الفصل الخامس
لقد عرف سليم باطلاعه أن للفن حالات عجيبة تتصل بالمجتمع وبالأحداث القريبة منها والبعيدة، فقد يطرأ على الفن مثلًا ما يؤخره أو يدفعه للركود، ولكن الفن لا يموت إلا إذا مات الجنس البشري؛ لأنه هو من الإنسان بمكان الروح تمامًا، ولكن الفن في بعض الحالات ينطوي على شكل آخر، فعدما يكون المجتمع الإنساني بحالة طبيعية وصحة جيدة، يكون الفن كذلك في حالة حسنة من الازدهار والتقدم، وعندما يكون المجتمع مريضًا هزيلًا أو شاذًا مشوشًا تفتك فيه الفوضى وتنتابه النزعات الهدامة والآراء الخطيرة، يكون الفن أيضًا في حالة جنون ويعمل عن غير هدًى، ويضرب دون وعي، وتكثر فيه الثرثرة والشعوذة والتضليل، ويصبح على اللسان أكثر منه في العمل والبرهان، ولهذا نرى اليوم حالة الفن ونزعاته الحديثة التي يدعونها طورًا «بالسورياليزم» وبالتجريدي وطورًا «بالوحشي والتكعيبي» وغيرها من المذاهب التي تمثل في الواقع مرض المجتمع الإنساني وحالة الهستيريا، أو الهذيان الشديد الذي يصيب عادة المريض في حالة الحمى الشديدة.
ومتى نحن سلمنا بأن الفن هو صورة المجتمع، وهو المرآة التي تعكس صورته، لم نعجب قط بأن نرى أمثال هذا النوع من الفن يطل برأسه على الناس، لا سيما عقب انتهاء حربين عالميتين فظيعتين، تلك الحروب الهائلة التي صبغت الدنيا بالدماء وبالفظائع، والتي لا بد لها أن تؤثر على الناس وتجر وراءها أمثال هذه النتائج والمخلفات المحزنة.
ويدلنا التاريخ أنه كلما كانت الإنسانية في طور من الازدهار والنضج أتت بالآثار الفنية الرائعة وبالعباقرة الذين يقربون الأرض من السماء ويدنون من الآلهة، وعندما تنحط البشرية وتنحدر ويصيبها المرض تغور في الأعماق وتغرق في الأوحال، وتقرب من الجحيم، لا سيما عندما يكثر فيها محترفو السياسة وتجار الأسلحة والدماء، ويتعاون الجزارون والسماسرة والفريسيون وزعماء الهيكل فهناك الكارثة.