بلاد الإغريق في القرن الرابع قبل الميلاد
رأينا فيما سبق أن «أثينا» قد أصبحت تحت سلطان «أسبرتا»، غير أن الأخيرة لم تقنع بذلك، فأخضعت كل المدن الأخرى الإغريقية وفرضت عليها حكامًا من عندها بعد أن كانت تمنيها بالاستقلال والحرية بعد هزيمة «أثينا».
تدخل الفرس
وقد بدأت في تلك الفترة «أثينا» تسترد قيادتها في بلاد الإغريق، ولكن لما كانت حكومات مدن الإغريق لا تريد بأية حال الانضمام في حلف مع «أثينا» أو غيرها، فإنه كان لا بد من قيام حروب جديدة واضمحلال وضعف في البلاد. وحقيقة الأمر أن زمن حكومات المدن المستقلة كان قد ولى وانقضى، وحان عصر ظهور ممالك قوية في عالم الوجود، ففي شرقي بلاد اليونان كانت تقع إحدى الدول العظمى وأعني بلاد الفرس عدو اليونان القديم وكان يخشى بأسها، في حين كان في الشمال مملكة «مقدونيا» الفتية، وهي التي صارت بعد قليل من القوة بحيث لا يمكن تجاهل أمرها وخطرها.
الحياة في «أثينا» في تلك الفترة
من المدهش حقًّا أن نجد في هذا الوقت المليء بالاضطرابات والحروب الداخلية أن الحياة في «أثينا» كانت لامعة مزدهرة، فسفنها كانت تمخر عباب البحار قاصيها ودانيها محملة بالسلع، وهذه التجارة مع البلاد الأخرى كانت تدر عليها الثروة، كما كانت تمدها بالمعلومات الجديدة والآراء المستحدثة، حتى إنها أصبحت مركز الفكر والثقافة، ووفد عليها الناس لدراسة فن الخطابة وتلقي الفلسفة.
أفلاطون وأرسطو
وفي هذه الفترة لم تقم مبانٍ كثيرة في «أثينا»، ولكن نحتت تماثيل كبيرة غاية في الجمال، وكثيرًا ما كان المغنون الإغريق يسيحون في الخارج، ويعملون في المدن الأجنبية، وبذلك نشروا الثقافة الإغريقية والفن الإغريقي.
وعلى الرغم من كل هذا الازدهار فإن السخط وعدم الاستقرار والفقر أمور كانت ضاربة أطنابها في «أثينا» وغيرها من المدن الإغريقية، وقد ترك كثير من الرجال المخاطرين مدنهم، وانخرطوا جنودًا مرتزقين في جيوش بعض الأمم المجاورة، ونخص بالذكر من بينها مصر وفارس. وأشهر فرقة من هؤلاء المرتزقة تلك التي قامت بأكبر مخاطرة في التاريخ القديم، وهي المخاطرة المعروفة «بموكب عشرة الآلاف» وهؤلاء كانوا يؤلفون فرقة من الإغريق في خدمة أمير فارس يدعى «كورش» كان قد أراد أن يستولي عنوة من أخيه على عرش فارس الذي كان يعتليه «كورش» الأكبر منذ مائة وخمسين سنة مضت. وقد حدثنا «أكزنوفون» أحد تلاميذ «سقراط» عن أعمالهم العظيمة، فيخبرنا عن انتصارهم في موقعة بالقرب من «بابل» على ملك الفرس، ثم يذكر لنا هربهم من المكيدة التي كانت قد نصبت لهم بقيادة «أكزنوفون»، وتقهقرهم في أراضٍ مجهولة لهم عابرين الأنهار وسائرين على الثلوج الكثيفة وشاقين طريقهم في مضايق الجبال التي كانت محروسة بأعدائهم، وأخيرًا عندما وصلت مقدمة هؤلاء الشجعان إلى قمة جبل صاحوا على حين غفلة قائلين: البحر! البحر! وذلك لأنهم وقتئذ كانوا قد وصلوا في سفرهم الشاق إلى البحر الأسود، ومن ثم وجدوا طريقهم بسهولة إلى وطنهم. وهذه المخاطرة الهائلة قد برهنت مرة أخرى على أن الإغريق جنود أحسن من الفرس. وقد ترك لنا «أكزنوفون» نفسه تاريخ هذا الحادث في كتاب ممتع.