علاقة مصر ببلاد كوش منذ العهد الساوي حتى الفتح الفارسي
(١) مقدمة
كانت بلاد النوبة منذ أقدم العهود مرتبطة بمصر ارتباطًا وثيقًا في معظم العصور، غير أن هذا الارتباط كانت تنحل عراه بعض الشيء في عهد الثورات التي كانت تشب في مصر من وقت إلى آخر، وقد ظلت الحال كذلك حتى عهد الأسرة الخامسة والعشرين، حين غزا الكوشيون مصر واستولوا عليها جملة، وظلوا يحكمونها حوالي قرن من الزمان إلى أن أجلاهم «بسمتيك الأول» عنها تمامًا حوالي عام ٦٥٥ق.م، وذلك حينما استولى على إقليم طيبة، وطرد آخر كوشي منها؛ ومنذ ذلك العهد بقيت دولة الفراعنة في «سايس» وفي «نباتا» منفصلتين بعضهما عن بعض. ويتساءل المرء الآن كيف يمكن تصوير العلاقات التي كانت بين الدولتين؟
وتدل شواهد الأحوال على أن الكوشيين لم يحاولوا الاستيلاء على مصر كرة أخرى، بل وجهوا كل اهتمامهم إلى الجنوب؛ إذ الواقع أن آمالهم كانت تتجه إلى الأرض السودانية الخصبة؛ ولا غرابة في ذلك فقد كانت المستعمرة المصرية القديمة لفراعنة مصر التي طالما أغدقت عليهم الخيرات العميمة، وذلك على عكس الأراضي القاحلة التي كانت تخترقها الشلالات في أعلى «وادي حلفا»، والشريط الطويل الضيق من الأرض المعروف باسم بلاد «النوبة السفلى»، التي تفصل مصر عن السودان. ولا بد أن نتعرف أولًا على الذكريات التاريخية التي ربطت مصر ببلاد كوش، والواقع أن الهزائم المستمرة التي تحملها القوم في مصر تساعدنا في الوصول إلى ذلك.
ومن جهة أخرى نعرف أنه لا «بسمتيك الأول» ولا ابنه وخليفته «نيكاو» قد تعدى سلطانهما حصن الحدود الجنوبية عند الفنتين؛ أي جهة الشلال الأول. على أن قيام حملة مصرية على بلاد الجنوب كان يقف في وجهها الضغط الكامن، الذي كان يتهددها من الشمال الشرقي، ويمنع ملوكها الساويين من أي عمل حربي في الجنوب؛ وذلك لأن الأحوال في آسيا الصغرى كانت دائمًا تدعو إلى الخوف والقلق، إذ كان يتوقع في كل لحظة أن يقوم جيش بلاد الشمال الشرقي كله بهجوم على مصر كما رأينا من قبل.
ولا شك في أن مصر كانت قبل كل شيء في حاجة إلى المحاصيل السودانية، وبخاصة ذهب جبال بلاد النوبة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى كانت بلاد النوبة الفقيرة في المحاصيل الزراعية في حاجة إلى استيرادها، ولو بكمية قليلة من مصر بعد أن استقلت عنها. وقد كانت تقف في وجه العلاقات التجارية على أية حال بين البلدين الشلالات التي كان لا يمكن اختراقها إلا في زمن الفيضان. وقد كان يزيد في هذه الصعوبات الطبيعية قبائل بلاد النوبة السفلى، الذين جبلوا على السلب والنهب، هذا وكانت السياسة الساوية متجهة نحو الشمال في حين كانت سياسة مملكة «نياتا» من جهة أخرى متجهة نحو الجنوب باستمرار، ومن ثم أصبحت العلاقات بين المملكتين تتناقص شيئًا فشيئًا، غير أنه حدث تغير في الموقف في عهد «بسمتيك الثاني»، كما سنرى بعد.
ويفهم من هذه الأعداد أن الجنود الذين ذكرتهم كانوا ذاهبين لمحاربة بلاد كوش، أو لإخضاع بعض القبائل في بلاد النوبة السفلى، غير أن هذا العدد كان قليلًا لا يكفي لذلك. وتدل شواهد الأحوال على أن هؤلاء الجنود كانوا في حراسة قافلة تجارية، وبخاصة لأنه كان معهم كتاب. على أن وجود مثل هذا الحرس من الجنود يدل على أن هذه القوافل كان من الضروري حمايتها من اللصوص، حتى تصل إلى مملكة «نباتا».
وهكذا نرى أنه من أول عهد الملك «بسمتيك الأول» إلى عهد «أحمس الثاني» كانت معلوماتنا لا تزال قليلة، من حيث المتون التي في متناولنا الدالة على العلاقات التي بين مصر وبلاد كوش. ولا نزاع في أن العلاقات السياسية بين المملكتين لم تقم بأي دور قط، ومن ثم بقيت الأحوال كذلك حتى ظهر «قمبيز» الفارسي في مصر عام ٥٢٥ق.م.
وسنحاول فيما يأتي أن نتحدث عن الملوك الذين حكموا بلاد كوش، من بداية الأسرة السادسة والعشرين؛ أي منذ خروج الكوشيين من مصر نهائيًّا على يد الملك «بسمتيك الأول»، وانزواء ملوكهم في نباتا عاصمة ملكهم في الجنوب، إلى أن جاء «قمبيز»، واستولى على الديار المصرية ثم غزا بلاد كوش وأخضعها لسلطانه أيضًا. وسنحاول جاهدين في هذا الباب ذكر كل ما وصل إلينا عن هؤلاء الملوك وما تركوه من آثار باقية في بلادهم.
وعلى الرغم من أن ملوك كوش قد قصروا همهم على تنمية موارد بلادهم والانزواء فيها، وبعدهم عن العالم الخارجي حتى الفتح الفارسي، فإنهم كانوا يلقبون أنفسهم بالألقاب الفرعونية، ويدعون ملك مصر حتى نهاية دولتهم، وحتى بعد أن هزمهم بسمتيك الثاني كما سنرى بعد.
وعلى الرغم من أن قائمة الملوك التي وضعها الأستاذ ريزنر، هي الأساس الذي يسير عليه علماء الآثار عند التحدث عن ملوك كوش، فإنه توجد نقاط يكنفها الغموض والإبهام، ولا أدل على ذلك من أن الملك الذي حاربه الملك بسمتيك الثاني وصده عن بلاده هو الملك «اسبالتا»، على حسب التاريخ الذي وضعه «ريزنر» لم يذكر لنا أي شيء عن هذه الحروب التي نشبت بينه وبين مصر، وكان الفوز فيها للجانب المصري كما حدثتنا النقوش المصرية التي عثر عليها حديثًا. يضاف إلى ذلك أن بسمتيك الثاني لم يذكر لنا اسم الملك الكوشي الذي حاربه، ومن أجل ذلك أفردنا فصلًا خاصًّا لهذه الحروب، وتناولنا فيه العلاقات بين الدولتين بشيء من التفصيل بقدر ما وصلت إليه معلوماتنا. ثم أتبعناه بفصل آخر عن ملوك كوش حتى بداية العهد الفارسي.
(٢) محاولة ملوك كوش غزو مصر في عهد بسمتيك الثاني
لقد ظلت معلوماتنا عن العلاقات بين ملوك كوش ومصر بعد ارتدادهم إلى «نباتا» في عهد الملك «تانوت آمون» غامضة مبهمة إلى عهد قريب جدًّا، ويرجع السبب في ذلك بوجه عام إلى قلة المصادر، وقد ظلت الحال كذلك إلى أن جادت علينا الكشوف الحديثة ببعض الوثائق التي تكشف عن شيء قليل في علاقة البلدين الواحدة مع الأخرى، وأهم الوثائق التي وصلت إلينا في هذا الصدد اللوحات، التي تحدثنا بعض الشيء عن الحملة التي قام بها «بسمتيك الثاني» حوالي عام ٥٩١ق.م لدرء الخطر الذي كان يهدد البلاد المصرية من ناحية ملوك «نباتا»؛ وعلى الرغم من أن هذه الوثائق قد وصلت إلينا مهشمة، فإن درسها وتحليل ما جاء فيها يضع أمامنا صورة لا بأس بها عن الروابط التي كانت بين البلدين في كثير من الوجوه. وسنتحدث هنا عن هذه الحملة بشيء من التفصيل.
(٢-١) الملك «بسمتيك الثاني»
(أ) لوحة الكرنك
أول لوحة عثر عليها خاصة بانتصار المصريين على الكوشيين في حملة عام ٥٩١ق.م هي لوحة الكرنك كما ذكرنا آنفًا، وقد وصلت إلينا في حالة سيئة جدًّا. وتبتدئ اللوحة بذكر ألقاب «بسمتيك الثاني» كاملة، ومن المحتمل أنها كانت مسبوقة بتاريخ كتابتها، ويأتي بعد ذلك النعت «محبوب» «آمون رع» رب عروش الأرضين المسيطر على «أبت-سوت» (الكرنك)، و«منتو» سيد «طيبة»، يلي ذلك مديح قصير: … الإله الكامل … وأخيرًا نجد عبارة خاصة بالأقواس التسعة. والجملة التي تلي ذلك تقدم لنا شيئًا عن نشاط الفرعون عند بداية البيان عن الحملة: «وهكذا كان جلالته قائمًا بالتنزه على بحيرة … «نفر اب رع» (بسمتيك الثاني) عندما …»
والجمل الباقية من العمود الرابع تقدم لنا على ما يظهر بعض تفاصيل عن الأعمال التي كان يقوم بها حينذاك «بسمتيك»، فتحدثنا عن: «شجرات الجميز الشرقية، وكان يسلي قلبه وهو داخل للتأمل.» وهذه العبارات على الرغم من عدم تماسكها؛ بسبب تهشيم المتن ربما كانت تشير إلى شجر الجميز الذي كان يزين حافة البحيرة التي كان يتنزه فيها. ومن المحتمل أنه لما كان «بسمتيك الثاني» مشغول البال بمصير جيشه الذي سيره نحو الجنوب، وبقي هو في مصر كما ستحدثنا عن ذلك لوحة «تانيس» ونقوش «أبو سمبل» الكبيرة كان في حاجة إلى أن يرفه عن نفسه بنزهة خلوية (؟) وفي أثناء ذلك على ما يظهر وصل الرسول مبشرًا جلالته بظفر جيشه، كما تشير إلى ذلك نهاية السطر الرابع من المتن، ومن السطر الخامس يعلم (في الواقع) الملك النتيجة السارة عن عمليات جيشه الحربية؛ لأن ما تبقى من المتن يقول: إن جيش جلالتك الذي أرسلته على بلاد النوبة، قد وصل إلى إقليم «بنوبس» (سليمًا) (؟) وبدون خسارة (؟) وهذه الفقرة في متن الكرنك، وهي التي بوساطتها نعلم أن «بنوبس» تعد مرحلة هامة في العمليات الحربية التي قام بها جيش «بسمتيك». وهذه المدينة المخصصة لعبادة إله الدولة «آمون» ولعبادة الإله «أوزير»، وهو الإله الآخر العظيم في بلاد كوش تظهر في الواقع في الوثائق الخاصة بملوك «نباتا»، بوصفها أقصى بلدة في الشمال بالنسبة للعواصم الكوشية الأربع العظيمة. على أن مجرد العلم بأن الجيش المصري قد وصل في زحفه إلى ضواحي هذه المدينة، يقرر بوضوح أن حرب عام ٥٩١ق.م كان قد وجه إلى المملكة الفرعونية السودانية، وكان هدفها الأقاليم الخاضعة لسلطان ملك السودان. وتدل الوثائق التي فحصت في هذا الصدد على أن «بنوبس»، تقع في إقليم «الشلال الثالث» وتقع على ما يظهر مكان جزيرة «أرجو». وعلى ذلك يكون الجيش المصري قد وصل إلى البلاد الثرية جدًّا التي تؤلف الجزء الشمالي من مديرية «دنقلة»، وذلك بعد أن اجتاز بنجاح العقبات الطبيعية، التي صادفته منذ دخوله الشلال الثاني حتى الخروج من الشلال الثالث.
ولا نعلم مما بقي من السطر السادس من هذا المتن، إذا كان ما جاء فيه هو استمرار للأخبار التي حملت لجلالته، أو أنه يقدم لنا بيانًا مستقلًّا عن العمليات الحربية، فقد جاء فيه: «كل بلدة أجنبية نحوه (= ضده) وقلوبهم كانت مفعمة بالشجاعة. وعندما علم أنه قد هزم (؟) …» والظاهر هنا على أية حال أن المتن يشير إلى الجنود المرتزقة من إغريق وكاريين وساميين، وهم الذين كانوا مشتركين في الحملة بقيادة «بوتاسمتو». وقد نقش بعضهم أسماءهم على تمثالي معبد «أبو سمبل».
ومما تبقى من السطر السابع وهو: «يجعل الأعداء … دون أن يشد واحد منهم عن قوسه عليهم لأجل …» قد يجوز أنه يعني أن المصريين قد داهموا عدوهم قبل أن يستعد لمحاربتهم، وعلى ذلك يمكن أن نكمل المتن بما يأتي: «هزم العدو دون أن يكون في مقدور واحد منهم أن يركب سهمه ليفوقه.»
وما بقي من المتن في الأسطر الباقية نفهم منه بصورة مبهمة أن العدو قد أسر، وبعد ذلك ينتهي البيان عن الحملة، ثم يأتي تقديم القربان شكرًا للإله على نجاح الحملة. هذا ما أمكن استخلاصه من هذه اللوحة مع كل تحفظ.
(ب) لوحة «تانيس»
هذه اللوحة محفوظة أحسن من السابقة نسبيًّا، وتقدم لنا بعض تفاصيل تخول لنا أن نستنبط منها أن الحملة التي أرسلت إلى بلاد النوبة في السنة الثالثة من حكم «بسمتيك الثاني»، كانت موجهة فعلًا إلى مملكة «نباتا»، وأنها أوغلت على ما يحتمل إلى مسافة بعيدة في الجنوب.
وصف اللوحة
الترجمة
- ألقاب الملك: حور ممتاز القلب (منخ اب) سيد التاجين (وسر رع). حور الذهبي (سنفر تاوي الملك «نفر اب رع») ابن رع بسمتيك عائشًا أبديًّا وسرمديًّا (؟) (٢) محبوب «آمون، (رع)» سيد (عروش الأرضين) (؟) سيد اﻟ … «لموت» و«خنسو» و«منتو» سيد «طيبة»، («حتحور» القاطنة في) إقليم «رع نفر»، والتاسوع الموجود في مروج (٣) (سايس معطى) الحياة والثبات والقوة مثبت في مكان حور الأحياء.
- المقدمة: وهكذا فإن جلالته الذي يحب الإله أكثر من الكل (٣)، أمضى وقته في عمل ما هو مفيد (٤) للآلهة بتجديد معابدهم التي آلت للخراب، وتموين موائد قربانهم وإمداد أدواتهم، وقد عمل له مكافأة على ذلك وهي الشجاعة والقوة.
- حملة السنة الثالثة: ذهب إنسان ليقول لجلالته في السنة الثالثة من تتويجه: إن بلاد النوبيين … تفكر في محاربتك (؟) (٦) وقد جعل جلالته جيشًا يسير تجاه بلاد «شاس»، وإشراف القصر معه. وهاك فإنهم قد وصلوا إلى … وكانت هذه مقر الكور (= الملك) الذي كان فيها، وكذلك إلى مدينة تدعى «تادهن». وعندئذ ذبحهم جيش جلالته ووقعت مذبحة عظيمة بينهم. وهاك فإنهم … الكور (= الملك) الذي كان في … في المقر (؟) التابع ﻟ … وقد ذهب معه … (٩) … هم (يحارب) مع جيش جلالته. وعلى ذلك قتل (١٠) … هم وهاك فقد وجه الكور … الذين عملوا هناك، وقد استولى على أشجارهم (١٢) … صورة (؟) من … (١٣) «بسمتيك» عائشًا أبديًّا معطى الحياة مثل «رع» أبديًّا.
هذا ونعرف من لوحة «تانيس» فضلًا عن ذلك أن أول تصادم وقع بين المصريين والأثيوبيين بالقرب من مدينة هامة، ورد اسمها مهشمًا بعض الشيء، وكذلك بالقرب من بلدة تدعى «تادهن» (ومعناه المرتفع)، وهذا الاسم قد أطلق على أماكن كثيرة في مصر، قد ثبت أنه اسم مدينة سودانية، وتقع بين «نباتا» و«جمأتون»، ويحتمل كثيرًا أنها كانت تحتل مكان «دنقلة العجوز» الحالية، وقد كان على الجيش المصري لأجل أن يهدد العواصم الكبيرة الكوشية، وهي «بريميس» (عمارة شرق) و«بنوبس» و«جمأتون» (الكوة) و«مراوى» (مروى؟) و«نباتا» أن يسير على الشاطئ الأيمن. والواقع أن «دنقلة» هي المدينة الوحيدة الواقعة في الشرق بين الشلال الثالث والرابع، وتقع على مرتفع كبير صخري، وترجع أهميتها إلى دورها القديم الذي لعبته بوصفها عاصمة المديرية، وهذه نظرية مقبولة.
(ﺟ) أهمية الحملة
وإذا أردنا أن نستخلص نتيجة قصوى من الإيضاحات والتفسيرات، التي أوردناها هنا من متون الكرنك و«تانيس» و«أبو سمبل»، فقد يجوز لنا أن نكيف الحوادث التي وقعت في السنة الثالثة من عهد «بسمتيك الثاني» في الصورة التالية، ولكن مع كل تحفظ ممكن، إذ إن ذلك لا يخرج عن نطاق النظريات البحتة:
تدل شواهد الأحوال على أن ملك «كوش» كان يتأهب لمهاجمة «بسمتيك الثاني»، وأن الأخير قد بادره مباشرة بجيش لمهاجمته، وصاحبه بنفسه حتى «الفنتين». وقد تعدت الفرق الحربية التي كان يتألف منها جيش «بسمتيك»، وهي التي كانت تحت إشراف عظماء بلاطه الفنتين، ثم اجتازت الشلال الثاني ثم تابعت السير حتى وصلت إلى إقليم «أرجو»، وذلك إما بعد أن قام الجيش بالسير الشاق إلى بطن الحجر، أو اخترقوا على الأقدام الإقليم المقفر الذي يحاذي النهر في هذا الجزء من مجراه. والظاهر أنه كان قد نال نصرًا مبينًا على ملك كوش في سهل «دنقلة»، ثم واصل سيره نحو «نباتا». ومن المحتمل أن هذا الجيش قد اجتاز هذه العاصمة بمسافة، وخرب بلاد العدو ثم عاد إلى مصر حاملًا الغنائم الكثيرة وسائقًا أمامه الأسرى. ومن المحتمل أن بعض الجنود الإغريق قد أوغلوا في سيرهم إلى أعالي النهر حتى الشلال الخامس، وعند عودتهم تركوا في طريقهم ذكرياتهم على آثار «أبو سمبل».
وعلى الرغم من المقارنات التي أمكننا أن نقررها هنا في موضوع الأماكن «شاس» و«تادهن» و«كركبس»، تظهر لنا أنها تتفق كتابة مع فكرة حملة قام بها المصريون على السودان، ولكن لا يمكن أن نخفي أن تحديدنا لمواقع هذه الأماكن لا يزال غير مؤكد، وعلى ذلك يجب أن نكون على حذر من الصورة التي اقترحناها هنا. ولكن على أية حال يمكن قبول هذه النظرية بوصفها مادة للعمل بها وحسب. ومهما يكن من أمر فإنه بقدر ما تسمح به نقوش لوحة الكرنك، نرى أن قراءة اسم «بنوبس» وموقعها يظهر مؤكدًا، وعلى ذلك يمكننا على ما يظهر أن نعترف أن جنود «بسمتيك الثاني» قد وصلوا على أقل تقدير إلى «دنقلة». وعلى أية حال فإن التاريخ الذي اتخذ لبداية تهشيم أسماء ملوك الأسرة الخامسة والعشرين، وكذلك استعمال لفظة «كور» للدلالة على زعيم الأعداء في متن «تانيس»، وأخيرًا ذكر المدينتين التابعتين لمملكة كوش في لوحتي النصر (وهما «بنوبس» و«تادهن»)، يحتم علينا تقريبًا قبول النتيجة التالية: كانت حملة عام ٥٩١ق.م عملًا حربيًّا على مملكة «نباتا» التي غزت ممتلكاتها الجيش المصري.
- أولًا: أن ملوك «نباتا» الذين حكموا مصر سابقًا، أخذوا يعملون على استرجاع ما فقدوه من اسم. والواقع أن ملوك الأسرة الخامسة والعشرين الذين كانوا يعدون أنفسهم ملوكًا شرعيين كانوا يعتبرون في مصر مغتصبين، وأنهم أفراد ارتكبوا جريمة التعدي على سلطان البلاد المصرية، وعلى ذلك فإن ملوك الأسرة الساوية قد محوا ذكرياتهم — وهذا أمر كان لا بد منه لبقائهم في عالم الآخرة — وقد أنكروا في الوقت نفسه حقوق أمراء كوش في شرعيتهم، التي اكتسبوها على عرش مصر، هذا بالإضافة إلى أن المصريين قد هشموا المظاهر الخارجية، التي يمكن أن تذكر أتباعهم في مصر بهذه الحقوق. فهشمت طغراءات «بيعنخي» وأخلافه على آثارهم وآثار المتعبدات الإلهية.٢١ ومن ثم نجد في المعابد أن أسماء ملوك كوش كانت لا تحترم قط، وتهشم كلها إلا أسماء الآلهة، ولم تفلت من يد المهشمين إلا في حالات شاذة.٢٢ وقد كانت الآثار الجنازية والآثار الخاصة، وكذلك الآثار الصغيرة وبصفة عامة كل الآثار التي كانت لا تقع تحت نظر المهشم، مثل النقوش الصخرية وشواهد قبور الحيوان المقدس ولوحات الهبات، كانت كلها في العادة لا تمسها يد المضطهدين، وذلك بسبب أنها كانت محجوبة عن الأنظار بتماثيل قريبة منها أو موضوعة تجاه الجدار، وبذلك فإن الطغراءات التي كانت عليها لا ترى. هذا ونجد أن ألقاب «بسمتيك الثاني»، كانت في كثير من الأحوال تحل محل اسم مهشم من ملوك كوش اللهم إلا في سلسلات النسب كما هو مفهوم.٢٣
- ثانيًا: لوحظ أن على جدران عدة مباني «طيبية» من التي يكون عليها اسم ملوك النوبة مهشمًا أن الصل المزدوج، الذي كان يعد الميزة الخاصة بلباس الرأس عند ملوك كوش كان يكشط أو يصلح ليصير صلًّا واحدًا؛ وذلك ليتحول بهذه الكيفية من صورة ملك كوشى إلى صورة ملك مصري تقليدي، إذ كان ملك مصر لا يلبس إلا صلًّا واحدًا. وهذا التغيير لم ينحصر فقط في الصور التي في المناظر، بل قد شوهد كذلك في لباس رأس تمثال اللك «شبكا» الضخم.٢٤ وأفظع من ذلك ما نجده في كثير من تماثيل الملوك، وعلى بعض المناظر إذ نشاهد أن الصلين قد محيا محوًا تامًّا. وكل هذه الحالات تدل تمامًا على ما كان يرغب فيه «بسمتيك الثاني» من القضاء نهائيًّا على الصفة النوبية لهذه الصور، وكذلك شغفه بأن يمحو في الوقت نفسه أي رمز ظاهر لادعاءات الكوشيين بالملكية المزدوجة؛ أي على مصر والسودان.
- ثالثًا: نجد في الوقت نفسه أنه قد نشأت التقاليد الشعبية التي جعلت من «الكور» (أي: الملك) العدو الأول لمصر ومن كوش شيئًا مستهجنًا، كما كان الإله «ست» إله الشر يوحد بكلمة نوبي.
وهذه الظواهر السلبية كانت قد تضاعفت بدعاية إيجابية تميل إلى إبراز عظمة الانتصار الذي أحرزه «بسمتيك الثاني». وهذا النوع من المظاهر بوساطة النقوش الدالة على الانتصارات والنقوش الخاصة بالمديح، واغتصاب انتصارات أحرزها السلف، وغيرها لم تكن تشاهد إلا قليلًا في عهود الملوك الساويين السالفين؛ ولذلك فإنه يصعب علينا ألا ينسب كثرتها وتنوعها إلى شيء هام. ولا نزاع في أن حربًا على ورثة الأسرة الخامسة والعشرين قد أثارت أمورًا سياسية داخلية بقدر ما أثارت أمورًا سياسية خارجية؛ فقد كان فرعون «سايس» يريد أن يكسب أمام شعبه مكانة من النفوذ الخلقي، الذي نتج عن هذه الانتصارات.
ومن أجل ذلك نجده قد أقام لوحات مبينًا فيها العلاقات المختلفة للحملة، فمنها لوحتا «تانيس» والكرنك، ويحتمل كذلك لوحة الشلال، التي بقي جزؤها الأعلى محفوظًا، وتشبه في توزيع نقوشها توزيع نقوش الآثار الطيبية، فنجد على لوحة الكرنك أن الملك يلقب «محبوب آمون» سيد عروش الأرضين و«مين منتو» سيد «طيبة»، وعلى لوحة «تانيس» نجد أن الإله الأخير يصحب ثالوث «طيبة» في المنظر كما في المتن. ويمكن الإنسان أن يتساءل فيما إذا لم يكن المقصود في هذين الأثرين هو أن يربط «بسمتيك» المظفر بإله «طيبة» الحربي؟
ونجد مواجهًا لبلاد النوبة على الصخور المحيطة بالشلال الأول، وفي «الفنتين» و«كونوسو» و«بيجه» عددًا عظيمًا من الطغراءات وأسماء الأعلام منقوشة باسم الملك «بسمتيك الثاني» مما يشهد — مع عدم وجود طغراءات مماثلة لأسلافه — على أنها كانت قد نقشت في أثناء إقامة هذا الملك في «الفنتين»، أو في أثناء عودة جيشه مظفرًا، وعلى أن عزيمة فاتح بلاد كوش كانت ترمي إلى توطيد سلطانه على الحدود الجنوبية لمصر.
ويصعب على الإنسان أن يتصور أنه حوالي هذا العهد كان في مقدور مصر أن ترسل جيشًا على السودان متحدية مناوشة جارتها الجنوبية عن قصد. والواقع أن الحرب التي شنها «بسمتيك الثاني» في أفريقيا كانت حرب دفاع لا حرب فخار. وعلى ذلك فقد كان من باب أولى أن «كور» (ملك) بلاد كوش رأى أن يفيد من الأحوال الجارية؛ لأجل أن يعيد السياسة الإمبراطورية التي كان يتمتع بها ملوك «نباتا» الأول على مصر. ولا بد أن تجهيزاته الحربية كانت قد أقضت مضجع حكومة «سايس». وقد كان غرض حكومة «سايس» أن تعمل على اختفاء ذكرى الأسرة، التي كانت ذكراها يمكن أن تجد لها مبررًا في أعين الذين كان رأيهم يميل مع فراعنة الجنوب ذوي المطامح الطاغية على مصر. ولم يكن على ما يظهر لدى ملك كوش الوقت ليخطو مسافة بعيدة في مشروعه. فقد كان الجواب المصري عندما أحس استعدادات كوش غاية في السرعة، ولم يلبث أن انتهى بنصر باهر لم يتطلب أكثر من حملة واحدة على ما يظهر. ولم يتجاوز «بسمتيك الثاني» نفسه حدود «الفنتين»، وكان سبب ذلك بلا شك ألا يفقد حلقة الاتصال برسله الذين كانوا يحملون له الأخبار من آسيا. ومنذ أن بدأت الحرب في كوش، أخذ يظهر في فلسطين درءًا للخطر الذي كان يتهدد مصر.
وعلى ذلك فإن الحملة التي قام بها «بسمتيك الثاني» على مملكة «نباتا»، كانت قد حدثت في زمن أزمة سياسية خارجية للأسرة السادسة والعشرين، وهذه السياسة كانت بطبيعة الحال موجهة نحو آسيا بمقتضيات الحوادث. وهذا التحول كان سببه مظهرًا جديدًا يرجع إلى الادعاء بالسيطرة على مصر من قبل ملوك كوش منذ منتصف القرن الثامن ق.م، وقد كان هذا الادعاء لا يزال حيًّا كما يثبت ذلك الصل المزدوج الذي كان يلبسه أخلافهم، حتى بعد أن تقهقروا إلى بلاد النوبة، فقد كانوا لا يزالون يحملونه على جباههم في لباس رأسهم؛ أي إنهم كانوا يعتبرون أنفسهم ملوك مصر والسودان. والصلان يرمزان للبلدين مصر والسودان.