في الثقافة الوطنية

أولًا: مُقدِّمة: ماذا تعني الثقافة الوطنية؟

الثقافة الوطنية هي المُكوِّن الرئيسي لمزاج أيِّ شعب يستمدُّ منها تصوراته للعالم وبواعثه على السلوك، تظهر سماتها في الأفراد وفي الشعوب على حدٍّ سواء، في الوعي الفردي وفي الوعي الاجتماعي وفي الوعي التاريخي. وقد حاول البعض ربط الثقافات الوطنية بأنماط الروح الإنسانية وبنماذج مُسبقة تتحكم في بنيتها. فهناك روح أبوللو العاقل في مقابل روح ديونيزيوس الانفعالي كما هو معروف عند نيتشه. ومع ذلك فهي تعبير عن أمزجة الشعوب وطبائعها وتاريخها على نحو استقرائي مُكتسَب، وليست نمطًا مثاليًّا مُسبقًا على نحو استنباط أولاني. وقد يُسميها البعض الثقافة «القومية» بدلًا من «الوطنية»، وهي أيضًا تسمية صحيحة، فارتباط الثقافة بالوطن ارتباطها بالقوم؛ إذ لا وطن بلا قوم، ولا قوم بلا وطن. وسيَرِد اللفظان مترادفَين، إلا أن لفظ «القومية» قد يدل على مذهب مُعيَّن للقوميين في حين أن لفظ «الوطنية» يشارك فيه الوطنيون جميعًا؛ قوميين أو ليبراليين، ماركسيين أو إسلاميين.

وتتكون الثقافة الوطنية من عناصر عديدة، في مُقدِّمتها الدين والتراث الديني والحِكَم والأمثال العامية وسِيَر الأبطال والملاحم الشعبية، وشواهد من تاريخ البطولة وحكمة الشعوب. فما زال الدين أهمَّ روافدها لا العلم ولا التقنية ولا التصنيع ولا حتى الإصلاحات الاجتماعية والإنجازات الثورية والخدمات العامة الأخيرة. والتراث مخزون نفسي في ثقافة الجماهير،١ لا يختلف في ذلك التراث الإسلامي عن التراث المسيحي أو التراث اليهودي، فهناك الدين الشعبي، الدين الإشراقي الشعائري، كأساس واحد ومنبع متَّصل لها، يُوحِّد بينها من الأساس. أمَّا الوافد المعاصر من مظاهر الحداثة، العلم والتقنية والتصنيع وأساليب الحياة الحديثة، فهي حديثة العهد على الثقافة الوطنية، مُحاصَرة في طبقة مُحدَّدة وإن اتسع أثرها في باقي الطبقات الشعبية بعد هجرة العمالة المصرية إلى الخارج وزيادة قدرتها على الشراء بعد العودة، خاصةً فيما يتعلق بالأجهزة الكهربائية الحديثة. ويُحدِث أثرًا مضادًّا تحت وطأة التغريب، وذلك برفع الثقافة الوطنية نحو رافدها الأول، وهو الدين والتراث، حمايةً لها من الوقوع في الثقافة الوافدة، ودفاعًا عن ثقافة الموروث. وبالإضافة إلى هذين المصدرين الرئيسيين للثقافة الوطنية، الموروث والوافد، هناك الواقع المباشر الذي منه نشأت، بتشابكه، وتضارُب مصالحه، واختلاف طبقاته، وصراع قُواه. الثقافة الوطنية إذَن على مُفترق طرق ثلاثة؛ الموروث الديني، والوافد العلماني، والواقع الحي المباشر.٢
وإن إعادة بناء الثقافة الوطنية في البلاد النامية يحُلُّ إشكالها الرئيسي؛ وهو ازدواجية الثقافة بين المحافظة الموروثة والعلمانية الوافدة، ثم انعزال كليهما عن الواقع الحي للناس ولصالح الجماهير وتحدِّيات العصر. وهي أساس التحديث الشامل، سواء التغيُّر الاجتماعي أو نقل المجتمع كله من مرحلة تاريخية إلى مرحلة تاريخية أخرى. إن إعادة بناء الثقافة الوطنية هي جزءٌ من تحديث المجتمعات، وضمانٌ لاستمرار ثورتها حتى لا تُصَاب بالرِّدَّة أو النكوص أو الانقلاب إلى ثورة مضادة. ما أسهل وما أسرع من تغيير المجتمعات بقرارات ثورية من السُّلطة السياسية تنتهي بمجرَّد انتهاء القيادة الثورية! وما أصعب وما أطول من تغيير المجتمعات بإعادة بناء الثقافة الوطنية، بحيث تكون هي الضامنة والحارسة لاستمرار الثورة والإبقاء على التغيرات الاجتماعية ومكاسب الثورة، حتى ولو تغيرت القيادة الثورية. وتلك أهمُّ قضية لدى الشعوب النامية على خلاف ما هو عليه الحال لدى الشعوب المتقدمة، فما زالت الشعوب النامية تمرُّ بمرحلة انتقال من التقليد إلى الحداثة، من القديم إلى الجديد، من التراث إلى المعاصرة. وما زال الاختيار لم يُحسَم بعدُ بين كافة البدائل؛ القطع مع القديم باسم الجديد، رفض الجديد دفاعًا عن القديم، الجمع بين الاثنين عن طريق التجاور والتمييز بين المستويَين، قديم في السلوك الشخصي وحديث في السلوك العام، أو حديث في السلوك الشخصي قديم في السلوك العام، الجمع بين الاثنين عن طريق تطوير القديم من داخله بأساليب الحداثة المطوية فيه.٣ وهو النمط المطروح أمامها الذي يلاقي موافقة الأغلبية؛ نمط «التغيير من خلال التواصل». أمَّا النموذج العربي فإنه يقوم على الانقطاع بين التراث والتجديد، بين التقاليد والتحرر، بين القديم والجديد. وبقدْر ما يتمُّ نقدُ القديم ورفضُه يتمُّ التحررُ منه وإبداعُ الجديد، وبقدْر ما يتمُّ التخلصُ من التراث والفكُّ من إساره يتمُّ إطلاقُ قيد العقل وممارسة حرية الفكر واستقلاله، وبقدْر التخلصُ من اللاهوت القديم يتمُّ اكتشافُ الطبيعة والإنسان، وبقدْر ما يتمُّ الخلاصُ من المعارف الإلهية المُعطَاة سلفًا يتمُّ الثقةُ بالعقل وبقدرته على اكتشاف مناهج جديدة، توصِلُه إلى العلم، وتساعده على كشف الحقائق. وبقدْر ما يُتخلَّص من الشرائع الكنسية وسُلطانها يتمُّ اكتشافُ الشرائع الإنسانية والقانون الوضعي.
والثقافة الوطنية هي الأساس الذي منه تخرج الأيديولوجيات السياسية. وإن أيَّة أيديولوجية سياسية تَرِد من خارج الثقافة الوطنية يسهُل حصارُها وعزلُها ثم استبعادُها. وقد استطاعت الثقافة الوطنية كأيَّة أيديولوجيات سياسية وهُويَّات قومية تثوير الشعوب. فقد كان الأدب الروسي هو الوعاء الذي خرجَت منه الثورة الروسية، وكانت حلقات الأدباء نواةً تخرج منها حلقات الثوَّار، كما كانت الثورة الفرنسية ابنة حركة التنوير، وكانت الثورة الأمريكية امتدادًا للتنوير الفرنسي والتنوير الأمريكي عند توماس بين، وكانت الثورة الإيرانية تحقيقًا للإسلام كهُويَّة قومية وأيديولوجية سياسية في مواجهة التغريب الفكري والسياسي إبَّان حُكم الشاه. وقد استطاعت الثقافة الوطنية في تاريخنا الحديث أن تكون المهد الذي منه خرجَت حركاتنا الإصلاحية وثوراتنا الحديثة منذ عرابي حتى عبد الناصر.٤ الثقافة الوطنية هي جمع بين العلم والمواطنة، وهما شرطان لتقدُّم كل شعب. فلا علم بلا التزام قومي، ولا التزام قومي بلا علم.٥

وإذا كانت الثقافة الوطنية تشمل كل «البناء القومي» من قِيَم وسلوك، فإنها تكوِّن مزاج الفرد وروح الشعب وتراث التاريخ. وبصرف النظر عن المدارس السلوكية ومدى إبرازها عامل الثقافات في سلوك الأفراد والجماعات، فإنه ممَّا لا شكَّ فيه أن الثقافة أحد مُكوِّنات السلوك. ليست المسألة فقهيةً صِرفةً ومماحكاتٍ نظريةً لا حلَّ لها، فيها قولان، ولا مخرج منهما: أيهما أسبق؛ البناء التحتي أم البناء الفوقي؟ أيهما علة وأيهما معلول؟ إن وضع الإشكال على هذا النحو من أجل حلٍّ أحادي الطرف، وضع غير علمي وحلٌّ غير علمي، خاضع لعقلية الثنائية المتعارضة التي سادت الوعي الأوروبي، تجزئة الحقيقة الواحدة إلى عِدَّة عوامل متنافرة متضاربة، ثم رد الكل إلى أحد أجزائه. إن الواقع كلٌّ متشابك، جدل بين العلل، أثر متبادل بين البِنيتَين، وهو ما يؤكده التفسير الجدلي. ويتمُّ الجدل بين البِنيتَين في طرف ثالث، وهو الشعور الفردي والجماعي، الوعي الإنساني والحضاري. ومن هنا تأتي أهمية ظاهريات هيجل وظاهريات هوسرل.

والثقافة الوطنية ليست وحدةً متجانسةً تُعبِّر عن نسق واحد، عن مذهب مُحكَم، بل تضمُّ مُكوِّنات عديدة متنافرة ومتناقضة، بل الإيجاب والسلب. بها الأمثال العامية والحِكَم الشعبية، بل العقائد المذهبية التي تحثُّ على العمل والجهد، وترفض الظلم والقيم والاستكانة والخنوع، وبها أمثلة مضادة تدعو إلى تَرْك الأمور تُسيِّرها المقادير وإلى الاستسلام للمكتوب. ويرجع هذا التناقض إلى أن مُكوِّنات الثقافة الوطنية إفراز لعديد من الظروف المتباينة، وتعبير عن كافة الطبقات الاجتماعية بمصالحها المتعارضة. ويكون التحدِّي الأعظم هو كيف يمكن تحييدُ الجوانب السلبية وإبراز الجوانب الإيجابية من أجل تنشيط الذهن وتعبئة الجماهير. فإذا ما اعتمدت نُظم القهر والطغيان على الجوانب السلبية تأكيدًا لحقِّ السلطان وواجب الطاعة، فإن فِرَق المعارضة تستطيع الاعتماد على الجوانب الإيجابية تأكيدًا لحقِّ الشعب وواجب الثورة.٦
وأخيرًا، تُعبِّر الثقافات الوطنية عن خصوصيات الشعوب ضدَّ ما يُسمَّى بالثقافة العالمية التي ما تكون في العادة الثقافة الغربية، وضدَّ شمولية العلم الذي هو في العادة أيضًا العلم الغربي؛ نظرًا لأن الثقافة المعاصرة والعلم الحديث قد ظهرَا في عصر الريادة الأوروبية في القرون الخمسة الأخيرة، وبالتالي فهي قادرة على حماية الشعوب من هيمنة ثقافة على أخرى. إن الثقافة الواحدة الشاملة والعلم الواحد الشامل إنما هو أسطورة تروِّجها الثقافة الرائدة والعلم الحديث من أجل الهيمنة الثقافية ونقل العلم من المركز إلى المحيط. كل ثقافة هي ثقافة محلية بالضرورة، وكل علم هو أيضًا محلي بالضرورة؛ نظرًا لأن العلم هو أحد الأنشطة الذهنية، يعكس البنية الثقافية للحضارة التي ينشأ فيها هذا العلم. إن خصوصيات الثقافة الوطنية لا تعني وجود جُزر منعزلة لا رابط بينها ولا اتصال، فهناك الترجمة والنقل بين الثقافات، وتبادل الألفاظ واستعاراتها، وإكمال المعاني ورؤية الأشياء، وقد حدث ذلك بين الثقافة الإسلامية والثقافة اليونانية والفارسية والهندية القديمة، كما أن تشابه الأمثال العامية وترادف حكمة الشعوب التي تخترق كل الثقافات، إنما تدل على وجود طبيعة بشرية واحدة وراء الرصيد الإنساني المشترك. هناك إذَن مستويات للروابط بين الثقافات؛ مستوى المعاني والماهيات عن طريق الترجمة والنقل والتبادل الحضاري، ومستوى التجارب البشرية المشتركة ووحدة الطبيعة الإنسانية وتجانسهما عبر الزمان.٧

ثانيًا: الثقافة الوطنية والأيديولوجيات المعاصرة في مصر

كان إغفال أهمية الثقافة الوطنية في تاريخنا المعاصر أحد أسباب تعثُّر نهضتنا الحديثة ورِدَّة ثورتنا المعاصرة. فإذا كنَّا قد عرفنا خمس أيديولوجيات للنهضة، فإنها جميعها، وعلى درجات متفاوتة، لم تؤسِّس أبنيتها بإحكام تام على مُكوِّنات الثقافة الوطنية للشعب. فجاءت مُحاصَرة مُبتسَرة، معزولة عن ثقافة الجماهير على النحو التالي:
  • (١)

    لقد استطاعت «الليبرالية» المُمَثَّلة في حزب الوفد، والتي حكمت مصر حتى قبل الثورة المصرية الحديثة، أن تؤسِّس نفسها على التراث الوطني المصري منذ ثورة ١٩١٩م وما بعدها. وخرج كُتَّابها، وبصرف النظر عن ولائهم الحزبي لهذا الجناح أو ذاك، يدعون للحرية، ويطالبون بإعمال العقل، ويدافعون عن الدستور والنُّظم البرلمانية وتعدُّد الأحزاب. وظهر في هذا الإطار «حياة محمد»، «في منزل الوحي» … إلخ. ولكنْ ظلَّت الليبرالية محصورةً في طبقة الباشوات، وظلَّ التجديد أحد إنجازاتها. أمَّا ثقافة الجماهير فظلَّت دينيةً تقليديةً محافظةً ترفض الانقطاع عنها والعنف معها كما حدث مع «الإسلام وأصول الحكم»، «الشعر الجاهلي»، «تحرير المرأة»، «من هنا نبدأ» … إلخ. ظلَّت الليبرالية أقرب إلى الأيديولوجية الوافدة منها إلى الأيديولوجية الموروثة، تقليدًا للغرب وليس بعثًا للقديم، أسوةً بأوروبا وليس إحياءً للمعتزلة. فلم ينجح تركيب الليبرالية الوافدة على الأشعرية والتصوف؛ المُكوِّنين الرئيسيين للثقافة الشعبية. لذلك سرعان ما انهارت أمام المحافظة التقليدية والموروث القديم. كانت الليبرالية مجرَّد نتوء سطحي في الحياة السياسية، ولم تكُن رافدًا أصيلًا في ثقافة الجماهير.

  • (٢)
    ثم أعقبتها «الاشتراكية العربية» بعد تطورها من التمصير إلى الاشتراكية الديمقراطية التعاونية، ونهايتها في الاشتراكية الديمقراطية إبَّان الثورة المصرية.٨ وعلى الرغم من تعبيرها عن مصالح الجماهير، إلا أنها لم تنبثق من ثقافتها الوطنية، بالرغم من أدبيات الاشتراكية والإسلام، التي غلب عليها الطابع الدعائي الذي قام به جهاز الدولة لتبرير قرارات السُّلطة السياسية. ولو أن السُّلطة اختارت الرأسمالية طريقًا للتنمية وعادت الاشتراكية لخرجت أدبيات الاقتصاد الحرِّ في الإسلام، كما يحدث الآن في البنوك الإسلامية وشركات توظيف الأموال واتِّهام الاشتراكية بالشيوعية والإلحاد باسم الإسلام. لم ترتبط الأهداف القومية بالثقافة الوطنية ارتباطًا عضويًّا، وظلَّت في مجموعها أهدافًا علمانية أو، على أكثر تقدير، تعبيرًا مباشرًا عن مصلحة الجماهير مثل التحرُّر من الاستعمار، تذويب الفوارق بين الطبقات، تكوين القطاع العام، إعطاء حقوق العمال، الإصلاح الزراعي، توزيع الأرض على الفلاحين، التصنيع، مجانية التعليم، تحالف قُوى الشعب العامل، الوحدة العربية، سياسة عدم الانحياز … إلخ. بل تمَّت معاداة كل محاولة جادَّة لتأصيلها عن اقتناع وصدق قبل الثورة وبعدها، مثل: «العدالة الاجتماعية في الإسلام»، «معركة الإسلام والرأسمالية»، «السلام العالمي والإسلام» … إلخ، حرصًا على السُّلطة، واحتكارًا للفكر والممارسة، وخوفًا من تحوُّل الأصالة الفكرية إلى تيَّار سياسي وتنظيم شعبي وحركة جماهيرية بديلة عن السُّلطة السياسية، سُلطة الضباط الأحرار. نشأ الصراع بين ممثِّلي المُكوِّن الرئيسي للثقافة الوطنية، وهم الإخوان المسلمون، وبين حاملي الأهداف القومية الجديدة، وهم الضباط الأحرار، وانتصر الضباط الأحرار فانزوى الإسلام في القلوب، وانحسر عن المشاركة في الحياة العامة، وتحوَّل تحت وطأة التعذيب والحصار إلى إسلام محافظ راغب في الانتقام، رافض لكل شيء. استُشهد سيد قطب، واستمرَّ التعذيب بين جدران السجون، ولم تُوجَد جماعة إسلامية علنية تقوم بمهمَّة التربية الإسلامية، ممَّا نتج عنه إصابة المجتمع بالتفسُّخ والانحلال، وبالتالي دفع الإسلام المحافظ إلى التشدُّد وإلى مزيد من المحافظة. ولقد استُعمِل هذا المُكوِّن الرئيسي للثقافة الوطنية لضرب هذه الأهداف ذاتها بطريق غير مباشر؛ نظرًا لأن هذه الأهداف صُوِّرَت على أنها خارجية وافدة مفروضة على الناس. وما أسهل ما تنشط الثقافة الوطنية فتُجنِّد الجماهير، وتجرف أمامها كل ثقافة إعلامية وكل سُلطة سياسية. وكان نتيجةً لتقوقُع الإسلام على ذاته دفاعًا عن نفسه ضدَّ مضطهديه أن اعتُبرَت الثقافة الوطنية غايةً في ذاتها وليست وسيلةً لتحقيق الأهداف القومية. وحتى تزايد السُّلطة السياسية على أنصار الإسلام المُضطهَد أمام الجماهير، كثُر الحديثُ عن تأكيد الهُويَّة وكأنها غاية في ذاتها، وتمَّ تأسيسُ فِرَق الفنون الشعبية، ولكنْ دون تسييس ودون أن تكون وسيلةً عضوية، لا إعلامية، لتحقيق الأهداف القومية.
  • (٣)
    أمَّا جماعة «الإخوان المسلمين» واستمرارها في الجماعات الإسلامية الحالية، فإنها تُمثِّل المُكوِّن الرئيسي للثقافة الوطنية، وهو الإسلام. وبالرغم من أنها على حقٍّ من حيث المبدأ، إلا أن الثقافة الوطنية التي تُمثِّلها، ونظرًا لتهميش الجماعة بقوة الطرد المركزي إمَّا إلى داخل السجن أو إلى خارج البلاد، لم تمتلئ بالدافع الذي تعيشه الأمة، وظلَّت فارغةً بلا مضمون، متقوقعةً على ذاتها وكأنها غاية في ذاتها وليست وسيلةً لتحقيق مصالح الناس، تُستعمَل كشعار وإعلان بعد أن تمَّ استئصالُها من كافة أجهزة الإعلام. وقد عادت بعض الممارسات في سلوك الجماهير على أساس أنها بدع، مع أنها أصبحَت جزءًا من الدين الشعبي، مثل الموالد والأعياد الدينية والطرق الصوفية، مع أنها يمكن أن تتحول إلى مهرجانات سياسية وخلايا حزبية قادرة على تجنيد الجماهير في الزوايا، كما حدث في المهدية في السودان والسنوسية في ليبيا. كما تمَّ إغفالُ خصوصية الشعوب من أجل عالمية الإسلام، مع أن الإسلام ثقافة وطنية تختلف باختلاف الشعوب. الإسلام في إندونيسيا متزاوج مع الهندوكية، وفي أفريقيا متزاوج مع الثقافات الزنجية، وفي آسيا مع البوذية، فالإسلام الآسيوي والإسلامي الزنجي كلاهما ثقافات وطنية لشعوب آسيا وأفريقيا. وإن أسطورة الثقافة العالمية التي يروِّجها الغرب كأحد وسائل الهيمنة الثقافية أولًا، ثم السياسية والاقتصادية والعسكرية ثانيًا، هي نفس أسطورة الإسلام العام الشامل الذي يُغفل قضية الواقع من أجل المبدأ. كما ساد الرأي الواحد والمذهب الواحد على التعدُّد الفكري والمذهبي الذي يميِّز الثقافات الوطنية، ممَّا يؤدِّي إلى تسكينها، ويُفقدها القدرة على الحركة وإثارة الأذهان، والقدرة على الحوار الخلَّاق والنقاش الحر. ولمَّا كانت الثقافة الوطنية ثقافة مضمون تلقائية خلَّاقة، فإن ما يقتلها هو الوقوع في التفسير الحرفي لمُكوِّنها الرئيسي، وهو الإسلام، والنزول من النصِّ إلى الواقع بدلًا من الصعود من الواقع إلى النصِّ. وقد يُستعمَل الرافد الرئيسي للثقافة الوطنية للوصول إلى الحكم عن طريق القفز على السُّلطة دون إعادة بناء للثقافة الوطنية، وقبل تعبئة الجماهير، واعتمادًا على جدل الكل ولا شيء، إمَّا أن يُؤخذ الإسلام كله أو يُترك كله، وبنوع من الغضب والتشنج وضِيق الصدر دفاعًا عن حقِّ الله وليس دفاعًا عن حقوق الإنسان.٩
  • (٤)

    أمَّا «الماركسية» فإنها تبدو وكأنها تعتمد على الثقافة الوطنية، وتشجِّع الفنون الشعبية، وتُكثر الحديث عن الشعب والثقافة الجماهيرية، وتُنشئ المجلات باسم «الثقافة الوطنية»، إلا أنها ترى أن الأيديولوجيا ليست علمًا، وأن الثقافة الوطنية أشبه بالأيديولوجيات، وبالتالي فهي ليست علمًا. الماركسية وحدها في العلم، علم المادية التاريخية أو المادية الجدلية. وبالتالي فهي ترتفع على الثقافة الوطنية، وتعتبرها أقرب إلى الفن والتسلية منها إلى العلم الاجتماعي. وتبتسر الماركسية من الثقافة الوطنية الفن والأدب باعتبارهما عنصرَين مُكوِّنَين لأمزجة الشعوب، وتُترك السياسة للماركسية كعلم شامل، مع أن الثقافة الوطنية أيضًا مليئة بالرؤى السياسية، وكأن الهدف هو إثبات المبدأ، أي الالتزام بثقافة الشعب على مستوى الفنون الشعبية من أجل إفساح المجال للعلم الشامل أو للأيديولوجيا العلمية وهي الماركسية، والتي هي في الحقيقة أقرب إلى الثقافة الغربية منها إلى العلم الشامل؟ وكثيرًا ما تعزو الماركسية الثقافة الوطنية إلى ثقافة الطبقة. ولمَّا كان الصراع بين الطبقات هو أساس الحراك الاجتماعي، فإن الثقافة الوطنية ما هي إلا السلاح الأيديولوجي الذي تستعمله كل طبقة لكسب هذا الصراع. وهنا تضيع وحدة الثقافة الوطنية كما تضيع وحدة الشعب. إنه ممَّا لا شكَّ فيه أن الثقافة الوطنية إفراز لكافة الطبقات الاجتماعية، خاصةً الطبقات الشعبية التي تُعبِّر عن نفسها بالأمثال والحِكَم أكثر ممَّا تُعبِّر عن نفسها بالفنِّ الرفيع، كما هو الحال في الطبقات العُليا. ولكن ذلك لا يعني عدم وجود ثقافة وطنية واحدة لشعب تظهر فيها روح الشعب من خلال تعدُّد الطبقات الاجتماعية وتضارب مصالحها.

  • (٥)

    أمَّا عن الحزب الوطني، حزب «مصر الفتاة»، الذي حاول الجمع بين الوطنية والإسلام، فإنه اعتمد بالفعل على الإسلام كأساس وطني وليس كنظرية سياسية، مجرَّد عاطفة دينية لتحميس الناس وليس كرؤية سياسية تُحقِّق مصالحهم. كما ارتبط الإسلام بدولة الخلافة أكثر من ارتباطه بالثقافة، وبسياسة المحاور أكثر من ارتباطه بالتراث. كان الارتباط بين الوطنية والإسلام على أساس خطابي، وليس على أساس علمي عقلي عن طريق إعادة فهم الإسلام بناءً على متطلبات الأمة، وفي مواجهة تحدِّيات العصر. وكان يغلب عليه طابع الممارسة العملية أكثر من طابع التأصيل النظري، ولا يستبعد العنف كأحد وسائل الممارسة، ممَّا قد يتعارض مع روح الشعب وبنية الثقافة الوطنية.

ثالثًا: الثقافة الوطنية والمفاهيم الموازية

وقد نشأ مفهوم الثقافة الوطنية من عدَّة مصادر في تاريخ الفكر أصبحَت كلها مفاهيم موازية ومتبادلة مع مفهوم الثقافة الوطنية. وتندرج كل ثلاثة مفاهيم تحت مجموعة واحدة، فمثلًا: مفاهيم روح العصر Zeitgeist وروح الشعب Volksgeist وروح الحضارة Kulturgeist تندرج كلها تحت مفهوم الروح في الفلسفة الألمانية، أمَّا مفاهيم الشخصية القومية National Character والأيديولوجيا وتصورات العالم Weltanschauung فهي أيضًا تندرج تحت الجانب النظري والعملي، العُرفي والسلوكي للوعي الفردي والوعي الاجتماعي. أمَّا مفاهيم الدين والتقاليد والتراث، وقِيَم الطبقة، والعادات والأعراف، فإنها أقرب إلى علم الاجتماع الوضعي وإلى السلوك والعقل الجمعي. أمَّا علم اجتماع المعرفة، وأنثروبولوجيا الثقافة، وعلوم التفسير، فهي أهمُّ العلوم التي تطرَّقَت لمفهوم الثقافة الوطنية وأصبحَت مرادفةً لها. وأخيرًا، كانت حركات التحرر الوطني، وأيديولوجيات العالم الثالث، وعلاقات الشرق والغرب الحضارية، مفاهيم موازية حاملة لمفهوم الثقافة الوطنية:
  • (١)

    «روح العصر»، ويعني المصطلح عند هيجل أن لكل عصرٍ روحه وطابعه ومحوره وقصده وهدفه الرئيسي. ففي عصر الوثنية ينشأ الاتجاه الطبيعي، وفي عصر الرومانسية ينشأ الاتجاه الديني أو الذاتية الفردية، وفي كل فترة هناك روح غالبة؛ العقل عند اليونان، والإيمان في العصر الوسيط، والعلم في العصر الحديث. كما أن روح العصر تُعبِّر عن نفسها في علم أو في فن أو في فلسفة، وتكون فيه الأولوية لإحدى قُوى النفس على قُواها الأخرى. ففي عصر العقل وحضارته ينشأ المنطق الصوري، وفي عصر الصراع الاجتماعي ينشأ المنطق الجدلي، وفي عصر العلم ينشأ المنطق التجريبي، وفي عصر الرياضيات ينشأ المنطق الرياضي والرمزي … إلخ.

  • (٢)
    «روح الشعب»، ويعني المصطلح عند هردر أن لكل حضارة روحًا وقصدًا وإبداعًا. هناك حضارة الواحد في مقابل حضارة التعدُّد والكثرة، وهناك حضارة الروح في مقابل حضارة الطبيعة. وهناك حضارة يغلب عليها الطابع الصوري المجرَّد وأخرى يغلب عليها الطابع المادي الملموس. وقد لاحظ ابن سينا ذلك من قبلُ في تمييزه بين خصائص المنطق اليوناني والشعر العربي؛ الأول يقيس الأشباه بالأشباه والنظائر بالنظائر، بينما الثاني يصف الشخصيات والأفراد. وقد اشتهر هذان المفهومان في القرن الماضي، وكانا المفهومين الرئيسيين حول أدبيات كثيرة عن «سيكولوجيا الشعوب Psychologie des Peuples».
  • (٣)
    «روح الحضارة»، وهو نفس المفهوم السابق مع تنوع جديد وتركيز على الحضارة أكثر من التركيز على العصر، أي المرحلة التاريخية أو الشعب، أي على الخصائص القومية. وقد استعمله إشبنجلر وتوينبي وريبيرو Ribeiro. نشأ هذا المفهوم من ثنايا فلسفة التاريخ وتتابع الحضارات. يطلق إشبنجلر على الحضارة الإسلامية «حضارة الكهف»، أيْ نصف الخطِّ الدائري كالقبو، مُشيرًا إلى نشأة الدولة وسقوطها كما فعل ابن خلدون. كما يطلق على الحضارة الأوروبية «حضارة السهم»، أي الخط المستقيم المرتفع، مُشيرًا إلى مسار التقدم. ولكل حضارة عِدَّة محاور رئيسية، مثل: الله والشعب والأرض في اليهودية، والخلود في مصر القديمة، والرئيس في حضارات الشرق، والدولة في الصين، والإنسان والطبيعة في الحضارة الغربية الحديثة. وكل حضارة لها شخصية وطنية تُجسِّدها، مثل: جان دارك أو ديجول في فرنسا، وجوته أو بسمارك في ألمانيا، وسرفنتيس في إسبانيا، وشكسبير أو كرومويل في إنجلترا … إلخ.
  • (٤)

    «الشخصية القومية»، هي أيضًا أحد المفاهيم الموازية لمفهوم الثقافة الوطنية. وقد كان هو المفهوم الرئيسي في أوروبا في القرن الماضي بعد تفتُّت الإمبراطوريات النمساوية والمجرية وبداية العصر الحديث، عصر القوميات. وقد حمل هذا المفهوم «علم نفس الشعوب»، وبداية الاستشراق والدراسات حول خصائص الشعوب وطبائعها لإحكام السيطرة على الشعوب اللاأوروبية ومعرفة عناصر القوة لدى الشعوب الأوروبية. وعادةً ما يصبح الأفراد المتميزون ضحية التعميمات والانتقال من الملاحظات الجزئية إلى الأحكام الكلية.

  • (٥)

    «الأيديولوجيا»، ويعني هذا المفهوم مجموعة العقائد والتصورات والقِيَم التي تُعبِّر عن فترة تاريخية مُعيَّنة عند شعب مُعيَّن تحدِّد رؤاه للعالم وتعطيه بواعثَ للسلوك، تنبع من واقع كنظرية كي تعود إليه كممارسة. هناك أيديولوجيا ألمانية، ومن نقدها نشأت الماركسية. وهناك أيديولوجيا فرنسية عند الفلاسفة الفرنسيين الشبَّان. وهناك محاولات لإبراز «الأيديولوجيا العربية المعاصرة». ومفهوم الأيديولوجيا من المفاهيم التي راجت في فكرنا المعاصر، وانجذب إليها شباب المثقفين، سدًّا للنقص النظري، وإشباعًا لحاجة مَلء الفكر إذا ما انزوى الدين في العقائد، وغابت رؤية الطبيعة، وعزَّ التنظير المباشر للواقع. وبالرغم من المعركة التي دارت حول نهاية الأيديولوجيا وبداية التكنولوجيا، إلا أن هذا الحكم ذاته حكم أيديولوجي صِرف، حكم على واقع لم ينتهِ بعد. كما أن التكنولوجيا تحمل في طيَّاتها أيديولوجيا ضمنية تظهر في التصميم والتخطيط والأثر الاجتماعي والثقافي والحضاري. تصميم السدِّ العالي يكشف عن الأيديولوجيا الباطنة (قناة واحدة كبيرة في مقابل قنوات متعدِّدة)، والحسابات الآلية الصغيرة (اليابان) تكشف عن روح حضارة وخصائص شعب في مقابل الحاسبات الآلية الضخمة (ألمانيا، أمريكا).

  • (٦)

    «فلسفات تصورات العالم»، وقد ساعدت على بلورة مفهوم الثقافة الوطنية، وهي الفلسفة التي وضعها دلتاي مؤسِّسًا بها الوعي التاريخي كردِّ فعل على النزعة التاريخية الصماء التي سادت القرن الماضي في الغرب. فالفن والعلم والدين والفلسفة؛ كلها تساهم في تكوين تصورات العالم في كل عصر، وما يظهر في أحد فروع المعرفة يظهر في فرع آخر بصورة أخرى. وتساهم علوم التفسير في التعرف على تصورات العالم التي ترتكز على أُسُس نفسية وتعبيرية لغوية. تصورات العالم هي الوحدات الثقافية الأولى التي تجبُّ مفاهيم الشعب والشخصية القومية.

  • (٧)
    «الدين والتراث»، وقد يتخصَّص مفهوم الثقافة الوطنية ويصبح مرادفًا لأهمِّ مكوناته، وهو الدين والتراث بما لهما من قدرة على الترسُّب في الوعي القومي التاريخي. ويتَّضح ذلك في ثقافتنا الوطنية التي ترسَّبَت فيها قِيَم الصبر والتوكل والرضا والقناعة الموروثة من علم التصوف. كما سادتها عقائد القضاء والقَدَر وإنكار العلل المباشرة الموروثة من علم أصول الدين، وتخلَّلَتها قِيَم وتصورات مثل: أولوية الفضائل النظرية على الفضائل العملية، وسيادة التصور الهرمي للعالم، وغياب الإنسان الموروث من علوم الحكمة.١٠
  • (٨)
    «قيم الطبقة»، وهو مفهوم ماركسي يخصِّص الثقافة الوطنية ويراها من خلال التركيب الطبقي للمجتمع. صحيحٌ أن لكل طبقة قِيَمها. قِيَم الطبقة العُليا في الحرية والعقل والفردية والجمال والإنسانية والعلم والتحضُّر والتمدُّن، وكل ما من شأنه الإعلاء من شأن الفرد ومن مميزات الطبقة. وقِيَم الطبقة الوسطى تتركَّز في القانون والنظام والآداب العامة و«الإتيكيت» الاجتماعي، وكل ما من شأنه الإبقاء على الوضع القائم. وقِيَم الطبقة الدنيا تدور حول الرضا والقناعة والتوكل والصبر والاستسلام للمقادير قبل أن تتحول إلى قِيَم الحياة والنضال والفعل في لحظات الثورة.١١
  • (٩)

    «التقاليد والعادات والأعراف»، وهنا تتحول المفاهيم والمصطلحات إلى مجرَّد لغة شائعة تشير إلى أحد مُكوِّنات الثقافة الوطنية، فهذه جزء رئيسي فيها. ليست الثقافة فقط عقائد نظرية وقِيَم وتصورات مجرَّدة، بل هي أيضًا مجموعة من الممارسات العملية تكشف عن أنماط محدَّدة في السلوك. لقد كُتب كثيرًا عن عادات الشعوب وأعرافها حتى أصبحَت سماتٍ مميزةً لها؛ حديث الإنجليزي عن الطقس، وإعجاب الفرنسي بجمال المرأة وتذوُّقه للفنون التشكيلية خاصةً الرسم، قدرة الألماني على الموسيقى والميتافيزيقا، حُب الروسي للأرض، صوت الإيطالي العالي في حياته العامة وفي حُبِّه للغناء الأوبرالي، فظاظة الروسي، نكتة المصري، طيبة السوداني، سذاجة الأمريكي. وقد جسَّدَت الآداب شخصياتٍ قوميةً مميزة، مثل: جحا العربي، وماريوس الفرنسي … إلخ.

  • (١٠)
    «علم اجتماع المعرفة»، درس أيضًا الثقافة الوطنية وإن اختلفَت أسماؤها. فإن كان علم اجتماع المعرفة يدرس العلاقة بين المذاهب والأفكار والآراء والنظريات من ناحية، وبين الظروف الاجتماعية التي منها نشأت هذه النظريات، فإن الثقافة الوطنية هي أيضًا العلاقة بين الأبنية النظرية وتصورات العالم ومُوجِّهات السلوك ومعاييره وقِيَمه عند شعب مُعيَّن من ناحية، وبين الظروف التي يعيشها الآن، وكيف يمكن أن تكون هذه الثقافة والمعتقدات والقِيَم إحدى وسائل التغير الاجتماعي إيجابًا أم سلبًا، باعثًا أم عائقًا. إنما المُهمُّ عدم الوقوع في الردِّ الاجتماعي Sociological Reductionism، أي اعتبار الثقافة الوطنية مجرَّد انعكاس للظروف الاجتماعية، وتعبير عنها دون أن تكون لها الأولوية عليها، والاستقلال عنها والفاعلية والتأثير فيها. فالثقافة الوطنية هي ثقافة سياسية Political Culture وإن كان المُكوِّن الغالب عليها في البلاد النامية هو الموروث الديني.
  • (١١)
    «الأنثروبولوجيا الحضارية» أو «أنثروبولوجيا الثقافة»، وهي أحد العلوم مثل علم اجتماع المعرفة الذي يدرس موضوع الثقافة الوطنية بطريقته الخاصة عن طريق دراسة ثقافات الشعوب في عصورها التاريخية المختلفة من أجل العثور على عناصر ثابتة فيها، ثم قياس نسبة الثوابت من المتغيرات، بصرف النظر عن الدوافع وراء التعرف على خصائص الشعوب من أجل سيطرة شعب واحد على باقي الشعوب، ومن أجل هيمنة ثقافة واحدة على باقي الثقافات، وبصرف النظر عن النتائج فيما يتعلق بالأحكام العامة وخَلق موضوعات وهمية، مثل: العقلية البدائية La Méntalité Primitive أو الفكر البري La Pensée Sauvage.
  • (١٢)
    «علم التفسير Hermeneutics». وقد تعرَّض هذا العلم إلى موضوع الثقافة الوطنية عن طريق الكشف عن البيئة الثقافية الشعبية التي منها خرج النصُّ نشأةً وتكوينًا، وصياغةً وتقنينًا، والتي إليها يعود قراءةً وتأويلًا، فَهمًا وتفسيرًا. فلا يُفهَم نَصُّ الإنجيل إلا بالرجوع إلى البيئات الثقافية اليهودية واليونانية في فلسطين، ولا يُفهَم نَصُّ القرآن الكريم إلا بالرجوع إلى الثقافات العربية في شبه الجزيرة، ولا يمكن فَهمُ نَصِّ التلمود الفلسطيني أو البابلي إلا بالرجوع إلى البيئة الثقافية في فلسطين وفي العراق.١٢
  • (١٣)

    «حركات التحرر الوطني»، قامت هذه الحركات بفضل الثقافة الوطنية، واعتمادًا على الهُويَّة الثقافية باعتبارها هويةً قوميةً ضدَّ التغريب والفرنسة والتتريك والبلشفة. كما ساهمَت هي نفسها في خلق تيارات ثقافية جديدة تربط بين الثقافة والوطن في الفكر والعلم والفن وتفسير الدين والقانون والتاريخ. وهي تدلُّ على البُعد العملي في الثقافة الوطنية لا يقلُّ أهميةً عن بنائها النظري.

  • (١٤)

    «أيديولوجيات العالم الثالث»، وقد كثر الحديث عن الثقافة الوطنية في أيديولوجيات العالم الثالث باعتبارها محاولةً للاستقلال الفكري والثقافي والحضاري عن المذاهب الفكرية والسياسية في الحضارة الغربية، آخذةً في الاعتبار قضايا الأوطان. وقد وضح ذلك في «الوجدانية» لنكروما، «المعذبون في الأرض» لفانون، «مقال في الاستعمار» لإميه سيزير، «أوجاما» لنيريري، المقاومة السلمية عند غاندي، «الآسيوية الأفريقية» لمالك بن نبي، «النظرية الثالثة» للقذافي، «فلسفة الثورة» لعبد الناصر، أيديولوجية البعث عند ميشيل عفلق … إلخ. وهناك كثيرٌ من الكتابات الأيديولوجية في العالم الثالث تبدأ من الثقافة الوطنية كموضوع بديهي وواقع ملموس، بل إنها استطاعت أن تتحول إلى أيديولوجيات سياسية، سواء في التحديث الداخلي للمجتمعات مثل التجربة الصينية مثلًا، أو في العلاقات الدولية بين الشرق والغرب مثل: عدم الانحياز، الحياد الإيجابي، تضامن الشعوب الآسيوية الأفريقية، القارات الثلاث … إلخ.

  • (١٥)

    «ثقافات الشرق والغرب»، وأخيرًا تمتدُّ الثقافات الوطنية خارج حدود الأوطان إلى ثقافات الشرق والغرب. وكما هو معروف من فلسفات التاريخ ومن الأدباء والشعراء، يُوجَد تقابل بين الشرق الفنان والغرب العالِم، بين الشرق الروحاني والغرب المادي، بين الشرق حيث بدأت الحضارات فيه حول أنهاره العظيمة في الصين والهند ومصر، وبين الغرب الحديث الذي لا تمتدُّ جذوره في التاريخ أبعد من العصور الحديثة. وإذا كانت الحضارات قد بدأت قديمًا من الشرق وسارت نحو الغرب، بما في ذلك اللغات الهندية الأوروبية، فإنها الآن، وبعد عصر انتهاء الريادة الغربية، قد تعود إلى الشرق من جديد على ما هو معروف الآن باسم «ريح الشرق». وعلى الرغم ممَّا يكون في هذا المفهوم الأخير من شوفينية شرقية أو ردِّ فعل على العنصرية والهيمنة الثقافية الغربية، إلا أنه يمكن أن يتحول إلى علم دقيق لتأسيس فلسفة جديدة للتاريخ تتجاوز عصر المركزية الأوروبية.

رابعًا: المادة العلمية للثقافة الوطنية

الثقافة الوطنية ليست مفهومًا ثقافيًّا عامًّا أو مفهومًا فنيًّا أو مفهومًا سياسيًّا، بل تتكون من مادة علمية يمكن وصفُها وتحليلُها. هي ليست شعرًا يُطلَق، بل عملية تُصنَع، وبناء يُكتشَف. ويتكون هذا الرصيد من الثقافة الوطنية من الآتي:
  • (١)

    الدين، سواء كان الدين كما هو موجود في الكتب المقدَّسة، في القرآن والإنجيل والتوراة وكما هو مطوي في كتاب التراث، أو كان الدين كما يُلقَّن في المساجد والكنائس والمعابد والمدارس وأجهزة الإعلام، أو الدين الشعبي كما هو مُمارَس في الأضرحة والمزارات والأعياد والموالد والطرق الصوفية. فلا يُوجَد حدٌّ قاطعٌ بين الدين الرسمي والدين الشعبي، بين دين النصوص ودين الممارسة، بين دين الكتب ودين الشوارع.

  • (٢)

    العقائد السائدة التي ترسَّبَت في وجدان الشعب، سواء العقائد الرسمية النمطية مثل: التوحيد والنبوة والمعاد، أو العقائد في صياغاتها الموروثة من خلال الفرقة التي سادت وانتصرَت على مدى ألف عام، وهي الأشعرية، أيْ تراث السُّلطة في مواجهة تراث المعارضة الذي لم يَعِش طويلًا، ولم يترسَّب الكثير منه في وجداننا القومي، مثل: تراث الخوارج (المعارضة المسلحة العلنية من الخارج)، وتراث الشيعة (المعارضة السرية المسلحة من الداخل)، وتراث المعتزلة (المعارضة العلنية الفكرية من الداخل). ويمكن أخذُ نماذج أخرى من الكونفوشيوسية في الصين إبَّان المسيرة الطويلة إبَّان حرب التحرير.

  • (٣)

    العلوم الدينية القديمة، سواء ما ترسَّب منها في الوعي القومي وبقيَ مثل العلوم النقلية؛ علوم القرآن والحديث والتفسير والسيرة والفقه، أو العلوم العقلية النقلية مثل علوم التصوف الإشراقي أساسًا، وعلم أصول الدين الأشعري، وعلوم الحكمة الإشراقية، وعلم أصول الفقه النَّصِّي الافتراضي. وهي العلوم التي تمتلئ بها المكتبات العامة وتُردِّدها أجهزة الإعلام وتمتلئ بها كُتُب التربية الدينية والتي تُروَّج في المطابع، ويعظُم منها الكسب، ويكثُر منها الاقتباس، ويُعتمَد عليها في التعالم وطلب السُّلطة وطاعة الجماهير.

  • (٤)
    التاريخ الحي للصحابة الأوائل، الذين عاشوا قدوةً في وجدان الشعب، مثل: عمر وأبي بكر وأبي ذر وعمر بن عبد العزيز، وفقهاء الأمة الأجلاء مثل: العز بن عبد السلام، ورموز الشهادة مثل: الحسين وعمار بن ياسر. يقرأ تاريخهم الصغار والكبار بعد أن أصبحوا نماذج للسلوك ومُثلًا عُليا للتربية. وفي حضارات أخرى يُوجَد هذا التاريخ الحي لدى آلهة اليونان وأبطالهم؛ جان دارك، وبوليفار، وجيفارا، وتوريز،١٣ وداود، وسليمان، وابن عقيبة. ومن أدبائنا شعراء العرب وفرسانها. ومن تاريخنا الحديث: المهدي، السنوسي، عمر المختار، عبد الحميد بن باديس، حسن البنا، سيد قطب، محمد باقر الصدر، الإمام موسى الصدر، بن بلَّا، علَّال الفاسي … إلخ.
  • (٥)

    التاريخ الوطني الحديث والزعماء الوطنيون الذين ما زالوا روَّادًا للحركة الوطنية، تملأ صورهم الحجرات، وتعمُّ تماثيلهم الميادين، يقتدي بهم الطلاب، ويُذكَرون بتخليد أسمائهم كأسماء للشوارع أو المؤسَّسات العامة، وذلك مثل: عرابي، سعد زغلول، عبد الناصر، بن بلَّا. وفي ثقافات وطنية أخرى زعماء مثل: ماوتسي تونج، هوشي منه، غاندي، نِهرو، تيتو، نكروما، ومعظم قادة التحرر في العالم الثالث الذين ما زالوا يلهبون خيال عدة أجيال.

  • (٦)

    الأمثال العامية والأغاني الشعبية والحِكَم المأثورة، والحكايات والأساطير والسِّيَر والملاحم والمغازي … إلخ. وهي المصدر الدنيوي للثقافة الشعبية بعد مصدرها الديني في الدين والعقائد والعلوم الدينية. وتحفظ الشعوبُ تراثَها الشعبي قدْر حفظها تراثَها الديني. يُغنِّي الناس للمطربين، ويطربون لسماع القرآن. ولقد تكوَّن الوجدان القومي والمزاج الشعبي في كل حضارة، وكما يظهر ذلك خاصةً في فنون الغناء والموسيقى وفنون الرسم والنحت والعمارة من اجتماع هذين الرافدين؛ الفن الديني والفن الشعبي، وكما هو واضح في تاريخ الفنون في الغرب.

خامسًا: الأهداف القومية والثقافة الوطنية

إن التحدي الأعظم أمام المثقف السياسي وعالم السياسة هو كيف يمكن للثقافة الوطنية، وهي العنصر الرئيسي في التكوين النفسي للجماهير، أن تكون حاملًا للأهداف القومية؟ كيف يمكن أن نجد فيها عناصرَ ثقافيةً قادرةً على أن تكون أساسًا نظريًّا للتحرر من الاستعمار، وتحرير الأرض من الغزو الأجنبي، والقضاء على الاحتلال؛ وهو الهدف القومي الأول في فلسطين وسبتة ومليلية وأفغانستان وكشمير؟ كيف يمكن أن نجد عناصرَ أخرى في الثقافة الوطنية تكون أساسًا لتحقيق الهدف القومي الثاني؛ وهو التحرر من القهر الداخلي والقضاء على الطغيان السياسي؟ ثالثًا، هل هناك دوافع في الثقافة الوطنية قادرة على تحقيق أكبر قدْر ممكن من العدالة الاجتماعية، وتقريب الهوَّة الشاسعة بين الأغنياء والفقراء، بين الذين يموتون بطنةً وشبعًا وبين الذين يُقضَى نَحبُهم جوعًا وعطشًا؟ رابعًا، هل في الثقافة الوطنية تصوُّرات لقضايا الوحدة في مواجهة التجزئة والتشرذم والفتن الطائفية ومعارك الحدود بين الإخوة الأعداء؟ خامسًا، هل تُوجَد عناصر في الثقافة الوطنية قادرة على أن تدفع نحو تحقيق التقدم والتنمية في مواجهة شتَّى مظاهر التخلف؟ سادسًا، هل تستطيع الثقافة الوطنية أن تحمي الهُويَّة في مواجهة الموجات المتتالية من التغريب؟ سابعًا، هل في الثقافة الوطنية مفاهيم قادرة على تجنيد الجماهير وتحويل الكمِّ فيها إلى كيف، وتأسيس تنظيمات شعبية فعالة قادرة على الحركة وسط الناس؟١٤
والردُّ على هذه الأسئلة كلها بالإيجاب، ففي الثقافة الوطنية مفاهيم وتصوُّرات وبواعث يمكن أن تكون أسُسًا نظريةً ودوافعَ سلوكيةً على تحقيق هذه الأهداف القومية التي ما زالت تُحدِّد معالم المشروع القومي منذ أن صاغه محمد علي لأول مرة عمليًّا، ثم حدَّده الأفغاني مرة ثانية نظريًّا، وحاول عبد الناصر تحقيقه مرة ثالثة عمليًّا. وما زال مطروحًا حتى الآن، بل ولعِدَّة أجيال قادمة؛ إذ لم يتحقَّق منه شيءٌ بعدُ إلا تحقُّقًا نسبيًّا جزئيًّا، خاصةً فيما يتعلق بالهدف الأول وهو تحرير الأرض. بل إن الأمور تزداد تعقيدًا وتشابكًا بالرغم من وَهم الاستقلال، ويتطلَّب ذلك وعيًا نظريًّا وجديةً علميةً بدونهما يقع المثقف السياسي في الخطابة، أو يتلمَّس الشعارات هنا وهناك مكتفيًا بالإعلان دون بضاعة. وهو عمل يتمُّ في الجامعات وفي مراكز الأبحاث قبل أن يتمَّ في مدارس الأحزاب وتثقيف الكوادر وأجهزة الإعلام. ويمكن أن يتمَّ ذلك على النحو الآتي:
  • (١)
    التمييز بين الأهداف القومية الرئيسية التي لا يختلف عليها اثنان — وهي ما زالت منذ فجر النهضة الحديثة سبعة؛ التحرر من الاستعمار، الحرية في مواجهة أنظمة القهر والطغيان، العدالة الاجتماعية حلًّا لمشكلة الغِنى والفقر، الوحدة القومية في مواجهة التجزئة والتشرذم، التنمية والتقدم في مواجهة التخلف، الهُويَّة القومية في وجه التغريب، وأخيرًا تعبئة الجماهير ضدَّ السلبية واللامبالاة — وبين الأهداف الفرعية مثل التنمية القُطرية؛ إذ إنه لا تنمية قُطرية إلا في إطار التنمية القومية حلًّا لمشاكل الغذاء والتجارة، وتوفير رءوس الأموال، والعمالة، والعلم والتكنولوجيا، والتصنيع، والإمكانيات البشرية … إلخ. أمَّا الأهداف الأخرى مثل السيطرة القُطرية، والزعامة القُطرية، ومعارك الحدود بدعوى الدفاع عن التراب الوطني، فهي كلها ليست أهدافًا قومية، بل نتيجة للتجزئة وحُبِّ الزعامة والرغبة في التوسُّع والسيطرة ووهم الدولة-الشعب، Nation-State، بالرغم ممَّا نسمع منذ الصِّبا عن الحدود المُصطنَعة التي وضعها الاستعمار للتفرقة بين أبناء الوطن الواحد وتجزئته وتقسيمه طبقًا لمبدأ «فرِّق تَسُدْ». الأهداف الرئيسية هي أهداف الأغلبية، والأهداف الفرعية هي أهداف الأقلية. وإن أهداف الأغلبية، وهي أهداف الشعب الدائمة، ليست بالضرورة هي أهداف القادة والأنظمة السياسية.
  • (٢)

    وحدة الأهداف واختلاف الوسائل؛ وذلك أن وحدة برنامج العمل وتعدُّد الأطراف النظرية تُحقِّق أكبر قدْر ممكن من شحن الطاقات الفكرية والعملية. فكل صاحب مذهب أو رأي أو عقيدة له دَور في تحقيق ما يستطيع من الأهداف القومية التي تُمثِّل برنامج العمل الوطني الموحد، وكل باعث أو دافع على الفعل شرعي ما دام يُحقِّق الهدف المشترك، فقد يتمُّ تحريرُ فلسطين دفاعًا عن أرض الإسلام وذَبًّا عن البيضة، أو دفاعًا عن حرية شعب فلسطين وتأسيسًا للدولة الديمقراطية العلمانية التي يتعايش فيها كل المواطنين بصرف النظر عن انتماءاتهم الدينية والعِرقية والطائفية، أو دفاعًا عن الطبقة العاملة ضدَّ استغلال أصحاب رءوس الأموال، أو تحقيقًا للوحدة العربية. وهو درس من الأصوليين القدماء في اعتبار النظر ظنًّا والعمل يقينًا، وأن الحقَّ النظري متعدِّد بينما الحقُّ العملي واحد.

  • (٣)
    الانتقائية؛ وذلك أن الثقافة الوطنية تحتوي على الشيء ونقيضه، على المَثَل العامي والمَثَل المضاد. ولا حلَّ أمام المثقف الوطني إلا الانتقاء من اتجاهات الثقافة الوطنية ما يساعده على تحقيق الأهداف، فإذا كان الهدف القومي الأول هو التحرر من الاستعمار فله أن يختار من العقائد ما يساعده على ذلك، مثل تلك التي تؤكد على علاقة الله بالأرض، وليس تلك التي تفصل بينهما.١٥ وإذا كان التحرر من القهر الداخلي هدفًا قوميًّا، فيمكن أن يختار من الأمثال العامية والعقائد التي تدفع إلى التحرر من الظلم ومقاومة الظالم، لا تلك التي تدعو إلى الاستكانة والاستسلام. الأهداف القومية إذَن هي معيار الانتقاء، وتحديات العصر هي مقياس الاختيار. الثقافة الوطنية أشبه بالوعاء العام الذي به كل شيء، واحتياجات العصر ومتطلباته هي الأساس الذي يتمُّ عليه اختيارُ هذا الجانب أو ذاك.
  • (٤)

    الوظيفية. إن الثقافة الوطنية بكل مُكوِّناتها الدينية والشعبية وسيلة لا غاية، طريق لا هدف، منهج لا موضوع. طالما أنها فعَّالة وقادرة على إعطاء الجماهير الأساس النظري والدافع العملي، فهي صحيحة وشرعية. لا يُوجَد حقٌّ أو باطلٌ على المستوى النظري، بل الحق والباطل بالنسبة إلى ما يتحقَّق بالفعل. لا يُوجَد صدق في ذاته، بل الصدق هو مقدار الإنجاز الذي يتم. وبهذه الطريقة يتمُّ إخراجُ العقائد والثقافات من قوقعتها وانغلاقها على الذات والدفاع عنها أو الهجوم عليها متناسين الواقع ذاته الذي تدور فيه رَحَى القتال. إن الماهيات المستقلة ليست أحكامًا مُسبقةً أو عقائدَ مذهبيةً تدَّعي الصدق المطلق والشمول الأبدي، بل هي تحقُّقات عيانية تأتي بعد الفعل، وتثبُت بعد الاستشهاد. فحقيقة المسيحية وصدقها ليست في العقائد الظنية التي صاغها يوحنا أو بولس، بل هي في استشهاد مئات المسيحيين في عصر الاضطهاد.

  • (٥)
    تحليل المضمون للعقائد والأمثال من أجل معرفة اتجاهاتها الرئيسية، والتي في الغالب ما تتفق مع الأهداف القومية الرئيسية. ففي القرآن الكريم مثلًا، ذكر الله دائمًا مع الأرض في رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ. كما يظهر الله في الإشباع بعد الجوع، وفي الأمان بعد الخوف في: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ. وتنهار المجتمعات بسبب البَّون الشاسع بين الأغنياء والفقراء، بين القصور المُشيَّدة والآبار المُعطَّلة وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ. وفي حركاتنا الإصلاحية الحديثة يذكر الأفغاني مكررًا قول أبي ذر: «عجبتُ لرجل لا يجد قُوتَ يومه ولا يخرج للناس شاهرًا سيفه.» وفي الحديث: «ليس منَّا مَن بات شبعانَ وجاره طاوٍ.» فلا يُوجَد هدف قومي رئيسي واحد إلا ويجد في العقائد الدينية وفي الأمثال العامة ما يؤيِّده ويدعمه ويحثُّ عليه وينادي به.
  • (٦)
    تجديد اللغة. ويتمُّ ذلك بالانتقال من لغة العقائد إلى اللغة الشعبية، ثم من اللغة الشعبية إلى لغة السياسة. فالثقافة الوطنية لها مصدران؛ المصدر الديني، وهو قادر على أن يعطي مضمونًا متَّفقًا مع الأهداف القومية، والمصدر الدنيوي الحامل لأزمات الواقع ولحكمة الشعوب. وبلغة الأمثال العامية تتحرَّك العامة أولًا، وبلغة السياسة ثانيًا يتأصَّل فكرُها. فتصبح الثقافة الوطنية هي المنبع الأول للأيديولوجية السياسية.١٦ إن من أهمِّ الأسباب التي تجعل الشعب لا مُباليًا ومُحايدًا وسلبيًّا بالنسبة للأيديولوجيات السياسية هو دُجماطيقية الأيديولوجيات الدينية كما تظهر في اللغة التقليدية من ثواب وعقاب، ودُنيا وآخرة، وملاك وشيطان، وجنة ونار … وصعوبة الأيديولوجيات العلمانية مثل الكمِّ والكيف، والإيجاب والسلب، والتناقض والنفي … إلى آخر ما هو معروف من مفاهيم المادية الجدلية كأساس نظري للماركسية. إن اللغة المباشرة التي تستقي ألفاظها من العُرف اللغوي لَأقدَرُ على التعبير عن الثقافة الوطنية وتعبئة الجماهير.
  • (٧)
    عدم البداية بأيَّة مسلَّمات عقائدية أو مذهبية، بل البداية بالواقع ذاته وبرصد حاجاته الرئيسية، ثم إعادة بناء الثقافة الوطنية طبقًا لهذه الحاجات. الحاجات هي الغاية، وإعادة بناء الثقافة الوطنية هي الوسيلة، لا تكون البداية بالنَّص بل بالواقع، وليست بالنظرية بل بالتجربة. تتمُّ إعادة بناء الثقافة الوطنية بالمنهج الصاعد وليس بالمنهج النازل، بالمنهج الاستقرائي وليس بالمنهج الاستنباطي، بالمنهج الذي يبدأ من الأساس إلى المؤسس. والفلسفة في النهاية هي البحث عن الأساس Grund. إن العقائد أهواء، والنصوص تقنين لهذه الأهواء وتشريع لها.
  • (٨)

    وتكون المهمَّة الرئيسية، في إعادة بناء الثقافة الوطنية، الاعتماد على العناصر الإيجابية فيها، ثم تحويل العناصر السلبية إلى إيجابية عن طريق تأويلها وبيان وظيفتها والغاية منها وأيَّة طبقة أفرزتها وأيَّة مصالح تدافع عنها. الدفاع عن الأرض يقتضي الاعتماد على عنصر إيجابي مثل علاقة الله بالأرض. وللدفاع عن الحرية يمكن تحويلُ القَدَرية، وهي عنصر سلبي، من المعنى الشعبي السلبي، وهو الاستسلام للقضاء والقدر، إلى المعنى الإيجابي الإصلاحي، وهو الشجاعة اللازمة والطاقة المطلوبة لأداء الفعل، كما قال الشاعر العربي واستشهد به الأفغاني:

    وإذا لم يكُن من الموتِ بُدٌّ
    فمن العجزِ أن تموتَ جبانَا١٧

    وكما قال محمد إقبال أيضًا داحضًا احتجاج المسلمين بالقرآن في القصور عن السعي:

    من القُرآنِ قد تركوا المساعي
    وبالقُرآنِ قد مَلَكُوا الثُّريَّا
    إلى التقديرِ ردُّوا كلَّ سعيٍ
    وكان زماعُهُم قدرًا خفيَّا
    تبدَّلَت الضمائرُ في إسارٍ
    فما كَرِهُوه صار لهم رضيَّا١٨

سادسًا: نماذج لإعادة بناء الثقافة الوطنية

ويمكن إعطاءُ نماذج عِدَّة لإعادة بناء الثقافة الوطنية قد تختلف من بيئة ثقافية إلى بيئة ثقافية أخرى، ومن مجتمع إلى مجتمع، ومن عصر إلى عصر حسب ظروف ثقافة وطبيعة كل مجتمع ونوعية المرحلة التي يمرُّ بها. ويمكن إعطاءُ نماذج لإعادة بناء ثقافتنا الوطنية في المرحلة الراهنة التي نمرُّ بها عن طريق تغيير محاورها المركزية، وتصوُّراتها للعالم، ومناهجها في المعرفة وأنماط السلوك، وأبعادها الإنسانية، ولغتها في التعبير. وهي ليست مجرَّد تغيير محور بمحور أو استبدال تصوُّر بتصوُّر أو وضع منهج بدل منهج وقيمة بدل قيمة وترك بُعد إنساني إيثارًا لبُعد آخر، بل هي تغيُّرات جوهرية في بِنية الفكر ولغة تعبيره تجد مصداقيتها في التجارب الوطنية وفي التفاعل المباشر مع الجماهير.
  • (١)
    تغيير المحاور المركزية: ويعني ذلك أن كل ثقافة لها محاور رئيسية ترتكز عليها. وإن إعادة بناء الثقافة الوطنية تبدأ بتعديل هذه المحاور وتغيير اتجاهاتها ومراكزها. وعادةً ما يؤدِّي هذا التغيير إلى نقل الحضارة كلها من مرحلة إلى أخرى. وقد يكون لنفس المحور أسماء عديدة، وقد تنتج عنه محاور أخرى متداخلة معه، ومع ذلك تبقى المحاور الرئيسية واضحةً للعيان على النحو الآتي:
    • (أ)
      من الإلهيات إلى الإنسانيات: ويقتضي تغيير هذا المحور الانتقال من التمركز حول الله إلى التمركز حول الإنسان باسم الوحي، والوحي هو كلام الله المُوجَّه إلى الإنسان، فالإنسان هو القصد. وبالتالي فإن موضوع الوحي أساسًا هو علم الإنسان Anthropology وليس علم الله Theology. الوحي يصف وضع الإنسان في المجتمع وفي الكون، والله هو بُعد الشمول والعموم في الحياة الإنسانية الذي على أساسه يمكن التعاملُ مع الآخرين على قَدَم المساواة، بضمان وجود معيار شامل للحكم ومقياس عام للسلوك. وقد تمَّ ذلك في الغرب إبَّان عصر النهضة في القرن السادس عشر. هذا التغيير في المحاور ليس تعديلًا، بل هو تصحيح لوضع مقلوب وعَوْد إلى الشرعية الأولى بعيدًا عن الاغتراب والوهم. فإذا كان الله يدافع عن الإنسان ويأخذه موضوعًا ومقصدًا، فكيف يأتي الإنسان ويدافع عن الله ويأخذه موضوعًا ومقصدًا ناسيًا نفسه وخارجًا عن الأمر الإلهي؟ إن فعل فإنه يخرج عن القصد الإلهي ويصبح موقفه لا شرعيًّا مُغتربًا.١٩

      ويرتبط ذلك أيضًا بمحاور فرعية، مثل الانتقال من الله إلى الطبيعة أو من الله إلى الشعب. فالطبيعة وحي من الله بما تحمل من آيات، أيْ دلالات عليه. والآية قد تكون كلمة، أيْ لفظًا، وقد تكون ظاهرةً طبيعية، فالوحي كتاب مُغلَق ولا يُفتَح إلا عند القراءة. والطبيعة كتاب مفتوح دائمًا، ولا سبيل إلى فهم كتاب الوحي المُغلَق أو تفسيره وتأويله إلا بالرجوع إلى كتاب الطبيعة المفتوح. وعند الأصوليين القدماء الطبيعيات تسبق الإلهيات، والحدوث هو الطريق إلى إثبات القدم، والعالم في الاستدلال سابق على الله.

    • (ب)
      من الأخرويات إلى الدنيويات: وهذا يُمثِّل بُعد الزمان في الثقافة الوطنية، حيث تتركَّز في كثير من جوانبها على ما يحدث خارج العالم وفي نهايته، خاصةً ما كان منها إفرازًا للطبقات المحرومة، حيث تجد فيه تعويضًا عن حرمانها وإشباعًا لحاجاتها. ويتَّضح ذلك في العقائد، عندما تمَّ خلقُ عوالم الجنة والنار، وأحوال القبر، وأهوال القيامة، ومشاهدات الإسراء والمعراج عن طريق الخيال الشعبي وبأدقِّ التفصيلات. ولما كانت الغاية من إعادة بناء الثقافة الوطنية قَبول تحديات العصر، فإن العودة إلى هذا العالم من المستقبل إلى الحاضر يكون أكثر قدرةً على تحريك الجماهير وتجنيد قُواهم، والعودة من الخيال إلى الواقع، ومن الوهم إلى الحقيقة.
      وكما يتمُّ الانتقالُ من المستقبل إلى الحاضر يتمُّ أيضًا الانتقالُ من الماضي إلى الحاضر، ومن تاريخ الأنبياء والرسل في الماضي إلى أعمال القادة والأبطال في الحاضر. فالهدف من قصص الأنبياء في الرافد الديني للثقافة الوطنية هو إعطاء نماذج للبطولة وقيادة الشعوب ومقاومة الظلم والطغيان؛ موسى وفرعون، محمد وقريش … إلخ. نماذج الماضي قد تكون واقعًا، بل خيالًا، ليست هدفًا في ذاته للاستمتاع بها والترويح عن النفس، بل وسيلة لشحذ الهمم والدخول في معارك العصر. الإبقاء على الماضي يُحيل الحاضر إلى ماضٍ، وبالتالي تنشأ حركات العودة إلى الماضي Primitivism، في حين أن تحويل الماضي إلى حاضر هو أساس الحداثة Modernism.
  • (٢)
    تغيير تصوُّرات العالم: وينشأ عن التمركز حول الله في المحاور تصوُّرات رأسيَّة هرميَّة وتدرُّجيَّة وثنائيَّة للعالم. وكما تمَّ الانتقالُ من الله إلى الإنسان وإلى الطبيعة، كذلك يمكن الانتقالُ من التصورات الرأسية الهرمية والتدرجية والثنائية للعالم إلى التصورات الأفقية الخطية والواحدية للعالم. فنظرًا لأن المُكوِّن السائد في الثقافة الوطنية، هو التمركز حول الله، أصبح المحور الذي ترتكز عليه هو المحور الرأسي نزولًا من أعلى إلى أسفل وتحديدًا لعلاقة التبعية بين الطرفين؛ تبعية الأدنى للأعلى، وسيطرة الأعلى على الأدنى. وما دامت تقوم الثقافة الوطنية على هذا المحور فلن تنجح أيَّة خُطَّة للتنمية تقوم على الاعتماد الذاتي، ولن تنفع أيَّة محاولة للتنمية المستقلة أو للاستقلال الوطني، طالما أن القاعدة تعتمد في وجودها على القمة، وأن الإنسان ليس صاحب مصيره ولا سيِّده في هذا العالم.

    ويظهر المحور الرأسي في التصور الهرمي للعالم إلا أنه يتركز في القمة ثم يتسع في القاعدة. ومع ذلك تظلُّ القمة هي المشرفة والمسيطرة على القاعدة كلها، وعلى هذا الأساس قامت الدولة الهرمية التي يسيطر عليها القائد الأوحد دونما رقابة عليه أو مراجعة من القاعدة. وهنا أيضًا يُعاد بناءُ الثقافة الوطنية عن طريق ضغط المسافة بين قمة الهرم وقاعدته، ووصفهما معًا على مستوًى واحدٍ في الوجود والقيمة.

    ويقترب من هذا أيضًا التصور التدريجي للعالم، والذي هو أشبه بهرم سقارة منه بالهرم الأكبر. فالقمة تتضمَّن أعلى مراتب القيمة والوجود، وتتناقص تدريجيًّا حتى نصل إلى أخسِّ المستويات، كلما نزلنا قلَّت مراتب القيمة، وكلما صعدنا زادت مراتب الشرف. هذا التصور هو الأساس الذي تقوم عليه المجتمعات الطبقية والنُّظم البيروقراطية. ويُعاد بناءُ ذلك التصور إلى تصور خطي مستوٍ للعالم، تصبح فيه كل الدرجات على مستوًى أفقي واحد، وبالتالي يفسح المجال نظريًّا لبناء مجتمعات لا طبقية وإدارات لا بيروقراطية.

    أمَّا التصور الثنائي للعالم، الموروث في كل ثقافة وطنية تقليدية، فهو من بقايا التصور الرأسي؛ لأن علاقة الطرفين أيضًا علاقة تبعية فوقية، وهو أيضًا تصوُّر هرمي، قمة واحدة وقاعدة واحدة، وهو أيضًا تصوُّر تدريجي بدرجتَين فقط، علَّة ومعلول، صورة ومادة، أول وآخر، قوة وفعل، واحد وكثير، سكون وحركة، زمان ومكان، نفس وبدن، عقل وحِس، فضيلة ورذيلة، ملاك وشيطان، جنة ونار، ثواب وعقاب، إله وعالم … إلخ. ويُعاد بناءُ هذا التصور إلى تصوُّر واحدي للعالم تكون العلاقة بين الطرفين فيه علاقة مساواة أفقية، وليست علاقة تبعية رأسية.

  • (٣)
    تغيير مناهج المعرفة وأنماط السلوك: إذ عادةً ما يغلب على الثقافة الوطنية سيادةُ المناهج التقليدية في المعرفة وأنماط السلوك، مثل كافة أنواع المعارف الإشراقية من إلهام ونبوَّة وطَيرَة وفأل وقراءة للمستقبل وخطٍّ للرمل وضربٍ للحصى وقراءة الكفِّ وشتَّى أنواع النبوءات الشعبية. ويعادل ذلك في التراث الديني مناهج النَّص واستدعاء سُلطة الوحي وطاعة الرسول. حينئذٍ يُعادُ بناءُ المعرفة الشعبية في الثقافة الوطنية إلى المعرفة العقلية، والاعتماد على البداهة وإلى المعرفة الحسيَّة بالاعتماد على شهادة الحس. وفي التراث الديني، بدلًا من الاعتماد على سُلطة النصِّ ومصادره، يمكن الاعتمادُ على سُلطة العقل والثقة بمناهجه واستدلالاته ومنطقه. وعلى هذا النحو تتحول السُّلطة في المجتمع من سُلطة الأشخاص والكتب والنصوص إلى سُلطة العقل. وبدلًا من أن يتمَّ صراعٌ فقهيٌّ بين التفسيرات المختلفة، كلٌّ منها تكشف عن مصلحة، يتمُّ الحوارُ والنقاشُ بين كافة الآراء والاتجاهات. كما تسود الثقافة الوطنية التقليدية الحكايات والأساطير والمغازي التي يُقصَد بها التسلية والترويح عن النفس، والاستمتاع بالرواية، وإثارة الخيال. ويمكن أن تتحول إلى منطق مُحكَم لنقل المعارف التاريخية وإبراز الوعي التاريخي لدى الجماهير الشعبية. كما ورثنا مجموعةً من القِيَم النظرية تجعل الفكر والنظر أعلى قيمةً وأعظم شأنًا من العمل والإنتاج. ويمكن إعادةُ بناء الثقافة الوطنية بحيث تبرز قيمة العمل، وتكون دافعًا إلى الفعل، وباعثًا على الإنتاج. كما تنتُج عن المعارف الإشراقية أحكام التحليل والتحريم وتقييد السلوك الفردي بقوانين وقواعد في عالمٍ كله شبهات، وتحفُّ به المخاطر، وتملؤه الغواية. وبالتالي يصبح الفعل فيه أقرب إلى الخطأ منه إلى الصواب؛ نظرًا لما يسود الطبيعة من أهواء، وما تقوم عليه من غرائز. ويُعاد بناءُ هذا الجانب السلوكي في الثقافة الوطنية عن طريق التحول إلى السلوك الطبيعي الفِطري. ويُقوِّي ذلك أيضًا مفاهيمُ الفِطرة والبراءة الأصلية، وبراءة الذمة، وأن الأشياء في الأصل على الإباحة. وبالسلوك الطبيعي تتحرَّر الجماهير، وتصبح الثقافة الوطنية عاملًا من عوامل التحرر.
    وفي الجوانب الصوفية في الثقافة الوطنية تُوجَد بعضُ القِيَم السلبية تمنع الجماهير من الحركة، وتأتي في مُقدِّمتها قِيمٌ مثل الصبر، والرضا، والتوكل، والورع، والزهد، والقناعة، والخوف، والحزن، والفقد، والفناء … إلخ. بعضها من المقامات والبعض الآخر من الأحوال. وقد نشأت هذه القِيَم في الأصل كنوع من المقاومة السلبية ضدَّ مظاهر البذخ والترف والتكالب على الدنيا، من أجل تَرْك الدنيا بما فيها على من فيها. وقد استعملها الحكَّام كنوع من أيديولوجيات الاستسلام تربَّى عليها الشعوبُ من خلال أجهزة الإعلام وخُطب المساجد وبرامج التربية الدينية في المدارس. ولمَّا كانت الظروف قد تغيَّرت، ولم تعد المقاومة أيضًا ميئوسًا منها، وبالتالي يمكن تحويلُ هذه القِيَم السلبية إلى قِيَم إيجابية، من الاستسلام إلى التمرد، ومن القناعة إلى الثورة، ومن الرضا إلى الغضب، ومن الصبر إلى الخروج، ومن التوكل إلى الجهاد، ومن الزهد إلى العدالة الاجتماعية، ومن الفقر إلى المطالبة بحقِّ الفقراء في أموال الأغنياء، ومن الخوف إلى الشجاعة، ومن الحزن إلى الفرح، ومن الفقد إلى الوجود، ومن الفناء إلى البقاء.٢٠
  • (٤)
    تغيير الأبعاد الإنسانية: وفي الثقافة الوطنية في المجتمع التقليدي، وكما تبدو في مُكوِّنها الرئيسي، وهو التراث الديني، كثيرًا ما تغلب العبادات على المعاملات. وفي الأمثال العامية أيضًا يغلب وصف أحوال الفرد على أحوال الجماعة، وتطغى هموم الفرد على الأوضاع العامة. ولمَّا كانت أحوال الفرد ما هي إلا انعكاسات للأوضاع العامة، فإن التحول في الثقافة الوطنية من الفرد إلى الجماعة يجعلها قادرةً على الدخول في تحدِّيات العصر.
    ونظرًا لأن الثقافة الوطنية في أحد جوانبها تُعبِّر عن علاقة الحاكم بالمحكوم، ففيها عقائد وأمثال عامية في وصف الحاكم تؤيِّد سُلطانه المطلق، وتدعو إلى طاعته. وهناك عقائد وأمثال عامية مضادة تدعو الناس إلى الثورة عليه. لذلك تهدف إعادة بناء الثقافة الوطنية إلى تخليصها من أيديولوجية الدولة إلى أيديولوجية الشعب، ومن سُلطة الحاكم إلى سُلطة المحكوم، ومن فكر السُّلطة إلى فكر المعارضة، ومن عقيدة الحزب الواحد إلى آراء الأحزاب المتعددة، ومن عقيدة الفرقة الناجية إلى عقائد الفِرَق الهالكة، ومن أحادية التطرف والتعصب إلى الاختيار بين البدائل وحرية الحوار. إن الانتقال في المحاور من الله إلى الإنسان والطبيعة هو أيضًا انتقال من الله إلى الشعب والأرض. فالشعب قضية قومية في الحكم والتنمية، في السياسة والاقتصاد. والثقافة الوطنية ذاتها، مُمثَّلة في تراثها الديني، تزاوج بين الله والأمة إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ، وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ.
  • (٥)
    تغيير لغة التعبير: وفي الثقافة الوطنية عِدَّة لغات يغلب عليها لغة العقائد أو التاريخ أو القصص أو التشريع، وهي لغة محدَّدة مغلقة لا تحمل أيَّة دلالات على أحوال العصر. ويمكن تغييرُها إلى لغة اجتماعية سياسية بمصطلحات العدالة الاجتماعية والمساواة، وهي أكثر دلالةً على أحداث العصر. كما يمكن تحويلُ لغة القصص والرواية وحوادث الماضي إلى لغة الوصف والتقرير للحوادث الحاضرة. وبالتالي لا يستعمل المستمع فقط خياله، بل يرى بفعله. كذلك يمكن تحويلُ لغة الإنشاء القديمة للتأثير في السامع إلى لغة الخبر عن طريق إعطاء إحصائيات عمَّن يملك ماذا ومَن يقهر مَن، وعن صراع القُوى ومدى التسليح ومقدار نهب الشركات، بحيث تكون لغة الواقع الإحصائي أبلغ من لغة الشعارات وفنون الخطابة. ويحدث هذا الانتقالُ في نفس الخطاب بحيث يحدث التحول في نفس السامع من لغة إلى لغة، فإن الاقتصار على اللغة القديمة وحدها لا يجعل الثقافة الوطنية حاملةً لأيَّة رسالة معاصرة، كما أن اللغة الجديدة وحدها تلغي الثقافة الوطنية وتعطي علمًا سياسيًّا محكمًا قبل الأوان.

سابعًا: أدوات التغيُّر الثقافي

والسؤال الآن؟ مَن الذي سيقوم بعملية إعادة بناء الثقافة الوطنية بحيث تكون قادرةً على تحقيق الأهداف القومية؟ هناك عِدَّة أدوات أهمُّها، بصرف النظر عن ترتيبها من حيث الأولوية والأهمية هي:
  • (١)
    المثقفون الوطنيون: وهم الذين يجمعون بين الثقافة والوطن، بين مهمَّة العالِم ومهمَّة المواطن، بين حقِّ العلم وواجب المواطَنة. هم مثقفون، أيْ إنهم على وعي تام بالثقافة الوطنية وبأهمية الإعداد الأيديولوجي للناس، وبضرورة التنظير. وهم وطنيون؛ لأنه لا ثقافة بلا وطن كما أنه لا وطن بلا ثقافة. ولو قِيل: إن المثقفين الوطنيين ينتمون إلى الطبقة المتوسطة، وبالتالي يصعُب عليهم تحقيقُ هذا البناء، وسينظرون إلى الثقافة من خلال طبقتهم، كما سيصوغون الأهداف القومية لصالح طبقتهم، فالحقيقة أن هناك فرقًا بين الطبقة والوعي الطبقي.٢١ قد ينتسب المثقفون إلى الطبقة المتوسطة، ولكنهم بوعيهم قد ينتسبون إلى الطبقة الشعبية العاملة، طبقة العمَّال والفلاحين وصغار الموظفين، هذا بالإضافة إلى أن الطبقة المتوسطة ما زال لها دَور في التحديث؛ فهي الطبقة التي تعلَّمَت وتخصَّصَت وأصبحَت في مراكز القيادة العلمية والتقنية في البلاد، كما أنها تمتاز بالعقلانية وإعمال العقل، لا تسودها أهواء الطبقة العُليا وميولها، ولا تئنُّ تحت ضنك الحياة وقسوتها كما هو الحال في الطبقة الدُّنيا. وهي تعتنق الليبرالية ومثلها في التمدُّن والتحضُّر، وتَقبَل النقاش، وتبادر بالحوار، ولها قدْر من الذوق الجمالي والحسِّ المدني ممَّا يجعلها أقدر على أن تكون عصب الدولة. قد يكون لها تطلُّعاتها ومكاسبُها، ولكن المهم أن يكون ولاؤها للأهداف القومية وليس لمكاسبها الشخصية أو للسُّلطة، وأن تخطط لصالح الجماهير، وأن تعيد بناء الثقافة الوطنية بحيث تكون حاملًا للأهداف القومية الرئيسية محقِّقةً لمصلحة الجماهير وليست مجرَّد أدوات إعلامية تُبرِّر قرارات السُّلطة السياسية.٢٢
  • (٢)
    الجامعات الوطنية: وهي مُؤهَّلة بطبيعتها للقيام بهذا الدَّور لأنها تجمع أكبر عدد ممكن من المثقفين، طلابًا وأساتذة، وفي نفس الوقت يحملون هموم الوطن وأحزان العصر. وقد ارتبط تاريخ جامعاتنا منذ نشأتها بتاريخ الحركتَين الثقافية والوطنية للبلاد. خرج منها العلماء، وسقط منها الشهداء. والقادم إلى جامعة القاهرة من على النيل الخالد يرى قُبَّة الجامعة على مرمى البصر وقد احتوَت أولًا تمثال نهضة مصر (وسفارة إسرائيل على مقربة منه)، وثانيًا النصب التذكاري للشهداء قبيل الأسوار. لذلك كان قصر الجامعة على تكوين طبقة من المتعلمين التقنيين هو عزل لها عن الثقافة الوطنية. كما أن قصر دَورها على العلم الذي لا وطن له، بدعوى أنه لا سياسة في الجامعة ولا جامعة في السياسة، هو أحد مظاهر تسلُّط النظام السياسي وخوفه من الجامعة. وقد استطاعت الجامعات الألمانية أن تكون أداة تحقيق للوحدة الألمانية. كما اندلعَت الثورة الإسلامية في إيران من حرم جامعة طهران. واستطاعت جامعة سيول بكوريا الجنوبية أن تكون محورًا للمعارضة الشعبية ضدَّ القهر والطغيان. والجامعة المصرية جزء من تاريخ الحركة الوطنية المصرية، نشأت باكتتابٍ أهليٍّ ومصر في صراعها مع الاحتلال. كما نشأت الجامعات العربية كأحد مُكوِّنات الدول الحديثة في الحجاز وفي الخليج وإبَّان النهضة العربية الكبرى في سوريا والعراق. لذلك كان للجامعات حقُّها في الاستقلال العلمي والحريات الأكاديمية، فحرية البحث العلمي لا تتجزأ عن حرية الوطن، كما أن الاتحادات والتنظيمات الطلابية المستقلة جزء لا يتجزأ من الحياة الجامعية، وهي قادرة بأنشطتها، مثل نوادي أعضاء هيئة التدريس، على المساهمة في إعادة بناء الثقافة الوطنية، بحيث تكون حاملًا للأهداف القومية. إن الجمع بين العلم والوطن لا يكون فقط في دَور الجامعات كمؤسَّسات علمية، بل أيضًا في التصورات القومية للعلم، خاصةً للعلوم الإنسانية التي فيها تنشأ فلسفات التاريخ والتي فيها يتبلور الوعي التاريخي للأمة. إن العلم لا ينفصل عن تاريخه، بما في ذلك العلوم الطبيعية؛ حلًّا لأزماتها، وكشفًا عن مصادرها، وقضاءً على أسطورة العلم الإبداعي الخالص الذي نشأ في حضارة مُعيَّنة وفي عصر مُعيَّن، خَلقًا عبقريًّا على غير منوال! إن الصياغات القومية للعلم تقوم بها كل حضارة في فجر نهضتها، ولكننا غالبًا ما نأخذ العلم الغربي، وهو قائم أيضًا على تصوُّر قومي غربي للعلم؛ بدايات العلم قبل العصور الحديثة، وتطبيقات العلم بعدها، وإبداعات العلم احتكارها الخاص، وانتشار العلم ونقل المعلومات منها إلى غيرها، من المركز إلى المحيط. وعلى هذا النحو تكون إعادة بناء الثقافات الوطنية جزءًا من التحرر الثقافي للشعوب. ويمكن صياغة تصورات قومية للعلم دون المساس بموضوعية العلم، بل يمكن إعادةُ كتابة تاريخ العلم والثقافة والحضارات من منظور قومي صِرف وكجزء من بلورة الوعي التاريخي للشعوب.٢٣
  • (٣)
    الجمعيات الثقافية: وهي الجمعيات والمنتديات الثقافية الأهلية، مثل الجمعيات الأدبية والفنية والفلسفية والتاريخية والجغرافية والنفسية والعلوم الاجتماعية والاقتصادية والتشريعية … إلخ. والتي تجمع بين الثقافة والعلم، بين الهمِّ العام والتخصُّص الدقيق. وقد نشأت هذه الجمعيات إبَّان نهضة الأوطان مثلًا في مصر وفرنسا وألمانيا، وبالتالي تكون مسئولياتها في الحفاظ على هذه النهضة وتأصيلها؛ كل جمعية تقوم بإعادة بناء أحد جوانب التراث لنشاطها الديني أو الأدبي أو الاجتماعي أو التاريخي … إلخ، في حرية تامة دون حكر عليها أو تقييد لنشاطها. وإن أيَّ قانون يقلِّص مهمَّتها ويُبعِد عنها موضوع الدين أو السياسة أو الجنس، وهي المحرمات الثلاثة في فكرنا القومي، إنما يهدف إلى وأدها، ويقضي على دَورها.٢٤
  • (٤)
    المساجد ودُور العبادة: وهي الحزب الموجود سلفًا بكوادره ونُظمه وخلاياه وجماهيره وثقافته. فالدين هو المُكوِّن الرئيسي في الثقافة الوطنية، وبالتالي فليس في حاجة إلى مُنظِّر أو كتاب أو مذهب أو عقيدة كالماركسية أو الليبرالية أو الاشتراكية. كما أن جماهيره موجودة، وهي جماهير الأمة التي تنتسب إلى الدين بولائها لتراثها. وتنظيماته وخلاياه موجودة في المساجد ودُور العبادة والزوايا والمدارس والمعاهد والجامعات الدينية ودروس العصر والعشاء والجمعيات الدينية والشرعية، وبالتالي فلا يحتاج إلى تنظيمات وخلايا وأماكن ومنازل ومقارَّ كما تحتاج الأحزاب. وكوادره موجودة في الأئمة والوعَّاظ ورجال الدين، وهم موضع ثقة من الناس. إنما المهمُّ هو تمثُّل الأهداف القومية والتوعية السياسية والاستقلال الفكري دون توجيه من الدولة تبريرًا لسياساتها، ودون إرهاب منها في حالة الخلاف بين الدولة وبين المؤسَّسة الدينية المستقلة.
  • (٥)
    الحزب الثوري: ويتكوَّن من مجموعة من المثقفين الوطنيين آثروا إعطاء الممارسة الثورية النصيب الأكبر، وقَبِلوا المساهمة في تعبئة الجماهير كعمل رئيسي من أجل الوصول إلى مراكز السُّلطة عن طريق الانتخابات الشعبية الحرة. الحزب الثوري لا يعمل بالسياسة عملًا مباشرًا من أجل الوصول إلى الحكم بوسيلة أو بأخرى، بل هو الحزب الذي ينبع من ثقافة الجماهير ويقوم بتثويرها حتى تحمله الجماهير على الأعناق، وتجعله مُعبِّرًا عن روحها وجسدها، مُدافعًا عن ماضيها وحاضرها، حريصًا على ثقافتها ومصلحتها. ويتمُّ ذلك عن طريق مدارس الحزب من أجل تخريج الكوادر، وعن طريق جرائد الحزب ومجلاته ونشراته وكُتيباته، وعن طريق الخلايا والأُسر الحزبية. وقد قام الشيوعيون والإخوان المسلمون بذلك خير قيام في تاريخنا الحديث، وكوَّنوا كوادرَ ثقافيةً وسياسيةً على مستوًى رفيع من الثقافة الوطنية والالتزام السياسي.٢٥
  • (٦)
    الفنون الشعبية: وهي خير مُعبِّر عن الثقافة الوطنية في صور فنية، مثل الرقص والغناء والملاحم الشعبية والزخرفية وطراز المعمار والأمثال العامية … إلخ. صحيحٌ أن هناك فنونًا أسهل في التثوير من غيرها مثل الغناء، كما هو الحال في الأناشيد الوطنية، والتمثيل، كما هو الحال في مسارح الشوارع، والشعر والقصة والرواية كما وضح ذلك في الأدب الروسي الثوري ولدى الأدباء الشبَّان عندنا. ومع ذلك، فإن الفنان الثوري قادر على مَلء أيِّ فن بمضامين ثورية من حيث أشكال التعبير ومن حيث المضامين الفنية، فالغناء والرقص عامل موحِّد للأمة بين مختلف أقطارها، ومهرجانات الشعر احتفالات وطنية، ولسان حال للأمة، تُعبِّر فيها عن أحزانها، وتبثُّ همومها، وتُقدِّم شكواها. إن الفن أسهل على الجماهير في التذوُّق وأكثر قدرةً على التأثير فيها، وإن الأمسيات الفنية والحفلات الغنائية هي أكثر الأمسيات متابعةً بين جماهير المشاهدين. تسمع الجماهير الأغاني الشعبية والقرآن الكريم على نفس الدرجة والحماس، ويقلب السائق محطات مذياعه بين هذا وذاك. كما أن الفنون الشعبية تُبرز الشعب كقيمة، وتُثبته كقدرة خلَّاقة، فلا تتنكر له سلفية، ولا يقهره نظام. بل إن الفن الشعبي لقادرٌ من خلال النِّكات والمسرح والشعر والقصة والرواية، حتى الرسم والتصوير، على نقد السُّلطة والسخرية منها.٢٦
  • (٧)
    التنظيمات الشعبية: إذا كانت بعض أدوات التغير الثقافي والاجتماعي أقرب إلى العمل في ميدان الثقافة الوطنية منها إلى ميدان الأهداف القومية الملموسة، مثل الجامعات، فإن بعض الأدوات الأخرى قد تكون أقرب إلى العمل في ميدان الأهداف القومية منها إلى العمل في مجال الثقافة القومية، مثل التنظيمات الشعبية من نقابات واتِّحادات وهيئات ومؤسَّسات، وهي قادرة على التعبير عن حاجات الجماهير ومطالب الفئات، ولكنها في حاجة أيضًا إلى بناء نظري تُعبِّر من خلاله عن حاجاتها، كما أنها في حاجة إلى مزيد من الوعي بالأهداف القومية الرئيسية من أجل وضع المصالح الخاصة للفئات في إطار المصلحة الوطنية العامة. وإن الانتفاضة الشعبية في السودان، في أبريل ١٩٨٦م، لخيرُ شاهدٍ على قدرة التنظيمات الشعبية والنقابات واتحادات الطلبة والعمال على أن تكون نواةً لثورة شعب بأكمله ضدَّ حُكم الظلم والقهر والنفاق والعمالة والطغيان.
  • (٨)
    أجهزة الإعلام: ويأتي دَورها في النهاية؛ لأنها دائمًا في يد السُّلطة في بلادنا، تأتمر بأوامر الدولة. ولأنها فقدت استقلالها بالنسبة للسُّلطة، فإنها أيضًا فقدت مصداقيتها عند الجماهير. هي الآن أقرب إلى أبواق الدعاية للنُّظم الحاكمة منها إلى أدوات لتثقيف الشعوب، بما في ذلك الصحافة والإذاعة والتليفزيون، وهي أكثر أجهزة الثقافة الشعبية تأثيرًا على الجماهير، ولذلك فهي أشدُّها احتكارًا من الدولة. هي أجهزة للدولة وليست منابرَ للشعب، وتدخل معها أجهزة وزارة الثقافة، مثل الثقافة الجماهيرية، باستثناء ما قد يفلت من نشاطها؛ نظرًا لتعاونها مع الأدباء الشبَّان وفنَّاني الأقاليم، وتدخل في ذلك أيضًا الهيئات العامة المستقلة مثل الهيئة العامة للكتاب والمؤسَّسة العامة للسينما والمسرح. لذلك يُعجب المثقفون المستنيرون بنظام الإذاعة البريطانية B.B.C وباستقلالها، وتحوَّلت جماهير الشعب إليها وإلى غيرها لاستقاء الأخبار؛ إذ تعلَّم كافة جماهير الشعب أن أجهزة الإعلام لا تقول الحقيقة، وإنما تعرف الحقائق من الإذاعات والصحف الأجنبية ووكالات الأنباء العالمية، فتهرب بذلك من زيف، وتقع في زيف آخر. ويبدو ذلك في دولنا في الخلط بين الإعلام والثقافة، فالإعلام ثقافة والثقافة إعلام، كلاهما توجيه وإرشاد قومي!

ثامنًا: أهمية إعادة بناء الثقافة الوطنية

إن إعادة بناء الثقافة الوطنية ليس ترفًا فكريًّا أو عملًا ثقافيًّا خالصًا، بل هي إعادة بناء لروح الأمة بعد أن توالت عليها الهزائم مراتٍ عديدة، وأُجهِضَت نهضاتها الحديثة أكثر من مرة، بل إنها مهمَّة ضرورية إذا ما أردنا ضمان ثورة دائمة ودرء أخطار الكبوة والردَّة والثورة المضادة، ويمكن تلمُّس نتائج ذلك مسبقًا على النحو الآتي:
  • (١)

    تحقيق الوحدة الوطنية على أُسس فكرية بدلًا من الازدواجية القاتلة التي تشقُّ صفَّ الأمة بين الدينيين والعلمانيين، بين القانون الإلهي والقانون الوضعي، بين حاكمية الله وحاكمية البشر. كما أنها قادرة على تحقيق الوحدة في مناهج التعليم بدلًا من ازدواجية التعليم التي نعيشها، والتي هي أحد أسباب ازدواجية الثقافة الوطنية والشخصية القومية. هذه الوحدة الوطنية على مستوى الثقافة هي أساس الوحدة الوطنية على مستوى برنامج العمل الوطني، ثم على مستوى القيادة السياسية في الجبهة الوطنية المتحدة.

  • (٢)

    تمهيد الجوِّ الثقافي لتأسيس أيديولوجية سياسية تستند إلى الثقافة الوطنية وتُحقِّق أهداف الأمة، ومنعًا للازدواجية الأيديولوجية بين الأيديولوجيات العلمانية الواردة والأيديولوجيات الدينية الموروثة. وعلى هذا النحو يمكن تعبئةُ الجماهير ومشاركةُ الأغلبية الصامتة في العمل السياسي وفي الدفاع عن مكتسباتها في حالة انقلاب القيادة السياسية الثورية إلى قيادة سياسية مضادة. وأغلبية الجماهير حتى الآن لا تجد في الأيديولوجيتَين المطروحتَين، الدينية والعلمانية، ما يجعلها تتحمس له وتُعبِّئ نفسها دفاعًا عنه، وتئنُّ تحت وطأة الحياة اليومية وبؤس الحياة. وبالتالي فإن الأيديولوجية القادرة هي تلك التي تبدأ بواقع الجماهير، تُنظِّره تنظيرًا مباشرًا وتلقائيًّا، بصرف النظر عن المداخل الثقافية، وبالاعتماد على ما ترسَّب من ثقافة وطنية في الوعي القومي.

  • (٣)

    سهولة تنفيذ برنامج العمل الوطني الموحَّد على أساسٍ من الثقافة الوطنية المشتركة والاتفاق على الأهداف القومية؛ لأنه يجمع كل طوائف الشعب، ويشرك كل مناهجه وعقائده، ويسمح بأكبر قدر ممكن من تعدُّد الأطراف النظرية في مقابل وحدة العمل الوطني. النظريات السياسية والمذاهب الاقتصادية المُعَدَّة سلفًا، والتي تحتاج إلى تطبيق في أيِّ مكان ولدى أيِّ شعب، بصرف النظر عن ظروفه التاريخية وواقعه الثقافي، هي أقرب إلى المفترسات التي تبحث عن ضحايا؛ صعبة الفهم، حولها خلاف بين قبول البعض ورفض البعض الآخر، يكفِّر بعضُها بعضًا. وبعد التطبيق لا يشفع النجاح النسبي أو الفشل النسبي لأحد منها، ولا يعطيها شرعيةً أو صكًّا تاريخيًّا على بياض.

  • (٤)
    اتِّقاءُ شرِّ الردَّة والنكوص والثورة المضادة التي تعتمد على الجوانب المحافظة في الثقافة الوطنية، وضعف ارتباط الأهداف القومية بالجوانب التقدمية في الثقافة الوطنية من أجل ضرب هذه الأهداف القومية ذاتها بدعوى الأصالة والمحافظة على التراث والدفاع عن الهُويَّة الثقافية للأمة ضدَّ التغريب الثقافي وضدَّ المذاهب المستوردة التي تُهدِّد إيمان الأمة وتنال من قيمها. إن جَعْل الجوانب التقدمية في الثقافة الوطنية حاملًا للأهداف القومية، يحفظ هذه الأهداف باعتبارها تحقيقًا لمصلحة الأغلبية ضدَّ أيَّة أهداف مضادة لتحقيق مصالح الأقلية. كما أن ذلك يسحب البساط من تحت أقدام الثورة المضادة؛ وذلك بإعادة تأويل الجوانب المحافظة التي تعتمد عليها في الثقافة الوطنية لتُكسب نفسها شرعيةً تاريخيةً أمام جماهير مُتديِّنة ينقصها الوعي السياسي، وجدل الثورة والثورة المضادة.٢٧
  • (٥)

    الحفاظ على الخصوصية والعمومية في نفس الوقت، فالثقافة الوطنية تُعبِّر عن وضع خاص لشعب خاص في مرحلة تاريخية، ومع ذلك هي منفتحة على باقي الثقافات متفاعلة معها، تأخذ وتعطي، وتتحول تدريجيًّا من ثقافة إلى أيديولوجيا، ثم من أيديولوجيا إلى علم. تفترق عن المحافظة الدينية التي ترفض كل تعامل ثقافي مع الآخر، كما تفترق عن العلمانية التي ترفض كل بداية في الثقافة الوطنية بدعوى العموم والشمول والعلم الذي لا وطن له.

  • (٦)

    إثراء التجربة الثورية المعاصرة عن طريق تجربة فريدة في التحديث بدلًا من النظريات المسبقة والأيديولوجيات الجاهزة، فكل شعب له ثقافته، ومرحلته التاريخية التي يمرُّ بها، وله قدرته على الخلق والإبداع. وإن التجارب الصينية والفيتنامية والفلبينية والسودانية والإيرانية والعربية في محاولات إعادة بناء الثقافة الوطنية، لا ثراء للتجارب البشرية وتنويع على نماذجها المعروفة في الثورة الفرنسية والثورة الأمريكية والثورة الروسية. وإن خلق نماذج حاضرة ومستقبلة قد يكون أسهل بكثير وأكثر فاعليةً وقبولًا من تطبيق نماذج ماضية.

  • (٧)

    امِّحاء الفَرق بين العلم والسياسة، بين العالِم والمواطن، بين النظر والعمل، بين النظرية والتطبيق. فالثقافة الوطنية تعطي الأساس النظريَّ لتحقيق الأهداف القومية، والأهداف القومية برنامج عمل وطني يتمُّ تحقيقُه من خلال تنشيط الثقافة الوطنية وإعادة بنائها من أجل تعبئة الجماهير. وطالما اشتكى قادتُنا السياسيون ومثقفونا، بل وجماهيرنا، من عزلة الثقافة عن الحياة، والجامعة عن المجتمع. كما تحدَّث البعضُ عن الأبراج العاجية التي يقبع فيها المثقفون، وعن الجدليات المذهبية والمماحكات اللفظية والمناقشات البيزنطية التي تغلب على بضاعتهم وأسواقهم. تكسَّب البعضُ منها بالعلم، فتكسَّب البعضُ الآخر بالسياسة. والثقافة الوطنية تشقُّ طريقها بين الفريقَين كالتزام ثقافي وطني تتطلبه مصلحة الأمة.

  • (٨)

    قد تكون إعادة بناء الثقافة الوطنية مهمَّةً مرحليةً مُحصَّنة من أجل تحويل الثقافة الوطنية إلى أيديولوجية سياسية، حتى يتمَّ تحويلُ الأيديولوجيا السياسية فيما بعدُ إلى علم السياسة. ومع ذلك، فهي مرحلة ضرورية حتى يتمَّ انتقالُ كل شعب من مرحلة التقليد إلى مرحلة الحداثة انتقالًا طبيعيًّا دون انقطاع، فلا تحدث الردَّة والعودة إلى القديم، كما هو الحال في تركيا وبولندا والغرب المعاصر، ودون ازدواجية، فيقع الصراع الدامي بين الإخوة الأعداء على ما هو حادث الآن في مجتمعاتنا الحالية. وإن إغفال المرحلة الحاضرة لأحد الأسباب الرئيسية للعودة إلى الماضي وإلحاق الحاضر به، كما هو الحال في الحركات السلفية، أو استباق المستقبل وإلحاق الحاضر به، كما هو الحال في الدعوات العلمانية.

تاسعًا: خاتمة؛ اعتراضات وردود

قد يُقال إن إعادة بناء الثقافة الوطنية كحامل للأهداف القومية مشروعٌ له عيوبه ومخاطره، وله حدوده وقدراته على النحو الآتي:
  • (١)

    لا يَسلَم مثلُ هذا المشروع من اتِّهام له بالعنصرية أو القومية أو «الشوفينية»؛ نظرًا لتأكيده على الهُويَّة القومية والتحايز القومي والخصوصية القومية. وإن هذه المغالاة في النزعة القومية قد تؤدِّي إلى صراع بين القوميات في عالَم يرنو إلى السلام وإلى تبادل المصالح والحوار بين الأديان والحضارات. والحقيقة أن هذا الخطر يقلُّ إلى أقصى حدٍّ له؛ نظرًا لأن القومية هنا على المستوى الثقافي المحض وليست على المستوى العِرقي. لذلك استعملنا لفظ «فكرنا» القومي، «سلوكنا» القومي، «وجداننا» القومي، و«النحن» هنا هُويَّة ثقافية صِرفة. والثقافة وطنية؛ أيْ إنها تنتسب إلى الوطن وليس إلى القوم، والوطن قيمة ثقافية وليس مجرَّد حدود أو توسُّع أو غزو أو مجال حيوي. وإعادة بناء الثقافة الوطنية تتم، ليس فقط لتقدُّم شعب بعينه؛ بل لنقل حضارة بأكملها من مرحلة تاريخية إلى مرحلة تاريخية أخرى في إطار تطوُّر عام لتاريخ البشرية كلها.

  • (٢)

    معاداة العلم لصالح الأيديولوجيا؛ وذلك لأن إعادة بناء الثقافة الوطنية هي عمل أيديولوجي صِرف، في حين أن الاجتماع والسياسة والاقتصاد علومٌ إنسانيةٌ تختلف بينها من حيث الدقة والإحكام، ولكنها تبغي جميعًا أكبر قدْرٍ من الموضوعية والشمول أسوةً بالعلوم الطبيعية والرياضية. ولمَّا كان أحد مقاييس التحوُّل الاجتماعي وإعادة بناء المجتمعات هو الانتقال من الأيديولوجيا إلى العلم، فإن إعادة بناء الثقافة الوطنية سيُبقي المجتمع في نفس المرحلة، أي الأيديولوجيا، بصرف النظر عن نوعيتها؛ دينية تقليدية، وهو التيار الغالب على الثقافة الوطنية، أو سياسية تقدُّمية، وهو ما قد ينتج عن المشروع كله من مكاسب. والحقيقة أن هذا التقابل والتعارض بين الأيديولوجيا والعلم إنما هو تقابل ماركسي تقليدي تأباه ماركسيات القرن العشرين، وغير دالٍّ بالنسبة للشعوب اللاأوروبية. فالأيديولوجيا حاجةٌ ومطلبٌ في البلاد النامية، وتثير في أذهان الشباب حماسًا وانتماءً ربما أكثر ممَّا يثيره العلم. والعلم في الذهن الشعبي منقول عن الغرب، دخيل وافد، في حين أن الأيديولوجيا تعبير عن الموقف الحالي، وتأكيد للهُويَّة الثقافية. كما أن العلم هو أخذٌ لكل مُكوِّنات الواقع في الاعتبار. وفي البلاد النامية، الثقافة الوطنية هي العنصر الرئيسي في شخصيتها القومية قبل أنماط الإنتاج ووسائل الإنتاج وفائض القيمة والسعر والأجر. والعلم ذاته له بُعد إنساني وليس مجرَّد نقل للمعلومات، وهو أحد أبعاد الثقافة مثل الفن والدين والفلسفة. العلم جزءٌ من كلٍّ هو الحضارة. وإن إعادة بناء الثقافة الوطنية هو في حدِّ ذاته علم الثقافة، أو علم الحضارة، أو علم الاجتماع الثقافي، أو علم الأنثروبولوجيا الثقافية أو الحضارية.

  • (٣)
    قد تصبح إعادة بناء الثقافة الوطنية سلاحًا ذا حدَّين؛ فكما يمكن توظيف الثقافة الوطنية بحيث تكون حاملًا للأهداف القومية، قد يجعلها نظامُ حُكمٍ حاملًا لأهداف مضادة للأهداف القومية، وبالتالي يمكن استغلالُ الثقافة الوطنية على أيَّة وجهةٍ كانت، طالما أنها تحتوي في داخلها على الشيء ونقيضه، كما هو واضح في الأمثال العامية، وأحيانًا في النصوص الدينية، سواء كان هذا التعارض ظاهرًا أو غير ظاهر، وفي التراث الديني القديم بعقائده ومذاهبه وفِرَقه المختلفة التي وصل الخلاف بينها إلى حدِّ الاحتكام للسيف. والحقيقة أن معارك الثقافة الوطنية، كالدين والتراث، جزء من صراع القُوى الاجتماعية، كلٌّ منها تُؤوِّلها لحسابها ولصالحها ضدَّ القُوى الأخرى. وإن معارك الثقافة والتراث في المجتمعات النامية باعتبارها مجتمعاتٍ تراثيةً لأخطرُ من معارك الصراع الطبقي. وإن معارك الخيال والتصورات للعالم والثقافة والحضارة لأخطرُ بكثير من المعارك العسكرية وتضارب المصالح الاقتصادية بين القُوى المتصارعة. وإن اللجوء إلى الثقافة الوطنية والتركيز على أخلاق القرية، وربِّ الأُسرة، وكبير العائلة، ومفاهيم الحبِّ والإيمان، لا تقلُّ أهميةً عن اتفاقات الصلح مع العدو، أو عقد اتفاقات عسكرية مشتركة ومناورات مشتركة مع إحدى القُوَّتَين العُظميَين، بل إن هذا الإعداد الفكري الثقافي النفسي هو مُقدِّمة وتمهيد لهذه الاختيارات السياسية والعسكرية.٢٨ والحقيقة أن الذي يحمي من ذلك كله هو تحديد الأهداف القومية باعتبارها مُعبِّرةً عن مصالح الأغلبية لا مصالح الطبقة الجديدة التي وصلت إلى السُّلطة السياسية بعد أن حصلت على القوة الاقتصادية. فإذا حاربت معارك الثقافة الوطنية واختارت من مفاهيمها وتصوراتها ما يساعدها على تفريغ الوطنية، واختارت من مفاهيمها وتصوُّراتها ما يساعدها على تفريغ الثقافة الوطنية من مضمونها، وربْط مصالحها برأس المال الخارجي، وربط سياساتها بسياسات إحدى القُوَّتَين العُظميَين، تنشأ معركة مضادة من أجل إعادة بناء الثقافة الوطنية، بحيث تكون حاملًا للأهداف القومية، تعبيرًا عن مصالح الأغلبية ودفاعًا عن التنمية الذاتية واستقلال الإرادة الوطنية.
  • (٤)

    إذا كانت الثقافة الوطنية، كما هي مُمَثَّلَة في الأمثال العامية وفي التراث القديم، تحمل اتجاهاتٍ متعارضة، ما يتَّفق منها مع الأهداف القومية التي تُمثِّل مصالح الأغلبية، وما يتَّفق مع مصالح الأقلية المضادة للأهداف القومية، فكيف يمكن إيجادُ مقياس للاختيار بينها اختيارًا مسبقًا، وكلاهما على نفس مستوى الشرعية النظرية والأثر العملي؟ والحقيقة أنه لا يُوجَد مقياس نظري لصحَّة أحد الاتجاهات دون الآخر ما دامت كلها مخزونًا نفسيًّا عند الجماهير، ومع الاعتراف بأن المخزون النفسيَّ المضاد للأهداف القومية قد يكون أقوى وأرسخ وأظهر من المخزون النفسي المؤيِّد لهذه الأهداف القومية. المقياس عملي صِرف، وهو مدى ثقل الأهداف القومية التي تُمثِّل مصالح الأغلبية على الأهداف المضادة التي تُمثِّل مصالح الأقلية. هذا التناقض بين اتِّجاهات الثقافة الوطنية هو في حقيقة الأمر صراع اجتماعي كامن، وجزء من صراع القُوى، وأسلحة ممكنة قابلة للاستخدام من كلا الطرفين. والسلاح الأقوى مع حسن الاستخدام والقدرة على إدارة المعارك هو الذي يحسم الصراع لصالحه.

  • (٥)

    ألا تُوجَد عناصر ثابتة ودائمة في الثقافة الوطنية تكون مرادفةً للعناصر الدائمة والثابتة المُكوِّنة للشخصية القومية؟ هل إعادة بناء الثقافة الوطنية طبقًا للأهداف القومية تجعلها دائمة التغير والانقطاع، وبالتالي تفقد ديمومتها واتصالها؟ والحقيقة أن هناك عناصرَ ثابتةً في الثقافة الوطنية، ولكن المُهم هو كيفية قراءتها وطريقة تأويلها ووجه استخدامها. فالتوحيد عنصر دائم، ولكنْ تختلف تحقُّقاته من عصر إلى عصر طبقًا لحاجات كلٍّ منها المتغيرة. كما أن إعادة البناء ليس انقطاعًا في الثقافة الوطنية، بل هو مجرَّد قراءة لها طبقًا للمتطلبات الحالية، فالتغيير في المضمون لا في الشكل، وفي التطبيق لا في الأصل، وبالتالي يحدث التغيير من خلال التواصل؛ هذا بالإضافة إلى أن الأهداف القومية لا تتغير في كل عصر، فما زال مشروعنا القومي الذي وضعه الأفغاني في القرن الماضي هو مشروعنا الحالي، وقد يبقى كذلك لعِدَّة أجيال.

  • (٦)

    ألا يُوجَد أثرٌ للتغيرات الاجتماعية على الثقافة الوطنية؟ ألا تفرض التغيرات الاجتماعية المتلاحقة ثقافاتها بحيث يصبح المعلول علةً والعلة معلولًا؟ ألا يفرض التصنيع ثقافته، وبالتالي لا حاجة إلى إعادة بناء ثقافة المجتمع الزراعي، وهو ما زال في مرحلة الزراعة، وإلا كنَّا كمَن يريد أن يصبَّ ماءً في لاوعاء؟ ألا تتغير الثقافة بتغيُّر البنية الاجتماعية والتركيب الطبقي للمجتمع، حتى ولو كانت ثقافته التقليدية غارقةً في الفيض والإشراق؟ الحقيقة أنه مهما كانت قوةُ التغيرات الاجتماعية، بل والمرحلة التاريخية التي يمرُّ بها شعبٌ ما، فإنها تظلُّ مجرَّد تغيُّر في تحقُّقات الثقافة الوطنية وليست في ماهياتها. وتظلُّ الثقافة الوطنية عبر التاريخ تحتلُّ عنصر الديمومة والاتصال مرادفةً للشخصية القومية، إنما الذي يتغيَّر هو دَورها وفاعليتها وتوجُّهاتها طبقًا لصراع القُوى الاجتماعية. صحيحٌ أن التغيرات الاجتماعية تُكسب عاداتٍ جديدة، ولكنْ يظلُّ السلوك العام تعبيرًا عن الثقافة الوطنية. وغالبًا ما يقع الصدام بين النمطَين في السلوك، ويُحسم لصالح أحدهما على الآخر، أو لتجاورهما معًا كنوع من تقسيم العمل، أو تداخلهما في وحدة عضوية نابعة من ثقة الثقافة التقليدية بقدرتها على التأقلم والحداثة، وبأنه لا خوف عليها من الحداثة الوافدة لأنها تتفق مع حداثة الموروث الحالَّة فيه.

  • (٧)

    أليست البداية بالثقافة الوطنية كمدخل لقضايا التغير الاجتماعي تصورًا رجعيًّا غربيًّا رأسماليًّا، أو على الأقل تصوُّر الطبقة المتوسطة التي أوتيَت قدْرًا من العلم والثقافة، بحيث تريد أن تجد لها دَورًا متجددًا في وقت تتأزم فيه القضية الاجتماعية بحيث تهُدِّد الطبقة المتوسطة، ليس فقط في دَور مقابل أيضًا في وجودها ومستقبلها؟ والحقيقة أن مفهوم الثقافة الوطنية ليس مفهومًا برجوازيًّا تجد فيه الطبقة المتوسطة ليس فقط في دَورها، بل أيضًا في وجودها ومستقبلها، الرأسمالية دفاعًا عن شرعيتها ضدَّ الأيديولوجيات الجذرية، ولا مثالية تجاوزتها المرحلة الحالية التي أصبحَت تُمثِّل تحوُّلًا نحو الواقعية الاجتماعية؛ لأن الماركسية ذاتها إنما بدأت عند ماركس الشابِّ كنقدٍ للثقافة القومية كما مثَّلها الهيجليون الشبَّان. كما أن المشروع كله، إعادة بناء الثقافة الوطنية بحيث تكون حاملًا للأهداف القومية، سحب البساط من تحت أقدام المحافظة التقليدية، وهو التيار الأقوى الذي يعتمد على التراث الديني وكأنه غاية في ذاته، ودون أن يجعله أحد المُكوِّنات لثقافة أوسع، ودون أن يجعله حاملًا للأهداف القومية، وهو في نفس الوقت دحض حُجَّة العلمانية بأن الثقافة الوطنية تقليدية محافظة لا تقوى على أن تكون عاملًا في التغير الاجتماعي. وفي البلاد النامية يكون النقد الفكري، بلا شكٍّ، بداية التحديث، فالعقلية النقدية ليست حكرًا على حضارة دون حضارة. ولقد أثبتَت تجارب التنمية الأخيرة صعوبة التنمية الاقتصادية دون أن تواكبها التنمية الثقافية، من أجل تحييد عناصر المحافظة، وتنشيط عناصر الحداثة فيها، وحتى يمكن تعبئةُ الجماهير ومشاركتُها في عملية التنمية.

  • (٨)
    أليس ذلك كله مثاليةً ترى الواقع فكرًا، والمجتمع ثقافة، ويُحيل الصراع الاجتماعي إلى معارك فكرية، فكرةً بفكرة، ورأيًا برأي، وهي معارك وهمية، تَرَف ثقافي لا يقوى عليه إلا المثقفون، ولا تدري عنه الطبقات الكادحة شيئًا؟ والحقيقة أن الفكرة ليست وهمًا والثقافة ليست ترفًا. الفكر واقع أكثر من الواقع الحسِّي الملموس، والثقافة بنية لا مرئية تتحكَّم في البنية المرئية. الفكرة دافعٌ حي، تصوُّر عملي للعالم، وباعث حركي على السلوك. وقد يكون خطأ الاتجاهات الجذرية في جيلنا هو سرعة القفز إليها دون الردِّ بنقد الأفكار؛ أي الانتقال من هيجل إلى ماركس دون المرور بمرحلة الهيجليين الشبَّان؛ أيْ بمرحلة نقد المثالية التي استطاع هيجل أن يُحوِّل الدين إليها.٢٩ إن ما قد يظنُّه البعضُ أنه مثالية قد يكون أشدَّ أنواع الواقعية، وهي واقعية الأفكار. وما يظنُّه البعضُ الآخرُ أنه واقعية قد تكون أشدَّ أنواع المثالية؛ لأنها مثالية الوهم والتجريد والادِّعاء.
  • (٩)

    قد يُقال إن هذه هي حالة مصر، والتي لا تجد لها مثيلًا في باقي الأمة. هو تعميم من الخاص إلى العام وإسقاط لحالة مصر على غيرها من الأقطار. والواقع أن هذه حالة عامة في مصر وتونس والجزائر والمغرب والسودان وسوريا والعراق والأردن ولبنان والبحرين، في كل الأقطار التي يشتدُّ فيها الصراع بين المحافظة الدينية التقليدية، والتقدُّمية العلمانية الحديثة. ومصر هنا، نظرًا لتاريخها الثقافي في المنطقة، مجرَّد نموذج لما يحدث حولها في المحيطَين العربي والإسلامي، لذلك كان هذا التأرجح بين الثقافة الوطنية والثقافة «القومية».

  • (١٠)

    وقد يُقال إن هذه عموميات تحتاج إلى تفصيلات، وإعلان نوايا تحتاج إلى تحقيق، وأماني ورغبات لا تُعبِّر عن واقع ملموس. والحقيقة أن إعلان النوايا يحتاج إلى تحقُّق فعلي لإعطاء نماذج من إعادة بناء ثقافتنا القومية. وذلك عمل مشترك للجميع، والاجتهاد مفتوح لكل المثقفين والمواطنين. ويمكن إعطاء نماذج للتنبيه على ذلك في دراسات ثلاث قادمة؛ «مخاطر في فكرنا القومي»، «مخاطر في سلوكنا القومي»، «مخاطر في وجداننا القومي».

١  انظر كتابنا: «التراث والتجديد، موقفنا من التراث القديم»، ص٩–١٨، المركز العربي للبحث والنشر، القاهرة، ١٩٨٠م [اكتفينا في معظم الإحالات بالإشارة إلى دراساتنا السابقة إكمالًا لموضوع تطرَّقنا إليه كثيرًا وليس إغماضًا لمساهمات الباحثين العرب في هذا الميدان].
٢  انظر دراستنا: «موقفنا الحضاري»، بحوث المؤتمر الفلسفي العربي الأول، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ١٩٨٥م. وأيضًا في «دراسات فلسفية»، الأنجلو المصرية، القاهرة، ١٩٨٨م.
٣  انظر مقالنا: «التراث والتغير الاجتماعي» في دراسات فلسفية، الأنجلو المصرية، القاهرة، ١٩٨٨م. وأيضًا: «التراث والتجديد»، ص٣١-٣٤.
٤  انظر مقالاتنا: «الدين والثورة في الثورة العرابية»، «عبد الناصر والدين»، «عبد الناصر والشاه»، «عبد الناصر والحلف الإسلامي»، الفصل الرابع، الدين والثورة الوطنية.
٥  انظر مقالاتنا: «الإصلاح الجامعي»، «الجامعة والوطن»، المصدر السابق، الفصل الأول، الدين والثقافة الوطنية. وأيضًا: «رسالة الجامعة» في قضايا معاصرة، الجزء الأول، في فكرنا المعاصر، ص٢٠٨–٢٢٦.
٦  انظر دراستنا: «موقفنا من التراث الغربي»، في قضايا معاصرة، الجزء الأول، في الفكر الغربي المعاصر، دار الفكر العربي، القاهرة.
٧  هذا بحث شامل من أجل أن يكون مظلةً هامةً لكل البحوث الموجودة في هذين الجزأين من «الدين والثورة في مصر ١٩٥٢–١٩٨١م» بأقسامهما التسعة. وقد أُلقِي في الأصل كمحاضرة في ندوة الخميس في منزل صديقنا د. عبد المنعم تليمة عام ١٩٧٦م، وقد قمتُ بصياغة هذا البحث، في سبتمبر ١٩٨٧م، من النقاط العامة التي كوَّنَت هذه المحاضرة.
٨  انظر دراساتنا: الدين والتنمية، الدين وتوزيع الدخل القومي في مصر، الفصل الخامس، الدين والتنمية القومية.
٩  انظر مقالاتنا: ماذا كسبت مصر من جماعة الإخوان؟ ماذا خسرت مصر بالقضاء على جماعة الإخوان؟ كيف يمكن تطوير فكرة الإخوان، الجزء الثاني، «في اليسار الديني»، الفصل الثامن؛ اليمين واليسار في الفكر الديني.
١٠  انظر مقالاتنا: مخاطر في فكرنا القومي، مخاطر في سلوكنا القومي، مخاطر في وجداننا القومي. الفصل الأول، الدين والثقافة الوطنية. وأيضًا: لماذا غاب مبحث الإنسان في تراثنا القديم؟ لماذا غاب مبحث التاريخ في تراثنا القديم؟ دراسات إسلامية، ص٣٩٣–٤٥٦، الأنجلو المصرية، القاهرة، ١٩٨١م.
١١  انظر مقالنا: «التفكير الديني وازدواجية الشخصية في قضايا معاصرة»، الجزء الأول، في فكرنا المعاصر، ص١١١–١٢٧، دار الفكر العربي، القاهرة، ١٩٧٦م.
١٢  لنا دراسات كثيرة في علوم التفسير، وأهمُّها:
Les Méthodes d’ Exégèse, Essai Sur La Science des Fondements de la Compréhension, ilm Usul al-Fiqh, Le Caire, Paris, 1965, L’ Exégès de la phénoménologie, L’ état actuel de la Méthode phénoménogique et son application au phénomène religieux. Paris, 1966, Le Caire 1978; La Phénoménolgie de L’ Exégése, Essai d’une herméneutique existentielle à partir du Nouveau Testament, Paris, 1966. Le Caire. 1988: Hermeneutics as Axiomatics, in: Religious Dialogue and Revolution, Le Caire, 1977.
انظر دراستنا: مدرسة الأشكال الأدبية، مجلة ألف، القاهرة، ١٩٨٢م.
«قراءة النص»، مجلة ألف، القاهرة، ١٩٨٨م. وأيضًا في «دراسات فلسفية»، الأنجلو المصرية، القاهرة، ١٩٨٨م، «هل لدينا نظرية في التفسير؟»، «أيهما أسبق: نظرية في التفسير أم منهج في تحليل الخبرات؟»، «عودة إلى المنبع أم عودة إلى الطبيعة؟» (قضايا معاصرة، الجزء الأول، في فكرنا المعاصر، ص١٦٥–١٧٦).
١٣  انظر دراستنا: «كامليو توريز القدِّيس الثائر»، قضايا معاصرة، الجزء الأول، ص٢٨١–٣١٨.
١٤  انظر دراستنا: الفكر الإسلامي والتخطيط لدوره الثقافي المستقبلي، الكويت، ١٩٨٣م، دراسات فلسفية، الأنجلو المصرية، ١٩٨٨م.
١٥  Hassan Hanafi: Theology of land; God, Community and Land; in: Religious Dialogue and Revolution; pp. 125–181.
١٦  «التراث والتجديد»، متعلق التجديد اللغوي، ص١٢٣–١٥١.
١٧  جمال الدين الأفغاني: رسالة القضاء والقدَر، في الأعمال الكاملة، ص١٨١–١٨٧، نشر د. محمد عمارة، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، ١٩٦٨م.
١٨  محمد إقبال: ضرب الكليم، الاستسلام للقدر، ص٩، ترجمة عبد الوهاب عزام، جماعة الأزهر للنشر والتأليف، القاهرة، ١٩٥٢م.
١٩  Hassan Hanafi: “Théologie ou Anthropologie”: dans La Renaissance du Monde Arabe, pp. 233–64, Bruxelles, 1972.
وأيضًا «الاغتراب الديني عند فيورباخ» عالم الفكر، أبريل–يوليو، الكويت، ١٩٧٩م، دراسات فلسفية، الأنجلو المصرية، القاهرة، ١٩٨٧م.
٢٠  Hassan Hanafi: Mysticism and Development, Unesco, Paris, 1985. Religion, Ideology and Development, Dar al-Thakafa, Cairo, 1988.
٢١  G. Luckac: Histoire et Conscience de Classe, Trad. Ayelos D. J. Bois, De Minuit, Paris, 1960.
د. عبد الله العروي، العرب والفكر التاريخي، دار الحقيقة، بيروت، ١٩٧٣م.
٢٢  انظر الدراسة التالية: «مخاطر في فكرنا القومي».
٢٣  لنا دراسات عديدة عن الجامعة منذ قضايا معاصرة؛ «رسالة الجامعة»، «مناهج التدريس والعلاقات الداخلية في جامعاتنا»، «الطلبة والمشاركة في العمل الوطني»، «برنامج شباب أعضاء هيئة التدريس»، الجزء الأول في فكرنا المعاصر، ص٢٠٨–٢٣٣، وأيضًا «الجامعة والوطن»، «الإصلاح الجامعي»، «رسالة الطالب»، و«علماؤنا بالداخل» أيضًا … إلخ، الجزء الأول، الدين والثقافة الوطنية.
٢٤  انظر: «المحرمات الثلاث»، الجزء الأول، الدين والثقافة الوطنية.
٢٥  انظر: التنوير الديني والتنظيم السياسي، «مأساة الأحزاب التقدمية في البلاد المتخلفة»، الجزء الثامن: اليسار الإسلامي والوحدة الوطنية.
٢٦  «التفكير الديني وازدواجية الشخصية»، «الفلاح في الأمثال العامية»، «المثقفون والشيخ إمام»، قضايا معاصرة، الجزء الأول في فكرنا المعاصر، ص١١١–١٢٧، ص٢٦٩–٢٨٠، ص٢٣٥–٢٤٥.
٢٧  لذلك كان العنوان المُقترَح لهذا الكتاب «الدين والثورة في مصر ١٩٥٢–١٩٨٩م» في الأصل هو «الثورة والثورة المضادة في مصر ١٩٥٢–١٩٨١م».
٢٨  انظر: «الدين والتنمية في مصر»، «الدين وتوزيع الدخل القومي في مصر»، الجزء الرابع: الدين والتنمية القومية.
٢٩  انظر دراستنا: «الاغتراب الديني عند فيورباخ»، عالم الفكر، أبريل–يونيو، الكويت، ١٩٧٩م، دراسات فلسفية، الأنجلو المصرية، القاهرة، ١٩٨٨م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤