ديانة الإغريق
وكذلك كانت الآلهة العظيمة لبلاد الإغريق تعبد في المدن وفي الريف على السواء. وهذه الآلهة كان يتصورها القوم في صور مخلوقات مثل الرجال والنساء، ولكنها كانت أعظم منهم وأكثر جمالًا. وكان يتخيلهم الإغريق في عقولهم بصور واضحة؛ وذلك لأن «هومر» من جهة قد وصفهم في أشعاره؛ ومن جهة أخرى لأن المثالين والمفتنين قد صنعوا لهم تماثيل وصورًا، وقد أصبحت هذه الآلهة شيئًا فشيئًا أكثر أهمية من أية قوة أخرى، غير أن الاعتقاد في «بان» وإلهات البحر وما إليها من جنيات الطبيعة، قد فاق غيره فاستمرت تعبد بوجه خاص في الأقاليم الريفية.
وكانت الإلهة «أرتميس» تعبد بوصفها نور القمر. وكانت بوصفها إلهة الصيد تطوف الغابات والوديان والأنهار والتلال مسلحة بقوسها ونُشَّابها صائدة، إما حيوانات برية، أو مشتركة في الرقص واللعب مع أتباعها من إلهات الماء، وهي أخت الإله «أبوللو» — وهي ديانا عند الرومان.
وكانت «بلاس أثينا» وهي الابنة العذراء للإله «زيوس» تعد إلهة الحرب والحامية لمدينتها «أثينا». وكذلك كانت إلهة الحكمة والمهارة وحضور الذهن وحزم الرأي وكانت الحامية للنسيج ولحرف أخرى، وكانت إلهة شريفة جميلة طويلة القامة ماهرة في الأعمال اليدوية الفاخرة. وشجرتها المقدسة هي شجرة الزيتون.
وكان «هفاستوس» الذي عمل درع «أخيل» يعتبر إله النار، وكل ما يصنع منها كالصور المصوغة من الذهب والفضة والأواني المزركشة بصور غريبة.
أما الإله «هرميس» (تحوت عند المصريين) الذي كان قد أرسله الإله «زيوس» لإحضار «أودسيوس» من جزيرة «كاليسو»، فكان رسول الإله وبيده عصا كان يحمل بها النوم إلى أعين الناس، أو يقود بها أرواح الموتى إلى مسكنها في عالم الآخرة، وهؤلاء الآلهة الذين ذكرناهم هنا كانوا بوجه عام عظماء ومنعمين على الناس، ولكن على حسب ما جاء في شعر «هومر»، وغيره من الشعراء الإغريق كانوا غالبًا ما يشتجرون فيما بينهم وتقوم بينهم العداوة والبغضاء، ففي حرب «طروادة» ساعد كل من «هيرا» و«أثينا» الإغريق، في حين أن «أفروديت» و«أبوللو» قد ناصرا أهل «طروادة» وعززاهم.
على أن الناس الذين كانوا يفكرون في ذلك تفكيرًا عميقًا رأوا شيئًا فشيئًا أنه يوجد شيء خاطئ في ذلك، ولم نلبث أن رأينا أعظم الشعراء وغيرهم من أهل الفكر قد بدءوا يكتبون عن «زيوس» أنه عالٍ جدًّا، وأنه بعيد عن كل القوى الأخرى، وأنه قريب لمساعدة كل الناس ويقيم العدل، ويعاقب الآثم. ولكن على الرغم من ذلك فإن عامة الشعب كانوا يتمسكون بالأفكار القديمة فنرى في كل أطوار التاريخ الإغريقي العبادات والأعياد تقام في كل مكان على شرف آلهة «أوليمبوس» العديدين، على الرغم من الاعتقاد في إله واحد مسيطر، وتلك كانت نفس الحالة في مصر إلى أن ظهرت عبادة «آتون» لمدة، ثم اختفت وعادت البلاد سيرتها الأولى.
معبد دلفي
كان يوجد في عدة أجزاء من بلاد الإغريق أماكن مقدسة يعرف كل منها باسم «الوحي»، حيث كانت الآلهة توحي بإرادتهم للناس. وكان أهم وحي هو «وحي دلفي»، وكان يحدد بالبقعة التي أقيم فيها نسران قيل إنهما تقابلا هناك — وكانا قد أرسلهما «زيوس» شرقًا وغربًا من نهاية العالم — مدللين بذلك على أن «دلفي» هي وسط العالم. وقد كشف النقاب عن «دلفي» هذه الحفائر التي قام بها الفرنسيون في نهاية القرن التاسع عشر.
وكان قد أقيم على موقعها قرية حديثة كان على الحفارين أن يزيلوها، ويقيموا أخرى بدلًا منها قبل البدء في أعمال الحفر. وإله «دلفي» هو «أبوللو»، وكان جذابًا وجماله يفوق جمال كل الآلهة الآخرين، وكان يُعد إله كل الكلام الملهم في الموسيقى والشعر والتنبؤ. وكان يقال إنه ابن «زيوس» نفسه، وأنه ينطق بإرادته. ولا غرابة إذا كان قد جمع كل بلاد الإغريق في حظيرته المقدسة.
وكان كاهن «أبوللو» يقف على مقربة ليترجم فيكتب الجواب على لوحة ويعطي السائل إياه. وكان الوحي يستشار في كل الأمور، فكان يستشار مثلًا قبل الدخول في حرب أو تأسيس مدينة. وعندما كانت أثينا في خطر داهم من الفرس أخبر «الوحي» المواطنين أن يثقوا في جدرانهم الخشبية، وقد أكد لهم رجل سياستهم «تميستوكليز» أن المقصود من ذلك هو سفنهم المصنوعة من الخشب، وأغراهم أن يضعوا أسرهم على ظهر السفن؛ لتكون حماية لهم في أماكن قريبة وبذلك نجوا. وكان الموحى به يفهم على وجهين أحيانًا، فمثلًا نجد أن «كروسوس» — الذي سنتحدث عنه فيما بعد — ملك «ليديا» الغني كان مصممًا على عبور نهر «هاليس» في آسيا الصغرى، وإعلان الحرب على الفرس، ولما كان جواب الوحي كالآتي:
فقد عبر «كروسوس» النهر وهو واثق من النصر، ولكنه وجد فيما بعد أن الإمبراطورية العظيمة التي فقدت كانت إمبراطوريته.
وأحيانًا يكون الوحي مبهمًا أو خاطئًا، ولكن نصيحته كانت حكيمة سليمة بعامة؛ وذلك لأن الكهنة الذين كانوا يلقنون الوحي كانوا يعرفون كثيرًا عن الناس، وعن الأحوال الجارية في البلاد، وقد استعملوا معرفتهم لمساعدتهم في ترجمة الكلمات التي تنطق بها «بيثيا» الكاهنة. وهذا الوحي كان في الواقع إحدى الروابط التي تربط الوحدة الإغريقية، فكان الإغريق يشعرون بأن هذا المحراب ملك كل الإغريق لا ملك بلدة «دلفي» نفسها؛ ولذلك تألف مجلس كان يحتوي على اثني عشر نائبًا مقدسًا أرسلوا من حلف مؤلف من إحدى عشرة مدينة أو دولة (وقد أرسلت «دلفي» نائبين)؛ وذلك لمنع التعدي على أي عضو من الحلف، وكذلك من التعدي على محراب «دلفي» نفسه. وقد قامت حربان مقدستان شنهما أعضاء الحلف حماية لهذا المحراب.
وكانت تتدفق على هذا المحراب الهبات وتقدم له كذلك الهدايا، حتى إن المكان أصبح مفعمًا بالمحاريب والنقوش والتماثيل والآثار التي تقدم شكرًا على ما نال مقدموها من نصر. ولا بد أن «دلفي» كانت مزدحمة أكثر مما يجب، ولكن ما عسى أن يفعله الإنسان عندما يقدم القوم هدايا؟