ننتقل الآن إلى بلاد الإغريق نفسها، ولا نزاع في أن جزيرة «كريت» كانت ذات يوم
صاحبة قوة عظيمة فيها، ولكنا نجد إلى ما قبل سقوط «كريت» أقوامًا من الجنس المسمى
«الآخيين» Achean كانوا يهاجرون جنوبًا من
مواطنهم إلى الجزء الشمالي من بلاد الإغريق، وحوالي ١٢٠٠ق.م كانوا قد أصبحوا أقوياء
لدرجة أنهم صاروا أقوى قوم في بحر «إيجة». وكانوا قد تعلموا كثيرًا من المدنية
الكريتية، ولكن أصبحت لهم حياتهم الصالحة الخاصة المميزة بهم، كما كان رؤساؤهم
ومدنهم يتمتعون بثراء وفير وحياة ناعمة. وكانت «ميسيني» تمثل المكانة الأولى من حيث
العظمة والسؤدد، وكان ملكها التقليدي المسمى «أجاممنون» صاحب ثروة ضخمة من الذهب
والفضة والبرنز والعربات والسفن، يعيش في أبهة وترف في قصره المشرف على المدينة
والسهل الذي يقع أسفل منه. وقد أطلق على مدينة هذه البلاد «الحضارة الميسينية» إذ
كان لها طابع خاص بها.
وفي الشمال الشرقي من بحر «إيجة» كانت توجد مدينة أخرى تدعى «طروادة»، وكانت ذات
سور منيع وتقع على «هلسبونت» (الدردنيل) حيث تلتقي أوروبا بآسيا، وكان قوم الآخيين
من البحارة الجسورين الشغوفين بالحصول على منافذ جديدة لمشاريعهم في شرقي بحر إيجة،
وقد سبب طموحهم هذا تصادمهم مع «طروادة»، وفعلًا شبت نار حرب بينهما حوالي ١١٩٠ق.م
ويقال: إنها استمرت مستمرة بينهما نحو عشر سنين. وبعد هذه الحرب أنشد الشعراء
الأناشيد الموقعة على القيثارة تشيد بأعمال الشجاعة العظيمة التي قام بها الرؤساء
من كلا الجانبين، وقد تناقلتها الأجيال وزاد عليها في أثناء انتقالها من جيل إلى
جيل كثير من الأساطير والأعاجيب طغت على ما فيها من حقائق.
ملحمة الألياذة
وتدل البحوث العلمية الحديثة على أن «هومر» لم يؤلف فعلًا كل هاتين
الملحمتين، بل وضع في كتاب واحد كل قصائده، وكذلك قصائد الشعراء الآخرين،
والقصة التي بنى عليها كتابه هي ما يأتي: خطف «باريس» ابن «بريام» ملك «طروادة»
«هيلانة» الجميلة زوج «منلاوس»، الذي كان ملك «أسبرتا» وقتئذ وأخ «أجاممنون».
وعلى الرغم من أن هيلانة قد ذهبت معه عن طيب خاطر، فإن المدن الإغريقية قد
انضمت تحت لواء «أجاممنون» في حملة على «طروادة»، وانتهت بخراب «طروادة» وقتل
أهل «طروادة» في خلال هذه الحرب أو حملوا أسرى، ولم يبقَ إلا قليل بين خرائب
مدينتهم، وقد عاد الإغريق إلى أوطانهم ولواء النصر معقود على رءوسهم.
ويلحظ في القصة كما رواها الشاعر «هومر» أن الآلهة والإلهات قد أخذوا بنصيب
في هذه الحرب، وسنشرح ذلك فيما بعد. والإله الوحيد الذي يعنينا هنا هو الإله
«زيوس» أعظم الآلهة. أما الآلهة الآخرون فنذكر منهم: الإله «أبوللو» إله
الموسيقى والشعر والتنبؤ بالغيب، والإلهة «بلاس أثينا» إلهة الحكمة، والإله
«هرميس» رسول الآلهة إله الحكمة، ويقابل عند المصريين الإله تحوت، ثم الإله
«هفاستيوس» إله الفنون التي تصنع بالنار. ونرى عند فاتحة هذه الملحمة
«أخيل» Achille الذي كان أعظم بطل في
المعسكر الإغريقي في سرادقه، وهو في حالة غضب وتفكير عميق؛ بسبب أن «أجاممنون»
قد اغتصب منه أمة استولى عليها في أثناء الحرب. وقد صاح «أخيل» قائلًا: «لقد
كان ذلك مكافأته مقابل أيام وليالٍ طويلة قضاها ساهرًا يشن الحرب للاستيلاء على
المدن والكنوز التي سلمت كلها إلى «أجاممنون» بوصفه سيده الأعلى». وبذلك لم
يذهب «أخيل» إلى مكان الاجتماع ولا إلى ميدان الحرب، بل أضنى قلبه في التفكير
في مثواه، وكان يتوق عند سماعه صيحة إعلان الحرب والاشتباك في المعركة إلى
منازلة العدو.
وفي تلك الفترة كان كل من الفريقين المتحاربين يأتي بضروب الشجاعة التي لا
تحصى. وكان الآلهة يميلون طورًا إلى هذا الفريق وتارة إلى ذاك، أما الإله
«زيوس» فكان يقبض في يده على كفتي الميزان الذهبي وازنا أقدار الإغريق
والطرواديين. وكان أشجع الشجعان في الجيش الطروادي هو «هكتور» بن الملك
«بريام»، فقد ودع زوجه وابنه الصغير عند مشارف المدينة، ولم يكن في مقدوره أن
يصغي إلى تضرعات زوجه؛ ليبقى معها وعندئذ جاوبها «هكتور» كرة أخرى وعلى رأسه
خوذته البرنزية:
زوجتي العزيزة إن في كلماتك حكمة كثيرة
ولكني إذا أحجمت لحقني العار
أمام نساء «طروادة» اللائي يجررن أذيالهن أمام أزواجهن
لا بل إن روحي فضلًا عن ذلك ليست مكانًا للجبن
إن واجبي أن أقف بمفردي
وأن أسلط أول السيوف الطروادية
نائلًا بذلك فخر والدي وفخري أنا نفسي
ومع ذلك فإنه في أعماق قلبي وروحي يُعرف شيء واحد.
وبعد ذلك مد ذراعيه لابنه الذي أسرع إلى أحضان مربيته منزعجًا من رشية خوذته
المنحنية، ولما رأى «هكتور» ذلك ألقى خوذته جانبًا، وأخذ الطفل بين ذراعيه ودعا
«زيوس» أن يصبح شجاعًا ومنتصرًا أكثر منه نفسه.
وبعد ذلك ضحك والده وأمه بوداعة
ووضع «هكتور» خوذته على الأرض
وكلها تسطع بوضاءة. وأخذ الطفل وقبله
راجيًا «زيوس» وكل الآلهة الذين حوله:
هب يا «زيوس» أن يكون ابني هذا شجاعًا
مثلي وليت شهرته تضيء لامعة
بين الطرواديين وأن تكثر قوته
وعندئذ سيقول الناس: «لقد فاق في القوة
والده.» عندما يعود منتصرًا من الحرب.
وبعد ذلك ذهب لمحاربة الأعداء، وهو يعلم في قرارة نفسه وأعماق روحه أنه
سيقتل، وأن «طروادة» ستسقط في يدو العدو.
قتل «هكتور» خلقًا كثيرًا من الأعداء، ولقد قفز فوق جدار المعسكر الإغريقي،
ونادى رجاله أن يتبعوه وشتت شمل الإغريق حتى ولوا هاربين، وبعد ذلك قتل
«باتروكلوس»
Patroclus أكبر أصدقاء
«أخيل»، وأخيرًا أزكى نار الانتقام في نفس «أخيل»، فنزل إلى ساحة الوغي وتقابل
الخصمان وجهًا لوجه وتبارزا، وكانت درع «أخيل» قد صنعها له الإله «هفاستيوس»
Hephacstus،
٢ وكانت درعه أشهر درع جاء ذكرها في الكتب؛ لأنها كانت مزركشة بالذهب
والفضة والبرنز وحفر عليها مناظر من حياة تلك الأيام منها منظر حفل زواج وشجار
في مكان السوق وجيوش محاصرة وكرم، ومنظر حصاد وحرث أرض ومرعى.
وبعد ذلك صور مكان رقص هناك
مثل ما كان قد عمله «دادالوس» في «كنوسوس»
تلك المدينة الشاسعة لسيدة جميلة
وهي العذراء أريادني صاحبة الشعر الجميل
وكان هناك شباب يرقصون على تلك الأرض
وعذارى كثرت مغازلتهن ولكن صعب استمالتهن
ويرقصن ممسكة إحداهن بيد الأخرى
والبنات ارتدين الكتان الجميل والشبان يلبسون
أثوابًا نسجت نسجًا جميلًا يضيء لهم مصباح خافت
بالزيت، وكان يزين رأس كل عذراء إكليل
والشباب كانوا يحملون خناجر محلاة بالذهب فقط
وحمالات سيوف متدلية من الفضة. وهكذا مشوا
بأقدام ماهرة تلف، وخطوا برشاقة
وهكذا بالضبط يجلس صانع فخار بعجلته
ممكنة بين يديه كأنه يجربها
لتجري في وقتها. وهكذا يديرها
وكان كل واحد يقابل الباقي ثانية في صفوف منظمة
وكان يجلس حول الرهط الأنيق كثير من الضيفان
كان يغني لهم الشاعر الشبيه بالإله
أناشيد غنائية، وقد ملأ الفرح صدرهم
وقد أحاطوا جميعًا أنفسهم بمهاجرين.
…
وهاجم «أخيل» «هكتور» الذي فر أخيرًا من أمامه، وبعد ذلك تبعه «أخيل» مثل
«إريس» إله الحرب أو كالصقر عندما ينقض على يمامة أو ككلب الصيد عندما ينطلق
وراء جرو. وكان الإله «زيوس» يقبض على كفتي الميزان المصنوعتين من الذهب، وقد
خفت موازين «هكتور» فهوت كفته.
وقد تغلب الغضب الوحشي على «أخيل» آنذاك
وعلى ذلك فإنه عندما انقض قابضًا أمام صدره
درعه المنقوشة وطوح خوذته اللامعة
التي كان يموج حولها أربع ريشات
كان يجلس على مقربة «هفاستيوس»، وهكذا فإن أجمل
كل كواكب السماء «هسبروس» كان يسير
في ليلة مظلمة يفوق ضوءه كل الكواكب
وهكذا في يد «أخيل» اليمنى عندئذ
سطعت حربته الحادة عندما صوب حربته المميته.
وعندما هوت الطعنة وسقط «هكتور» على الأرض لافظًا النفس الأخير رجا «أخيل» أن
يقوم بدفن جثته، وحذره أنه هو كذلك سيلاقي نفس المصير تحت جدران
«طروادة».
وعندئذ تكلم «هكتور» صاحب الخوذة اللامعة — وهو يموت — مرة أخرى:
حقًّا إني أعرفك تمامًا وأرى بوضوح
أن قلبك من حديد صلب لم يتحرك من أجلي
ومع ذلك فإن ستقتل بيد «باريس» و«أبوللو»
ولا نزاع في أنه سيقضى عليك عند بوابة «سكابين»
على الرغم من كل قوتك. فاحذر إذن مرة أخرى
لئلا أصب عليك كره ربك المر
وقد انتهى نادبًا مصيره المحزن
وخرجت روحه وكانت لا بد أن تذهب إلى عالم الآخرة
مجردة من شبابها ومحرومة من قوتها.
وقد قتله «أخيل» دون أن يحير جوابًا على رجاء «هكتور» لدفنه، كما أنه لم
يكترث بما قيل له عن مصيره هو.
وبعد ذلك تكلم «أخيل» العظيم: «فلتكن نهايتك
وأنا كذلك سأتقبل الهلاك الذي سترسله الآلهة.»
وبعد ذلك أتى «بريام» المسن راجيًا أخذ جثة ابنه، وعندئذ تحركت الشفقة في قلب
«أخيل» فأعطاه إياها لتدفن.
وهنا تنتهي قصة الإلياذة؛ لأن موضوعها هو غضب «أخيل» الذي بدأ بشجاره مع
«أجاممنون»، وانتهى بدفن الرجل الذي قتل أعز صديق لديه.
ملحمة الأودسى
هذه الملحمة تحدثنا عن كيف أنه بعد أن أمضى «أودسيوس» وهو رئيس إغريقي، عشرة
أعوام هائمًا في البحار وصل أخيرًا إلى جزيرة «أتاكا» مسقط رأسه.
وفي هذه الملحمة نرى أن «بنلوبي» زوج «أودسيوس»، كانت تنسج منذ ثلاث سنوات
نسيجًا وكانت تنقضه ليلة فليلة؛ وذلك لأنها كانت حائرة بين عدة عشاق لها كانوا
لا بد أن يضطروها لتختار واحدًا من بينهم عندما يتم هذا النسيج، وهؤلاء العشاق
كانوا يأتون إلى بيتها يوميًّا بكبرياء مفعم بالوقاحة، فكانوا يضحون الثيران
والغنم والماعز ويحتسون نبيذها بتهور مبذرين ثروة بيتها، ولكن في آخر الأمر
كشفت سر عملها إحدى نسائها وأفشته، غير أن النجدة كانت قد أتت إليها من
«أوليمبوس» مثوى الآلهة، إذ نجد أن الإلهة «باللاس أثينا» قد أتت لتخليصها
بسرعة كالريح عابرة البحر والأراضي التي لا تُحد، وقد نفخت في روح «تلماكوس» بن
«أودسيوس» الأصغر فتحدى هؤلاء العشاق:
أسرفوا في أموالكم ذاهبين من بيت إلى بيت
بالتوالي، ومع ذلك فإنه إذا ظهر أنه شيء أفضل
أن يؤكل طعام الإنسان ويشرب نبيذه
دون ثمن فلتذهب اللذات
ومع ذلك فإني سأضرع للآلهة الخالدين أن يرسلوا
انتقامًا، وأن يرسل «زيوس» جزاء في وقته
وأنتم جميعًا ستنالون نهايتكم غير مشكورين.
وقد ظهر «تلماكوس» على حين غفلة بوصفه رجلًا وسيد بيته في آنٍ واحد.
وفي أثناء هذه الحوادث كان «أودسيوس» يقترب من نهاية مخاطراته في عرض البحار.
والواقع أن الإلهة «كاليبسو» Calypso قد حجزته
سبع سنين في جزيرتها الجميلة باذلة جهد طاقتها بكلماتها الساحرة أن ينسى
«أتاكا» مسقط رأسه، ولكنه الشوق إلى وطنه كان يبري قلبه. وأخيرًا أرسل الإله
«زيوس» الإله «هرمس» ليخلصه من ورطته هذه:
فوق «بيريا» مارًّا بسرعة
قافلًا ومن طبقة الهواء العليا جاء «هرمس» السريع
وغاص مثل غراب الماء في البحر … إلخ.
وقد أدى «هرمس» رسالته، وقد سمح لأودسيوس أن يصنع لنفسه قاربًا ويذهب في عرض
البحر، وبعد مضي سبعة عشر يومًا لاحت له في الأفق جزيرة، كأنها درع في البحر
الملبد بالضباب، وتلك كانت أرض «الفاسيين» Phaecians، ولكن قبل أن يصل إلى تلك الجزيرة الرحيمة، أغرقت
قاربه عاصفة هوجاء، واضطر أن يسبح في الماء يومين وليلتين إلى أن رأى أرضًا ذات
رءوس وصخور وشعاب تصطخب عليها الأمواج، وقد قذفت به الأمواج إلى الساحل، ومن ثم
سبح في مصب نهر ورسا سالمًا على الشاطئ.
وفي تلك الأثناء كانت «نوسيكا» Nausicaa
ابنة ملك «ألسينوس» Alcinous قد أتت مع
جواريها لتغسل ثيابها في مجرى النهر الجميل ببركه وعيونه المتفجرة:
وعندئذ حملن من العربة في أيديهن
الملابس وأخذنها بقوة
هناك في الأحواض عند شاطئ الماء المظلم
منهمكات في المنافسة، ثم نشرنها ثانية
على شاطئ البحر حيث الأمواج
تغسل تمام الحصباء وتصدم بالشاطئ.
وعندما استحممن وتدلكن بزيت الزيتون أكلن، واضطجعن بجانب شاطئ النهر طلبًا
للراحة من مجهود العمل منتظرات حتى تجفف أشعة الشمس الثياب المغسولة، وبعد ذلك
وضعن كوفياتهن بجانبهن بعد الوجبة، وأخذت بنت الملك والعذارى اللاتي معها يلعبن
الكرة. وقد أخطأت آخر كرة الهدف، وسقطت في الماء فأيقظت «أودسيوس» من سباته
العميق، وعندئذ على حسب أمر «نوسيكا» ذهب إلى قصر «ألسينوس» الجميل حيث أكرمت
وفادته، وقد أخبرهن بمخاطراته وكيف أنه هرب من «سيكلوبس» ومن مارد أعور، ومن
عاصفة هوجاء ومن الساحرة «سيرس»
Circe ومن
سيرنز الفاتنات، ومن أخطار المرور بين ماردتي البحر، «سيلا»
Seylla و«شاريبدس»
Charybdis٣ — وهما ماردتان تقفان حجر عثرة في طريق البحارة.
وفي اليوم التالي وضعه «ألسينوس» في إحدى سفنه السحرية، وكانت سريعة كالعصفور
في طيرانه أو كالفكر في جولاته، وقد حملته إلى «أتاكا» وعلى الرغم من أنه كان
مستخفيًا في زي متكفف مسن، فإن مربيته المسنة قد عرفته كما عرفه كلبه «أرجوس»،
الذي كان فيما مضى عداءً سريعًا وصيادًا شجاعًا، والآن أصبح مسنًّا وضعيفًا
ومهملًا، وقد رفع رأسه وطأطأ أذنيه وبعد ذلك:
هز ذيله وأرخى أذنيه
ومع ذلك فإن سيده لم يكن لديه القوة على السير
وعندما رأى «أودسيوس» في هذه الساعة
التي تلاقيا فيها بعد مضي عشرين سنة
سقط أخيرًا الموت الأسود على «أرجوس».
وبمساعدة «تلماكوس» الذي عرف الآن الحقيقة قتل «أودسيوس» العشاق بنشابة
الجبار، وبعد ذلك كشف «لبنلوب» عن نفسه. ومن وقتئذ ذهب الخراب وانقشعت ويلات
الحرب إلى غير رجعة، وسادت الطمأنينة في الحجرات ذات الظلال الناعمة.