حكم هذا الفرعون ستة أشهر على حسب رأي «مانيتون».
أما على الآثار فقد ذكر على بردية اسم هذا الفرعون في صك، سنتحدث عنه فيما بعد مؤرخ
بالسنة الثانية شهر طوبة (راجع Griffith, Catalogue of the Demotic
Papyri in the J. Rylands Library, Vol. III, P. 24).
وهذه البردية هي الأثر الوحيد الذي أرخ بعهد الملك «بسمتيك الثالث»؛ ولأجل أن نوفق
بين هذا التاريخ؛ أي السنة الثانية مع ما جاء في «مانيتون» وهو الذي بمقتضاه نعلم أن
«بسمتيك الثالث» لم يحكم إلا ستة أشهر، فقد فرض الأثري «سبيجليرج» أن «أحمس الثاني» قد
مات في نهاية السنة المدنية؛ أي على حسب التقويم الرسمي، وأن ابنه قد حسب الشهر الأخير،
أو حتى الأيام الأخيرة من الشهر الأخير من هذه السنة بمقدار سنة (راجع
Spiegelberg. Die demotische Papyrus der Strassbourg Bibliothek,
P. 15-16; Ed. Meyer, Gesch. des Altertuma I, P. 40 §
35.).
أما عن السنين التي حكمها هذا الفرعون على وجه التأكيد، فقد اختلفت فيها الآراء فقد
ذكر كل من «فيدمان» و«أونجار» و«بتري» أنه حكم ما بين ٥٢٦ و٥٢٥ق.م، في حين أن كل من
الأثريين «كرام»، وسبيجلبرج يفضل أنه حكم ما بين السنتين ٥٢٨ و٥٢٧ق.م.
أما تاريخ السنة الرابعة من حكم ملك يدعى بسمتيك، وهو تاريخ وجد على عقد كتب
بالديموطيقية على طبق من الفخار ومحفوظ الآن بمتحف اللوفر (E
706)، وقد نسبه الأثري «رفييو» إلى بسمتيك الثالث، فيجب أن ينسب
إلى بسمتيك الثاني (راجع L. R. IV, P. 94, No. VI)،
وعلى العكس من ذلك نجد أن ورقة «ستراسبرج» يجب أن تنسب إلى عهد بسمتيك الثالث؛ وذلك لأن
أحد الأشخاص المتعاقدين في هذه الوثيقة كان لا يزال على قيد الحياة في السنة الخامسة
والثلاثين من عهد الملك «دارا» الأول.
حالة البلاد عند تولي بسمتيك الثالث عشر الملك
مقدمة
ذكرنا فيما سبق أن «أحمس الثاني» عاجلته المنية في شهر نوفمبر أو ديسمبر من عام
٥٢٦ق.م، ودفن في الحي المقدس للإلهة «نيت» بمدينة «سايس». وحوالي هذا الوقت بعينه
انقض العاهل العظيم «قمبيز» ملك الفرس بجيش عرمرم على مصر، وقد كان يؤازر مشروع هذا
الغزو البري أسطول فينيقي قوي، جهز بسفن في جزيرة «قبرص» التي كانت قد انضمت إلى
جانب عاهل الفرس. وتدل شواهد الأحوال على أنه لم تحدث أية مقاومة، اللهم إلا ما جاء
على لسان بوليبيوس (راجع Polybious, XVI, 40) إذ
يقول: كانت مدينة غزة هي المدينة الوحيدة التي وقفت في وجه الفرس دفاعًا عن مصر.
وكذلك نجد أن «هردوت» (Herod. III, 5) قد ذكر مدينة
«غزة» بمناسبة حملة «قمبيز» دون أن يذكر أي شيء، وهذا يتنافى مع ما جاء في
«بوليبيوس» وعلاقته بعصر «قمبيز»؛ على أن ما جاء في «بوليبيوس» من ذكر كلمة «الفرس»
فقط، يمكن أن يفهمها الإنسان عند الضرورة في عهد الملك «ارتكز كزيس» الثالث المعروف
بالملك أخوس؟ كما سنرى بعد.
وقد ساعد «قمبيز» على شق طريقه الوعرة في صحراء شبه جزيرة «سينا» العرب القاطنون
هناك (راجع Herod. III, 7, 9)، وقد أمكن الفرس
بوساطة أحد معاصري أحمس من قواد جيشه من الجنود المرتزقين، وكان قد فر إلى معسكر
الأعداء، وهو «فانس» من أهل «هليركارناس»، أن يتعرفوا على كل المواصلات الحربية
الخاصة بعدوهم، وبخاصة معرفة الحصون والمسالك التي في شرقي الدلتا. وقد حاول
«بسمتيك الثالث» أن يحمي معاقل شرقي الدلتا، ثم وقعت واقعة فاصلة بين الجيشين
الفارسي والمصري انتصر فيها الفرس، وذلك حوالي مايو سنة ٥٢٥ق.م عند بلدة «بلوزيوم».
وقد حطم فيها جيش الفرعون، ومن ثم كان في مقدور الجيش الفارسي أن يشق طريقه إلى
«منف»، فسقطت أمام هجومه وأخذ «بسمتيك» أسيرًا حوالي يونيه سنة ٥٢٥ق.م، وقد تلاشت
بعد ذلك كل مقاومة. وعلى أثر ذلك خضع «اللوبيون» و«السيريون» وأهل «برقا»، وسلموا
من تلقاء أنفسهم للفرس، وبذلك قضى قضاءً مبرمًا على دولة بسمتيك. ومن ثم أصبحت دنيا
الشرق كلها يسيطر عليها سيد واحد هو ملك الفرس العظيم «قمبيز».
هذا موجز تاريخ الفتح، ولكن قص لنا هردوت وغير القصص الخيالية عن فتح الفرس
لمصر، وما جرى فيها من أحداث تدل على أنها من أقاصيص الشعب، غير أنها مع ذلك تحتوي
على نواة من الحقائق التاريخية. وسنورد بعضها هنا؛ لأنها لا تخلو من فائدة تاريخية
وبخاصة ما أظهره المصريون من نبل وشجاعة (راجع Herod. III,
1–15) هذا إلى ما انتحلوه من أسباب تبرر تولي «قمبيز» ملكًا
عليهم. ومن جهة أخرى، ما رواه الفرس من جانبهم عن سبب فتح مليكهم للديار المصرية.
فمما لا جدال فيه أن «قمبيز» بعد أن تخلص من أعدائه في الداخل، وبخاصة من أخيه الذي
كان يناهضه في عرش الملك، وكذلك بعد أن تم له إخضاع السيثيين، وجه قوته للاستيلاء
على مصر التي كان والده ينوي فتحها والتسلط عليها.
وقد كان موقف «أحمس» غاية في الحرج بعد أن تخلى عنه حلفاؤه، وكان لا بد من
القتال، وقد كان كل سكان الجزء الشرقي من البحر الأبيض المتوسط يتوقعون هذه الحرب.
وكان رائد «قمبيز» في هذه الحروب هو تنفيذ سياسة موضوعة من قبل؛ غير أن الخيال
الشعبي قد تصور أسبابًا أخرى لقيام الحرب بين هاتين الدولتين اللتين كانتا تعدان
أقدم وأعظم دولتين في العالم في تلك الفترة؛ وقد اخترعت الأسباب الابتداعية؛ لتكون
سببًا لهذه المأساة العظيمة التي مثلت، وقد كانت التفاصيل التي انتحلت لذلك تختلف
اختلافًا كثيرًا على حسب الروايات التي كانت منتشرة في آسيا وفي أفريقيا. وقد قص
علينا «هردوت» هذه الروايات، فقد روى أن «أمسيس» كان قد أرسل طبيب عيون على غير
رغبة منه للملك «كورش» الفارسي ليعالجه من مرض في عينيه، وكان هذا الطبيب هو السبب
في كل ما حل بالبلاد المصرية من شر. وفي ذلك يقول «هردوت» (Herod.
III, 1): «أعلن «قمبيز» بن «كورش» على «أمسيس» هذا حربًا، وأخذ
معه جنوده هو والإغريق والمؤديين الليبيين. وكان سبب الحرب ما يأتي: أرسل «قمبيز»
رسولًا إلى مصر وطلب بنت أمسيس (لتكون زوجه)، وكان قد قام بهذا الطلب على حسب
اقتراح طبيب العيون المصري الذي عمل ذلك كراهية في «أمسيس»؛ وذلك لأنه كان قد
انتخبه من بين كل الأطباء في مصر، وانتزعه بذلك من أحضان زوجه وأولاده، وأرسله هدية
للفرس، وذلك عندما أرسل «كورش» إلى «أمسيس» طالبًا منه أحسن طبيب للعيون في مصر،
وعلى ذلك فإن المصري لضغينته حرض «قمبيز» على أن يطلب ابنة «أمسيس» حتى إذا وافق،
أحزنه ذلك، وإذا رفض جلب على نفسه كراهية «قمبيز». ولكن لما كان «أمسيس» يخشى قوة
الفرس، فقد استولى عليه الذعر ولم يعرف أيذعن أو يرفض؛ لأنه كان على علم تام بأن
«قمبيز» قصد أن يأخذها حظية لا زوجة. وبعد أن تدبر في هذه الأشياء عمل كما يأتي:
كان «لإبريز» الملك السابق ابنة طويلة القامة جميلة، وهي الوحيدة التي بقيت على قيد
الحياة من الأسرة، وكان اسمها «نيتيتيس» Nitetic،
وقد زين «أمسيس» هذه العذراء بملابس من ذهب وأرسلها إلى فارس بوصفها ابنته؛ وبعد
مدة عندما كان «قمبيز» يحييها مخاطبًا إياها باسم والدها أجابته العذراء: يا أيها
الملك إنك لم تفطن أنك قد خدعت من «أمسيس» الذي قد ألبسني ملابس فاخرة، وأرسلني
إليك وقدمني لك بوصفي ابنته في حين أن الحقيقة هي أني ابنة الملك «إبريز»، الذي
قتله على الرغم من أنه كان سيده، وذلك بعد أن حرض المصريين على الثورة عليه. وقد
حرضت هذه الكلمات وهذا الاتهام «قمبيز» ابن «كورش» الذي غضب غضبًا شديدًا، على غزو
مصر. وهذه هي القصة التي قدمها الفرس.»
وقد رُوي سبب هذه الحرب بصورة أخرى في البلاد المصرية فقد قيل: إن «كورش» نفسه هو
الذي تزوج من «نيتيتيس» وإنها وضعت له «قمبيز»؛ وعلى ذلك كان فتح مصر مجرد انتقام
للوارثين الشرعيين لبسمتيك الغاصب، وقد تولى قمبيز الملك على ذلك بوصفه فرعونًا من
نسل «إبريز» أكثر منه فاتحًا. وفي ذلك يقول هردوت: (Herod. III,
1–3) غير أن المصريين يدعون أن قمبيز هو ملكهم، وأنه كان قد
وضعته ابنة «إبريز»، وذلك أنه «كورش» وليس «قمبيز» الذي أرسل لأمسيس من أجل ابنته،
غير أنهم يخطئون بقولهم هذا ولن تفوت ملاحظتهم؛ (لأنه لو كان هناك أي قوم على معرفة
تامة بالعادات الفارسية فإنهم المصريون) أنه لم يكن من عاداتهم قبل كل شيء أن يحكم
ابن غير شرعي، عندما يكون هناك ابن شرعي على قيد الحياة؛ وثانيًا لأن «قمبيز» كان
ابن «كاساندان» Cassandane بنة «فارناسيس» Pharnaspes أحد الأخمينيين وليس من امرأة
مصرية، غير أنهم غيروا الحقيقة مدعين أنه منتسب إلى أسرة «كورش»، وهذه هي حقيقة
الأمر. وهذه قصة أخرى قد قصت وهي في نظري لا تصدق. فقد زارت سيدة فارسية امرأة
«كورش»، وعندما رأت أولاد «كاساندان» بجمالهم وطول قامتهم واقفين بجانبها أثنت
عليهم كثيرًا؛ وذلك لأنها أخذت بهم لدرجة فوق العادة؛ ولكن «كاساندان» زوج «كورش»
قالت: على الرغم من أني أم لمثل هؤلاء الأطفال فإن «كورش» يحتقرني، ويحترم التي حصل
عليها من مصر … وقد قالت ذلك حسدًا على نيتيتيس، ولكن أحد أنجالها وهو «قمبيز» قال:
«على ذلك يا والدتي عندما أبلغ سن الرجولة سأقلب كل مصر رأسًا على عقب». وقد قال
ذلك وهو في حوالي العاشرة من عمره، وقد دهشت النساء من ذلك، ولكنه كان يحمل ذلك في
ذهنه حتى إنه عندما نما واستولى على المملكة غزا مصر على حسب ذلك.
والواقع أن المقصود من قصة زواج الأميرة المصرية بالملك «كورش»، هو أن الطفل الذي
نتج عن هذا الزواج «هو قمبيز» الذي فتح مصر فيما بعد وأصبح فرعونًا عليها، وقد أرضى
ذلك كبرياء المصريين الذين كانوا دائمًا يفخرون بشجاعتهم القديمة، التي لم يكن في
مقدورهم الآن أن يقلدوها أو يبرهنوا على أنهم جديرون بأجدادهم الشجعان، ومع ذلك
فإنهم في هذا الموقف لم يعترفوا بأنه يمكن هزيمتهم، أو يمكن أن يسيطر عليهم إلا
واحد منهم، وعلى ذلك فإن قصة الأميرة «نيتيتيس» قد قدمت لهم مادة دسمة لإشباع
غرورهم. فإذا كان «قمبيز» قد أنجبته حقًّا أميرة من الدم الملكي المصري، فإن ذلك
يعني أن الفرس لم تفرض عليهم أحدًا ليكون ملكًا على مصر، بل على العكس قد نصبت
فرعونًا من دم مصري على بلاد الفرس، وعلى نصف العالم بوساطة الفرس أنفسهم؛ لأنهم
كانوا وقتئذ أصحاب ملك شاسع.
ولدينا عقبة أخرى كانت تفصل بين العدوين المتحاربين، وأعني بذلك الصحراء
ومستنقعات الدلتا، وقد تحدث عنها هردوت (Herod.
III,)، والواقع أن المسافة بين مشارف «بلوز» وحصن انبيوس (خان
يونس الحالي) الواقع على الحدود السورية لا تكاد تبعد أكثر من خمسين ميلًا، وكان
يمكن قطعها بوساطة الجيش في أقل من عشرة أيام. وقد كان عرض هذه القطعة من الصحراء
فيما مضى أقل من ذلك، غير أن «الآشوريين» ومن بعدهم «الكلدانيين» قد تباريا سويًّا
في جعلها بلادًا جرداء قحلاء؛ وقد كان انعدام وجود السكان فيها الآن سببًا في جعل
الانتقال بوساطتها غاية في الصعوبة.
وقد كان معسكر «قمبيز» عند مدينة «غزة»؛ أي عند النهاية القصوى لممتلكاته من جهة
مصر، غير أنه كان في حيرة في كيفية مجابهة هذا الأقليم القاحل دون أن يحسب حساب
فقدان نصف جيشه تحت رمال الصحراء، وقد كان عازمًا على تأخير الحملة، غير أن الحظ
المفاجئ قد خلصه من هذه الصعوبة الخطيرة، فاستمع لما جاء في «هردوت» عن ذلك (راجع
Herod. III, 4, 5).
والحادث التالي الآخر قد وقع لتمهيد هذه الغزوة، فقد كان من بين جنود «أمسيس» رجل
مسقط رأسه «هليكارناس» يدعى «فانس»، وكان يحمل بعض الضغن لأمسيس، وقد هرب في سفينة
من مصر بقصد التواطؤ مع «قمبيز»، ولما كان رجلًا صاحب مكانة بين الجنود وعلى معرفة
دقيقة بأحوال مصر، فإن «أمسيس» أرسل لمطاردته باذلًا كل جهد للقبض عليه؛ وقد أرسل
أشد الناس إخلاصًا من خصيانه للحاق به بسفينة، فقبض عليه في «ليسيا» (بالقرب من
«مسينا»)، ولكنه لما قبض عليه لم يحضره ثانية إلى مصر؛ لأن «فانس» تغلب عليه بحيلة،
فقد أسكر حراسه وفر إلى جانب الفرس، وعندما وصل إلى «قمبيز» وجد أنه كان ممتنعًا من
السير نحو مصر إذ كان في شك من الطريق التي يجب أن يسلكها، وكيف يمكنه أن يجتاز
الصحراء القاحلة؛ فأخبره عن أمور خاصة بأمسيس، وفسر له الطريق ناصحًا إياه هكذا: أن
يرسل إلى ملك العرب يسأله أن يمنحه سلامة المرور في أقطاره، وبذا تصبح الطريق
مفتوحة إلى مصر؛ وذلك لأنه من فنيقيا إلى حدود بلده كاديتيس
Cadytis (غزة) وهي التي كانت تابعة لأولئك الذين يسمون سوريي
فلسطين، ومن أول «كاديتيس»، وهي مدينة ليست أقل في نظري من «سادريس»
Sardes،
٢ كانت المواني البحرية حتى مدينة «خان يونس» تابعة لملك العرب، وكذلك من
«خان يونس» حتى «سربونيس»
Serbonis، وهي التي يمتد
بجوارها جبل «كاسيوس» حتى البحر كانت تابعة للسوريين، ومن بحيرة «سربونيس»، وهي
التي قيل: أن «تيفون» إله الشر قد اختبأ فيها تبدأ مصر.
والآن فإن الإقليم الذي بين مدينة «خان يونس» وجبل «كاسيوس» وبحيرة «سربونيس» ليس
بالإقليم الصغير، وقد كان خاليًا من المياه كلية على مسيرة ثلاثة أيام. وقد وصف لنا
«هردوت» بعد ذلك وصول الماء إلى هذه القفار بما أرشده إليه «فانس»، واستخدام عرب
الصحراء الذين كانوا يرعون العهود في ذلك، كما وصف لنا مهارتهم في الحصول عليه
(راجع Herod. III, 6–9)، فاستمع لما يقول:
وقد لاحظ قليل من الناس الذين يقومون بسياحات إلى مصر واقعة حال سآخذ الآن في
ذكرها. كانت أواني الفخار المملوءة بالنبيذ تجلب من بلاد الإغريق، وكذلك من
«فنيقيا» إلى مصر مرتين كل عام، ومع ذلك كما يقال لم تُرَ واحدة من أواني النبيذ
هذه فيما بعد، وقد يتساءل الإنسان كيف كان يتصرف فيها؟ وإني سأقص ذلك أيضًا. فقد
كان كل حاكم مجبرًا أن يجمع كل هذه الأواني من مدينته، ويرسلها إلى «منف»، غير أن
أهل هذه المدينة كانوا بعد ملئها بالماء يحملونها إلى الأماكن القاحلة في «سوريا»؛
وهكذا كانت الأواني الفخارية التي كانت تورد إلى مصر تضاف إلى تلك التي كانت فعلًا
في «سوريا». وعلى ذلك فإن الفرس عندما أصبحوا المسيطرين على مصر سهلوا المرور إلى
البلاد بمدها بالماء بالطريقة التي ذكرت فيما سبق؛ ولكن لما كان الماء ليس حاضرًا
فإن «قمبيز» أرسل بنصيحة الهليكارناسي الأجنبي سفراء إلى العرب وسألهم سلامة
المرور، وقد حصل على ذلك، وقد أعطاهم مواثيق الأمان كما حصل منهم عليها.
ينتقل بعد ذلك «هردوت» إلى وصف مراعاة العرب للعهود والمواثيق التي كانوا
يأخذونها على أنفسهم، وهي غاية في الطرافة والغرابة فيقول
(Herod.
III, 8): كان العرب يرعون المواثيق بتدين كأي قوم، وكانوا
يوثقونها بالصورة الآتية: فعندما يريد أي فريق أن يعقد ميثاق شرف مع الآخر كان يقف
شخص ثالث بين الفريقين، ويحدث خدشًا بحجر حاد في راحة اليد بالقرب من أطول الأصابع.
لكل من المتعاقدين، ثم يأخذ بعض الخيوط من لباس كل منهما، ويدهن سبعة أحجار تكون
موضوعة بينهما بالدم، وكان وهو يعمل ذلك يدعو كلًّا من «بكوس» (إله الخمر)
و«أورانيا»
Urania وبعد انتهاء الاحتفال يربط الشخص الذي يأخذ على نفسه الميثاق
أصدقاءه ضمانًا للأجنبي أو المواطن، إذا كان الميثاق مع مواطن وكان الأصدقاء كذلك
يعتبرون أنفسهم مرتبطين بميثاقهم. ولا يعترفون بأي آلهة آخرين غير «بكوس» و«أورانيا»
٣ ويقولون: إن شعرهم كان يقص على طريقة قص شعر «بكوس»، ولكنهم كانوا
يقصونه بصورة مستديرة جانبية عند الصدغين وكانوا يسمون «بكوس» أوروتال، ويسمون
أورانيا «اللات».
وعلى ذلك عندما تبادل العربي المواثيق مع السفراء الذين أتوا من قبل «قمبيز» اتبع
الحيلة التالية (في توصيل الماء للفرس)، فبعد أن ملأ جلود الجمال بالماء حمله على
جماله الحية كلها، ثم ساقها إلى الإقليم القاحل وهناك انتظر جيش «قمبيز»، وهذه أصدق
الروايات التي رويت، غير أنه من الصواب أن نذكر رواية أخرى، وإن كانت أقل صدقًا إلا
أنها قد أكدت أيضًا: كان يوجد نهر كبير في بلاد العرب يدعى «كوريس» Corys يصب في ذلك الذي يسمى البحر الأحمر. وقد
قيل: إن ملك العرب وقتئذ قد خاط أنبوبة من جلود الثيران وجلود أخرى، بحيث كان طولها
يصل ما بين هذا النهر وبين الإقليم القاحل، ثم حمل الماء بواسطتها، وفي وسط الإقليم
القاحل حفر صهريجًا عظيمًا وحفظ الماء فيه، وبذلك حمل الماء بوساطة ثلاثة أنابيب
إلى ثلاثة أماكن مختلفة.
وهكذا تمكن قمبيز من اجتياز الصحراء بوساطة الماء الذي كان يجلب إلى جيشه عبر
الصحراء، حتى وصل إلى أبواب مصر، ولو قطعت هذه الأنابيب لانقطعت الأسباب أمامه،
ولأخفق في فتح مصر والاستيلاء عليها.
وما أشبه اليوم بالبارحة فقد وقف قطع أنابيب البترول التي تمر عبر البلاد السورية
والأردنية حجر عثرة في وجه الغزاة المجرمين، الذين أرادوا احتلال بلاد الشرق
الأوسط، والسيطرة عليه بعد أن تحرر من ظلمهم. وفي تلك اللحظة التي كان يسير فيها
جيش «قمبيز» عبر الصحراء للإغارة على مصر، كانت الأمور قد تغيرت، فقد علم «قمبيز»
عند وصوله إلى بلوز أن عدوه الجبار «أمسيس» قد مات بعد مرض لم يمهله طويلًا، وخلفه
على عرش الملك ابنه «بسمتيك الثالث»، وهذا التغير في قيادة الجيش في تلك اللحظة
التي تعد أقصى ما يكون من الحرج والخطورة في مستقبل البلاد كان في حد ذاته كارثة
عظمى، إذ إن «أمسيس» بتجاربه الفائقة في أحوال الرجال والأمور الدقيقة، ومعرفته
التامة بموارد ثروة مصر وإمكانياتها ومواهبه العسكرية في حسن القيادة، ونفوذ شخصيته
على من حوله، وضربه بسهم صائب في العلوم الهيلانية، كل هذه الصفات قد جعلت رجاله
يذعنون له بالطاعة، كما جعلت الأجانب يبجلونه ويقدرونه حق قدره، والآن ما عساه أن
يقال عن خلفه «بسمتيك» الذي ورث عرشه؟
لقد كان في الواقع لقصر مدة حكمه يعد نكرة في نظر المؤرخين، لدرجة أن بعضهم قد
تجاهل وجوده وزعم أن فتح الفرس لمصر قد وقع في عهد «أمسيس»، وبخاصة كتاب الإغريق
(راجع Aristotle, Rhetoric II, 8; John of Antioch, Fragm. 27; in
Muller-Didot, Fragm. Hist. Graec. Vol. IV, P. 552; Wiedemann, Geschichte, P.
P. 660, 661.).
ويجوز أن سبب ذلك كان قصر مدة حكمه. ويجوز أن «بسمتيك» كان الرجل الذي يمكنه أن
يقابل هذا العاهل الجبار بما لديه من موارد محدودة، غير أنه لم تكن لديه الخبرة
الكافية للتصرف في استعمالها بما يضمن له النصر. هذا فضلًا عن الجو السياسي في
العالم الذي كان ينذر بسوء المنقلب لمصر، كما كانت الحال في القرن المنصرم عندما
كانت مصر مهددة بأمم نهر دجلة والفرات، بل كانت الآن في خطر ينذر بشن الخراب عليها
من كل آسيا من أول نهر السند حتى الدردنيل، وبعبارة أخرى كل بلاد الإمبراطورية
الفارسية. وقد زاد الطين بلة أن مصر في تلك الفترة لم يكن لديها أي حليف من البشر،
بل لم ترحمها الآلهة فكأنما قد تخلوا عنها في وسط تلك المحنة، وقد بدت علامات ذلك
فيما أظهره الفلاح المصري من التشاؤم بما ظهر من سقوط المطر في إقليم مصري، قل أن
تنهمر فيه السحاب الثقال، وذلك أن المطر قل أن يسقط في إقليم «طيبة» دون أن تحدث
فيه عواصف إلا مرتين أو ثلاث مرات في كل قرن من الزمان، غير أنه بعد تولي «بسمتيك
الثالث» عرش الملك نزل مطر خفيف في «طيبة»، وقد حملت أنباء ذلك إلى أنحاء البلاد
بالمبالغة التي يحملها رواة السوء، وتدل شواهد الأحوال على أن سقوط المطر في منطقة
«طيبة» كان يعد نذير سوء حتى أيامنا، فمن ذلك ما روي أن أهل الصعيد في بداية القرن
التاسع عشر عندما كانوا يتحدثون عن حملة «نابليون» كانوا يقولون: نحن نعلم أن مصيبة
تهددنا وذلك بسبب أن السماء أمطرت في «الأقصر» قبل الحملة بقليل. والواقع أن
الأمطار قليلة جدًّا في هذه الجهة، وعلى أية حال تشاءم القوم، وظنوا أن كارثة لا بد
أن تحل بمصر على يد الفرس الغزاة.
هذا وقد أسرع «بسمتيك» لمقابلة عدوه بما لديه من جنود وعربات ورماة من الأهلين،
وذلك بالإضافة غلى ما كان معه من جنود من اللوبيين والسيريين والنونيين والكاريين،
وإغريق الجزائر واليابسة.
ولندع الآن «هردوت» يحدثنا عن ذلك، فاستمع لما يقول: عسكر «بسمتيك» بن «أمسيس»
عندما يسمى مصب النيل البلوزي منتظرًا «قمبيز»؛ وذلك لأن «قمبيز» لم يجد «أمسيس»
حيًّا عندما زحف على مصر، بل مات بعد أن حكم أربعًا وأربعين سنة لم تحدث في خلالها
أية مصيبة عظمى، ولكنه بعد أن مات وحنط دفن في الضريح الذي في المنطقة المقدسة التي
بناها هو …
وفي خلال مدة حكم «بسمتيك» بن «أمسيس» حدثت أكبر أعجوبة للمصريين، وذلك أن المطر
سقط في «طيبة» المصرية مما لم يحدث من قبل ولا في زمني، كما يؤكد ذلك الطيبيون
أنفسهم؛ وذلك لأنه لم يسقط قط مطر في أقاليم مصر العليا، ولكن كان يسقط المطر
أحيانًا قطرات في طيبة. وبعد أن قطع الفرس الإقليم القاحل عسكروا بالقرب من
المصريين، كأنما كانوا مصممين على الاشتباك معهم. وهناك انتقم جنود المصريين الذين
كانوا يتألفون من إغريق وكاريين من «فانس»؛ لأنه قد قاد جيشًا أجنبيًّا على مصر،
وقد اتخذوا الطريقة الآتية ضده: فقد ترك «فانس» أولاده خلفه في مصر، فأحضروهم إلى
المعسكر على مرأى من والدهم، ووضعوا وعاء في وسط الطريق التي بين الجيشين ثم جروا
الأطفال واحدًا فواحدًا، وذبحوهم فوق الوعاء وعندما ذبحوا كل الأطفال صبوا نبيذًا
وماءً في الوعاء، وبعد أن شرب كل الجنود من الدم انضموا في الحال إلى المعركة وقد
دار قتال شديد، وعندما سقطت أعداد كبيرة من كلا الجانبين اضطر المصريون إلى
الفرار.
وعلى أية حال لم يكن قد ضاع كل أمل في إنقاذ البلاد، إذ كان «بسمتيك» قد حمى
بجنوده المنافذ المؤدية إلى قنوات النيل وفروعه المختلفة، محاربًا الفرس في كل شبر
من الأرض كما فعل من قبله تهراقا (راجع مصر القديمة الجزء العاشر)، وبذلك كان يكسب
الوقت ليجمع فيه جيشًا جديدًا لمحاربة العدو، غير أن «بسمتيك» قد فقد صوابه، وأسرع
ليحتمي في داخل جدران «منف» دون أن يحاول جمع شتات جيشه المهزوم. وقد مكث «قمبيز»
بضعة أيام لإخضاع «بلوز». ويقال: إن «قمبيز» قد أراد أن يشل حركة المقاومة في تلك
البلدة المحاصرة بحيلة ذكرها «بوليانوس» (راجع Polyaenus Stratigma
VIII, 9)؛ وذلك أنه أمر بأن توضع قطط وكلاب وحيوانات أخرى
مقدسة على رأس القوة المهاجمة، وعلى ذلك لن يجسر المصريون على أن يستعملوا أسلحتهم
خوفًا من جرح أو قتل بعض آلهتهم.
هذا وفي الوقت نفسه الذي كانت تحاصر فيه «بلوز» أرسل «قمبيز» سفينة ميليتي يطلب
من «منف» السليم، غير أن الشعب الثائر عندما سمع بهذه الرسالة قتلوا الرسول
والبحارة، وجروا جثثهم الدامية في شوارع المدينة، وقد مكثت «منف» تقاوم مدة طويلة،
إلى أن اضطرت في النهاية لفتح أبوابها، هذا بالإضافة إلى أن أهل الصعيد الذين كانوا
لا يزالون يقاومون سلموا، ومن ثم أصبحت كل مصر حتى «أسوان» شطربية فارسية. أما
اللوبيون فلم ينتظروا أن يطلب إليهم التسليم، بل أتوا خاضعين مقدمين الجزية، وقد
حذا حذوهم بلاد «سيريني» و«برقا»، غير أن هداياهم كانت ضئيلة لدرجة أنها أثارت حنق
«قمبيز»، واعتبر أنه قد أهين بذلك، فأرخى لغضبه العنان، حتى إنه بدلًا من قبولها
ألقى بها إلى جنوده بيده …
وقد وصف لنا «هردوت» استمرار القتال بعد فرار الجيش إلى «منف»، فاستمع لما يقول
(Herod. III, 13): «وعندما هزم المصريون هربوا
في غير نظام كلية من ساحة القتال، وعندما حصنوا أنفسهم في «منف» أرسل إليهم سفينة
ميليتينية صاعدة في النيل على ظهرها رسول فارسي لدعوة المصريين للتسليم، غير أنهم
عندما رأوا السفينة تدخل «منف» هجموا في كتلة واحدة من الجدار، وحطموا السفينة وبعد
أن مزقوا الملاحين إربًا إربًا حملوا إلى القلعة. وبعد ذلك حوصر المصريون وأخيرًا
سلموا. ولما خاف اللوبيون المجاورون لهم مما أصاب مصر سلموا أنفسهم دون مقاومة،
وخضعوا لدفع جزية وهدايا، وكذلك السيرينيون والبرقيون فقد استولى عليهم الذعر مع
اللوبيين ففعلوا مثل ما فعلوا. وقد تسلم «قمبيز» عن طيب خاطر الهدايا التي أتت من
اللوبيين، ولكنه تألم من التي قدمها «السيرينيون» كما أظن؛ لأنها كانت قليلة؛ وذلك
لأن «السيرينيين» أرسلوا خمسمائة «مبنا» من الفضة وقد قبضها بيده ووزعها بنفسه على
الجنود.»
وقد وقع الفرعون «بسمتيك الثالث» أسيرًا في يد الفرس. وقد كان لانهيار مصر
المفاجئ وتدهورها السريع — بعد أن كانت تحتل مكانة علية بين ممالك العالم قرونًا
عدة قاومت خلالها كل مهاجم يريد الاستيلاء عليها — رنة أسى وحزن في نفوس المصريين،
وبخاصة نهاية ملكها الفتى الذي لم يكد يعتلي عرش الملك حتى انتزع منه، لدرجة أنه قد
حيكت حول سقوطه ومعاملة «قمبيز» له الأقاصيص التي لا بد قد نقلها «هردوت» عن أفواه
العامة، الذين كانوا لا يزالون يذكرون أيام بؤس مصر وشقائها. فاستمع لما قاله والد
التاريخ في ذلك (راجع Herod. III, 14): «في اليوم
العاشر بعد استيلاء «قمبيز» على قلعة «منف» أجلس بسمتيك ملك المصريين الذي كان قد
حكم ستة أشهر فقط عند مدخل المدينة احتقارًا له، وكان قد أجلسه مع مصريين آخرين،
وقد عمل امتحانًا لشجاعته بالطريقة الآتية: فقد ألبس ابنته ملابس أَمَة وأرسلها
ومعها جرة لتحضر ماء، وأرسل معها عذارى أخريات انتخبت من بنات رؤساء الأسر، وألبسهن
بنفس الطريقة التي ألبست بها ابنة الملك، وعندما أتت العذارى يولولن في حضرة آبائهم
أجاب الآباء عليهن بالبكاء، عندما رأوا بناتهم ذليلات بهذه الكيفية، ولكن «بسمتيك»
وحده من بينهم عندما رأى وعرف ما كان جاريًا، فإنه نظر بعينيه إلى الأرض وحسب.
وعندما مرت حاملات المياه هؤلاء، أرسل الملك ثانية ابنه ومعه ألفان من المصريين
من نفس سِنِّه وحول رقابهم أرسان ولجم في أفواههم، وقد اقتيدوا ليوقع عليهم
الانتقام من أجل أولئك الميلتيين الذين ماتوا في «منف» مع السفينة، وقد قضى القضاة
المليكون بالحكم على عشرة رجال من رؤساء المصريين بالإعدام، ومع ذلك فإنه عندما
رآهم مارين به، وعلم أن ابنه كان يقاد إلى الموت لم يفعل غير ما فعله عندما مرت به
ابنته، على الرغم من أن سائر المصريين الذين جلسوا حوله بكوا وأعولوا. ولكن بعد أن
مر به هؤلاء، اتفق أن واحدًا من رفاقه الطيبين، وكان متقدمًا في السن بعض الشيء قد
فقد كل ما يملك، ولم يكن لديه إلا ما يملكه شحاذ، وكان يسأل إحسانًا من الجنود، وقد
مر «ببسمتيك» بن «أمسيس» والمصريون جالسون في الضواحي، ولكن «بسمتيك» عندما رآه
يبكي بمرارة مناديًا أصدقاءه بالاسم، لطم «بسمتيك» من أجل ذلك. وعلى أية حال كان
هناك جواسيس أوصلوا إلى «قمبيز» كل شيء قد حدث منه في كل موكب؛ غير أن «قمبيز» قد
دهش من هذا الملك، وأرسل رسولًا مستعلمًا منه عما يأتي: يا «بسميتوس» إن سيدك
«قمبيز» يسأل لماذا عندما رأيت ابنتك قد ذلت وابنك أرسل إلى الإعدام لم تنح أو
تتوجع، وكنت جد مهموم من أجل شحاذ ليس له بك صلة نسب كما أخبر بذلك؟ وبعد ذلك سأل
هذا السؤال، ولكن بسمتوس جاوب كالآتي: يا ابن «كورش» إن مصائب أسرتي أكبر من أن
يعبر عنها بالعويل، ولكن أحزان صديقي كانت جديرة بدموعي، فهو الذي قد هوى من الثراء
والسعادة وأصبح يتكفف وهو على شفا الهرم. وعندما عاد الرسول بهذا الجواب ظهر لقمبيز
أنه قد أحسن القول، وقد بكى كما يقول المصريون «كروسوس»؛ لأنه كان قد وافق «قمبيز»
إلى مصر، وقد بكى كذلك الفرس الذين كانوا حاضرين، وكذلك قد تأثر «قمبيز» نفسه
وأخذته الشفقة، وأعطى الأوامر في الحال بنجاة ابنه من بين أولئك الذين سيعدمون، وأن
ينقلوه ويحضروه من الضواحي إلى حضرته. غير أن الذين كانوا قد أرسلوا من أجل ابنه
وجدوا أنه لم يعد بعد على قيد الحياة. وقد اقتيد «بسميتوس» نفسه إلى «قمبيز»، وقد
عاش فيما بعد معه دون أن يلاقي أي عنف، ولو لم يكن قد اتهم بأنه يتآمر كان من
المحتمل أن تعاد إليه مصر، ويوكل إليه أمر حكومتها؛ وذلك لأن الفرس كانوا قد
اعتادوا احترام أولاد الملوك، وحتى لو شقوا عليهم عصا الطاعة، فإنهم مع ذلك كانوا
يقلدون أولادهم مهام الحكم … ولكن كان «بسميتوس» يدبر السوء؛ ولذلك نال جزاءه، فقد
كشف أنه يحرض المصريين على الثورة، وعندما كشفه «قمبيز» أجبره أن يشرب دم ثور، ومات
على الأثر وهكذا كانت نهايته.»
هذه هي رواية «هردوت» عن الملك «بسمتيك الثالث» ونهايته، غير أن لدينا رواية أخرى
رواها مؤرخ يوناني آخر كان طبيبًا لملك الفرس «ارتكزر كزيس»، يدعى «كتزياس»
Ctesias؛ وقد كتب كتابًا عن الفرس. وعلى حسب ما
ذكره هذا المؤرخ نجد أن «بسمتيك» قد ترك دون أن يلحق به أي سوء؛ وأرسله «قمبيز» مع
ستة آلاف من الناس إلى سوسا (راجع Fragm. 29 § 9 in Muller Didot,
ctesiae Cnidii Fragmenta, P. 47.).
ولا نزاع في أن هناك فرقًا عظيمًا بين رواية «هردوت» ورواية «كتزياس» طبيب ملك
الفرس. والظاهر أن «هردوت» سمع قصته من المصريين، وهي مشرفة لهم وتنم عن روح مصرية
عالية ووطنية صادقة، أما الرواية الثانية فتدل على روح فارسية كتبها هذا المؤرخ
ليدافع عن ملوك الفرس، ويظهر أنهم كانوا أهل تسامح وكرم، ولكنها في الواقع قصة لا
أساس لها من الصحة.
٤
وهكذا كانت نهاية الدولة الفرعونية التي مكثت آلاف السنين تحمل شعلة المعرفة
والثقافة، تضيء بها على شعوب العالم من أول عهد «مينا» حتى عهد «بسمتيك الثالث»،
الذي أسلم روحه على ما أعتقد في سبيل تحرير مصر، وتخليصها من يد الغاصب
الفارسي.