معارك في الثقافة الوطنية١

(أ) المستور والمفضوح

إن أهمَّ مُكوِّن في حياتنا اليومية هي القوالب الشعورية التي نفكر من خلالها ونسلك طبقًا لها. وإن أيَّ تقدُّم نعمل على تحقيقه لا يتأتَّى إلا بتحليل هذه القوالب وعرضها على بساط البحث، ومعرفة أيها أصلح للتقدم فنُبقيه، وأيها ضار فنستبعده. والبحث عن هذه القوالب هو جزءٌ من بناء الثقافة الوطنية التي ما زالت غائبةً عن وجداننا، مع أنها هي حامل نظرياتنا السياسية وأساس تكويننا الأيديولوجي.

وهناك قالبان يعيشان في شعورنا، يُحدِّدان تفكيرنا، ويُوجِّهان سلوكنا، وهما: «المستور والمفضوح». وأعني بالمستور نطاق الخفاء، ومنطقة المحرمات، نصبُّ فيه كل ما نخشى الحديث عنه، وكل ما نخشى أن يسمعنا الناس فيه. وهو غالبًا مستور اجتماعي وسياسي في صورة سلوك نعيشه، ولكن لا ترضى عنه القِيَم الاجتماعية السائدة، أو أحكام ورؤًى لا تتَّفق والأوضاع السياسية القائمة. ويظلُّ المستور خافتًا يحركنا ويدفعنا. الكلُّ يعلم بوجوده ولا أحد يعلن عنه، ويكون أشبه بالتنظيم السِّري، ولكن على مستوى الوجدان، لذلك تسري الشائعات، وتكثُر الهمسات، ونرهف السمع، ونطرق الآذان عسى أن نتلمَّس حركة المستور، ثم يحدث فجأةً أن يتحول المستور إلى مفضوح، وينكشف الأمر، وينزاح الستار، ويسقط الحجاب، فتحدث الفرقعة في قِيَمنا، والدهشة في حياتنا، وينقلب التنظيم السِّري الشعوري إلى أفعال فاضحة علنية، فمن التكفير والهجرة إلى قتل الدكتور الذهبي، ومن صمت الوفد على مدى رُبع قرن إلى خطاب فؤاد سراج الدين في نقابة المحامين، ومن انسحاب إسرائيل من مصر، في ١٩٥٦م، إلى معرفتنا بعدم انسحابها من مضايق تيران في ١٩٦٧م، ومن عدم السماح بمقالات صحفي مشهور إلى الردِّ عليه فجأةً وكأنه قد بُعِث من جديد. ومَن يدري ماذا يُخبِّئ المستور لنا؟ وكلنا نترقب ماذا سنسمع ونرى في القريب العاجل؛ فننتقل من النقيض إلى النقيض، وكأن مصير المستور بالضرورة أن يتحول إلى مفضوح، وأن الذي نحاول استراق سمعه الآن يصبح علنًا مُذاعًا فيما بعدُ.

وأحيانًا نعيش القضية معكوسة، فنبدأ بالمفضوح فيرهبنا لحظةً ثم يتحوَّل إلى مستور حتى لا نخشاه. فكثيرًا ما تنشر صحافتنا أخبارًا مثيرةً عن وقائع شاذة نسمع بها يومًا ما ثم تختفي بعد ذلك، ولا نتابعها بعد أن تهوي في بحر المستور، وتستقر في قرار مكين، خاصةً إذا كانت الوقائع تخصُّ بعضًا من عِلية القوم أو تمسُّ الوضعَ القائم، كما حذرنا الرسول من التستُّر على جرائم الشرفاء وفضح الفقراء! وننسى المفضوح في خضمِّ الحياة. وما أكثر الوقائع الفاضحة التي تحوَّلَت فيما بعدُ إلى تيَّار المستور، خاصةً فيما يتعلَّق بسرقات المال العام والإعلان عنها يومًا ثم نسيانها في اليوم التالي، ومثل حوادث الطريق الناشئة عن الإهمال، وانهيار المنازل الآيلة للسقوط، وسقوط العشرات من الضحايا.

وهكذا ننقلب مرةً من الداخل إلى الخارج، ومرةً من الخارج إلى الداخل، مرةً من السرِّ إلى العلن، ومرةً من العلن إلى السر، مرةً من المستور إلى المفضوح، ومرةً من المفضوح إلى المستور. تعوَّدنا على هذا الانتقال المزدوج حتى أصبح شيئًا عاديًّا في حياتنا اليومية. وهو وضع وجداني شاذ؛ لأنه يُفقدنا توازننا الفكري واستقرارنا الوجداني، ويُسبِّب لنا القلق في حياتنا الاجتماعية والاضطراب في حياتنا السياسية. ولا نعلم بعد ذلك ما نسبة الإشاعة إلى الحقيقة، وما نسبة الكذب إلى الصدق.

لذلك فإن علينا مهمَّة إعادة التوازن لوجداننا القومي، والقضاء على هذا التذبذب بين النقيضَين، من نقيض إلى نقيض، واكتشاف مقولة ثالثة تُعيد بناء حياتنا الوجدانية، وهي مقولة «المكشوف» أو «الواضح»، فلا حياء في الدين، وبالتالي يمكن عرضُ كل ما يحدث لنا من مشاكل بلا خوف، والحديث عن كل ما يَعِنُّ لنا في حياتنا بلا خشية، فلا نتحرج من الإعلان عن فضيحة، ولا نتستَّر على الفضيحة إذا وقعَت. وبالتالي نقضي على سريان الشائعات في حياتنا، ويُصدِّقنا الناس، ونُوحِّد بين ما في قلوبنا وبين ما على لساننا، ونجمع بين ما نشعر به وما نفكر فيه، فتكفُّ الهمهمات، ونعيد الوحدة إلى شخصيتنا الوطنية.

(ب) المحرمات الثلاث!

لن نتقدَّم إلا إذا ناضل فكرنا القومي وتحدَّدَت معالمه وتأسَّس بنيانه، وكان مُعبِّرًا عن شخصيتنا القومية، ومُطوِّرًا لها، ولن نقضي على التخلف ومظاهره في حياتنا العامة وسلوكنا اليومي إلا إذا قضينا على جميع الدوائر المغلقة في فكرنا القومي التي تركناها حتى الآن تفعل فينا وتُؤثِّر علينا والتي ورثناها منذ تخلفنا الأخير في القرون السبعة الماضية. وهي الدوائر التي لا يستطيع أحدٌ الاقتراب منها أو الحديث عنها أو تناولها بالبحث أو التحليل، بل نُغلفها، ونُخفيها، ونتستَّر عليها حتى تتحوَّل إلى «تابو» أو مُحرَّمات بكل ما تشير إليه هذه الكلمة من دلالة على التخلف الاجتماعي والحضاري.

ففي فكرنا القومي محرمات ثلاث؛ الدين والسُّلطة والجنس، لا يمكننا أن نتناولها بالتحليل أو بالفهم؛ فهي دوائر مغلقة لا يجوز الاقتراب منها، وبالتالي تتحوَّل إلى مقدَّسات لا يجوز أن تخضع لعمل العقل أو أن تصبح موضوعًا للعلم، بل نُثني عليها، ونُطريها ونمدحها، ونناجيها، وأحيانًا نتملَّقها، ونتقرَّب إليها، ونستجديها.٢

وتنشأ هذه المحرمات من الخوف، عندما يخشى الإنسان الاقتراب من بعض مظاهر الطبيعة والتي يشعر بأثرها فيه وتوجيهها لسلوكه.

والخوف نقص في المعرفة، وضعف في الإرادة، وبمجرَّد استبطان هذه المحرمات الثلاثة في الوجدان تتحول بدَورها إلى مصادر للتخويف، فهي محرمات، وفي نفس الوقت رقباء، ومصادر أوامر ونواهٍ وتتوعَّد بالثواب وبالعقاب.

ولمَّا كانت هذه المحرمات خارج نطاق الفهم النظري، فإنها تتحوَّل إلى دافع للسلوك، فتُطاع أوامر الدين ونواهيه، وتُطاع أوامر السُّلطة، وتُطاع العادات والتقاليد الخاصة بالجنس.

ولمَّا كانت للإنسان إرادة مستقلة وعقل مستقل يقوم بتوجيه قراراته وتأسيسها على التجربة البشرية، فيتمُّ عصيانُ الأوامر والنواهي الدينية، وأوامر السُّلطة، ويتمُّ الخروجُ على العادات والتقاليد الخاصة بالجنس.

ولمَّا كانت المحرمات الثلاثة مصدرًا للخوف، فإن الخروج سيتمُّ عن طريق السِّر دون العلن، ومن ثَم تنشأ ممارسات المحرمات، وتنشط الجماعات السرية ضدَّ السُّلطة، ويتمُّ التمتعُ بالجنس في الخفاء.

ولمَّا كانت النُّظم الاجتماعية تقوم على المحافظة على النظام، فإنه يتمُّ التظاهر بإطاعة الأوامر والنواهي الدينية ببناء المساجد وعمارتها، والنداء بالأذان للصلوات، «والتطرح» بالبياض، وتطبيق قانون العقوبات، ويحدث الفصم بين الظاهر والباطن، ويتحول الإيمان إلى نفاق، وتنقلب الصراحة إلى تملُّق، ويعيش كلٌّ منا على مستويَين، وهو راضٍ بنِعَم الدنيا وحُسن العاقبة.

ولمَّا كانت هذه المحرمات الثلاثة غير خاضعة للعقل أو الفهم، فإنها كثيرًا ما تتحول إلى غيبيات وتكون مرتعًا خصبًا لفعل الأساطير، وتدخل في دوائر الأسرار، وينشأ السحر والخرافة والكهانة والعرافة والشعوذة لتغطية النقص النظري [ولإعطاء الإنسان الأمان.]

وتأتي السُّلطة وتستغلُّ كل ذلك لحسابها، ما دامت قد دخلَت في هذا النطاق، فلا يستطيع أحدٌ الحديث عنها أو تناولها بالتعليق أو النقد، فتدعو الناس إلى الإيمان بالمقدَّسات، وتزيد في مظاهر تحريم الجنس، وتدعو للفضيلة، وتقوي قواعد النظام — وحرمة بغلة السلطان — حتى تقوى السُّلطة، وتعظم هيبتها، وتزداد في عُلاها، وتحكم هذه الدوائر المغلقة، وتزيد من إغلاقها حتى لا يفلت أحدٌ منها.

والحقيقة أن هذه المحرمات الثلاثة نتيجةٌ للتخلف الاجتماعي، فالدين ليس موضوعًا للتحريم، بل هو مصدر الوحي الذي فيه رعاية لمصالح الناس، وشريعة تمنع الظلم والقهر، وتقوم على العدل والمساواة. والسُّلطة ليست موضوعًا للتحريم فقد أتَت بيعة الناس لها لتنفيذ نظام الوحي، فهي سُلطة تنفيذية فقط وليست سُلطة تشريعية أو قضائية، وتظلُّ الناس رقيبةً عليها إذا ما خرجَت عن وظيفتها خرج عليها الناس، وبايع غيرها. والجنس ليس موضوعًا للتحريم، فقد تحدَّث القرآن عنه ونظَّمه، وتناولته السُّنَّة بالتفصيل، وتحدَّثَت عنه السيدة عائشة، فلا حياء في الدين، ومن ثَم كان التعليم الجنسي واجبًا من واجبات الدين.

فإذا أخرجنا هذه المحرمات الثلاثة إلى نطاق المحللات تتحقَّق وحدة الشخصية القومية، ويصبح الإنسان قادرًا على تنظيم شئون حياته على أسُس عقلية لا مجال فيها للإيهام والإيحاء أو التأثير والخداع.

(ﺟ) شفيقة ومتولي٣

عادت مسرحية «شفيقة ومتولي» من جديد في وكالة الغوري، واستطاعت المُخرجة، د. ليلى أبو سيف، الحفاظ على الطابع الشعبي للموَّال في أسلوب فني معاصر، فقلَّلَت حجم الميلودراما التقليدية خاصةً في مواقف الحبِّ العذري بين دياب وشفيقة في البداية، وفي رواية شفيقة لأخيها عن سقوطها، واستبدلت بها مواقف حاسمة وواضحة كما يفعل برشت.

واستبدلت بالراوية التقليدية العجوز بذقنه الأبيض الشبيه بصورة التاريخ، والذي ينقلنا إلى مكان وزمان الحدث راويًا معاصرًا شابًّا ينقل الحدث إلينا فيبدو قريبًا منَّا.

وتدور الأحداث على نحو طبيعي تلقائي، وبحركة مسرحية حاضرة تملأ فناء الوكالة، وتبلغ القمة في ليلة المولد، حيث تدور فِرَق الذِّكر في كل ركن بالوقوف كما يدور المُنشد الديني في الشرفات، ويتمُّ التوحيدُ بين الحبِّ الإلهي في حلقات الذكر والحبِّ الإنساني وراء الستار. ويدور الفصل الأول على خشبتَين وسط ستارة بيضاء تُمثِّل العذرية، وعليها بقع الدماء المُلطخة توحي بأن هناك جريمةً ثمنًا للحبِّ المُحرَّم.

ويدور الفصل الثاني على خشبة ثالثة وراء الجمهور فيملأ الحدثُ المكان، بالرغم من الإحساس بقصر العرض الناتج عن اندماج الجمهور الكلي في الحدث المسرحي.

ونجحَت المُخرجة في التعبير من خلال الموال الشعبي عن رؤية نسائية عصرية عن مأساة المرأة في مجتمع الرجال، فالمتفرج يتعاطف منذ البداية مع شفيقة؛ فتاة العصر التي غرَّر بها دياب، ثم رفض الزواج منها، فابن العمدة لا يتزوج من ابنة نفر في الكَفْر، فأحاط بها الذئاب من الرجال حتى عملَت أخيرًا مع نبوية العالمة بعد أن انسدَّت أمامها جميع الطرق.

ومع ذلك تأبى أن يمسَّ أحد أباها وأخاها متولي زينة الرجال، ودون أن نعلم عن أمها شيئًا، وكأن الابنة ترجع في أصلها إلى الأب، والمرأة إلى الرجل. تفخر بأصلها الطيب، ولكن الظروف الاجتماعية: عدم تعلُّمها، عدم وجود عمل شريف لها، تَرْك الرجل بلا عقاب أو مسئولية، ثم عدم قَبول توبتها الصادقة وعودتها إلى أهلها، كل ذلك لم يشفع لها. فالتقاليد لم تُكسَر بعدُ.

وتم ذبحها طبقًا لشعائر الشرف في المجتمع التقليدي على يد الأخ وبلدياته حتى يسير هو مرفوع الرأس، وكأن كرامة الرجل يدفع ثمنها ذبح المرأة! بل إنه لا يتكلم في بداية محاكمته، ولا يكلف نفسه عناء الدفاع عن نفسه.

وقد أتقن الممثلون الشبَّان أدوارَهم، بالرغم من قصر البعض منها مثل إبراهيم الباز الذي قام بدور الدفاع، وصبي المقهى بإتقان بالغ. وجمال الذي قام بدور الشاويش. كما أتقن على حتة دَور الأب المأساوي بحركاته المرتعشة وصوته المتهدل، وجسَّد الصراع بين حبه لابنته وتقاليد القرية.

وقد برزت البطلات الثلاث: سميحة إبراهيم في دَور شفيقة، فقد أجادت دَور الفلاحة البريئة الساذجة بلهجتها الريفية، ثم دَور الغازية برقصها ودلالها، وأخيرًا دَور الضحية المُدانة ظلمًا، وإيمان إبراهيم في دَور بدرية كاتمة سرِّ شفيقة وصديقتها. والتي تقترح عليها الهرب من القرية لا المواجهة والصمود، وفي دَور نبوية العالمة بصوتها وقوة حركتها على خشبة المسرح.

ولا تقلُّ هويدا عن سميحة في أداء الدَّورَين أحيانًا، وأحمد عبد المجيد في دَور متولي، فقد استطاع إبراز حديث النفس الباطني، وأن يُعبِّر عن مأساة الأخ الذي تفرض عليه التقاليد مسح العار عن نفسه وأُسرته. ومع ذلك يعذر شفيقة ويسامحها فقد كان حنونًا عليها، ولكنْ بعد ذبحها. ويظهر فيه عجز الرجال عن كسر التقاليد، وتحويل الاقتناع الداخلي إلى مواجهة خارجية ضدَّها، ويذكرنا بالأدوار الانطوائية المشهورة لجيمس دين وجيرار فيليب.

وبتعاون الجميع استطاع عشرون ممثلًا وممثلةً وعشرة فنيين وكلهم من الشبَّان طلبة أكاديمية الفنون وأهالي الحي إنجاح المسرحية، بالرغم من قلة الإمكانيات وعملهم مُتطوِّعين بلا ميزانية، بالإضافة إلى الجهود المُضنية التي بذلتها د. ليلى أبو سيف، وما أنفقته من مالها الخاص، وإصرارها على إخراج عمل فني بالوكالة بالرغم من رفض هيئة المسرح إخراجها مسرحيات يعقوب صنوع الثلاث التي أجازتها الرقابة، والتي استغرق العمل فيها شهرَين.

ولقد أخرجَت د. ليلى أبو سيف هذه المسرحية نفسها لحساب هيئة المسرح منذ أربع سنوات، وقد أعادت إخراجها بأسلوب جديد برؤية نسائية عصرية.

وقد اعتادت وزارة الثقافة إعطاء إعانات مالية في مثل هذه الحالات، ولكنْ ممَّا يدعو للدهشة أن مدير الوكالة طالبها بخمسمائة جنيه تأمين وإيجار الوكالة وهدَّدها بالطرد.

إننا نهيب بهيئات وزارة الثقافة أن ترعى جهود هذا المسرح الطليعي، ونشكر السيد وزير الدولة لشئون الثقافة على تدخُّله الحاسم والسريع من أجل إعفائها من التأمين والإيجار حتى يستمرَّ العرض الفني. يكفي مساندة حي الحسين لها وللفرقة، بالإضافة إلى تبرعات جمهور المشاهدين، فهل ستكون هيئات وزارة الثقافة أقل مساندةً من أبناء الحي ومن جمهور المشاهدين ومن السيد الوزير؟!

(د) العلم قضية٤

لقد سعد الطلاب والأساتذة بوجه خاص، والمثقفون والمواطنون بوجه عام بظهور «الجامعة» التي تجمع بحقٍّ فكر الأمة، وتُوجِّهه من الخاصة إلى العامة، ومن كُتب الوزارة إلى واقع المجتمع. فالعلم فيها ليس مهنةً أو تجارة، بل قضية. فطالما سئم الطلاب العلم المحفوظ، وملَّ الأساتذة المواد المُقرَّرة! فما أصعب على النفس تقرير مواد، أيْ فرضها، وما أسهل عليها أن تنبع منها، بحرية واختيار! وهنا تخرج «الجامعة» لتحليل العلم «في الرأس لا في الكراس»، كما يقول الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، وتجعله علمًا حيًّا لا علمًا ميتًا، كما يقول الصوفية في ردِّهم على الفقهاء.

فقد تحوَّلَت في «الجامعة» مواد المُقرَّر، خاصةً المواد الإنسانية، مثل الفلسفة والتاريخ، إلى علوم ناطقة بعد أن كانت صامتة، تحدث الطالب بما يفهم، بل وبما يشعر به. ارتبط العلم بعقل الطالب وبوجدانه، انتقل من ماضيه إلى حاضره، ومن تراث السلف إلى أزمة الخلف، وسمع الطلاب صوت التاريخ فانكشف فيهم «الوعي التاريخي»، وهو ما ينقصنا في جيلنا. وارتبط الأساتذة بالطلاب في قضية واحدة هي قضية «العلم والوطن» بعد أن كانا منفصلَين متباعدَين وربما متعاديَين. ربط العلم بين الأجيال في حلقة متصلة مقابل مفهوم «القطيعة المعرفية» الوارد من الحي اللاتيني، والذي أصبح رائجًا في بعض الدوائر في الثقافة المغربية المعاصرة. قطيعة بين مَن ومَن؟ وقطيعة لصالح مَن؟ انفصل العلم عن الاستشراق، أصبح العلم قضية. لم يعد الإصلاح الديني حركةً ماضيةً ننظر إليها وكأنها تاريخ، بل أصبحَت جزءًا منَّا، ونحن ورثتها، وعلينا تطويرها، فعليها تعيش أنظمتنا السياسية، ومنها تتكون ثقافاتنا الحالية. وتحوَّلَت النهضة العربية المعاصرة، في المشرق والمغرب، إلى مرآة تعكس وحدة الأمة، وحركة تحرُّرها الحديثة، ويستطيع القارئ أن يدرك بنفسه تعثُّرها في جيلنا ومصيرها الذي آلت إليه.

وهنا أيضًا يتحرر الطالب من رهبة الامتحان، فالامتحان ليس شبحًا أو عذابًا، بل فرصة «تاريخية» يُعبِّر فيها الطالب عن نفسه، ويعرض فيها قضيته، ويدافع عن وجوده، ويُحلِّل فيها أزمته، ويكتب بيانًا للناس، وأن يسمع القاصي والداني رأيه. وهي لحظة تاريخية أخرى للأستاذ يتعرَّف فيها على شباب الجيل، ويعي فيها أزمته، وهو المُربِّي الفاضل، فيزداد إحساسًا بالطالب، بحاجاته وتطلعاته. الامتحان لحظة لا يرهبها الطالب، بل يتمنَّاها؛ حيث يعبِّر عن نفسه بحريَّة تامَّة، حيث تندر لحظات حرية التعبير في عالمنا هذا. هي لحظة ظهور «الخلود في الزمان»، على ما يقول الفلاسفة، أو على الأقلِّ لحظة ظهور أكبر قدْر ممكن من الزمان، وهو عمر الطالب ووعيه ومدى استيعابه على مدى عام دراسي كامل، في أقلَّ قدر ممكن من الزمان؛ ساعات محدودة. الامتحان تمامًا مثل الصلاة، حيث يناجي فيها الإنسان في لحظات محدودة الأبدية كلها.

فتحية للجامعة، ودعمًا للقائمين عليها، ومُرحبًا بالتجربة، وشكرًا من قرائها.

(ﻫ) رسالة الطالب٥

ممَّا لا شكَّ فيه أن للطالب رسالةً مزدوجةً في تكوينه كباحث وكمُواطن، فليست الغاية من التعليم تكوين موظفين أو كَتَبة؛ لأن الأعمال الحرة في هذه الحالة أكثر ربحًا وأَدَرُّ مالًا، بل الغاية تكوين الباحث العلمي والمُواطن الحر. وهما في الحقيقة شخصية واحدة تتمثل في الطالب، فالبحث العلمي الذي لا يرتبط بقضايا الوطن العلم فيه حرفة ومهنة وكسب قُوت. والوطنية لا تتحقَّق بنضال سياسي لا يقوم على أساس البحث العلمي وتحليل الواقع ومناهج التغير الاجتماعي، وإلا كانت شعاراتٍ جوفاء، وحماس شباب لا يُغيِّر من الواقع شيئًا، مجرَّد تبرئة ذمة أمام النفس.

والبحث العلمي ومتطلباته يقوم على ثلاثة محاور؛ الطالب، والأستاذ، والكتاب. الطالب هو الباحث المُتكوِّن، والأستاذ هو الباحث الذي حصل على قدْر أكبر من التكوين وله باعٌ أطول في الممارسة، والكتاب هو المرجع الذي حوى نتائج العلم من جهود السابقين. ولا يتكون الطالب كباحث إلا في جوٍّ علمي صِرف، مع ما يتطلبه من هدوء وتفرُّغ وتقاليد جامعية، واحترام للمؤسَّسات العلمية، والتمسُّك بحقِّ الطالب في التعلُّم، وضرورة وجود الأستاذ، وتوافر خزانة عامة كاملة، ووضع برامج علمية يجد فيها الطالب ذاته، وتحقق مطالب الجماعة. لا يتكون الطالب كباحث إلا بالتوجُّه نحو العمق والتأصيل، والتسلح بشتَّى المناهج من أجل البحث والاستقصاء، وتحليل الظواهر من أجل معرفة قوانينها. وأضرُّ ما يكون بالعلم المذهبية والقطعية (الدُّجْماطيقية) والأحكام المسبقة، والمواقف المتشنجة. إن شرط تقدُّم العلم هو باستمرار مراجعة الأحكام المسبقة، وإعادة النظر في النتائج الموروثة. وكيف يبدأ الطالب بحثه العلمي وهو يعلم النتائج من قبل؟ كلما كانت قراءة الطالب متنوعة، ومعرفته بالمناهج متعددة، وعلمه شاملًا وغزيرًا؛ كان أقدر على البحث العلمي والإبداع المستقبلي فيه. ومن ثَم كانت قضية «المقروء والمُقرَّر» قضيةً وهميةً تجعل مهمَّة الطالب الحصول على الشهادة بأيِّ ثمن كان، وكأن الغاية من العلم هي إعطاء الدرجات والنجاح بلا تكوين. إن المقروء والمُقرَّر كليهما يدخلان تحت مفهوم أعم وهو تاريخ العلم. وكلما كان الطالب عالمًا به كان أقدَرَ على البحث وأكثر إبداعًا فيه. إن تمسُّك الأستاذ بالمُقرَّر ليس عداوةً للطالب، بل ينبع من حرصه على تكوين الطالب العلمي. ولكن المُقرَّر ليس كتابًا من وضع الأستاذ، بل موضوع يقرأ فيه الطالب كتاب الأستاذ وكُتُب غيره من الأساتذة الأموات منهم قبل الأحياء.

إن نضال الطالب من أجل شروط أفضل للبحث العلمي لجزء من رسالته من أجل تقييم أفضل في الامتحانات العامة، ونضاله من أجل ضرورة تكوين الأطر، واستكمال الدراسات العُليا بكل مراحلها، ونضاله من أجل المِنَح الدراسية وتوفير أساليب كريمة للعيش، ومن أجل خزانة عامة تتوافر فيها المراجع الأساسية، ومن أجل نشاط ثقافي وعملي بالجامعة خارج البرامج المقررة، حتى يعيش الطالب العلم كحياة وليس فقط كمعمل أو مخبار، ومن أجل تهيئة مستقبل أفضل، ومن أجل تقاليد جامعية أرسخ؛ يوم لاستقبال الطلبة الجدد، ويوم للخريجين، وإنشاء المسابقات والجوائز العلمية … إلخ. كل ذلك يجعل الطالب يشعر بأن سنوات الجامعة أفضل سنوات عمره، ويكون نضاله أيضًا من أجل فتح آفاق جديدة لممارسة العلم وتحقيق نتائجه في الحياة العامة، بدلًا من البطالة الصريحة أو المُقَنَّعة، ومن أجل حضور الجامعة في المدينة، وربط البحث العلمي بمطالبها، فالطالب ابن للشعب وخادم له، ومن أجل تكوين ثقافة وطنية عامة تجد فيها الجماعة نفسها وتحقق فيها وحدة الشخصية الوطنية درءًا لمخاطر التجزئة.

إن نضال الطالب من أجل شروط أفضل للبحث العلمي هو في حقيقة الأمر تأسيس له من أجل النضال الوطني العام، فقضايا التغير الاجتماعي والسياسي هي الميدان الأخير الذي يُحقِّق فيه الطالب ما تعلَّم، ويمارس مناهجه التي تعوَّد عليها، ويُطبِّق نظرياته التي أصَّلها. وإن كبار القادة في كل وطن إنما كانوا من خريجي كليات الآداب والعلوم الإنسانية خاصةً والكليات النظرية العامة. فطالب اللغة والأدب مهمَّته التعرف على فنون الأمة وآدابها ومواطن الإبداع فيها. وطالب الفلسفة مهمَّته التعرف على المُكوِّنات الثقافية للأمة، ما يؤثر فيها من مفاهيم، وما يُحرِّكها من عقائد. وطالب علم الاجتماع يتجه نحو تحليل الواقع الاجتماعي ومعرفة البيئة الاجتماعية وطبيعة الصراعات وموازين القُوى. وطالب علم النفس يُحلِّل سمات الشخصية القومية ومعرفة أعماقها ومستوياتها المتعددة؛ حرصًا على الشخصية في العمق. وطالب التاريخ يحاول إدراك قانون لتطور تاريخ مجتمعه، حتى لا يقفز به إلى مرحلة لم يتهيأ لها بعدُ أو يرجعه إلى مرحلة مرَّ بها من قبل. ودارس الجغرافيا يتعرَّف على المُكوِّنات البيئية للشخصية القومية. وطالب الدراسات الإسلامية ليست مهمَّته استعمال الثقافة الإسلامية لإيقاف حركات التغير الاجتماعي ولتفريغ العلوم الإنسانية الأخرى من مضمونها، بل مهمَّته التعرف على تراث الأمة وروحها ورافدها الثقافي الأول، حتى تصبح الثقافة الإسلامية مرادفةً للثقافة الوطنية وليست بمعزل عنها أو ضدَّها.

إن الطالب عضو في أُسرة واحدة هي أُسرة الجامعة مع الأستاذ. وليس للإدارة أيُّ كيان مستقل أو غاية مختلفة عن رسالة الطالب. الإدارة مجرَّد وسيلة للتنظيم وأداة للتنسيق. ولا شكَّ أن الاتحاد الوطني لطلاب المغرب لهو المُعبِّر عن مصالح الطلاب، والمُمثِّل لهم لدى الإدارة، وجزء من هذه الأُسرة الواحدة. وإن الحوار المتبادل بين أعضاء الأُسرة لهُو خير وسيلة للاتفاق على الصالح العام. وإن الفهم الدقيق لرسالة الطالب هو السبيل إلى تأسيس العملية التعليمية من بدايتها. ومَن الذي سيقوم بدَور الطالب إن تخلَّى هو عنه أو قام بدَور غيره أو قام غيره بدَوره؟

لقد مرَّ هذا العام بأحزانه، وإلى اللقاء في عام قادم أكثر خصبًا في العلم وأكثر وعيًا بقضايا الوطن.

(و) وعلماؤنا بالداخل أيضًا٦

إنه لرائعٌ حقًّا أن يعود علماؤنا بالخارج للارتباط بوطنهم بعد أن شاءت الظروف الاقتصادية والعلمية والسياسية بُعدَهم عنه، طوعًا أو كرهًا، وأن تستفيد منهم مصر بعد أن تربَّوا في كَنَفها، وتعلَّموا من مواردها، وأن يدلُّوها على آخر ما وصل إليه العلم في أوروبا وأمريكا من إنجازات تستفيد منها البلاد في تنميتها وإعادة بناء خريطتها، خاصةً وقد أصبح منهم صاحب الشهرة، وصاحب المركز المرموق، وصاحب الجاه، وصاحب المال.

وإنه لرائعٌ أيضًا أن تستقبلهم الدولة استقبال الفاتحين العائدين، وأن تعقد معهم المؤتمرات العلمية والسياسية، وأن تُنظِّم لهم الرحلات السياحية حتى لا يعيشوا مُنعزلين في الخارج، وحتى يكونوا على اطلاع بآخر التطورات في بلادهم من حيث السياحة والتعمير والبناء والتخطيط، فيتحمَّسوا لاستثمار مواردهم في البلاد، ويضعوا خبرتهم في خدمة الوطن. وربما عادوا كليةً إلى معاهدهم وجامعاتهم لتطويرها وتحديثها وإطلاعها على آخر ما وصل إليه العلم الحديث.

ونظرًا لطبيعة المُجتمعَين؛ المجتمع المصري العربي الذي نزح منه العلماء، والمجتمع الأوروبي الأمريكي الذي نزحوا إليه، يُلاحَظ أن شهرة علمائنا في الخارج إنما ترجع إلى عِدَّة عوامل موضوعية وليست نتيجةً عبقريةً فريدةً لأفراد أو جماعات نادرة الوقوع ولا مثيل لها في العالم. هذه العوامل الموضوعية يمكن إجمالها في الآتي:
  • (١)

    يتعلم علماؤنا بأقلِّ الإمكانيات المتاحة؛ ممَّا اضطرهم إلى الاعتماد على العقول، والتفكير المستمر، وشحذ الهمم، وبذل أقصى الجهد، والرغبة في البحث والاستقصاء. فلما نزحوا إلى الخارج استمرت هذه الخصال فيهم بعد أن أصبحَت جزءًا من طبيعتهم، ففاقوا زملاءهم الأوروبيين والأمريكيين الذين يعتمدون على إمكانيات لا حدود لها في وسائل البحث العلمي، وتوفير كل متطلباته. وبالتالي قلَّ الاعتماد على المعقول، وفترَت هِمَّة البحث والتحصيل إلا بناءً على مِنحة أو إعانة أو ثمن.

  • (٢)

    تخصَّص علماؤنا في نَواحٍ كثيرة تفتقر إليها مراكز البحث العلمي في الخارج، فسرعان ما تمَّ إدماجُهم فيها؛ وذلك لأن علماءنا في مصر يُغطون تخصُّصات نظرية لا حدود لها، حتى ولو لم تنشأ لها حاجة في واقعنا بعد، فالعلم للعلم. نعمل على مستوى العالم بصرف النظر عن حاجات واقعنا المحلي من موضوعات بعينها لها أولوية على موضوعات أخرى.

  • (٣)

    كثرة المعاهد ومراكز البحث العلمي في الخارج جعلَت وجود عالم أو اثنين في كل معهد أو جامعة أمرًا ملحوظًا، في حين أن تكديسنا في مصر يجعلنا جميعًا لا يرانا أحد. فما أسهل ما يحصل الإنسان على رئاسة قسم أو معهد في بلد به المئات منه!

  • (٤)

    ظهور الأجانب في مجتمع عنصري شيء طبيعي، فالإنسان في المجتمع الأوروبي والأمريكي قبل أن يكون علمَه أو إبداعه أو ذكاءه، هو لون بشرته وموطنه وأصله ودينه وثقافته، على الرغم ممَّا يُقال عن حقوق الإنسان ومساواة الجميع في الحقوق والواجبات بصرف النظر عن الأجناس والقوميات.

  • (٥)

    كثرة المؤتمرات العلمية في الخارج، ومعرفة العلماء بعضهم لبعض، وكثرة المحلات العلمية التي سرعان ما تنتشر الأبحاث من خلالها؛ كل ذلك يجعل الشهرة العلمية سهلة المنال، بعكس مجتمعاتنا التي تقتصر الشهرة فيها على رجال الفن والإعلام أولًا ثم الساسة ورجال الدين ثانيًا.

  • (٦)

    الاعتماد على الشباب، وعدم دخول الأقدمية بالعمر أو بالزمن وحدها في تقييم الكفاءة العلمية، فسرعان ما يظهر العلماء بأفكارهم ونظرياتهم ويُعرَفون بإنجازاتهم دون انتظار للترقيات الجامعية التي يتنافس عليها المتنافسون.

  • (٧)

    تسهيل وسائل البحث العلمي والإعلان عنها بأجهزة إعلام سريعة الاتصال والانتشار؛ كل ذلك ليس إبرازًا لعبقرية العلماء الأجانب، بل تقوية لمراكز الأبحاث الغربية واستفادة من نتائجهم لصالحهم الخاص، وربما ضدَّ أوطان العلماء المهاجرين، وفي أقلِّ الحالات بدرايتهم على اختلاف مستوياتها والوعي بها والقصد منها.

وفي نفس الوقت هناك جنود مجهولون، هم علماؤنا بالداخل، لا أحد يتحدث عنهم، ولا يسترشد بآرائهم، ولا يعمل حسابهم. لا تُنظَّم لهم المؤتمرات أو الرحلات في ربوع الوطن. وهم الذين يقومون بعبء التنمية، وبتربية الكوادر المؤهلة، أصحاب الأفواه الصامتة التي رضيت بوضعها الاقتصادي وبإمكانياتها العلمية وبأنظمتها السياسية. تعمل في صمت، وتفجِّر من الصخر ماءً، وتفعل المستحيل. يوفون للمواطن حقَّه بما أخذوه منه، ويكونون شاهدين على عصرهم. لا أقول ذلك عن حسد أو غيرة لعلمائنا في الخارج، أكثر الله منهم، وأوسع أرزاقهم، ونفعنا بهم! ولكن فقط أودُّ ذكر بعض خصال هذا الجندي المجهول؛ علمائنا بالداخل، أوجزها في الآتي:
  • (١)

    ينحتون في العلم بالرغم من قلَّة الإمكانيات، ويبحثون عن المراجع، ويستقصون عن الأجهزة، ويشتمون المؤتمرات. ويبذل الواحد منهم جهدًا في العلم يكفي لخلق عشرة علماء. يعلم أن هذا هو مجتمعه، وهذه هي إمكانياته، وهذا هو قَدَره. لا يستسلم أو يرضخ أو يضجر، بل يقاوم وينقد ويحصل على ما يريد بجديته ومثابرته.

  • (٢)

    يصبرون على وضعهم الاقتصادي، ويحاولون أن يعيشوا بقدْر الإمكان، بالرغم ممَّا قد يحاوله البعض من وسائل غير جامعية للإثراء، مثل الكتب المُقرَّرة أو الدروس الخصوصية في بعض الكليات العملية خاصة، والنظرية عامة، أو الانتدابات الكثيرة أو الاستشارات الصورية. ولكنهم في مجموعهم يجاهدون ويصابرون وراضون. فهذه هي مصر، وذاك هو دخلُها، ومستوى المعيشة فيها.

  • (٣)

    يعانون ممَّا قد ينالهم من اضطهاد فكري أو خلاف نظري أو ضغط سياسي. ويعملون، خاصةً في الكليات النظرية، في جوٍّ مشحون بالتوجيه الفكري تسيطر عليه التقاليد الاجتماعية ويهيمن عليه العُرف، وتملؤه النظريات السياسية القائمة في مجتمع لم يألف المعارضة الفكرية والحوار الخصب بين كافة الاتجاهات الفكرية والسياسية.

  • (٤)

    يعملون بالرغم من ضيق الأماكن، وكثرة التنافس على المناصب الشاغرة، وشدة الزحام على المناصب خارج الجامعة، ومع ذلك يساهمون في تعمير البلاد راضين بأداء الواجب الوطني الذي لا يعادله أجر ولا تجزيه مكافأة.

  • (٥)

    يقاومون الإغراء، ويحرصون على عدم تفريغ الجامعات ومراكز البحث العلمي من الباحثين الوطنيين، حتى لا تتحول البلاد كلها إلى مرتع للخبرات الأجنبية التي تدين بالولاء لأوطانها.

  • (٦)

    يظلون شهداء على عصرهم، ومؤشراتٍ لطلبتهم، ومنارةً لمجتمعهم؛ إذ لا يستطيع الجميع أن ينزح إلى مجتمعات أفضل. ومَن الذي سيبني هذا المجتمع؟ وهل يشعر الخبراء الأجانب بمشاكل البلاد كما يُحسُّ بها مواطنوها من العلماء؟

  • (٧)

    يشعرون أن وجودهم في تاريخ مجتمعاتهم، وأن ذكراهم داخل أوطانهم، وأن أوسمتهم وجوائزهم في استمرار تقاليدهم، وعملهم في طلبتهم وفي جامعاتهم. ولا يوجَد أقسى من الغربة عن الأوطان، ولا يوجَد أعذب من العودة إلى الوطن.

ونحن في غمرة الحفاوة بعلمائنا في الخارج، فلا ننسى أن علماءنا بالداخل أيضًا! فتحية للصامدين!

(ز) بدلًا من الخواء الفكري٧

بعد انقطاع دام أكثر من عشرين عامًّا، هو عمر الثورة المصرية، أعيد إنشاء الجمعية الفلسفية المصرية أسوةً بالجمعية التاريخية والجمعية الجغرافية والجمعية المصرية للاقتصاد والتشريع … إلخ، حتى يمكن لأهل الفكر في مصر أن يروا بعضهم بعضًا، وأن يجتمعوا معًا على الفكر الذي يوحدهم، وأن يتدارسوا القضايا المصيرية للبلاد. وأمام الجمعية مهامُّ محدَّدة نلخِّصها في الآتي:
  • (١)

    إنشاء مناخ فكري في مصر يتربَّى فيه الشباب، بدلًا من هذا الخواء الفكري التام الذي ساد البلاد في رُبع القرن الأخير، حيث لم يمارس الشباب إلا الدعاية الفكرية أو حفظ الشعارات أو ترديد المذاهب القديمة والحديثة، أو حيث تحوَّل الشباب إلى تطلعاتهم نحو الهجرة أو الكسب الداخلي والإثراء على حساب الآخرين، وهو ما قدَّمه لهم مجتمعهم من مُثُل ودوافع للسلوك.

  • (٢)

    خلق مدارس فكرية في مصر تتحاور فيما بينها وتتصارع، حتى ينشأ الشباب وقد وجد أمامه المجال مُهيَّأً للاختيار فيما بينها، وتحديد موقفه الفكري منها؛ إذ إننا قد عانينا الأمرَّين من عدم قدرة الشباب على أخذ المواقف الفكرية، والانتساب إلى مذاهب، ومعارضة مذهب آخر، فالجرأة على الفكر هي شرط الجرأة في الواقع. وقد كان تاريخ مصر في أوائل القرن زاخرًا بالتيارات الفكرية والأدبية التي أخذت في الانحسار حتى وصلنا إلى ما نحن فيه من فراغ وتسطيح.

  • (٣)

    اجتماع أهل الفكر في مصر، ورؤية بعضهم البعض، فنحن قوم يعيش كلٌّ منَّا في عالم منفرد، وفي ركن منعزل، لا يكاد يرى صاحبه إلا عرَضًا، على سُلَّم مؤسسة، أو في اجتماع رسمي تدعو إليه السُّلطة، وكنا لا نجتمع فيما بيننا إلا إذا شرَّفنا مُفكر أجنبي فيرى بعضنا بعضًا على موائده. فنلتف حول «الخواجة»، نحاوره ويحاورنا دون أن نتحاور فيما بيننا. فإذا غادر الزائر الكريم، ونحن أكرم، انفضَّ الجمع، وانفرط العقد. وكنا نرى بعضنا بعضًا في المؤتمرات الأجنبية خارج البلاد، ونكون كالغرباء، والأشقَّاء الأعداء، ثم نرجع إلى البلاد وينزوي كلٌّ منا في ركن ننتظر المُفكر الأجنبي التالي أو الدعوة إلى مؤتمر قادم.

  • (٤)

    لقد آن الأوان للفكر في مصر أن يبرُز في مؤسَّسة بدل أن يُترَك بلا قاعدة، في جمعية لها اجتماعاتها الدورية وندواتها ومؤتمراتها وتقاليدها، وفي مجلة متخصِّصة أو عامة يقرؤها الشباب، وفي مؤتمرات داخلية عن القضايا المصيرية مثل: أزمة الفكر في مصر، الأيديولوجية العربية المعاصرة، التراث والتجديد، موقفنا من التراث القديم، موقفنا من التراث الغربي، نظرية التفسير، اليمين واليسار في الفكر … إلخ.

  • (٥)

    تكون مهمَّة الجمعية الأساسية هي تناول قضية الفكر، وتحليل أزمة الفكر في مصر، وتشجيعها، ووضع وسائل حلِّها، والتي تتلخَّص في الحصار بين الموروث القديم والمنقول المعاصر، أو التوفيق بينهما لحساب أحدهما. وطالما لم نُحدِّد بوضوح موقفنا الحضاري وفي أيِّ مرحلة من التاريخ نحن نعيش، ستظلُّ خُططنا القومية عشوائيةً غير قائمة على تصوُّر حضاري واضح المعالم يكون في الحقيقة هو نقطة البداية في فكرنا القومي.

  • (٦)

    وكثيرًا ما تخرج المؤلَّفات الجيدة، والبعض منها يرقى أرفع المستويات، ولكنْ لا يجد له صدًى عند القُرَّاء، ولا يتناوله أحدٌ بالتعليق أو التحليل.

  • (٧)

    وإذا كنا نعاني من غياب خُطة مُحكَمة لأبحاثنا العلمية ودراساتنا العليا، فإن مهمَّة الجمعية تكون في وضع هذه الخطة للتأليف والترجمة والنشر، وربطها باحتياجات البلاد القومية بدلًا من هذا التبعثر والتشتُّت أحيانًا، والتكرار والمزاوجة أحيانًا أخرى، والجدب العلمي التام في بعض الميادين أحيانًا ثالثة، ونكون أشبه بالمجلس القومي المتخصِّص في مجال الفكر.

  • (٨)

    وإذا كنا نعاني من غياب مجلاتنا الثقافية الجادة ودوريتنا العلمية المتخصِّصة واستمرارها، فإن مجلة الجمعية الفلسفية المصرية يمكنها سدُّ هذا النقص، وذلك بمقالاتها المتخصِّصة أو العامة وتسجيل ندواتها.

  • (٩)

    لقد نشأت في البلاد العربية الشقيقة الجمعيات الفلسفية الوطنية، فهناك الجمعية الفلسفية المغربية، والجمعية الفلسفية العراقية … إلخ. ومصر التي تزخر بالمفكرين وأهل الرأي تأتي في نهاية المطاف. وكيف تتمُّ الوحدة العربية إن لم يتوحَّد أهل الرأي والفكر فيما بينهم؟! فوحدة الفكر هي التي تخلق وحدة الأرض، ووحدة الشعب، ووحدة النُّظم والمؤسَّسات. وقد قامت الوحدة الألمانية على يد مُفكريها من أساتذة الجامعات.

  • (١٠)

    وقد كان لمصر مكانتها الفكرية قديمًا، وصورتها في الضمير العالي هي الفكر والحضارة والتاريخ، وتمثل جميع الدول في المؤتمرات العالمية الفلسفية إلا مصر، وبالتالي تكون مهمَّة الجمعية الفلسفية المصرية إبراز دَور مصر على الصعيد العالمي على مستوى الفكر. وفي اللحظة التي نبادر فيها الآن بأخذ زمام المبادرة الدولية، فإن مكانة مصر وتراثها وتاريخها يؤهلها أيضًا للريادة الفكرية، ومن ثَم يكون حاضر مصر امتدادًا لماضيها.

١  كُتِبَ هذا المقال إبَّان صدور «الأهالي» الأولى، ١٩٧٨م. وبعد فتور «الأهالي» من أمثال هذه المقالات وعدم نشرها بانتظام توقَّفَت. فإعادة بناء الثقافة الوطنية في حاجة إلى حزب يبدأ منها ولا يبدأ من الثقافة الغربية، حتى ولو كانت منتقاةً من أيديولوجياتها ومذاهبها التقدمية. وهذه صياغة كُتِبَت في خريف ١٩٨٧م من تلك العناصر الأولى دون أدنى تغيير.
٢  الجمهورية، ٩ / ٦ / ١٩٧٦م. وقد غيَّر الرقيب لفظ السلطان ووضع محلَّه لفظ السُّلطة. كما وضع تعبير أوامر الدين بدلًا من أوامر الله! كما حذف العبارة الأخيرة «وماذا نخشى من تحويل المحرمات إلى محللات؟»
٣  الجمهورية، ٣١ يوليو، ١٩٧٩م.
٤  الجامعة، الدار البيضاء، ٤ / ٢ / ١٩٨٣م.
٥  كُتِب هذا المقال في سبتمبر، عام ١٩٨٣م، في مدينة فاس بالمغرب، كنداء عام لطلاب كلية الآداب، بجامعة سيدي محمد بن عبد الله، بعد عام حافل بالإضرابات والمظاهرات العامة أدَّى إلى تعطيل الدراسة معظم العام الدراسي ٨٢ / ١٩٨٣م كنوع من التحية للطلاب في العام الدراسي الجديد ٨٣ / ١٩٨٤م. وهذه صياغة ثانية للمقال من المسودة الأولى، دون أدنى تغيير، كُتِبَت في خريف ١٩٨٧م. ولنا رسالة مشابهة لطلاب مصر كمساهمة مني في مجلات الحائط في كلية الآداب جامعة القاهرة، كُتِبَت عام ٧٦ / ١٩٧٧م، وهي السنوات التي تمَّت فيها تصفية نادي الفكر الناصري وكافة التنظيمات الطلابية التقدمية، وزيادة نفوذ الجماعات الإسلامية، ولكنها مفقودة ولا مسودات لها، ولا يختلف مضمونها عن هذه الرسالة لطلاب المغرب؛ التأكيد على رسالة الطالب المزدوجة كباحث وكمواطن، وعلى دَوره في البحث العلمي وفي الالتزام بقضايا الوطن.
٦  كُتِب هذا المقال إبان إصدار «الأهالي»، الأولى عام ١٩٧٨م، وبعد عقد أول مؤتمر لعلمائنا بالخارج داخل الوطن وكمية التهليل والتكبير والتعظيم لهم والإشادة بهم التي امتلأت بها أجهزة الإعلام؛ ممَّا أحرج علماءنا بالداخل الصامدين في المواقع دون أن يذكرهم أحدٌ بتحية. لم تنشره الأهالي. وهذه صياغة ثانية طِبق الأصل من المسوَّدة الأولى كُتِبَت بعد ذلك بعشر سنوات، في خريف ١٩٨٧م.
٧  الجمهورية، ١٩٧٦م. وقد أعيد إحياء الجمعية الفلسفية المصرية من جديد في ١٩٨٨م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤