دولة «أسبرتا»
تقع مدينة «أسبرتا» على مسافة خمسة وعشرين ميلًا من الشاطئ الجنوبي لشبه جزيرة
«البلويونيز»، وهي المقر الرئيسي لغزاة قوم الدوريين المحاربين، وكانت المدينة تحتل
موقعًا جميلًا على نهر في وادٍ واسع بين الجبال ينبت فيه الكروم على منحدرات التلال
والغلال والزيتون في الحقول. وكان صناعها في باكورة تاريخها يعملون في البرنز
والطين والحجر.
وقد أقيمت معابد هناك ورحب بالشعراء، وكان فيها شيء من متاع الحياة ومباهجها. وفي
الحق كانت «أسبرتا» تنمو على نسق المدن الإغريقية الأخرى، ولكن حوالي عام ٦٠٠ق.م
حدث تغير جعل حياتها جافة قاسية.
وقد كان السبب في ذلك هو الخوف. فقد كانت «أسبرتا» في هذا الوقت قد فتحت
«لاكونيا» واستولت على أحسن أراضيها. وسكان «لاكونيا» الذين خضعوا لحكم «أسبرتا» قد
بقوا أحرارًا وعالوا أنفسهم بالصناعة والتجارة في الداخل وفي الخارج، غير أنهم مع
ذلك لم يحسبوا ضمن أهل «أسبرتا»، بل كانوا يسمون «بريواكوي»،
١ والسكان الذين قاوموا «الأسبرتيين» حتى النهاية أصبحوا عبيدًا وأطلق
عليهم اسم «هلوت»
Helots، وقد عبر الأسبرتيون فيما
بعد هضبة جبال «تايجيتوس»
Taygetus متجهين نحو
الغرب، وغزوا أراضي «مسينيا» الخصبة. وقد حارب أهلها بشجاعة وعناد، ولكن في النهاية
هاجم العدو حصونهم واستولى عليهم وبذلك خضعوا وأصبحوا «هلوت» أي: عبيدًا. وكل هؤلاء
«الهلوت» أو العبيد كانوا يمنحون قطعًا من الأرض حيث كانوا يضطرون أن يعيشوا فيها
بكدحهم، ويدفعون لأسيادهم مقدارًا محددًا من محصولهم. وكان عليهم أن يؤدوا الخدمة
العسكرية، ولكن في أيام السلم كان محرمًا عليهم أن ينتقلوا بعيدًا من أرضهم التي
منحوها. ولم يكونوا مع ذلك عبيدًا بالمعنى الحقيقي؛ لأنه كان لا يمكن بيعهم، وقد
أصبح بعضهم غنيًّا عندما كانت مزارعهم يصيبها الفلاح، ولم يمضِ طويل زمن حتى فاق
عددهم عدد أهل «أسبرتا» الذين كانوا دائمًا في خوف دائم من أن هذه السلالة
المهزومة، يمكن أن يخرج يومًا ما أفرادها عليهم حتى إنهم من شدة خوفهم منهم عينوا
عليهم نوعًا من الشرطة السرية كانوا يندسون بين هؤلاء «الهلوت»، ويقتلون كل من شكوا
في أمره. وكان أهل «أسبرتا» يعلمون أن هذا العمل القاسي لم يكن كافيًا لإخضاعهم، بل
كان عليهم أن يقووا أنفسهم بكل طريقة ممكنة لإذلالهم، وتنفيذًا لذلك حرموا على
أنفسهم كل الكماليات، فمنعوا التجارة الخارجية بأن جعلوا لهم عملة واحدة من الحديد
وطردوا الأجانب عندما كانوا يرون في ذلك فائدة لهم، وجعلوا من أنفسهم أمة جنود. وقد
قال عنهم «بلوتارخ»: إن مدينتهم كانت نوعًا من المعسكر المسلح الذي كان لكل رجل فيه
نصيبه من المؤن والأشغال تؤدى. وكان الفرد منهم ينظر إلى نفسه كأنه ولد ليخدم
بلاده. وكانت حياة «الأسبرتي» الأصيل منذ الولادة ملكًا للدولة. فلم يكن يسمح
بالحياة إلا للأطفال الذين يتمتعون بصحة جيدة، أما الضعفاء فإنهم كانوا يحملون إلى
جبل «تايجيتوس»، ويتركون هناك ليلاقوا حتفهم.
وكان الذكور يؤخذون في سن السابعة من بيوتهم، وتدربهم الدولة حتى سن العشرين،
وكانوا يتعلمون القراءة والكتابة والموسيقا ومبادئ الحساب ومقطوعات من شعر «هومر»
أو مقطوعات من شعر شاعرهم «تيرتايوس» Tyrtaeus ولم
يكن يسمح لهم بقراءة كتب إلا إذا كانت عن الحرب، هذا مع عدم التمرن على تنميق
الكلام أو الكتابة؛ وذلك لأن أهل «أسبرتا» كانوا يحتقرون الكلام فكانوا لا يستعملون
من الألفاظ إلا القليل في كلامهم بقدر المستطاع، حتى إن كلمة «لاكونيك» Laconic المشتقة من بلدة «لاكونيا» لا تزال
تستعمل حتى الآن للدلالة على الكلام المختصر المقتضب. وكان التمرين على الجري
والمصارعة والرماية جعل الأولاد أقوياء مع خفة حركة، وقد أصبحوا بتدريبهم على
الألعاب الأخرى أقوياء البأس شجعانًا صالحين ليكونوا قوادًا عند الحاجة.
وكانوا يلبسون رداءً واحدًا ويمشون حفاة وينامون على القش، الذي جمعوه من شاطئ
النهر، ويضيفون بعض شوك العوسج إليه في الشتاء، وطعامهم كان بسيطًا يستولون عليه
بالسرقة، وإذا قبض عليهم في أثناء السرقة ضربوا بالسياط لا من أجل السرقة ولكن لعدم
مهارتهم فيها. وكانوا يضربون بالسياط كل سنة مرة ليتعودوا احتمال الألم. وكانوا
يدربون تدريبًا خاصًّا من سن الثامنة عشرة إلى العشرين على فنون الحرب، وكانوا من
سن العشرين يصبحون معلمين للأولاد الصغار، ويسمح لهم بالزواج ولكن على ألا يقيموا
في بيوتهم. ومن سن الثلاثين فما فوق يصبحون مواطنين تمامًا «ويسمون الأكفاء»
ويعيشون في بيوتهم، غير أنهم مع ذلك كانوا يتناولون وجباتهم الرئيسية في المعسكرات
ولا يسمح لهم بترك المدينة دون إذن إذ قد يطلبون لحمل السلاح والذهاب إلى ساحة
القتال.
وكان كل خمسة عشر رجلًا منهم يشتركون في مائدة واحدة عند أخذ وجباتهم، وإذا أراد
فرد أن ينضم إلى إحدى هذه الجماعات كان لزامًا على كل واحد من الأربعة عشرة الآخرين
أن يأخذ كرة من الخبز الناعم — وتعد صوت اقتراعه — ويلقي بها في حوض خاص بذلك، فإذا
وجد أن كرة من هذه الكرات قد دحيت رفض قبول العضو الجديد؛ لأن ذلك يدل على أن فردًا
واحدًا على الأقل لا يرغب في انضمامه إليهم. وكان على كل فرد أن يورد نصيبه من
الشعير والنبيذ والجبن والتين، وبعض النقود لشراء سمك ولحم. وكانت ملابس الجميع
واحدة وتحتوي على ثوب مصبوغ باللون الأرجواني، كما كانوا أصدقاء حميمين في السلم
والحرب، وكانوا يسيرون سويًّا إلى ميدان القتال على نغمة المزمار.
أما البنات الأسبرتيات فكن يدربن عقليًّا وبدنيًّا ليصبحن أمهات لرجال شجعان. فكن
يدربن على الأعمال الرياضية كالأولاد الذكور، وعندما يتزوجن كن يحثثن رجالهن على
أعمال الشجاعة والفروسية. ويقال إن أمًّا أسبرتية قد أخبرت ابنها أن يعود من
المعركة إما مرتديًا درعه العظيمة أو محمولًا عليها؛ وذلك لأن الجندي كان لا يلقي
بدرعه إلا عند الهرب، والأفضل أن تحمل إلى وطنك عليه ميتًا.
حكومة أسبرتا
كان لمدينة «أسبرتا» ملكان في وقت واحد، وقد أخذا يفقدان من
سلطانهما شيئًا فشيئًا، ولكن كان تسيير الأمور في يد خمسة «أفور»
أو مشرفين، ومجلس مؤلف من ثمانية وعشرين شيخًا؛ وكان لهم مع
المشرفين من القوة بحيث كان في استطاعتهم استحضار الملكين أمامهم.
أما سلطة الشعب في جمعيتهم فكانت تنحصر في أن أفراد الشعب كانوا
يجتمعون على الأقل مرة كل شهر ليصوتوا على القوانين التي اقترحها
المجلس، غير أنه لم يكن من سلطتهم مناقشتها، والظاهر أن المجلس
أحيانًا كان لا يلتفت إلى الطريقة التي صوتوا بها.
ومن الطريف أن أهل «أسبرتا» أنفسهم كانوا يعتقدون أن كل نظم
قوانينهم قد وضعها لهم مقنن يدعى «ليكورجوس» Lycurgus، ويقال: إنه كان رجلًا حكيمًا أراد
أن يساعد مدينته، ولم يكن يقصد من وراء ذلك جمع سلطة في يده، وبعد
أن أتم عمله ترك المدينة كما يقال بعد أن أخذ ميثاقًا من الأهلين،
على أن يحافظوا على قوانينه إلى أن يعود. وقد ذهب في الحال إلى وحي
«دلفي» الذي أخبره بدوره أن «أسبرتا» ستفلح وتسعد ما دامت محافظة
على قوانينه، وعلى ذلك فإنه لم يعد قط إلى «أسبرتا» ولم يسمع عنه
بعد ذلك ثانية. تلك هي القصة كما تروى في الأساطير أو القصص
الأسبرتية، والواقع أن التواريخ في هذه الفترة كانت مبهمة فلم
تحدثنا عن هذا المقنن وشخصيته التي يحفها الغموض بالنسبة لنا حتى
إنه لا يمكن أن يعد في نظرنا شخصية تاريخية. والظاهر أنه كان بطلًا
أو إلهًا يعبد في بلاد «لسيدمون» (= «أسبرتا» وما حولها). غير أنه
مما لا شك فيه أن «أسبرتا» قد حافظت على القواعد والأنظمة الخارقة
للعادة التي وضعها كما يقال «ليكورجوس»، وأنها بوساطتها قد أصبحت
أقوى دولة حربية برية في بلاد اليونان جمعاء.