المدنية المصرية في العهد الساوي
تدل كل الظواهر على أن مصر قد لبست ثوبًا جديدًا في عهد الأسرة السادسة والعشرين يوحي بقيام نهضة عارمة، سارت بالبلاد قدمًا نحو فجر جديد يعيد لها ماضيها التليد، وحضارتها العريقة في القدم وثقافتها المتشعبة النواحي، وذلك عندما تولى عرش ملكها فرعونها الفتى «بسمتيك الأول»، وأخذ بثاقب فكره يرى ضرورة اختلاط بلاده بالشعب الإغريقي، وما انطوت عليه بلاده من حضارة فنية وثقافية أصيلة لم تكن مصر تعرفهما من قبل، وبخاصة ما امتاز به أهل الشعب الإغريقي من النبوغ في الفنون الحربية الحديثة، التي كان يعرفها المصريون على الرغم من عراقتهم في ضروب الطعن والنزال.
ويرجع الفضل الأكبر في اتصال القطرين بعضهما ببعض إلى الملك «بسمتيك الأول»، الذي يعتبر الدعامة الأولى في تأسيس دولة «سايس» في مصر، فقد انتهز بما أوتي من حذق ومهارة وذكاء فذ الموقف السياسي المناسب وقتئذ لبلاده في العالم لتحسين حالة مصر والنهوض بها، وقد بدأ أولًا لمدة فترة وجيزة بتطهير داخل بلاده مما كانت تواجهه من الصعاب، وقد كان أول ما بدأ به هو التغلب على أولئك الأمراء الإقطاعيين الذين أبوا الخضوع له طوعًا؛ وعلى أية حال لم يستمر النضال لإخضاعهم طويلًا، إذ بعد انقضاء سنين قلائل خضعوا له جميعًا عن طيب خاطر، وإن كان بعضهم لم يسلم إلا بعد هزيمة نكراء. وقد رأى بسمتيك ألا يضع الفريق الأخير من هؤلاء الأمراء، الذين كان لا يزال يخاف شرهم إلا في مناصب كبيرة اسمية لا تمكنهم من القيام عليه كرة أخرى. فمن هؤلاء مثلًا الأمير «منتومحات» الطيبي، فإنه لم يكن يتمتع في عهد بسمتيك بأي استقلال سياسي كما كانت الحال فيما مضى، ولكنه مع ذلك كان يحمل الألقاب التي كانت تؤهله لذلك؛ أي إنها كانت قد أصبحت ألقاب شرف وحسب، وكذلك نلحظ فيما ذكرناه آنفًا أنه حتى أسرة أمراء رؤساء السفن الذين كان مقرهم في أهناسيا المدينة قد فقدوا، على الرغم من مصادقة عظمائها القديمة للفرعون «بسمتيك»، كل ما كان لهم من سلطان ونفوذ إقطاعي؛ وذلك لأن الفرعون «بسمتيك» كان قد أخذ في اتباع تنصيب الأمراء القدامى في وظائف حكومية إدارية بعيدة عن موطنهم الأصلي بقدر الإمكان، وذلك بعد سلبهم كل سلطتهم الإقطاعية. ومن ثم يلحظ أنه بعد نهاية العام الرابع والثلاثين من حكم «بسمتيك»؛ أي حوالي عام ٦٣٠ق.م قد اختفت عن الأعين وظيفة رياسة السفن الوراثية التي كانت تتمتع بها أسرة واحدة بعينها؛ وذلك لأنه لم يكن هناك مجال لوجود مثل هذه الوظيفة المستقلة أو شبه المستقلة، وهي الوظيفة التي كان يتمتع بها صاحبها كما شاهدنا من قبل بنفوذ عظيم في كل من مصر الوسطى ومصر العليا في مملكة جديدة موحدة. وبسبب اختفاء هذه الوظيفة الوراثية نصادف في «أهناسيا المدينة» قائدًا حربيًّا يدعى «حور» تحت سلطان الفرعون مباشرة، وقد قام ببناء عمائر غاية في الجمال، كما قام بعمل إصلاحات في معبد الإله «حرسفيس» (حرشف معبود أهناسيا المدينة)، وقد كانت أهناسيا هي مسقط رأسه، ولكنه كان قبل ذلك قد عين قائدًا في الوجه البحري في مقاطعة «بوصير»، وهي المقاطعة التاسعة من مقاطعات الوجه البحري (راجع أقسام مصر الجغرافية في العهد الفرعوني للمؤلف ص٧٨). وكان والده يدعى «بسمتيك»، ومن ثم نجد هنا في «أهناسيا المدينة» رجلًا من المقربين جدًّا للأسرة الساوية، ومع ذلك سنرى أن نسل أمراء «أهناسيا المدينة» قد استمر حتى عهد «الإسكندر الأكبر»، كما يلحظ ذلك في أسرة الأمير «سمتاوى تفنخت» الذي بقيت أسرته قائمة في أهناسيا حتى عهد «الإسكندر الأكبر»، ولكن لم يكن لها النفوذ الإقطاعي العظيم الذي كانت تتمتع به من قبل.
والواقع أن هؤلاء الأمراء وكذلك الملك «بسمتيك» نفسه وأسرته لم يكونوا من أصل مصري، وذلك أنه منذ عهد الدولة الحديثة كان السواد الأعظم من أفراد جيش فرعون من أصل أجنبي لوبي بوجه خاص؛ فمنذ عهد «رعمسيس الثالث» كان الجيش المصري يحتوي على جنود لوبيين بصورة متزايدة على مر الأيام، حتى أصبح كل رجال الجيش فيما بعد يتألفون من هذا العنصر بوجه عام، أما المواطنون المصريون الأصليون في المدن والقرى، فقد أبعدوا عن حمل السلاح بصورة مستمرة، حتى انتهى بهم الأمر إلى أن أغلق في وجوههم باب الجندية والخدمة في الجيش العامل.
وقد كان كل جندي من هؤلاء لا يستمر مدة طويلة في وظيفته دون أن يرقى؛ وذلك لأن قائدهم الأعلى كان دائمًا يرعاهم ويرقيهم إلى وظائف أعلى بحسب الكفاية، وقد انتهى الأمر بهؤلاء الجنود اللوبيين في عام ٩٥٠ق.م أن اعتلى أحد كبارهم العظام وهو شيشنق الذي كان من أسرة عريقة في الجندية عرش الفراعنة. وفي خلال القرنين ونصف القرن التي تلت توليه عرش الملك، أخذت البلاد في النهاية إلى التمزيق، وأصبحت تتألف من عدة مقاطعات صغيرة كان يحكمها أخلاف شيشنق الأول وقواد المشوش الذين كانوا منتشرين في البلاد بوصفهم ملوكًا، وأمراء مستقلين تقريبًا.
وفي عام ٦٥٥ق.م أرسل «جبجيز» ملك «ليديا» (وهي بلاد قديمة في آسيا الصغرى، وتقع بين بلاد «ميزيا» و«فريجيا» و«كاريا» وبحر «ايجه» وعاصمتها «ساردس») جنودًا من الأونيين والكاريين لمساعدة «بسمتيك». ولا نزاع في أن الرواية الإغريقية القديمة كانت على حق عندما تذكر أن مساعدة هؤلاء الأجانب كانت العامل الفاصل في نجاح «بسمتيك» في حروبه الداخلية مع أمراء الإقطاع الذين ثاروا عليه في أول حكمه، وبعد انتهاء هذه الحروب الداخلية بسرعة لم يترك «بسمتيك» الإغريق والكاريين الذين كانوا في خدمته يعودون إلى أوطانهم، وقد فضل هؤلاء من جانبهم أن يسكنوا في مستعمرات خاصة بهم مثل جنود المشوش، وقد رأى «بسمتيك» بما أوتيه من بعد نظر أن يوزع الجزء الأكبر من خيرة جنوده هؤلاء على الثغور الخطرة من بلاده، وأعني بذلك الحدود الشمالية الشرقية التي كانت عرضة للغزو، ومن ثم أسس ما دعي «معسكر الجيش» عند فرع النيل البلوزي في أسفل مدينة «بوبسطة»، ثم بدأ يعلم المواطنين المصريين اللغة الإغريقية؛ وذلك ليكونوا تراجمة لهؤلاء الوافدين الجدد من الإغريق. ولم يكن قصد هؤلاء الإغريق والكاريين أن يكونوا جنودًا مرتزقين أو سياحًا، بل جاءوا ليحصلوا من الأرض التي يستعمرونها أن تكون ضمانًا لإقامتهم بعد أن تغربوا عن بلادهم، وذلك في مقابل ما يقدمونه من الالتزامات التي تعهدوا بها في خدمة الجيش المصري.
وقد كان السبب الأساسي لكل هذه المظاهر التي أبدتها مصر نحو بلاد الإغريق هو حاجة بسمتيك الملحة لكسب ثقة الرجال المهرة المدربين من الأجانب؛ لينخرطوا في صفوف جيشه. ومما يطيب ذكره في هذا المقام أن العلاقات التجارية بين مصر وبلاد الإغريق كان لا يمكن أن تنقطع، كما كان الفرعون يرغب في الوقت نفسه في تنميتها وتعضيدها كثيرًا، وإن كانت في الأصل ليست ذات موضوع لدى بسمتيك. أما من حيث سياسة القوة، فإنها لم تقم بأي دور هام في إيجاد العلاقات بين الساوية وبلاد الإغريق، منذ عهد بسمتيك حتى عام ٥٤٦ق.م بوجه عام؛ أي إن مصر لم تعتمد على جيش إغريقي ليساعدها في حروبها، على أنه من الخطأ أن يقال: إن جيش الفرعون «بسمتيك» كان مؤلفًا من جنود إغريق وكاريين وحسب، كما نجد ذلك مذكورًا بشيء من التحيز من الجانب الإغريقي.
والواقع أن الإغريق والكاريين قد لعبوا دورًا ممتازًا من حيث القدرة والكفاية، وكذلك من حيث العدد بوصفهم جنودًا مرتزقة، ولكن لا يفوتنا أنه كان يوجد بجانبهم في ساحة القتال جنود من اليهود والفنيقيين والسوريين واللوبيين والنوبيين. فنعلم من الأوراق البردية التي عثر عليها في «الفنتين» أنه كانت توجد مستعمرة يهودية في العهد الفارسي تحتوي على جنود من اليهود، غير أن هؤلاء اليهود كانوا يقيمون هناك قبل العهد الفارسي بزمن طويل. وقد كانت الحكومة المصرية قد سمحت ليهود «الفنتين» بإقامة معبد في حاميتهم هناك. وليس لدينا من برهان مبين لتوضيح ميزة المستعمرة اليهودية الحربية أكثر من أنها كانت ثابتة في مكانها المعين، ولكن الإنسان يتساءل متى أسست هذه الحامية اليهودية في الفنتين؟
وهكذا نما المجتمع اليهودي القاطن في «الفنتين» بما كان يفد إليه من جنود مهاجرين؛ على أن الحامية لم تكن تحتوي على يهود وحسب، بل كان يوجد بينهم جنود آخرون من الآسيويين واليهود، بل ويحتمل كذلك من اللوبيين. هذا ونجد عدا ذلك لوبيين في الجيش الساوي، هذا بالإضافة إلى نوبيين وسوريين وفنيقيين.
وعلى الرغم من أن المادة التاريخية التي تؤكد لنا ذلك قليلة، فإن ذلك يمكن فحصه على أحسن وجه لما لدينا من معلومات من عهد الملك «بسمتيك الثاني»، وعلى الرغم من ذلك فإنه لا بد أن يثق المرء في النتائج التي توصلنا إليها من درس عهد بسمتيك الأول؛ وذلك لأن ما نعلمه فيما بعد عن نظام الجيش في عهد الأسرة الساوية كان لا بد قد أخذ عن الأنظمة التي وضعها مؤسس الدولة، سواء أكان ذلك في الأمور الدينية أم فيما يتعلق بنظام الجيش وإعداده.
- (١)
فرقة من المصريين بقيادة «أحمس».
- (٢)
فرقة من الإغريق بقيادة «بسمتيك» بن «تيوكلس».
- (٣)
فرقة من باقي الأجانب بقيادة «بوتاسيمتو».
على أنه توجد هنا صعوبة حقيقية لا بد من التغلب عليها، وهي ما ذكره «هردوت» من أن المؤتيين والكاريين كانوا أول أجانب سمح لهم بالدخول في مصر. ولكن الموضوع هنا يتوقف على عبارة أجانب، إذ إنها تعني كل ما ليس بمصري بما في ذلك الإغريق. والآن يتساءل الإنسان كيف تكون الحال عندما نقرن مكانة الإغريقي «بسمتيك» بمكانة بوتاسيمتو؟ فهل كانا في مكانة متساوية؟ والواقع أنه لدينا تابوت وآنية قربان لقائد مصري يدعى «بوتاسيمتو = بدي سماتوى»، وتمثال القائد يدعى أحمس (أمسيس)، وقد كان كل من هذين القائدين يمزج في اسمه اللقب الذي كان يلقب به بسمتيك الثاني، وهو «نفر-اب-رع» بوصفه الاسم الذي كان ينادى به كل منهما، وهو ما يطلق عليه عند المصريين «الاسم الجميل» فكان القائد الأول يسمى: «(نفر-اب-رع) نب كنت»، والقائد الآخر يدعى «(نفر-اب-رع) نخت» ومن ثم يمكن القول: إنهما كانا معاصرين لهذا الفرعون. والبيانات التي وردت على الآثار تدل دلالة واضحة دقيقة، على أنهما هما الشخصان اللذان ذكرا على تمثال «أبو سمبل». وبذلك لا يوجد أي شيء في شخصيتهما، وقد تحدثنا عنهما بإسهاب عند الكلام على آثارهما فيما سبق.
وكان أول ما نشاهده في ألقابهما هو أن «بوتاسيمتو» كان قائد الجنود الإغريق، في حين أن «أحمس» كان لا يحمل هذا اللقب، وعلى ذلك كانت العلاقة بينهما في الحملة النوبية واضحة، فقد كان أحمس يقود الفرقة المصرية المؤلفة من جنود المشوش، في حين أن «بوتاسيمتو» كان يقود كل الجنود الأجانب. وكان «بسمتيك» بن «تيوكلس» بوصفه ضابطًا للجنود الإغريق في جيش «بوتاسيمتو» مرءوسًا للأخير.
هذا وبفحص التماثيل وغيرها من الآثار التي من العصر الساوي يمكن مضاعفة هذه الأمثلة. وهكذا نرى أن الجنود الأجانب كانوا مقسمين على حسب قومياتهم إغريقًا ويهودًا ولوبيين … إلخ، وكان كل قسم بإمرة ضابطه، ولكن هذه الأقسام كلها كانت تحت إمرة القائد الأعلى المصري، وهذا ينطبق حتى على القواد المدربين القدامى في خدمة الساويين، كما يلحظ ذلك في حالة بسمتيك الأفريقي الذي تحدثنا عنه.
ولم تحفظ لنا التقاليد المكتوبة التي وصلت إلينا أسماء رجال تدل على المركز الثانوي الذي كان يشغله القواد الإغريق، والمثال الوحيد الشاذ الذي وصل إلينا من هذا القبيل هو «فانس الهلكرناسي»، الذي ذكره «هردوت» في آخر العهد الساوي، وقد تحدثنا عنه فيما سبق. على أن هذا المثل ليس حاسمًا، إذ لم يقم هذا القائد بدور رئيسي في قيادة جيش في مصر، بل كانت شهرته تنحصر في دور الخائن الذي لعبه بانضمامه إلى الفرس، وقد لقي جزاء خيانته. وتدل شواهد الأحوال على أن «فانس» هذا لم يشغل مكانة عالية مثل المكانة التي كان يشغلها بسمتيك بن «تيوكلس» بأية حال من الأحوال. وذلك على الرغم من مهارته وذكائه، ومما لا شك فيه أن إسناد القيادة العليا إلى ضابط مصري كبير بمفرده لم يكن كافيًا لإدارة جيش متعدد القوميات والنزعات، كما لم يكن كافيًا لإيجاد نظام حقيقي بين صفوفه، وعلى ذلك لم يكن هذا الجيش المؤلف بهذه الكيفية أداة حرب من الطراز الأول بأية صورة. وحقيقة الأمر أن حامية مثل حامية الفنتين التي كان جنودها معسكرين في حصن واحد باستمرار، كان مثلهم كمثل معسكر جنود المشوش يعملون فقط في مناسبات، وكان محرمًا على جنودها في الأصل أن يعملوا في صناعات أخرى خارجة عن أعمال الجيش. وعندما قرن «أرميا» في الإصحاح ٤٦ سطر ٢١ مرة جنود مصر بعجول الحظائر، التي تفر أمام العدو بقوله: «أيضًا مستأجروها في وسطها كعجول صغيرة؛ لأنهم هم أيضًا يرتدون ويهربون معًا. لم يقفوا؛ لأن يوم هلاكهم أتى عليهم وقت عقابهم.» فإن ذلك كان في الواقع خبثًا منه، ولكنه لم يخطئ كل الخطأ في تصويره هذا.
ولا نزاع في أن فراعنة مصر كانوا على معرفة تامة مثل «نبوخد نصر» بهذه النقائص، يدل على ذلك دلالة لا لبس فيها ولا إبهام سياستهم الخارجية التي كانت متخذة خطة الدفاع لا الهجوم. على أن تجاهل الفرعون «إبريز» ما كان عليه جيشه من ضعف في قوته ونظامه قد كلفه في نهاية الأمر فقدان عرشه ثم هلاكه هو؛ وقد ظلت مصر من جراء ذلك حوالي عشرين عامًا تتعثر في أذيال الاضطرابات والثورات التي انتشرت في أنحائها، فلم يكن من باب الصدف ما علمناه من قيام عصيانين كبيرين في عهد «إبريز»؛ فقد قام لسبب غير معلوم عصيان في حامية الفنتين، وقرر جنودها الذهاب إلى «بلاد كوش»، وهذا القرار يذكرنا بالقرار الذي اتخذه جنود المشوش قبل ذلك بجيلين، ولكن على الرغم من ذلك وصل قائد الحامية «نسحور» المصري، وهدأ العصيان كما يقول بإغداق العطايا على الثائرين، ومن ثم سيطر على الموقف وأعاد النظام إلى نصابه، وبالنسبة لهذه الحالة فإن هذه النتيجة المرضية قد ترجع إلى كبرياء «نسحور».
وقد حلت بجيش «إبريز» في آخر أيام حكمه كارثة في حرب مع بلاد «سيريني» (لوبيا) كما ذكرنا من قبل. ومن ثم اندلع لهيب عصيان كانت نهايته سقوط الفرعون وموته. وفي هذه المرة كان هناك سبب آخر أدى إلى هذه النتيجة المحزنة؛ فقد كانت توجد بين المصريين واللوبيين من قبيلة «المشوش»، الذين في خدمة الأسرة الساوية وبين الجنود الأجانب منافسة مستمرة. ومن المحتمل أن «إبريز» بما أظهره من مجاملة ومحاباة للإغريق قد زاد في إذكاء الأحقاد التي كانت بين الفريقين. وقد كان لهزيمة المصريين على يد الإغريق «سيريني» أثر سيئ في نفوس المصريين، أدى إلى كرههم الإغريق الذين كانوا في مصر مما جعلهم يكنون لهم أشد العداء، ويتمنون مغادرتهم الديار المصرية. يضاف إلى ذلك أن اغتصاب «أحمس» قائد الجنود المشوش للعرش والحروب التي شنها على «إبريز» من عام ٥٦٩ق.م حتى عام ٥٦٧ق.م، وهي الحروب التي انضم فيها المصريون إلى جانب «أحمس» المغتصب، في حين كان الإغريق والكاريون في جانب «إبريز»، مما زاد في شقة الخلاف بين شطري الجيش وانتشار الفوضى في داخل البلاد. ومع ذلك فإن أحمس بعد انتصاره على خصمه مباشرة قد أظهر أنه لا يمكنه أن يستغني عن الجنود الإغريق.
غير أن تأسيس الإسكندرية في عام ٣٣١ق.م كان فيه القضاء المبرم على هذه المستعمرة العظيمة، وقد ظلت قائمة قبل سقوطها قرنين من الزمان. ولا نزاع في أن سبب ازدهار «نقراش» كان يرجع إلى مركزها الاحتكاري، وهذا كان نتيجة تُعد من أكبر وأغرب حوادث التاريخ، فقد كان الإغريق المساعدون لفراعنة البيت الساوي لا يمكن الاستغناء عن خدماتهم، وفي الوقت نفسه كان المصريون في جميع أنحاء بلادهم يمقتونهم مقتًا شديدًا، ويعملون على إخراجهم من بلادهم بكل وسيلة.
وقد أراد أن يقول في نهاية تقريره هذا مع استخدام ما جاء في كتاب الجغرافي «استرابون» عن هذه المدينة (راجع Strabo XVII, 1, 18 (801)): إن تأسيس مدينة نقراش كان قد حدث في النصف الأول أو منتصف القرن السابع، ولكن يعارض هذا الرأي هرشفيلد (راجع Rhein. Mus. 42 (1887), P. 209–211, Comp. 44 (1889), P. 461–7).
وعلى حسب رأيه كانت مدينة نقراش قد أسست بعد عام ٥٧٠ق.م لتكون مدينة إغريقية، وكانت قبل ذلك كما يقول هردوت مؤسسة مصرية. وقد تبعه في هذا الرأي «أدوردمير» (راجع Ed. Meyer, Gesch. Ag. P. 385 anm I, comp. P. 362 anm. 1; & G. D. A. II (1893), P. 673–7, § 417 A=III, 2, P. 623, Anm. 1).
هذا وقد عاد «برنس» إلى رأي «بتري» ثانية (راجع H. Prinz, Funde Aus Naukratis kilo Beiheft 7 (1908) P. 1–6).
وكذلك وافقه على رأيه بريس (راجع E. R. Price, Pottery of Naukratis (Journal of Hellenic Studies 44) (1924) P. 180 ff; Comp. Kees. Naukratis in Pauly-Wissowa, Real Encyklopadie der Klassischen Altertumswissenschaft, XVI, 2, (1935) P. 1945–1966, bis P. 1956–1959; R. M. Cook, Amassis and the Greeks in Egypt. J. H. S. 57 (1937) P. 227).
وقد بحث الموضوع كله من جديد في مؤلف حديث للأثري «بسنج» لم يظهر بعد أقرن ما كتبه هذا الأثري (راجع Bissing, Forschung zur Geschichte und Kulturellen Bedeutung der grieschen Kolonie Naukratis in Agypten, Forschungen und Fortschritte, 25 (1949, P. 1-2)).
هذا ومن الجعارين الهامة الخاصة بتاريخ هذه المدينة، والتي وجدت فيها نفسها جعران باسم الفرعون «بسمتيك الأول»، وآخر باسم «بسمتيك الثاني» وثالث باسم «إبريز»، والواقع أن الجعران الوحيد الذي وجد باسم بسمتيك الأول جاءت عليه إشارة تدل على أنه عمل بعد وفاته. هذا وليس لدينا أي أثر مصري أو إغريقي يحتم وجود مؤسسة إغريقية أو مصرية قبل عهد بسمتيك الثاني. ولا نزاع في أن أول إغريق أتوا إلى هذه المؤسسة لم يكن في عهد أمسيس، ومع ذلك فإن أول ازدهار لهذه المدينة حدث في عهده كان نتيجة للإجراءات التي اتخذها بالنسبة للإغريق.