما أن يكون الفعل محددًا سببيًّا بشكل مسبق — الأمر الذي يصر الليبرتاريون أنه سيُقصي الحرية — وإما أن حدوث الفعل لم يحدد مسبقًا، وأنه يجب أن يحدث بمحض الصدفة. في هذه الحالة، سيصر المتشكك على أن الحرية الأصيلة تتعرض للإقصاء مرة أخرى. لا يوجد حل وسط لهذا الأمر.
لقد طرحتُ بالفعل سؤالًا عن سبب افتراض أي شخص لهذا الأمر. فربما يكون هناك احتمال ثالث؛ وهو مع أن الحدث يقع دون تحديد سببي، فإنه لا يقع بمحض الصدفة أو عشوائيًّا، هذا لأن الحدث يقع من خلال ممارستنا حريتنا. ومع أن الحدث لم يحدد سببيًّا فإنه لم يقع بمحض الصدفة؛ لأننا نتحكم في كونه سيقع من عدمه. إننا بحاجة إذن لأن نُفَرِّق بين نوعَيِ الأحداث غير المحددة سببيًّا؛ فهناك تلك الأحداث التي لم تُحدد سببيًّا فحسْب، وتقع هذا الأحداث بشكل عشوائي تمامًا إذ تعتمد في حدوثها على الصدفة البحتة. ومن الواضح أنه في حالة تلك الأفعال لن يوجد أي دخل للحرية في حدوثها. ثم هناك تلك الأحداث غير المحددة سببيًّا ولكنها خاضعة للتحكم. لذا لن توجد عشوائية أو صدفة مجردة لأنه يوجد أمر إضافي تكتنفه العملية، وهذا الأمر الإضافي هو ممارسة الحرية؛ فالفاعل يتحكم في وقوع الحدث من عدمه.
في الحقيقة، ثمة سبب مهم للغاية لاحتمال أن يرغب أحدهم في استبعاد هذا الاحتمال الثالث والأخير؛ أن يكون الحدث غير محدد سببيًّا ولكنه خاضع للتحكم. كما سنرى، يمكن دحض هذا الاحتمال الأخير إذا ما وضعنا فرضية حاسمة؛ أن الحرية، إن وُجدت، يجب أن تكون نوعًا من القوة السببية. وأعتقد أن هذه الفرضية بالذات هي ما سبَّب مشكلة العشوائية. لذا دعوني أزِدْ في القول عن هذه الفرضية، عما تكتنفه وسبب افتراض أي شخص لها.
من الواضح أن الحرية — قدرتنا على التحكم في الكيفية التي نتصرف بها — هي قوة من نوع ما. فهي، بالرغم من كل شيء، تترك لنا المآل في تحديد طريقة تصرفنا. إن الحرية تترك، مثلما قد نصف الأمر، طريقة تصرفنا «في متناول يدنا». وتحكمنا في أفعالنا ما هو إلا ذلك؛ قوة محددة للفعل والحدث، قوة نتمتع بها لتحديد كيف سنتصرف.
الحرية إذن هي نوع من القوة التي تحدد وقوع الأحداث. إنها القوة التي تحدد أَحَدَثَ ما سيقع أم لا. إنها قوة خاصة لا يمكن أن يتمتع بها، كما يبدو، سوى الكائنات العاقلة مثلنا نحن البشر، ولا يمكن ممارستها إلا من خلال الفعل: من خلال طريقة تصرفنا. فالحرية قوة تحدد الأفعال التي نؤديها. ويطرأ سؤال هنا: كيف تتصل هذه القوة بقوى الطبيعة الأخرى؟
هناك قوة يمكننا إيجادها في الطبيعة بصورتها الأكبر؛ قوة غير مملوكة للفاعلين العقلانيين فحسْب بل تمتلكها أيضًا حتى الجوامد مثل العصي والأحجار. هذه القوة هي القوة السببية: القوة لخلق المؤثرات. وبلا أدنى شك، ترتبط هذه القوة بالحرية بدرجة كبيرة. إن الحرية هي قوة يمكن بسط نطاقها من خلال السببية. أضِفْ القوة السببية إلى القدْر الموجود بالفعل من الحرية أو السيطرة، وستحصل على المزيد من السيطرة. هَبْ أنني أتحكم بالفعل في القيام بفعل ما أو عدم القيام به؛ مثل تشغيل مفتاح كهربي. إذن فإن تحكمي يمكن أن يزداد أكثر من خلال القوة السببية لهذا الفعل، من خلال تأثيراته المحتملة. ربما سيؤدي تشغيل المفتاح إلى إنارة الأضواء أو إطفائها. في هذه الحالة، بفضل الفعل الذي له قوة التأثير على الأضواء، فإن تحكمي في كوني سأؤدي هذا الفعل يمنحني السيطرة على كوني سأنير أو أطفئ تلك الأضواء. إن القوة السببية للفعل الذي أتحكم به بالفعل تمنحني المزيد من السيطرة، على كل ما يمكن أن يؤثر عليه القيام بهذا الفعل.
من المغري أن نفترض أن العلاقة بين الحرية والسببية يمكن أن تكون أقرب من هذا. ربما لا يمكن بسط نطاق الحرية من خلال السببية فقط، بل ربما الحرية ما هي إلا نوع من السببية. في هذه الحالة، تشتمل ممارسة الحرية منذ البداية على خلق التأثيرات. فأي حدث نتحكم به يجب أن يحدث كتأثير تسبَّبْنا فيه. الأمر الذي يعني أنه لن يوجد سوى قوة واحدة في العالم محددة للحدث، لا اثنتين. لن يكون هناك سوى قوة سببية، ولن تعدو الحريةُ الإنسانية أن تكون سوى صورة أخرى لها.
يمكننا أن نرى كم يمكن أن تكون هذه الفكرة مقنعة؛ حيث إنها تلبي حاجتنا العميقة إلى تبسيط تنظيرنا حول العالم. إننا نرغب في توضيح أكبر قدر ممكن في أقل حيز ممكن. إننا نرغب في التقليل من الفيض الوافر من أنواع الأشياء والظواهر الموجود في العالم إلى أقل عدد ممكن من العناصر الأساسية؛ عدد بسيط ومحدود من العناصر التي يمكن توضيح أن الكل الثري والمعقد مشكَّل منها. لمَ لا نستعيض إذن عما يبدو أنه قوتان مختلفتان؛ الحرية والسببية، بقوة واحدة أكثر جوهرية؛ السببية، التي سيتضح أن الحرية لا تزيد عن مجرد حالة خاصة منها؟
يبدو هذا الخيار أكثر جاذبية عندما نفكر في جميع الصعوبات والشكوك التي تطرحها فكرة الحرية. فهل من طريقة للتعامل مع هذه الشكوك والصعوبات أفضل من الانتهاء إلى أن الحرية ما هي إلا نفس القوة المألوفة مثل قدرة الحجارة على كسر النوافذ، أو قدرة النار على غلي الماء؟
ولكن إذا أجرينا هذه المطابقة، فسوف تتبعها المعادلة التي تضم غياب التحديد السببي مع الاعتماد على الصدفة البحتة أو العشوائية. إذ إن الصدفة البحتة أو العشوائية ما هي إلا غياب تام للتحديد السببي. وهذا هو ما تحصل عليه من غياب التحديد السببي و«لا شيء آخر»، بما في ذلك غياب التحكم. وإذا لم نمارس التحكم إلا بوصفه نوعًا من السببية — بوصفه نوعًا من القوة السببية — إذن على قدر وقوع أحداث غير محددة سببيًّا، غير محددة بأية قوة سببية، على القدر ذاته سيكون حدوثها غير متحكم به. وهذا بالتحديد ما يترك حدوثها الأخير، غير المحدد سببيًّا وغير المتحكم به في الواقع، معتمدًا على الصدفة البحتة والعشوائية.
في المقابل، ليس من الواضح أن الحرية نوع من القوة السببية. فرغم كل شيء، لا تمتلك العِصِي والأحجار حرية، مع أنها أو الأحداث التي تكتنفها يمكنها بوضوح خلق تأثيرات. في الواقع، إن أغلب الأمور التي تنطوي على قوة سببية — التي تخلق تأثيرًا — تفتقد السيطرة على كيفية ممارسة هذه القوة. إن إلقاء حجر على النافذة لا يتحكم في كونه سيكسرها أم لا. بمجرد أن يُلقَى الحجر في اتجاه النافذة بقوة معينة، فسيكون هناك تأثير واحد فقط له؛ هو انكسار الزجاج. إن الحرية مختلفة تمامًا عن هذا، فالحرية أو السيطرة هي بالأساس قوة يمكن ممارستها بأكثر من طريقة، لتحديد كون حدث معين سيقع أم لا. إننا نسيطر على الأفعال التي نؤديها، في حين تفتقد المسببات العادية إلى السيطرة على التأثيرات التي نحدثها.
ومن أية وجهة نظر، أن نمارس الحرية معناه أن نحدد لأنفسنا إن كان فعلٌ ما سيحدث أم لا. فالحرية هي قوة التحديد. مع ذلك، أخذ الكثير من الفلاسفة المسألة لأبعد من ذلك، فزعموا أن التحديد والتحديد السببي يجب أن يؤديا إلى النتيجة ذاتها. فمن وجهة نظرهم، ما لم يتم تحديده سببيًّا لم يتم تحديده أيضًا بواسطتنا، ومن ثَمَّ يكون خارجًا عن إرادتنا. ولكن هذا يتجاهل احتمالية أن تكون الحرية قوة لا سببية؛ إذ إنه من خلال ممارسة الحرية قد نقوم بتحديد طريقة تصرفنا على نحو غير سببي، ويكون هذا بطريقة تختلف تمامًا عن الطريقة التي يحدد بها الحجر انكسار النافذة.
هناك حد واضح للبساطة في الطبيعة. فيجب أن يكون هناك اختلافات جوهرية، وإلا فسيكون كل شيء متطابقًا؛ الأمر الذي يتكشف بجلاء أنه لا يعبر عن الواقع. وإن إبراز الاختلافات بحيادية له القدر نفسه من الأهمية مثل إيضاح التشابهات. إننا لا نستطيع أن نفسر بنجاحٍ أي شيء من خلال الإصرار الدوجماتي على أن الأمور الواضح اختلافها ما هي في الواقع إلا الشيء الواحد نفسه. وقضية قوة الحرية والقوة السببية مثال وثيق الصلة على هذا؛ فهاتان القوتان تبدوان مختلفتين تمامًا، وربما كان هذا لا لسبب إلا لأنهما متباينتان حقًّا.
من المهم أن نركز على هذه النقطة؛ لأن التراث الفلسفي باللغة الإنجليزية كان ينزع إلى تجاهلها، وفي الخمسين عامًا الأخيرة، كان يميل خصوصًا إلى تجاهل النقطة المتعلقة بالأمور التي تكتنف العقل والعقلية. فالعقل، لا سيما العقل البشري البالغ التطور، من الواضح أنه شيء متميز ومختلف. في العقل نجد أمورًا وظواهر تبدو مختلفة تمامًا عن أي شيء آخر موجود في الطبيعة بصورتها الأكبر. فنجد الوعي، ونجد الفهم، ونجد العقلانية أو القدرة على الاستجابة للأسباب، ونجد الحرية؛ القدرة على التحكم في الإرادة والأفعال الاختيارية الأخرى التي تعتمد على ما نقرره بإرادتنا. أو هكذا نعتقد. ولكن بدلًا من ملاحظة وتقدير هذا التميز، انزعج الكثير من الفلاسفة انزعاجًا شديدًا حيال هذا الأمر. وقد اتخذوا المسار الذي كان توماس هوبز هو أول من ولجه؛ مسارَ المذهب الطبيعي، الذي يحاول أن ينكر أو يقلل من قدر الاختلافات الجلية بين البشر والطبيعة بصورتها الأكبر.
أحد الخيارات هو «الاستبعاد» الطبيعي، وهذا الخيار هو إنكار وجود أمور مثل الوعي والفهم والعقلانية والحرية. ولكن الخيار الثاني الأكثر فطنة هو «الاختزال» الطبيعي، وهو الخيار الذي يعترف بوجود كلٍّ من الوعي والفهم والعقلانية والحرية، ولكنه يجعل من كلٍّ منها ما لا يتعدى مجرد حالة خاصة من سمة ما أخرى من المفترض أن تكون أقل إشكالية موجودة في الطبيعة بصورتها الأكبر. إننا نحاول أن نصف جميع هذه الأمور من منطلق آخر؛ منطلق مستعار من الطبيعة بصورتها الأكبر وليس معادلًا مفرط البساطة للظاهرة التي نحاول وصفها. وفي حالة الحرية ستكون الفرضية كالتالي: إن الحرية لا تعدو كونها نوعًا من القوة السببية.
(٢) الطبيعية التوافقية والحرية بوصفها قوة سببية
كان للتفسيرات الاختزالية للحرية بوصفها نوعًا من القوة السببية منشأ؛ إذ يعود منشؤُها إلى إرث هوبز. كان التوافقيون المتبعون لهذا النوع من الطبيعية ميالين بشكل خاص إلى وصف كنْهِ الحرية من منطلق آخر، ويرون الحرية باعتبارها لا تزيد عن كونها نوعًا من السببية. وادَّعى هؤلاء التوافقيون أن الحرية — السيطرة التي نملكها على أفعالنا — هي قوة سببية لرغباتنا. لذا افترضوا صحة نظرية هوبز عن الفعل؛ إذ افترضوا أنه أن نؤدي فعلًا ما هو أن نقوم بشيء اختياريًّا، بناءً على رغبة سابقة للقيام به؛ وتكون هذه الرغبة سابقة وسببًا، يحدث دون تفكير تمامًا، لكيفية تصرفنا. فأصبح الأمر مغريًا للغاية أن نختزل الحرية، القوة التي نملكها للسيطرة على أفعالنا، بحيث لا تتعدى كونها القوة السببية لرغباتنا وشهواتنا التي تنجح في تحريكنا، كما لو كنَّا دُمًى، لفعل ما تدفعنا للقيام به. لماذا لا ينبغي أن تئول الحرية إلى مجرد هذه القوة السببية؟ ففي النهاية، طبقًا لنظرية هوبز عن الفعل، فإن ممارسة هذه القوة السببية هي كل ما يكتنفه الفعل. إن الفعل ينقاد للقيام بما نريد من خلال حقيقة أننا نرغب في القيام به. وإذا لم تُحدث رغبتنا هذه التأثيرات فيما نقوم به، فلا يمكن أن يحدث الفعل على الإطلاق، وكذلك لا يمكن ممارسة الحرية أيضًا. إن أية عقبات تمنعنا من إشباع رغباتنا تكون، بطبيعتها، عقبات تمنعنا من ممارسة الحرية. لذا، لماذا لا نعرف ممارسة الحرية على أنها تتشكل، على نحو نقي ومجرد، من هذه الرغبات التي تسبب إشباعها دون عقبات؟ إن الحرية هي قوة رغباتنا التي تدفعنا للتصرف حسب ما نرغب.
ولكن هذا الاختزال من جانب التوافقيين غير مقبول؛ إذ إنه يتعارض مع فكرة المنطق السليم عن الفعل التي — كما رأينا من قبل — لا تعرِّف الفعل بوجه عام على أنه نتيجة لحاجاتنا ورغباتنا. يمكن للفعل الموجه نحو الهدف أن يتخذ تمامًا شكلًا ليس من الضروري أن يكون مسببًا بواسطة الرغبات أو أي دافعية مسبقة. ويمكن للفعل الموجه نحو الهدف أن يأخذ شكل قرارات تصرُّف غير مسببة. يعني هذا أنه لم يعد بمقدورنا تعريف الحرية على أنها قوة رغباتنا لتحقيق إشباعها. لأن إعاقة إشباع هذه الرغبات لم تعد تمثل عقبة مهددة للحرية تحول دون قيامنا بالأفعال. إن ما يمنع إشباع رغباتنا قد لا يكون سوى قراراتنا المتعمدة؛ مثال ذلك قراراتنا بعدم أداء الفعل الدنيء الذي تدفعنا كل رغباتنا وشهواتنا وتُغرينا للقيام به. إنَّ منْعَ إشباع رغباتنا يمكن أن يكمن في أفعالنا المتعمدة. يمكننا أن نكبح رغباتنا بشكل متعمد من خلال ممارسة إرادتنا المغايرة لها. ولكن إن كان الأمر كذلك — أن أفعالنا المتعمدة هي ما تكبح رغباتنا، وليس عقبة خارجية ما — فما الأمر المهدد للحرية المتأصل في ذلك؟
إن الفعل، كما نرى الآن، ليس بطبيعته نتيجة لرغباتنا، بل إنه أمر مختلف تمامًا. فالفعل هو في الواقع القدرة على التحديد العَمْدي لأيٍّ من رغباتنا — إن وُجدت — ينبغي إشباعها. وكذلك حريتنا، تحكمنا في كيفية ممارستنا لهذه القدرة على أفعالنا، هي أيضًا تحكم فيما إن كنا سنقوم بإشباع أيٍّ من هذه الرغبات، وأي منها سنُشبعه. إن استخدامنا لهذه القوة لكبح رغباتنا لا يكون فقدًا لحريتنا، بل يكون سبيلًا ممكنًا لممارستها.
ولا يمكن للحرية، التي تمثل قوة تحكمنا في أفعالنا، أن تتحدد منطقيًّا على أنها قوة سببية للرغبات السابقة أو غيرها من الدوافع السلبية لتحديد كيفية تصرفنا. وهذا بسبب أننا قادرون على استخدام أفعالنا بشكل متعمد، الأفعال ذاتها التي نمارس حريتنا من خلالها، لكي نكبح رغباتنا. إذا كانت الحرية قوة سببية بأي حال من الأحوال، فلا بد أنها قوة سببية من نوع آخر.
(٣) الليبرتارية والحرية بوصفها قوة سببية
لا شك في أن الليبرتاريين لن يعرِّفوا الحرية أبدًا على أنها قوة سببية لرغباتنا أو غيرها من الدوافع التي تعترينا دون تفكير لتحديد كيفية تصرفنا. وهناك سبب واضح للغاية لهذا. فلما كانت مثل هذه القوة السببية أمرًا يمكن — عندما يتخذ صورة قوية بدرجة كافية — أن يُقصي الحرية الليبرتارية من أساسها، فيجب أن تكون تلك القوة والحرية الليبرتارية أمرين مختلفين تمامًا. بالنسبة لليبرتاريين، يكون تأثير القوة السببية لأي حدث أو موقف سابق على كيفية تصرفنا تهديدًا محتملًا لحريتنا. لذا لا يمكن أبدًا مطابقة الحرية مع هذه القوة السببية.
إلا أن الكثير من الليبرتاريين قلقون من أنه إن لم تكن الحرية شكلًا من أشكال القوة السببية، فلن يكون هناك شكل آخر تتخذه الحرية؛ إذ إن الفعل غير المحدد سببيًّا لن يتم تحديده أو السيطرة عليه بأية طريقة أخرى. فلن يكون سوى فعل عشوائي. لذا سعى هؤلاء الليبرتاريون أيضًا إلى تعريف الحرية الليبرتارية على أنها قوة سببية، ولكنها قوة سببية من نوع مختلف.
هناك نوع آخر وحيد من القوة السببية يمكن أن تتخذه حريتنا، ليس قوةً سببية لأي حدث أو موقف سابق، ولا حتى حدثًا أو موقفًا مسبقًا في عقولنا؛ مثل الرغبات أو المشاعر. بل يجب أن تكون الحرية بدلًا من هذا قوة سببية متعلقة بنا ونمارسها نحن أنفسنا بشكل مباشر. يجب أن تكون الحرية قوة سببية، ولكنها ليست قوة سببية من حدث سابق في حياة الفاعل يؤثر في أفعاله، ولكنها نابعة من الفاعل نفسه. ولما كانت الحرية بطبيعتها قوة مزدوجة، قوة الفعل أو الترك، فيجب أن تكون هذه القوة السببية ممكنة الممارسة بأكثر من طريقة. فيجب أن تكون القوة السببية التي تشكِّل حريتنا قوة لخلق تأثير معين وكذلك لمنع حدوثه؛ ومن ثَمَّ نصل إلى نظرية بالغة التأثير وذائعة الشهرة عن الحرية الليبرتارية: النظرية التي ترتكن إلى المصطلح الذي أطلقه الفلاسفة «سببية الفاعل». يُفترض أن الحرية قوة سببية خاصة مزدوجة مسيطرة على الأفعال، قوة سببية نمتلكها ونمارسها، ولكن ليس بواسطة حدث غير حر بل بواسطة الفاعلين الأحرار أنفسهم. ويُفترض أن تكون الحرية قوة سببية يحدثها الفاعل.
لماذا يريد الليبرتاريون وصف الحرية على أنها قوة سببية يحدثها الفاعل؟ تذكرْ أن نظرية الفاعل-المسبِّب تؤدي وظيفتين؛ أولًا: أنها تختزل الحرية إلى نوع آخر من القوة، وأن هذه القوة حالة خاصة من ظاهرة، قوة سببية، منتشرة على نطاق واسع في كل مكان من الطبيعة. وبذا فإننا نمتلك القدرة على تحديد شيء (يُفترض أنه) غير طبيعي أو استثنائي مثل الحرية الليبرتارية على أنه مجرد جزء آخر من الطبيعة. ثانيًا: أن النظرية تحل أيضًا مشكلة العشوائية. فإذا كنا، عندما نمارس الحرية، نقوم نحن بوصفنا فاعلين بتحديد كيفية تصرفنا سببيًّا، إذن لا تكون أفعالنا الحرة بالمفهوم الليبرتاري عشوائية. فلا يمكن للفعل الحر أن يكون عشوائيًّا لأنه محدد سببيًّا؛ ليس بواسطة موقف ما سابق مهدد لحريتنا، بل بواسطتنا نحن أنفسنا باعتبارنا فاعلين أحرارًا. هناك أمر واضح ومتفق عليه من الجميع؛ التحديد السببي يستبعد أي وجه للعشوائية من الأمور المحددة سببيًّا. لذا يتم تمييز ممارسة الحرية الليبرتارية بكل وضوح عن العشوائية.
لذا عندما يحدث فعل ما، الفعل (أ)، من خلال ممارسة الفاعلِ حريتَه، فإن الفاعل ذاته يعمل كسبب، ولا يقوم أي حدث أو موقف، ولا أية رغبة أو دافع، بالتحديد السببي لكون الفاعل سيؤدي الفعل (أ) من عدمه، بل الفاعل نفسه هو من يحدد ذلك سببيًّا.
الفاعل-المسبب | يعمل الفاعل بشكل حر كسبب محدد لوقوع الفعل (أ) لا عدم وقوعه |
التأثير | الفعل (أ) تم أداؤه |
إن وقوع الفعل (أ) ليس عشوائيًّا؛ لأنه قد تم تحديده سببيًّا. ولكن سيظل حدوثه ممارسة لسيطرة الفاعل على الفعل لأنه قد تم تحديده، ليس بسبب خارج عن إرادة الفاعل، بل بواسطة الفاعل ذاته، بوصفه سببًا مؤثرًا بشكل حر.
بالتأكيد من المهم في هذه القصة أنه يجب أن يمارس الفاعل قوته السببية بحرية. يجب أن يسيطر الفاعل على كيفية ممارسته قوته السببية التي يحدثها بنفسه؛ يجب أن يتحكم في كونه سيتسبب في وقوع الفعل (أ) من عدمه. وإلا، رغم تحديد هذا الفعل سببيًّا بواسطة الفاعل نفسه، فقد يكون وقوع الفعل (أ) محددًا بواسطة سبب خارج عن إرادة الفاعل ويتم إقصاء السيطرة الليبرتارية على وقوع هذا الفعل من عدمه. ولكن من الصعب إنكار فرضية أن الفاعل هو من يتحكم في ممارسته لقوته السببية التي يحدثها بنفسه. لأن القوة السببية تعتبر هي حرية الفاعل؛ فكيف إذن يمكن أن تُمارس الحرية بأي طريقة أخرى غير ممارستها بحرية؟
إذن، هل ينبغي أن ننظر للحرية الليبرتارية على أنها نوع من القوة السببية، بوصفها قوة سببية مملوكة للفاعل؟ إن هذا الأمر معقد، وثمة الكثير من المُحاجَّات من كلا الجانبين. ولكن هناك اعتبار واضح لعدم قيامنا بذلك؛ وهو يقول إن الحرية الليبرتارية لا يمكن أن تكون قوة سببية من أي نوع.
تذكرْ أن نظرية الفاعل-المسبِّب عن الحرية يُفترض بها أن تؤدي وظيفتين. فمن المفترض أن تمنح الحرية مكانًا وهوية مقنعَينِ داخل الطبيعة بصورتها الأكبر؛ أي من المفترض أن تؤكد لنا مجددًا أن الحرية ما هي إلا مجرد حالة من شيء مألوف للغاية، السببية. ومن المفترض أيضًا أن تحل مشكلة العشوائية، من خلال بيان كيف أن ممارسة الحرية الليبرتارية مختلفة عن العشوائية. وأرى أن النظرية لم تؤدِّ أيًّا من هاتين الوظيفتين.
إننا لا نقوم بأي شيء من أجل تسكين شواغلنا بشأن ما ستئول إليه الحرية الليبرتارية، أو بشأن شرح كيف أن هذه النظرية تُقصي الصدفة المحضة، إذا ما أطلقنا عليها اسمًا آخر؛ اسمًا تشترك فيه مع ظاهرة مختلفة تمامًا في حقيقة الأمر. وهذا، حسب اعتقادي، هو كل ما نقوم به إذا ما أشرنا إلى الحرية الليبرتارية بوصفها نوعًا من القوة السببية. إذ إن الحرية في الحقيقة مختلفة تمامًا عن السببية.
وكما أكدت خلال هذا الكتاب، الحرية بطبيعتها ما هي إلا قوة يمكن ممارستها بأكثر من طريقة؛ أيْ طريقة تكون تحت سيطرتنا. إن الحرية بطبيعتها تترك لنا المآل في اختيار الأفعال التي نؤديها، ولكن القوى السببية العادية، القوى المسببة للأشياء، ليست على هذه الشاكلة على الإطلاق.
في الحقيقة، يمكن ممارسة القوة السببية العادية في بعض الأحيان بأكثر من طريقة. قد يكون السبب العادي احتماليًّا في أساسه؛ إذ قد يكون نتاجًا للصدفة في جوهره، ليس فقط من ناحية ما إن كان سينتج تأثيرًا أم لا، بل من حيث أي تأثير يحدثه. فمن ناحية، قد يحول الضغط على هذا الزر الضوء إلى اللون الأخضر، وربما يسبب نفس الزر أن يتحول الضوء نفسه إلى اللون الأحمر. ولكن حتى وإن كان هذا الأمر صحيحًا، فلا شك في أن هذا الأمر لا يترك لنا سببًا عاديًّا يتحكم في أي تأثير سيحدثه.
وهناك المزيد؛ لا يعتبر هذا السبب الاحتمالي أو الوليدُ الصدفة «محدِّدًا» لوقوع تأثير بعينه من التأثيرين المحتملين، بمعنى إقصاء أي اعتماد للنتائج على الصدفة البحتة. هناك طريقة واحدة يحدد من خلالها أي سبب عادي حدوث أحد التأثيرين دون الآخر على ذاك النحو. بناءً على السبب وجميع الملابسات ذات الصلة، لا شك في أن حدوث أي تأثير بديل أمرٌ مستحيل. فإن كان حدوث أكثر من تأثير واحد أمرًا ممكنًا، فسيكون التأثير الذي يحدثه هذا السبب عشوائيًّا وغير محدد؛ أي أمرًا متروكًا للصدفة المحضة.
ولكن عندما يحدد الفاعل ما سيحدث بممارسته حريته، فستختلف الأمور أيَّما اختلاف. هبْ أن الفاعل عليه الاختيار بين القيام بالفعل (أ) من عدمه. وهبْ أن احتمالية قيام الفاعل بالفعل (أ)، بناءً على الملابسات ووجوده بوصفه فاعلًا حرًّا، تتساوى مع احتمالية عدم قيامه به. لا يجب أن يكون اختيار الفاعل لأداء أي من الفعلين عشوائيًّا أو غير محدد. لا تزال قوة الحرية — تمتُّعه بالسيطرة — تسمح للفاعل بأن يكون هو من يحدد القيام بالفعل (أ) من عدمه، لذا في النهاية لن يخضع ما يقوم به للصدفة البحتة. ولكن من المؤكد أن هذا الأمر يتضمن أن الحرية نوع من القوة مختلف تمامًا عن السببية. سبب عادي يحدد تأثيراتها ولا يُقصي العشوائية إلا عندما يجعل وجودُها البدائلَ مستحيلةً. ولكن الفاعل الحر يحدد أفعاله ويقصي العشوائية بطريقة مختلفة تمامًا. لماذا إذن نفترض أن هذه الطريقة سببية هي الأخرى؟
النتيجة واضحة. فبسبب عمل كل من القوتين، الحرية والسببية العادية، على تحديد النتائج وإقصاء العشوائية بطرق مختلفة جدًّا، فإن حقيقة أن التحديد السببي العادي مُقصٍ للعشوائية لا علاقة لها بتفسير كيف أن ممارسة الحرية قد تكون أيضًا مُقصية للعشوائية. يمكنك أن تطلق على قوة الحرية أنها «سببية» هي الأخرى، إن أردت ذلك، ولكن تسميتها بهذا الاسم لا تساعد بأي صورة على حل مشكلة العشوائية؛ لأن التسمية هي مجرد تسمية؛ إذ إنها لا تزيد من فهمنا لكيفية أن ممارسة الحرية تمنع أن تكون النتيجة النهائية من جراء الصدفة البحتة.
إن إطلاق تسمية «قوة سببية» على الحرية لا يساعد على تفسير كيف أن الحرية تقصي العشوائية، أو على تشبيه الحرية على نحو مقنع بالقوة المألوفة التي تمتلكها العِصِي والأحجار. في حقيقة الأمر، إطلاق مصطلح مشترك على كلٍّ منهما، على الحرية والسببية العادية، لا يفعل شيئًا سوى تذكيرنا بالاختلافات الكبيرة بين هذين النوعين من القوة. لماذا إذن الإصرار على كون الحرية قوة سببية من الأساس؟ وإذا لم نحصل على سبب مقنع للتفكير بصورة مغايرة، ينبغي أن نفترض أن الحرية نوع آخر من القوة السببية، ولكن مع ملاحظة كنهها الحقيقي؛ قوة من نوع جديد ومختلف تمامًا.
(٤) الحرية الليبرتارية دون اختزال
نستنتج إذن أن الحرية ليست قوة سببية. إن ممارستي المبدئية للسيطرة على أفعالي — على سبيل المثال، على قرار أتخذه — لا تتضمن أن يحدث الفعل كتأثير، سواء من دوافعي أو من نفسي كفاعل-مسبب.
ولكن إذا لم تكن الحرية قوة سببية، فما هي العلاقة بين الفاعل وأفعاله الحرة؛ الأفعال التي يتحكم بها؟ إن الشكل الذي يجب أن تكون عليه العلاقة واضحٌ. فعندما أؤدي فعلًا إراديًّا ما بحرية — عندما أقرر أن أخرج بدلًا من البقاء داخل المنزل — لن يكون القرار تأثيرًا نابعًا مني. وكذلك لن يكون تأثيرًا لأي قوة أمتلكها. إن قراري يسبقُ سيطرتي أو حريتي، ليس كتأثير لها، ولكن كوسيلة أو وسيط لها. إنني لا أمارس حريتي من أجل أن أسبب قراري، بل إنني أمارسها في اتخاذ القرار ذاته. وهذا القرار هو ما يشكِّل مباشرةً ممارستي لسيطرتي.
سأعرض فيما يلي تشبيهًا لهذا الأمر. فكِّرْ على سبيل المثال في أنني الدائن الذي يمتلك القدرة على إعفائك من دينك لي. عندما أعلن وأقول: «إني أعفيك من الدين»، فإني لا أمارس قدرتي على إعفائك من الدين لأتسبب في هذا الإعلان؛ إذ إن هذا الإعلان لم يقع بوصفه تأثيرًا أحدثته قدرتي على إعفائك من الدين، ولكنه يشكِّل ممارسة لهذه القدرة. إن الإعلان هو الوسيلة التي من خلالها تتم ممارسة هذه القدرة. وكذلك الحال مع الفعل وممارسة الحرية، فالفعل هو الوسيلة أو الوسيط الذي نمارس من خلاله الحرية، لا تأثيرها.
يتبع هذا أن الأفعال الحرة في مفهوم الليبرتارية تكون غير محددة سببيًّا، وقد تفتقد إلى المسببات تمامًا. ولكن ألا يعود بنا هذا إلى مشكلة العشوائية مرة أخرى؟ إذا كانت الأفعال التي يزعم الليبرتاريون أنها أفعال حرة تفتقد إلى أي تحديد سببي، ألا يجعلها هذا عشوائية؟ ألا تحدث بمحض الصدفة؟ لا! إذ إنه لا توجد أي احتمالات لقيام الليبرتارية بتحويل الحرية إلى عشوائية إلا إذا كانت تقول — من باب السخف — إن ممارسة الحرية «لا تعدو أن تكون مجرد» وقوع الأفعال غير محددة سببيًّا. فالعشوائية، كما قلنا من قبل، هي ما تحصل عليه من عدم التحديد السببي و«لا شيء آخر».
إن الفعل الحر في مفهوم الليبرتارية يجب بطبيعته أن يكون فعلًا غير محدد سببيًّا، وعلى ذلك سيكتنف هذا الفعل الصدفة. قبل اختيار الفاعل، يجب أن تكون كيفية ممارسة الفاعل لحريته غير محددة سببيًّا، ومن ثَمَّ تكون نتاجًا للصدفة في هذا السياق. ولكن لا يتسق هذا الأمر مع استمرار ممارسة الحرية؛ إذ إن ممارسة الحرية الأصيلة لا تنتهي إلا عندما لا يوجد أي شيء سوى الصدفة — إذا كان هناك حدث غير محدد سببيًّا ولا شيء آخر — بحيث لا توجد أي قوة مطلقًا تتحكم في وقوع الحدث.
ولكن الليبرتارية لا علاقة لها بادِّعاء أن ممارسة الحرية لا تزيد عن مجرد الصدفة؛ لا تزيد عن وقوع فعل غير محدد سببيًّا؛ لأن هذا الأمر خاطئ بشكل واضح. فالليبرتاريون يُجْمِعون على الزعم أن غياب التحديد السببي «شرط» لممارسة الحرية. إن قراءة هذا الشرط اللاتوافقي للحرية بوصفه تحديدًا شاملًا لكل ما تكتنفه الحرية أمر لا مبرر له تمامًا. إنه فرض لتأويل اختزالي للِّيبرتارية لا مُسوِّغ له. إنه قراءة لليبرتارية باعتبارها محاولة لفعل ما يحاول التوافقيون المؤمنون بأفكار هوبز القيام به: بعبارة أخرى، هو تفسير اختزالي لكل ما تمثله الحرية. ولا يوجد سبب لالتزام الليبرتاريين بالقيام بهذا الأمر.
سيكون غباءً من الليبرتاريين أن يقوموا بهذا الاختزال بأي حال من الأحوال؛ حيث إنه لا يتسق مع سمة جوهرية في مبادئ أخلاق المنطق السليم؛ فهو لا يتسق مع المغزى الأخلاقي الذي يمنحه المنطق السليم للحرية فيما يتعلق بالمسئولية الأخلاقية. وكما رأينا من قبل، يحتكم المنطق السليم إلى الحرية — إلى سيطرتنا على طريقة تصرفنا — لتفسير كيف أننا نتحمل المسئولية المباشرة إزاء تصرفاتنا، وليس إزاء معتقداتنا ورغباتنا التي تعترينا دون تفكير. إن تفسير المنطق السليم للحرية مقنع ومفهوم. وهذا تفسير جوهري للأمر؛ إذ إن التفسير هو أننا نتحمل المسئولية المباشرة عن أفعالنا وليس عن معتقداتنا أو رغباتنا لأن أفعالنا فقط هي ما نتحكم فيه.
وأي وصف للحرية يتسق ومفهومَنا العاديَّ يجب أن يسمح ببقاء هذا التفسير بوصفه، على الأقل، تفسيرًا مقنعًا. وسواء اعتقدنا أن التفسير الذي نتناوله حقيقة أم غير حقيقة، يجب أن تستمر إمكانية طرحه. لماذا نكون مسئولين مسئولية مباشرة عن أفعالنا غير المحددة سببيًّا، وليس عن رغباتنا غير المحددة سببيًّا، مثلًا؟ إن التفسير الواضح والفوري هو أننا قادرون على السيطرة المباشرة على أفعالنا، في حين لا يمكننا السيطرة مباشرةً على رغباتنا، حتى رغباتنا غير المحددة سببيًّا. ولكن كي يظل هذا التفسير قائمًا، يُستحسن أن يتعلق بالحرية أكثر من مجرد التحديد السببي للفعل. وإلا فإن كل ما سيئول إليه التفسير هو أنه يمكننا أن نكون مسئولين مسئولية مباشرة عن أفعالنا غير المحددة وليس عن رغباتنا غير المحددة؛ لأن أفعالنا غير المحددة هي أفعال. ومن خلال اختزال الحرية إلى مجرد غياب التحديد السببي للأفعال، فإن ما كان تفسيرًا مفهومًا لتقييد المسئولية الأخلاقية بالفعل سيتبدد إلى غياب تام للتفسير.
يمكن استخدام الحجة ذاتها للاعتراض على اختزال توافقي مألوف آخر للحرية؛ هذه المرة ليس الاختزال الذي يؤيده التوافقيون الطبيعيون، بل هو اختزال مختلف يؤيده التوافقيون العقلانيون؛ وهو مطابقة الحرية بالتفكير العملي. إن العقلانيين يحاولون أن يختزلوا الحرية إلى ما لا يعدو كونها مجرد قدرة على التصرف بشكل عقلاني. وينبغي أن يتضح الآن ما يعيب اختزال الحرية إلى شيء آخر. فنحن نمارس التفكير، ليس فقط بشكل عملي من خلال كيفية تصرفنا، بل وبشكل غير عملي أيضًا في التشكيل، السابق لأفعالنا، للمعتقدات والرغبات التي تعترينا دون تفكير. ويمكننا أن نسأل، باعتبارنا كائنات عقلانية، عن سبب مسئوليتنا المباشرة عن أفعالنا لا عن هذه المعتقدات والرغبات التي تعترينا دون تفكير. تحتكم إجابة المنطق السليم مرة أخرى إلى الحرية؛ فنحن نسيطر مباشرةً على تلك الممارسات للعقلانية التي تشكِّل أفعالنا، لا تلك التي تكوِّن معتقداتنا ورغباتنا. ولكن مرة أخرى، كي ينجح هذا التفسير، ينبغي أن تشتمل الحرية على أكثر من مجرد قدرتنا على العقلانية التي تتخذ صورة الفعل. وإلا فإن كل ما سيبقى لنا هو فكرة أننا مسئولون عن أفعالنا بسبب أنها أفعال، الأمر الذي لا يعدُّ تفسيرًا على الإطلاق.
ولا شك في أن الحرية تشتمل على ما هو أكثر من مجرد العقلانية العملية، وجميعنا يعرف ماهيتها؛ إنها السمة المميِّزة المتمثلة في أيلولة أفعالنا إلينا؛ تمتُّعنا بالسيطرة عليها. ومثل الأمور الكثيرة جدًّا الأخرى في رؤيتنا للعقل — مثل كونه واعيًا، يفهم شيئًا، عقلانيًّا في حد ذاته — لا يمكننا أن نحدد بشكل وافٍ جميع ما تكتنفه هذه السيطرة، أو بتعبير آخر جميع ما تتضمنه هذه الأيلولة. إن الحرية ليست مجرد قدرة على التصرف بشكل غير محدد، وليست أيضًا قدرة على التصرف بعقلانية، وليست الحرية نوعًا من القوة السببية. بل إن الحرية ليست قوة سببية على الإطلاق. إن الحرية هي ما هي عليه، بوصفها قوة، لا شيئًا آخر.
(٥) دفاعًا عن الحرية الليبرتارية
إن حجة التشككية التي تعارض تماسك وإمكانية الحرية الليبرتارية أقل قوة بكثير مما ظهرت عليه للوهلة الأولى. في حقيقة الأمر، تبدو الآن أنها تسلم تسليمًا بفرضيات لم تثبت صحتها بعد. وقد أصبح هذا الأمر واضحًا الآن بعدما كشفنا النقاب عن مكان وجود جذور تلك التشككية؛ إذ إن جزءًا من جذورها يكمن في الرسم الكاريكاتوري الذي رسمه هوبز للفعل البشري؛ الرسم الكاريكاتوري الذي يختزل الفعل ليكون مجرد تأثير مفروض علينا بواسطة رغباتنا، والذي ينتزع من التقرير الذاتي البشري اتخاذَ القرار الذي من خلاله تجري ممارسة التقرير الذاتي بشكل رئيسي ومبدئي. وتكمن أيضًا في الانتزاع الدوجماتي للحرية المنكَرة ذاتها من البداية، سواء من العالم أو حتى من خبرتنا وفهمنا للعالم.
إن هجوم التشككية لا يرقى إلا إلى مرتبة عزم دوجماتي لوصف العالم من منطلق يقصي الحرية بوصفها سمة مميزة للحياة البشرية؛ إذ يفترض التشككيون أن العالم لا يمكن أن يحتوي على أية قوة سوى السببية، وأن أي حدث لم يتم تحديده سببيًّا بأحداث مسبقة سيكون عشوائيًّا. ولكن إن أصررنا على وصف العالم من هذا المنطلق دون سواه، فلا شك أنه سيبدو أن الحرية الليبرتارية غير ممكنة التحقيق ولا ممكنة الوجود. ولكن بأي حق قمنا باستبعاد هذه الحرية منذ البداية؟
لا توجد أي حجة تشككية مقنعة تظهر لنا أن الحرية الليبرتارية مستحيلة التحقيق من حيث المبدأ؛ لا توجد حجة لهذا الاستنتاج لا تسلم بصحة فرضيات لم تثبت صحتها بعد. ولكن هل يوجد بدلًا من هذا حجة تشككية مقنعة تظهر لنا أنه حتى وإن كانت الحرية الليبرتارية ممكنة، فإن امتلاكها والتمتع بها أمر لا يزال مستبعدًا؟ لا! فعلى سبيل المثال، لم يثبت أي شخص حقيقة التحديد السببي. فأية تأثيرات سببية على أفعالنا يمكن اقتفاء أثرها وصولًا إلى رغباتنا، وربما إلى العوامل البيئية أو الجينية، تبدو بشكل عام مجرد تأثيرات. ولم يظهر أي شخص أن عمومية القرارات والأفعال البشرية قد تحددت كليةً بواسطة مثل هذه الأسباب. وإذا كانت هذه الأسباب تؤثر فينا فحسْب دون أن تحدد كيف نتصرف، فستترك لنا متسعًا كافيًا من الحرية. مثل هذه التأثيرات من شأنها أحيانًا أن تقلل أو تقيد سيطرتنا على ما نفعل، ولكن لا حاجة بها لأن تقصيها تمامًا.
هل نمتلك أي أدلة مباشرة على أننا أحرار بالمفهوم الليبرتاري؟ سيدَّعي التشككيون أننا لا نمتلك أيًّا منها؛ إذ سيدَّعون أن القوة الوحيدة التي خَبَرناها بشكل مباشر هي القوة السببية العادية، أو غيابها. ومن المنطقي جدًّا أنه لا خبرة السببية العادية ولا مجرد غيابها يكفيان لتشكيل خبرة ما يفهمه الليبرتاريون على أنه حرية. لا شك في أنه إذا كان التشككيون مُحقِّين بشأن هذا الأمر، فسيبقى لدينا في أفضل الأحوال خيارُ كانط. ولن تكون حريتنا موضوعًا للخبرة على الإطلاق، ولكنها شيء نفترض وجوده لأسباب أخرى، ربما أسباب أضعف حجة.
ولكن بأي حق تم الافتراض أننا لا نمتلك أية خبرة أو وعي مباشر بحريتنا؟ في حقيقة الأمر، من باب المفارقة، مثلما يسعى التشككيون حيال الحرية إلى استبعادها من أيٍّ من خبراتنا، حاول آخرون المثلَ فيما يتعلق بالسببية. إن السببية هي بالطبع القوة التي افترضها البعض في وقت مبكر؛ مثل التوافقيين والمؤيدين لسببية الفاعل، لتفسير كنْهِ الحرية. السببية هي القوة التي كان بعض الفلاسفة يأملون في استخدامها كوسيلة ليتمكنوا من جعل الحرية جزءًا من الطبيعة. فإذا تمكنوا من إثبات أن الحرية نوع من السببية، كما كانوا يأملون، فإن هذا سيجعل من الحرية جزءًا مألوفًا تمامًا من الطبيعة بصورتها الأكبر. ولكنَّ هناك فيلسوفًا واحدًا — ديفيد هيوم — حاول أن يستبعد السببية أيضًا من خبراتنا، وبالطريقة نفسها التي يرغب فيها التشككيون في استبعاد الحرية.
اعتقد هيوم أن القوة السببية كانت مخفية عنا مثلما يفترض التشككيون بشأن الحرية الليبرتارية. واعتقد أن خبراتنا لا تمثل السببية لنا. فعند هيوم، كل ما نمتلك خبرة أو وعيًا مباشرًا به هو الأمور الاعتيادية في الطبيعة؛ نوع واحد من الشيء، مثل إشعال النار، الذي عادة ما يتْبعه نوع من شيء آخر، الماء يغلي على النار. ولا نمتلك أبدًا وعيًا مباشرًا بأي شيء آخر، قوة سببية، كسمة أخرى في العالم يربط تلك الأمور الاعتيادية.
مثل هذه المحاولات لاستبعاد تمثيل أمور على غرار الحرية والسببية من خبراتنا هي إشكالية كما هو معروف عنها. إلى أي مدًى نرغب في الاستمرار على هذا الطريق؟ يمكننا في وقت قريب أن نختزل محتوى الخبرات البصرية، إلى ما لا يزيد عن مجرد عرض لمجموعة من الأسطح المختلفة الألوان. لا شك في أنه من الواضح، كما ستسوق الحجة، أن كل ما نراه بشكل مباشر ما هو إلا مناطق ملونة. أما البقية، العالم المكوَّن من الأغراض المادية الجامدة، فأمر لا تمثله الخبرة البصرية بشكل مباشر، بل إنه أمر علينا أن نستنتجه. إن الإيمان بالعالم المادي الجامد أمر يتجاوز كثيرًا ما تكشفه الخبرة ذاتها.
ليست هذه رؤية جذابة للخبرة. ولكن كيف يمكن مقاومتها؟ أعتقد أن الطريقة الوحيدة هي الاحتكام إلى الإرشاد الذي تقدمه الخبرة فعليًّا إلى معتقداتنا. فإذا كانت الخبرات ترشد معتقداتنا على نحو معتاد وطبيعي بشأن ما إن كان هناك شيء من الأشياء أم لا ومتى يمكن العثور عليه، فإن الخبرة يجب أن تمثل هذا الشيء وموقفه بالنسبة لنا. فكيف يمكن أن نحدد ما تمثله الخبرة عن العالم، إذا لم يكن من خلال الإشارة لتأثيرها الطبيعي على معتقداتنا عما يحتويه العالم؟
لذا فإن الخبرة تقودنا إلى الاعتقاد بشكل معتاد وطبيعي في عالم مكوَّن من أغراض جامدة؛ أغراض تمارس مختلف أنواع القوة السببية وتخضع لها. إن الخبرة تقودنا إلى الإيمان بعالم مكوَّن من أغراض على غرار العِصِي والحجارة؛ أغراض تتمتع بالقدرة على الاصطدام مع أغراض أخرى وإتلافها وتدميرها. إذن هذا هو العالم الذي تمثله الخبرة؛ ليس عالمًا مكوَّنًا من أمور اعتيادية غير متصلة بالسببية، بل مجرد عالم مكوَّن من أشكال ملونة.
بالمثل، تقودنا الخبرة بشكل معتاد وطبيعي إلى تكوين معتقداتنا عن حريتنا؛ إذ تقودنا إلى الاعتقاد بأننا نمتلك درجات متفاوتة من السيطرة على كيفية تصرفنا؛ أحيانًا ما تكون هذه السيطرة حاضرة، وأحيانًا ما تضمحل أو تكون غائبة تمامًا. إن الخبرة تقودنا إلى تكوين معتقدات ليس فقط عن القوى السببية للأغراض، بل أيضًا عن القوة غير السببية التي هي حريتنا. لذا فإن الحرية، مثل السببية، هي أمر تمثله الخبرة. وإذا لم تكن الخبرة دليلًا أكيدًا في حالة الحرية، ولم تكن كذلك في تعبيرها عن القوة السببية — لكن لا يُظهر هذا أن الحرية لا تمثلها الخبرة بأي حال أكثر من إظهاره أن السببية لا تمثلها الخبرة — إذا كنا لا نزال نكتسب المعرفة عن القوة السببية من خلال الاتِّكال على تمثيلها الأكيد من قِبَل الخبرة، إذن، يمكننا كذلك اكتساب المعرفة عن الحرية غير السببية أيضًا، وبالطريقة ذاتها.
عند الجدال عبر الهاتف مع زميل ساخط صعب المراس، فإني أرفع صوتي، وأتعمد الحديث بطريقة جارحة تتعالى حدتها؛ ثم، وبزيادة غضبي، أنهي الجدل بإهانة شديدة مقصودة وأضع سماعة الهاتف بمنتهى العنف. أشعر بنفسي وأنا أقوم بكل هذه الأفعال؛ وأشعر بأن سيطرتي على ما أفعل تقل تدريجيًّا أثناء قيامي بهذا. قد أشعر بأني «أفقد السيطرة». وبينما أمُرُّ بخبرة أفعالي، أشعر بأن غضبي هو الذي يحدد أسلوب تصرفي بوتيرة متزايدة، وليس أنا. من يمكنه أن يقول إن خبرتي بفاعليتي لا تمثل كل ما حدث لي؟ إن خبرتي هي تلك الخبرة التي تقود الأشخاص الذين يمرون بها إلى الاعتقاد بأنهم يفقدون السيطرة. إنها الخبرة التي نقول عنها إنها «الشعور بأن المرء يفقد السيطرة».
إننا نتشارك في فكرة منتشرة عن الحرية؛ الحرية أو السيطرة على ما نفعل كما نفهمها بشكل طبيعي من منطلق ليبرتاري. إنها فكرة تمثل عنصرًا كبيرًا وحيويًّا في خبرتنا عن أنفسنا وعن العالم وهي فكرة مختلفة تمامًا عن القوة السببية. لذا لماذا نحاول تحويل قوة إلى قوة أخرى؟ ولماذا نتشكك اختياريًّا في قوة دون القوة الأخرى؟
على العكس من السببية، تبدو الحرية مقصورة على البشر، أو على البشر والحيوانات العليا على الأكثر. إن الحرية تختلف عن أي شيء آخر موجود خارج العقل في الطبيعة بصورتها الأكبر. ولكن ينطبق هذا الأمر نفسه على الكثير من سمات العقل أيضًا؛ مثل وعينا ومنطقيتنا وقدرتنا على الفهم. ولكن هذه الأمور كافةً — السيطرة على ما نفعل، وتمتُّعنا بالوعي، وفهمنا للأشياء — ما هي إلا أوجه من أنفسنا نعيها بشكل مباشر، كما ندرك ونعي أي شيء آخر. إن الحرية البشرية ظاهرة على قدرٍ من التعقد والتميز تماثل أيًّا من سمات عقليتنا تلك. ولكنها ليست أقل جدارة بإيماننا من أيٍّ من هذه السمات الأخرى؛ الإيمان بأننا غير قادرين على التخلي عنها بأي حال من الأحوال. يمكننا إلى حد ما أن نتخلى عن قناعتنا اليومية بأن كثيرًا من أفعالنا تئول إلينا لنقرر القيام بها من عدم القيام بها، ولكن سيصعب التخلي عن الإيمان بقدرتنا على التفكير أو الفهم. ولا يوجد أي شيء حتى الآن يمكنه أن يُثبت أن هذه القناعة أو غيرها من المعتقدات المصاحبة لها غير ممكنة أو خاطئة.