المعابد والديانة في عهد الأسرة الساوية
لعب رجال الدين دورًا هامًّا في حياة الشعب المصري في العهد الساوي بدرجة لا تقل
أهميتها عن الدور الذي لعبه رجال الجيش وأجنادهم من المشوش والإغريق، وغيرهم من
الطوائف التي كان يتألف منها الجيش المصري آنئذ. والواقع أن الكهنة في تلك الحقبة
من الزمن كانت لهم قوة تضارع تلك التي كانوا يتمتعون بها في عهد الدولة الحديثة،
وبخاصة كهنة آمون العظام في طيبة، وقد تناولنا الحديث عن دولة طيبة الإلهية في غير
هذا المكان، ولا شك في أننا نعلم ما كانت عليه هذه الدولة بصورة تدعو إلى الرضا،
وسنضع هنا منذ البداية الآراء المختارة عن أحسن مظاهر قامت عليها، وما كانت تنطوي
عليه من آراء ومقاصد بعيدة المدى.
وتدل الأحوال على أن مملكة الإله آمون التي قامت في طيبة منذ الأسرة الواحدة
والعشرين لم تكن قط هيئة سياسية قائمة بذاتها، إذ نعلم أنها كانت فعلًا قبل نهاية
الألف الثانية قبل الميلاد تابعة للأسرة الواحدة والعشرين، التي ينسب ملوكها إلى
أسرة «تانيس» (من حوالي ١٠٨٥–٩٥٠ق.م) وعندما تولى أمير المشوش «شيشنق الأول» عرش
مصر عام ٩٥٠ق.م قضى على كيان هذه المملكة الإلهية من الوجهة السياسية بتعيين الكاهن
الأكبر في «طيبة» من أسرته. حقًّا ظلت مكانة هذه الأسرة الدينية ملحوظة مرعية، غير
أنها قد خسرت مع ذلك الجزء الأعظم من نفوذها الذي كانت تتمتع به من قبل. ولا نزاع
في أن «شيشنق الأول» وأخلاقه من أسرته لم يهاجموا مملكة آمون بوصفها مملكة دينية،
بل إن كل ما فعلوه كان التقليل من نفوذها السياسي، وكان ذلك كما قلنا من قبل أنهم
نصبوا أعضاء أسرتهم في منصب الكاهن الأول لآمون؛ وقد ظلت هذه الوظيفة الواسعة
النفوذ في العهد المتأخر وراثية، كما كانت وظيفة رئيس المشوش الحربية في طيبة —
وكذلك في سائر جهات القطر — تحت سلطان الفراعنة اللوبيين ونفوذهم.
غير أن فكرة الحكومة الإلهية؛ أي الحكومة التي كان يديرها الإله آمون نفسه، والتي
حملها معه الفراعنة الكوشيون من «نباتا» قد أحدثت هزة عنيفة في البلاد، إذ لم يقتصر
مداها على الفكرة الدينية النظرية البحتة وحسب، بل تخطت ذلك إلى الفكرة العملية
السياسية، ومن المحتمل جدًّا أن فراعنة كوش هؤلاء كانوا من أجداد شيشنق، وكانوا
عونًا وسندًا للكهنة العظام في طيبة؛ فقد كانوا يعتقدون أنهم وسيلة صالحة لنشر
إرادة الإله آمون الذي كان يعد إلههم الأعظم، وكان لا بد من سيطرته في نظرهم ونشر
نفوذه بكل وسيلة؛ وقد كان تعصبهم لمذهبه يفوق حد الوصف، ولسنا مبالغين إذا قلنا:
إنهم في ذلك كانوا يشبهون طائفة الوهابين إلى حد كبير في عهودنا الحديثة؛ على أنه
كان من سياسة هؤلاء الملوك عدم الحط من الآلهة المصريين الآخرين، بل كانوا
يحترمونهم ويعظمونهم، ويقدمون لهم القربان بوصفهم أتباعًا لإلههم العظيم
«آمون».
ومما تجدر ملاحظته هنا أن تمسك هؤلاء الملوك الكوشيين بديانة آمون والمغالاة في
نشرها، قد قادت كهنتهم في نهاية القرن الأخير من عهد المملكة الكوشية إلى أن جعلوا
وحي «آمون» هو الذي كان يفصل في تعيين الملوك، كما كان هو الذي يصدر لهم الأمر بعزل
الملك، وبالذهاب إلى الموت.
١ ويقول في ذلك ديدور: إن أغرب ما في عاداتهم هي العادة التي كان يحصل
عليها بمناسبة موت ملكهم، وذلك أن كهنة «مروى» الذين يصرفون وقتهم في عبادة آلهتهم
والشعائر التي تكسبهم الشرف هم أعظم وأقوى طائفة، إذ كانوا يرسلون رسولًا لملكهم
يأمره بالموت عندما تعنُّ لهم هذه الفكرة؛ وذلك لأنهم يقولون: إن الآلهة قد كشفوا
لهم عن ذلك. وكان لزامًا عليهم ألا يهملوا أمر المخلدين من قبل فرد من البشر (راجع
Diod, III, 6, t. 3).
هذا وقد حفظ الكاهن المصري عن الكوشي التقي الورع فكرة حسنة باستمرار، كما حدثنا
بذلك هردوت (راجع Herod. II, 137, 139)، وكذلك
ديدور الصقلي (راجع Diod. III, 2, 2 & III,
5)، فقد نقلا لنا هذه الآراء بصورة واضحة.
والواقع أن الحكومة الإلهية لآمون صاحب «طيبة» تعد أقدم وأبسط، وصاحبة أمتن إجراء
لحكومة إلهية عرفها التاريخ، وقد وجدت حسن التعبير عنها، وكذلك عن الأحاسيس
العالمية التي كان كهنة هذا العصر المتأخر يقومون بتطبيقها. ولم يكن هنا مجال لآراء
سياسية خاصة، وكذلك كانت حياة الدولة تحددها الديانة وحدها. حقًّا كانت الأوضاع
المتطرفة لحكومة آمون الإلهية قد نشأت في بادئ الأمر تحت تأثير الكوشيين المتعصبين،
غير أن المصري كان ينظر إليها على حسب ما يريد هو. ولا نزاع في أن الفكرة الأساسية
في هذه الديانة لم تكن غير مصرية، ولم تكن وليدة فكر الكوشيين وحدهم، بل كانت فضلًا
عن ذلك وهذه الأمور الهامة الفاصلة في مصر قاصرة على طيبة.
وقد أظهر الأستاذ «كيس» في كتابه عن الاعتقادات في الآلهة (راجع
Der Gotterglauben in Altenagypten P. 339–401)
أن الأفكار التي كان يتمسك بها كهنة آمون في مصر في تلك الفترة كان مصدرها يبتدئ
أولًا منذ السيادة الكوشية على مصر، ولكنه من جهة أخرى ينكر أن الصورة المثالية
التي أوردها الكتاب الإغريق عن المملكة الإلهية، التي كان يحكمها آمون لم تأتِ من
الوجه البحري، بل إنها كانت كوشية محضة، وعلى ذلك يجب على الإنسان أن يفصل بين هذه
الفكرة وبين الصورة المتطرفة لهذه الحكومة. ويرى الأستاذ «كيس» أن «هكاتة الأبدري»
هو الذي نقل عنه «ديدور» فكرة السيادة المثالية للكهنة أنها قد أتت من «نباتا»، ولم
تأتِ عن طريق الكهنة المصريين.
ويطيب لنا أن نذكر هنا أن «كيس» قد تجاهل الظرف الذي كتب فيه «هكاتة الأبدري»
رأيه؛ إذ الواقع أن «هكاتة» هذا قد عاش في عهد الملك «بطليموس الأول»، ولم يمتد
أجله حتى عهد «بطليموس الثاني» (راجع F. Jakoby, Real-Encyk. der
Klassischen Altertumwissenschaft VII, 2, 1912, P. 2751, Hekataios
4)، وذلك في وقت لم يكن الإغريق يكادون يعرفون فيه شيئًا عن
الكوشيين. هذا ونجد كذلك أن «ديدور» (Diod 1, 37,
5) الذي استقى معظم معلوماته عن مصر من مؤلفات «هكاتة»
(E. Schwartz, R. E. V, 1903 P. 670, Diodoros
37) قد برهن على أن أول معلومات صحيحة عرفها الإغريق عن بلاد
كوش، كانت في الجزء الأول من حكم بطليموس الثاني. والبيانات التي أوردها بالنسبة
لما نعرفه عن العلاقات بين مصر وبلاد كوش في المدة ما بين ٦٥٠ق.م حتى بداية القرن
الثالث قبل الميلاد مقبولة تمامًا. ومما له أهمية بالغة فضلًا عن ذلك أن المثل
الأعلى لواضع الحوليات الديموطيقية، وهو من طبقة الكهنة ومسقط رأسه الوجه البحري
كان «الحاكم الذي لا يهمل هذا القانون». وهذا يبرهن على أن ذيوع مثل هذه الأفكار
بوساطة الكهنة المصريين في العصر المتأخر كان لا يقتصر على طيبة مقر عبادة
آمون.
وعلى أية حال فإن الأحوال في البلاد وقتئذ قد سمحت بإمكان تطبيقها بصورة متطرفة
لما اتصف به الحكام الكوشيون من تعصب ديني. وكثيرًا ما يمكننا أن نصل إلى هذه
الصورة المثالية، التي مثلها لنا كهنة العهد المتأخر عن حكومة مصر الإلهية، وذلك
مما نقله لنا الإغريق أو مما وصل إلينا بطريقة مباشرة من الحوليات الديموطيقية،
التي ألفت في الوجه البحري في القرن الثالث قبل الميلاد، وذلك من البيانات التي
جاءت في كتابات «أفلاطون» و«هكاتة الأبدري»؛ وقد أظهر المؤرخ أدوردمير
(Ed. Meyer, G. D. A. II, 2, P. 42–45) أن ما
ذكره هذان المؤلفان لم يكن من تأليف الإغريق، بل نقل عن آراء مصرية بحتة. ويقول
«أفلاطون» في هذا الصدد: لا ينبغي لأي ملك مصري أن يحكم بدون كهنته، ولكن إذا حدث
أن واحدًا من طائفة أخرى قد نجح في ذلك بالقوة، فإنه يجب عليه بعد ذلك أن يدخل في
هذه الطائفة بالتضحية (راجع Politikos, 290 d,
e.).
وقد قدم لنا «هكاتة الأبدري» صورة موجزة عن المملكة الإلهية المصرية (راجع
Diodoros I, 70-71)، فاستمع لما يقول: ومن ثم
كانت أولًا حياة الملوك المصريين التي يعيشونها ليست مثل حياة الناس الآخرين، الذين
يتمتعون بسلطان أرستقراطي فيفعلون في كل الأمور ما يرغبون فيه تمامًا دون أن
يحاسبوا عما يفعلون، بل كانت كل أعمالهم مرتبة حسب تعاليم وضعت في قوانين، ولم يكن
ذلك قاصرًا على أعمالهم الإدارية وحسب، بل كذلك الأعمال الخاصة بالسبل التي يصرفون
فيها وقتهم من يوم ليوم، وكذلك بالطعام الذي يأكلونه. أما فيما يتعلق بمسألة خدمهم
مثلًا، فلم يكن واحد منهم يعتبر خادمًا كالذين حصل عليهم بالشراء، أو ولدوا هكذا في
البيت، بل كانوا كلهم من أولاد أعظم الكهنة شهرة، وكان عمر الواحد منهم يتجاوز
الواحدة والعشرين سنة، كما كانوا من أحسن أقرانهم المواطنين تعلمًا؛ وهذا لأجل أن
يستحوذ الملك على أشرف الناس للعناية بشخصه؛ وليرافقوه نهارًا وليلًا، وبذلك لا
يزاول أعمالًا خسيسة؛ وذلك لأن أي حاكم كان لا يسير قدمًا على طريق الشر إلا إذا
كان حوله هؤلاء الذين يخدمون شهواته. وكانت ساعات كل من النهار والليل قد وضعت على
حسب برنامج. وفي ساعات معينة كان لزامًا على الملك أن يفعل ما سنه القانون، وما كان
يعتقد أنه أحسن شيء، فمثلًا في الصباح بمجرد استيقاظه من النوم كان عليه أن يتسلم
أولًا الرسائل التي أرسلت من كل النواحي، والغرض من ذلك أن يكون قادرًا على أن ينهي
كل الأعمال الإدارية ويتمم كل عمل بعناية، وبذلك يكون قد أخبر بدقة عن كل شيء يعمل
في كل أنحاء مملكته، ثم بعد أن يكون قد استحم وارتدى الملابس الفاخرة، وتحلى بشارة
وظيفته (أي: شارة الملك) كان عليه أن يضحي قربانًا للآلهة.
وعندما كانت الضحايا تحضر إلى المذبح كانت العادة أن يقف الكاهن الأكبر بجوار
الملك، وتحيط به عامة الشعب، ويصلون بصوت عالٍ ليمنح الملك والصحة وكل الأشياء
الطيبة الأخرى، هذا إذا كان يحافظ على العدالة نحو رعاياه، وكذلك كان يعترف علنًا
بكل فضيلة يتحلى بها الملك، فكان الكاهن يقول: إنه كان يتصرف بتقوى نحو الآلهة
وبمنتهى الشفقة نحو الناس؛ وذلك لأنه كان ضابطًا لنفسه وعادلًا وكريمًا وصادقًا
وجوادًا بأملاكه؛ وبالاختصار كان مسيطرًا على كل رغبة في نفسه، وأنه عاقب الجرائم
بأقل شدة مما تستحق، وقدم للمحسنين إليه اعترافًا بالجميل أكثر من إحسانهم
إليه.
وبعد أن يتلو أكثر من ذلك بكثير بنفس النغمة كان ينهي صلاته بلعنة على الأشياء،
التي ارتكبت خطأ معفيًا الملك من كل لوم بالنسبة لها، وسائلًا أن تقع كل العواقب
السيئة والعقاب على الذين خدموه وعلموه أشياء آثمة. وكان يفعل كل ذلك ليرشد الملك
إلى مخافة الآلهة، ويعيش عيشة رضية من جهة، ومن جهة أخرى ليعوده على سلوك صراط
مستقيم، لا بالتحذيرات بل بوساطة المدائح اللطيفة، والتي تكون أحسن معين على
الفضيلة.
وبعد ذلك عندما يكون الملك قد أدى العيافة من أحشاء عجل ووجد أن الفأل حسن، كان
الكاتب المقدس يقرأ بعض النصائح التهذيبية وأعمال أشهر رجالهم، وذلك ليتأمل الذي
كان يقبض على القيادة العليا في عقله أميز المبادئ العامة، ثم يتجه نحو الإدارة
التي وضعت للوظائف الشتى؛ وذلك لأنه كان هناك وقت معين لا لعقد المجالس والنطق
بالأحكام وحسب، بل كذلك للقيام بالنزهة وبالاستحمام وبالنوم مع زوجه، وبالاختصار
للقيام بكل عمل من أعمال حياته.
وقد كانت عادة الملوك أن يتناولوا طعامًا خفيفًا، فلم يكن يأكل لحمًا إلا لحم
البقر والبط، ولا يشرب إلا مقدارًا معينًا من النبيذ يقصر عن أن يجعلهم مكتظين أكثر
من اللازم أو في حالة سكر. وبوجه عام كان الطعام يطلب بدرجة من التقشف، حتى ليبدو
أنه كان قد عين لا بوساطة مشرع، بل بوساطة أمهر الأطباء مراعين في ذلك فقط صحتهم،
وقد يظهر غريبًا أن الملك لم يكن في يده كل زمام طعامه اليومي، غير أنه مما يلفت
النظر أكثر من ذلك هو أن الملوك لم يكن مسموحًا لهم أن يعطوا أي قرار قضائي أو
يتمموا أي عمل خبط عشواء، أو يعاقبوا أي شخص لحقد في نفسهم أو وهم في حالة غضب، أو
لأي سبب غير عادل، بل فقط على حسب القوانين الموضوعة بالنسبة لكل جريمة، وذلك
باتباع ما تمليه العادة في هذه الأمور، ما داموا بعيدين عن الغضب أو لا يحملون
ضغينة في نفوسهم، فإنهم على العكس كانوا فعلًا يظهرون بأنهم متمسكين بالسير في طريق
أسعد حياة؛ وذلك لأنهم كانوا يعتقدون أن كل الناس الآخرين بسيرهم دون روية
وبشهواتهم الطبعية كانوا يرتبكون أعمالًا كثيرة تجلب عليهم الأضرار والأخطار، وفي
كثير من الأوقات نجد أن بعض الذين يدركون أنهم على شفا ارتكاب جريمة كانوا يقومون
بأعمال دنيئة، عندما يتغلب عليهم الحب أو الكره أو أية عاطفة أخرى، في حين أنهم من
جهة أخرى — بفضل ما اكتسبوه من طريقة حياه انتخبوها لأنفسهم دون غيرها جميعًا
بوساطة احترام الناس — كانوا يسقطون في أقل الأخطاء. ولما كان الملك يتبع مثل هذه
الطريقة الحقة في معاملة رعاياه، فإن الشعب كان يظهر حسن نية نحو حكامه كانت تفوق
حتى حبهم لأقاربهم؛ وذلك لأنه لم تكن طائفة الكهنة بل كل سكان مصر أقل اهتمامًا
بسلامة ملوكهم عن اهتمامهم بسلامة أزواجهم وأطفالهم، وكل ما لديهم من متاع
عزيز.
وعلى ذلك فإنه في خلال معظم الوقت الذي أمضاه الملوك الذين نعرفهم في الحكم، نجد
أنهم قد حافظوا على حكم مدني منظم، واستمروا يتمتعون بأرغد حياة سعيدة ما دام نظام
القوانين الذي وصفناه كان متبعًا، وأكثر من ذلك فإنهم فتحوا شعوبًا أكثر وجمعوا
ثروة أعظم من أي شعب آخر، وزينوا أراضيهم بالآثار والمباني التي لا يمكن أن تضارع،
وكذلك زينوا مدنهم بهبات غالية من كل نوع.
فالواقع أن الملوك باتباعهم نصوص القانون بإخلاص قد أصبحوا محبوبين بين رعاياهم
أكثر من أي صاحب سلطان في العالم، وفي ذلك يقول واضع الحوليات الديموطيقية: «افرح
بالحاكم الذي سيأتي فإنه لن يحيد عن القانون.»
ومن ثم نجد أن طبقة الكهنة كانوا يرغبون في تلك الفترة التي آلت فيها البلاد إلى
التدهور أن يحافظوا على كنوز التقاليد المصرية القديمة. على أن الكوشيين وإن كانوا
يقطنون في مصر في هذه الفترة من التاريخ المصري بوصفهم حكامًا أجانب، فإنهم لم
يكونوا في نظر الكهنة المصريين يعدون لهذا السبب أجانب، كما أنهم لم يكونوا يشعرون
من جهتهم بشيء من العداء، إذ لم تكن وطنيتهم في أصولها سياسية، بل كانت على حسب
فكرة حاملها وشعوره سحرية دينية؛ وذلك لأن الأجانب الحقيقيين كانوا يعدون في نظرهم
أنجاسًا مثل الخنازير ورعاتها ورعاة الغنم أيضًا. (راجع ما جاء في هردوت وفي
التوراة
(Herod. II, 47,)٢ سفر التكوين الإصحاح ٤٦ سطر ٣٤)
٣ هذا ونعلم كذلك أن الملك «بيعنخي» الكوشي لم يسمح لبعض حكام مقاطعات
الدلتا، الذين أرادوا تقديم فروض الطاعة والخضوع لحكمه، بالدخول عليه في بيته؛
لأنهم كانوا أنجاسًا من أكَلَةِ السمك. هذا ونجد أن عددًا متزايدًا من الأجانب
كانوا يختلطون بالمصريين من الذين كانوا في بادئ الأمر يحفظون تعاليم الشعائر
المصرية، التي ذكر لنا منها «هردوت» جزءًا كبيرًا (راجع
Herod. II,
37)،
٤ هذا وكان المصري يعاملهم بنفس الشعور المعادي، فمن ذلك ما جاء في
التوراة (راجع سفر التكوين الإصحاح ٤٣ سطر ٣٢).
٥
ومما يسترعي النظر في هذه الفترة من تاريخ البلاد المتأخر أن التزمُّت قد أخذ
يظهر بصورة شديدة مستمرة، إذ نجد أن الآلهة الأجانب الذين أدخلوا في البلاد بالقوة
قد اختفوا جملة، بل فضلًا عن ذلك نجد أن الإله المصري القديم «ست»، الذي ترجع
عبادته لأقدم العصور قد عد إلها مجرمًا، وحذف اسمه من طائفة الآلهة (راجع
Ed. Meyer, Gesch. Ag. P. 372, Erman, Die Religion der
Agypter. P. 317-18; H. Kees, Der Gotterglauben im alten Agypten. P.
410–14).
على أن هذا الحذف لم يكن لأن «ست» كان قاتل أخيه الإله «أوزير» وحسب، بل كان قبل
كل شيء؛ لأنه كان يعد من الآلهة الأجنبية.
ومن جهة أخرى نجد أنه في الميادين الثقافية قد عاد المصري ومن قبله الكوشي إلى
إحياء التقاليد القديمة، التي كانت سائدة في عهد الدولتين القديمة والوسطى. والواقع
أن هذه النهضة الجديدة التي بدأت في العهد الكوشي، كان الغرض منها إعادة المجد
الزاهر لهذه الأزمان الغابرة إلى الحياة ثانية كما كانت تتمثل في نظره؛ فمنذ العهد
الكوشي بدأت العودة إلى إحياء الفنون القديمة (راجع Scharff,
Handbuch der Archeologie I, P. 612 ff)، وكذلك اللغة ونقوش
اللغة المصرية القديمة وتقليدها، كما كانت عليه في أقدم نماذجها.
هذا وقد أخذ القوم في تعلم الصيغ الدينية والأدبية القديمة، وكذلك الألقاب
العتيقة ونقلها برمتها واستعمالها حتى في غير موضعها أحيانًا، وبجانب ذلك شجعت
عبادة الحكام العظام الذين قاموا بأدوار بارزة في عهد الدولة القديمة؛ ومما يلفت
النظر أنه بجانب ذلك كان يجد الإنسان باستثناء أوائل الأسرة الثامنة عشرة، التي
كانت مخلفاتها الفنية تُعد نموذجًا معترفًا به في شتى نواحي الثقافة، أن عهد الدولة
الحديثة الذي كانت فيه مصر مخالفة لما كانت عليه في عهد الدولتين القديمة والوسطى
على اتصال متبادل مع البلاد الأجنبية، ولم تدخل ثقافتها وفنونها في حساب عصر النهضة
الذي نحن بصدده. وقد أراد بذلك رجال تلك النهضة تجاهل تطورات ألف السنة التي عاشتها
الدولة الحديثة، على أن يجعلوا بداية نماذج نهضتهم ما كان سائدًا في البلاد من علوم
وفنون قبل غزوة الهكسوس لمصر ونتائجها البعيدة على مصر؛ بسبب اتصالهم القوي بأهل
هذه البلاد الأجنبية النجسين في نظرهم. على أنه قبل عهد النهضة هذا ببضع مئات
السنين كان «رعمسيس» الثاني قد أصبح المثل اللامع للثقافة لمدة طويلة.
ولا نزاع في أن كل هذه الآراء جميعًا لم تكن في أصلها من وحي الكهنة وحدهم، إذ
نجد في الحياة العامة نفسها أن سائر المصريين كذلك كانوا في مجموعهم روحانيين في
العهد المتأخر، وتتغلب عليهم النزعة الدينية، وتتغلغل عقائدها في نفوسهم في تلك
الأزمان المتأخرة. والأمثلة على ذلك كثيرة، وبخاصة عند عامة الشعب، فمن ذلك ما كان
معروفًا عن الفلاحين في مصر في العهد الروماني من تعصب ديني شديد مما كان يدعو إلى
قيام مقاطعة على أخرى من أجل مسائل متعلقة بعقائدهم الدينية، التي نشئوا على
اعتناقها، فكانت تراق بسببها الدماء وتشج من أجلها الرءوس (راجع
cassius. Dio. 42. 34. 2. Plutarch. De Iside et Osiride. 72.
Comp. Juvenal. Sat. XV. 33/38.).
ولا بد أن نلفت النظر هنا إلى أن سلطان الكاهن الروحي وحده على الشعب في تلك
الفترة، كان لا حد له تقريبًا، ولكن نجد كذلك من الوجهة المادية المحضة أن المعابد،
وما كان لها من ممتلكات ضخمة من عقار ورجال وحيوان ومعادن ثمينة وغير ذلك من عرض
الدنيا، تمثل قوة لا يستهان بها بجانب السلطة الروحية.
وقد كان الملك «بسمتيك الأول» وأخلافه من ملوك الأسرة الساوية مضطرين الخضوع
للإجراءات التي كانت تتنافى مع سياستهم، ولكنها تعتبر في رأي الكهنة المثل العليا،
فنجد أن ملوك «سايس» مثلًا كانوا على علاقات ود ومصافاة في سياساتهم الاقتصادية مع
الدول العظمى الأجنبية؛ يضاف إلى ذلك أن فراعنة مصر وقتئذ، كانوا يجلبون الأجانب
المبغضين بأنفسهم إلى البلاد على الرغم من أن الشعب كان يمقتهم جملة. والواقع أن
ذلك لم يكن عنادًا من جانب فراعنة مصر؛ بل لأن الأحوال السياسية كانت تقتضي ذلك،
غير أن الكهنة المتعصبين على الأجانب، وكل ما هو أجنبي لم يكن في مقدورهم أن يفهموا
مرامي هذه السياسة، وبخاصة الحربية منها التي كان لا بد من اتباعها لصون البلاد،
وحفظ كيانها بالنسبة للعالم الخارجي. وقد كان الملوك الساويون مضطرين في معظم
الأحيان إلى التزام الصمت والصبر محافظة على مركزهم الذي يهدده الكهنة الذين
يؤازرهم الشعب بوجه عام.
ومن أجل ذلك عمل الفراعنة في تلك الفترة كل ما في وسعهم لاكتساب رضى الكهنة،
ومؤازرتهم لهم في إجراءاتهم التي كان لا بد منها لحفظ كيان البلاد؛ فكانت طلبات
الكهنة من أجل ذلك موضع عناية تامة، كما كانت كل أوامرهم تعضد عندما لم يكن في
تنفيذها شيء يمس كيان الدولة، أو يسبب لها خطرًا، فلم يكن هناك مثلًا معارضة من
جانب الحكومة في الرجوع إلى تقليد وإحياء الأوضاع القديمة، من حيث الكتابة المصرية
القديمة والأعمال الفنية الرفيعة، والتحلي بالألقاب العتيقة وإحياؤها من جديد.
والواقع أن مثل هذه الطلبات التي كانت تطلب من الحكومة لا تعد إلا ظواهر ليس لها
فائدة مباشرة.
على أن أول عمل محس تمثل لنا في سياسة الملوك الساويين هو ما أقاموه من معابد،
وما نفذوه من إصلاحات عدة فيما تهدم من مباني أسلافهم التي أصبحت أثرًا بعد عين،
وبخاصة ما قاموا به من إصلاحات في أهرامات ومقابر الملوك القدامى، ولا يفوتنا من
هذه الناحية أن نذكر ما قام به «بسمتيك» الأول بالنسبة للحكومة الإلهية في طيبة
التي كانت مستقلة تقريبًا، فقد كان لما قام به من تفاهم سياسي مع كوش والأمير
«منتومحات» أمير طيبة أهمية بعيدة المدى، إذ الواقع أن ذلك قد أدى إلى حل مسألة
عويصة كانت تقف في سبيل وحدة البلاد، فقد ضم بما أوتي من حكمة وسياسة عالية حكومة
مملكة آمون، التي كانت تتمثل في إقليم «طيبة» إلى مملكته في الوجه البحري، وقد تم
ذلك دون أن يعتدى على استقلال حكومة آمون أو بعبارة أخرى حكومة الكهنة. وقد أسهبنا
القول في ذلك عند التحدث عن «بسمتيك الأول» وسياسته.
وقد اقتفى أخلاف الفرعون سياسته في هذا الصدد. فعندما بلغت «نيتوكريس» من العمر
أرذله بعث «بسمتيك الثاني» في السنة الأولى من حكمه؛ أي في ١٣ ديسمبر سنة ٥٩٤ق.م
صغرى بناته المسماة «عنخنس نفر اب رع»، وهي التي تبنتها نيتوكريس؛ لتكون في منصب
زوج الإله، وكاهنة كبرى في طيبة بعد موت الأخيرة؛ وقد أرسلها فعلًا إلى طيبة
استعدادًا لتولي هذا المنصب. ولما توفيت «نيتوكريس» في ١٥ ديسمبر سنة ٥٨٥ تسلمت
زمام الحكم، وبذلك نرى أن إحدى أميرات البيت الساوي قد أخذت من جديد أعلى وظيفة
روحية في طيبة، يضاف إلى ذلك إلى أن أحمس الثاني الذي كان يعد مغتصبًا للملك قد
أنزلها مكانة سامية جدًّا لدرجة القول بأنه تزوجها ليجعل شرعيته لحكم مصر مقبولة.
والواقع أن هذا الزعم مكذوب من أساسه، وليس في المصادر التي في متناولنا ما يثبت
ذلك أبدًا. وقد تحدثنا عن ذلك من قبل (راجع كذلك Gauthier, L. R.
IV. P. 102 Note 2; Sander-Hansen, Die religiosen Texte Aus dem Sarg der
Anch-nes-neferib-Re, Kopenhagen 1937 P. 2.).
ومما يلفت النظر أنه في منظر بمعبد الكرنك قد ظهر الفرعون، ومعه زوج الإله آمون
بحجم واحد جنبًا لجنب، مما يدل على مكانة هذه المتعبدة الإلهية أو زوج الإله. وقد
كان هذا المنظر هو الأساس في القول: إن «أحمس الثاني» قد تزوج من عنخنس-نفر-اب-رع.
وقد عاشت هذه الزوجة الإلهية حتى عهد بسمتيك الثالث، يدل على ذلك أنه في معبد
«أوزير بامرس» بالكرنك نجد طغراءَيْ كل من بسمتيك الثالث والزوجة الإلهية
عنخنس-نفر-اب-رع جنبًا غلى جنب. وعلى الرغم من أن بسمتيك الثالث لم يحكم أكثر من
ستة أشهر، فإنه قد وجد الوقت قبل دخول الغزاة الفرس في البلاد المصرية كافيًا
لإقامة مبان تخلد ذكراه (راجع A. S. 6 (1905) P.
130–133) هذا وإذا وازنا معابد الوجه البحري بمعابد الوجه
القبلي، وجدنا أن الأولى تفوق الثانية وتحتل مكانة بارزة عالية (راجع
Kees, zur Innepolitik der Saiten, Nachrichten der Ges. der
Wissensch. zu Gottingen (1935) P. 102; Kees, Kulturgeschichte P.
258.)، وذلك لأن الأسرة الساوية قد نشأت في الوجه البحري، ولا
بد أن نفهم قبل كل شيء أن الدلتا كانت المهد الرئيسي للسياسة الخارجية والداخلية في
مصر، فقد كان فيها مقر الملك كما كانت تعسكر فيها الحاميات الرئيسية، وإليها كان
يفد كذلك الأجانب من كل حَدَب وصَوْب.
أما الوجه القبلي فكان في نظر ملوك سايس بمثابة إقليم إضافي لموطنهم الأصلي الوجه
البحري، ولم يكن الصعيد يحتوي إلا على بعض بلاد ذات أهمية كبيرة مثل «طيبة»
و«العرابة المدفونة» المقدسة عند المصريين منذ أقدم العهود التاريخية.
هذا وكانت المعابد والعناية بها تعد من الأمور السياسية الداخلية، ومن ثم كان
الاهتمام بها من الموضوعات الهامة الجديدة التي عُنيت بها الحكومة بصورة جدية.
والواقع أن الأمر لم يكن قاصرًا على إقامة المعابد التي كانت تكلف الدولة مبالغ
باهظة بل الأمر تخطى ذلك بكثير، وذلك أن الحكومة كانت في الوقت الذي تقوم فيه ببناء
معابد جديدة ملزمة بإصلاح المعابد التي أصابها البلى، وأكثر من كل ذلك ما كان يجب
أن يحبس على هذه المعابد من أراضٍ ورجال وحيوان ومحاصيل زراعية، وغير ذلك من خيرات
البلاد التي كانت لازمة لها لتجعلها صالحة لإقامة الشعائر فيها. وقد ضربنا الأمثلة
لذلك فيما سبق. حقًا كان الملوك الساويون في كثير من الأحوال يتعدون الحدود
القانونية، ويستولون من الأهالي على عقارات ويقدمونها للمعابد. فمن ذلك ما حدث مع
«نسحور» قائد قلعة الفنتين الذي جاء ذكره كثيرًا فيما سبق، فقد أهدى هذا القائد في
العام الرابع من حكم الفرعون «إبريز» ٥٨٥ق.م ضيعة عظيمة من أرض المقاطعة العاشرة من
مقاطعات الوجه القبلي، وكان الفرعون قد وهبها إياه من قبل، لمعبد كبش منديس، وكانت
هذه الهبة قد جاءت على حسب اقتراح من الفرعون نفسه، ومن ثم نفهم أن «نسحور» كان له
معاش يعيش منه في شيخوخته، وكانت هذه عادة أو سنة يسير على مقتضاها الضباط
والموظفون (راجع H. Kees, zur Innepolitik der Saitendynastie NGGW
1935, P. 95-96 and, P. 101-102; A. Z. 72, 1936 P. 40–52) في
تلك الفترة من حكم البلاد.
هذا وقد تحدثنا فيما سبق عن الموظف الإداري العظيم المسمى «بفنفدنيت»، الذي كان
مديرًا للخزانة والطبيب الأول للفرعون، فقد انتزع كذلك إيرادات دخل إحدى الإقطاعيات
التي كانت تأتي إليه من الصحراء، أو بعبارة أخرى كانت ضريبة تدفع على تجارة القوافل
والواحات، وكذلك ضريبة أخرى كانت تدفع على عبور النهر عند «طينة»، وقد أوقف كل ذلك
على معبد «أوزير». ولكن على الرغم من وقوع مثل هذه الحالات الفردية فإن الأوقاف
التي كانت تحبس على المعابد قد وصلت قيمتها إلى مبالغ باهظة.
والواقع أننا في موقف سعيد من هذه الناحية من حيث المصادر إذ لدينا بيان حسابي
يفسر لنا هذا الموقف. فقد جاء في بردية الحوليات الديموطيقية
٦ الشهيرة التي يرجع تاريخها للعهد الفارسي، ما كانت تورده الحكومة من
فضة وماشية وطيور وغلال وغير ذلك، مما كانت تحتاج إليه المعابد في عهد الملك أحمس
الثاني. وقد اشتمل هذا البيان مجموعًا ختاميًّا بقيمة هذه الواردات من الذهب، غير
أنه مما يؤسف له جد الأسف أن قراءته غير مؤكدة بصورة قاطعة. ويرى المؤرخ «أدوردمير»
أن هذا المبلغ يساوي ما قيمته حوالي سبعة ملايين من المركات (المارك يساوي ثمانية
قروش). ويلفت النظر هنا بصورة خاصة أن الدولة الفارسية في هذه الفترة كانت تتقاضى
من كل شطربنيها (المديرية) السادسة؛ أي مصر منضمًّا إليها الواحات اللوبية
و«سيريني» (هذا بصرف النظر عن دخل مصايد الأسماك في بحيرة «موريس» والغلال التي
كانت تورد للجنود)، ما يعادل سبعمائة «تلنتا» بصفة ضرائب. وهذا يساوي خمسة ملايين
من المركات (راجع
Herod. III, 91, Ed. Meyer, G. D. A. IV, I, P.
150)، ولا نزاع في أن هذه الموازنة تظهر لنا بصورة واضحة ما
كان يقدمه الملوك الساويون للمعابد المصرية في زمنهم. والواقع أن ما كان يقدمه
فراعنة هذا العصر كان ضروريًّا ولا بد منه. وسنتحدث عن ذلك كثيرًا فيما بعد وكذلك
عن النتائج التي أحدثتها هذه الهبات في الحكومات التي جاءت بعد، وهي بلا نزاع لها
أهمية مادية مرتبطة بالمعابد.
وأخيرًا يجوز لنا أن نذكر مع شيء من الحيطة والحذر أمرًا آخر يستحق الالتفات،
وهو: أننا إذا قرنا المباني التي أقامها كل فرعون ساوي على حدة بالتي لا تزال
آثارها باقية حتى الآن أعطانا ذلك الصورة التالية: نجد أولًا أن بسمتيك الأول
و«نيكاو» الثاني بالنسبة لمدة حكميهما، وهي على التوالي ٥٤ سنة للأول و١٦ سنة
للثاني لم يبقَ منها إلا القليل، ولكن نجد من جهة أخرى أنه في النصف الثاني من عهد
الملوك الساويين، أن الآثار التي ظلت باقية حتى الآن أكثر مما بقي في النصف الأول
من حكم هذه الأسرة، وبخاصة منذ عهد «بسمتيك الثاني»، على الرغم من أنه لم يحكم أكثر
من ست سنوات. حقًّا كانت توجد مبانٍ عديدة أقيمت في هذه الفترة ذات أهمية خاصة في
الدلتا كانت حالتها السيئة تتطلب سرعة إصلاحها، وهذه قد زالت من الوجود ولم يبقَ
منها شيء يذكر مثل المباني التي أقامها بسمتيك الأول في «منف»، وهي التي قد تحدث
عنها «هردوت» (راجع
Herod, II, 153)، وعلى أية حال
فإن هذا الوضع ينطبق على كل العصر الساوي، إذ نجد كذلك أن مباني أحمس الثاني في
عاصمتي الملك «سايس» و«منف» (راجع
Herod. II, 1751,
176) قد حاق بهما نفس المصير. وقد كانت «سايس» البلدة الملكية
التي أقيم فيها مدافن الأسرة المالكة، ومع ذلك ظهرت «منف»
٧ أنها كانت صاحبة المكانة الأولى في إدارة البلاد (راجع
Griffith, Dem. Pap. Rylands Libr. III, P. 7, 79, A. 4, 97 A.
2, 184).
فهل مما سبق يا ترى يفهم الإنسان من تلك الظاهرة أنها مجرد صدفة؟ أو أنه من
الممكن أن الكهنة في الجزء الأخير من العهد الساوي قد حصلوا على امتيازات، وتنازلات
كبيرة من الملوك لمد نفوذهم؟ وبهذه المناسبة لا بد أن نذكر مرة أخرى السياحة التي
قام بها «بسمتيك الثاني» إلى بلاد فنيقيا، وهي في الواقع غريبة في بابها إذا لم يكن
سببها حربيًّا، فإنها يمكن أن تشير هنا إلى أنها كانت بوجه خاص قد حدثت بتأثير قوي
من الكهنة وعظم نفوذهم في داخل البلاد وخارجها. ولا ريب في أن حصر «أحمس الثاني»
الإغريق الأجانب في بلد «نقراش»، وعدم السماح لهم بالسكنى في أي بقعة أخرى من
الأراضي المصرية كان سببه مراعاة شعور رجال الدين الذين كانوا يمقتون الأجانب من
أعماق قلوبهم، على الرغم من أنهم قد أفادوا مصر من الناحية الحربية والتجارية … وفي
نهاية حكم «أحمس الثاني» انقطع أمامنا حبل تطورات الأحوال؛ بسبب الفتح الفارسي الذي
داهم البلاد عام ٥٢٥ق.م، وبذلك ختم عهد النهضة المصرية الأخيرة، التي كانت ولا تزال
تعد من أمجد عصور مصر وأكثرها ازدهارًا في كل ميادين الثقافة والفن والحرب.