أحاديث في الثقافة الوطنية١

(أ) الموقف الحضاري العربي

  • موقفنا من الواقع ليس الإحباط أو التمرد.

  • حل أزمة الموقف الحضاري في نقل الموقف من المستوى الخطابي إلى المستوى العملي.

  • علينا أن ننظر للغرب على أنه أحد مراحل تاريخ الوعي الإنساني وليس المسار الحضاري الأوحد.

  • لا فكر إلا من واقع، ولا ثقافة إلا من شعب.

إننا لا نستطيع القول إن لدينا فلاسفة، رغم أننا أنشأنا جامعاتنا الحديثة منذ أكثر من نصف قرن، وجامعاتنا موجودة منذ أكثر من ألف عام، وفي الحياة العامة بدأنا الترجمة منذ أكثر من قرن ونصف ونحن حتى الآن لا زلنا نترجم. لقد تحوَّل المُفكرون لدينا إلى وكلاء حضاريين لمذاهب غريبة عن بيئتنا؛ نظرًا لريادة الغرب وغزوه الثقافي.

وقد يبدو ما في هذا البحث تكرارًا لما هو موجود سلفًا، ولكن الإصرار على ضرورة المشروع الحضاري القومي هو رسالة لا بدَّ من تبليغها.
  • الموقف الحضاري: موقفنا الحضاري اليوم ذو ثلاثة أبعاد لا يمكن تغييرُها ولا تغافلها، وإلا كانت الفلسفة بغير موضوع وبغير وطن؛ الأول هو موقفنا من التراث القديم، والثاني موقفنا من التراث الغربي، والثالث موقفنا من الواقع. وعادةً ما يكون هذا الموقف الحضاري المثلث الأبعاد غير متوازن، فقد يرتكز على التراث، ومن هنا تنشأ ثقافة دينية وسلفية، وقد يرتكز على الغرب، ومنه تنشأ ثقافة علمانية وتحديثية، وقد يرتكز على الواقع، ومنه تنشأ ثقافة شعبية وحركات تغيير اجتماعي. وفقدان الاتزان في الموقف الحضاري هو سبب تضارب الثقافات ومناهج التعليم والمذاهب السياسية، ويقضي على الوحدة الوطنية.

    وقد تتداخل هذه الأبعاد فيكون للوعي الفردي موقف إيجابي من التراث، يسبب موقفًا سلبيًّا من التراث الغربي، وقد يحدث العكس. وعادةً ما يكون هذان الموقفان المتعارضان سلبيَّين بالنسبة للواقع؛ لأن المدخل الحضاري يكون بديلًا عن الواقع المُعاش، أمَّا الذي يأخذ موقفًا إيجابيًّا واعيًا من الواقع، فإنه يكون في العادة إيجابيًّا في موقفَيه الحضاريَّين الأولَين.

  • أزمة الموقف الحضاري: تتجلَّى أزمة الموقف الحضاري في موقفنا من كل بُعدٍ فيه:
    • (١) كان أقصى ما نفعله تجاه تراثنا هو نشر المخطوطات دون تغيير أو تطوير، وكأن التراث جسم ميت نقلِّبه بلا واقع أو تاريخ، ثم يخرج الطلاب من جامعاتنا وهم منفصلون عنه نفسيًّا، فيتوجَّهون إلى الثقافة المعاصرة، حيث يجدون أنفسهم، فيزداد شعورهم بالقطيعة مع التراث؛ ممَّا يجعل بعضَهم يقوم بردِّ فعل فيتمسك بالقديم كله ويرفض المعاصرة. ثم نقلنا ذلك كله، الصالح والضار منه؛ عمَّمنا الأشعرية، ودرسنا الإشراقية، وشرحنا المحبة والفناء، ودعونا إلى التخلي عن العالم في مجتمع مهزوم أسطوري، ودرسنا أن مستقبل الإنسان خارج العالم، وأن السياسة كلها مركزة حول شروط الإمام وصفاته الحميدة، وقضينا بأيدينا على كل احتمال للتغيير، وبينَّا أن للكواكب أرواحًا ونفوسًا فوجَّه وعينا القومي علل ظواهرها في السماء وليس على الأرض، وتساءلنا: ما حُكم وصية يكتبها رجل بين أنياب الأسد؟ وكأن مظاهر المجتمع المتخلف وموضوعاته هي التي فرضَت اختيار ثقافته. أمَّا فقه الثورة وفقه العدالة الاجتماعية وفقه التحرر من الظلم فليس أساسًا للاختيار.
    • (٢) لقد فعلنا نفس الشيء في التراث الغربي، فالمحافظون يختارون المثالية، والتقدميون الواقعية، وينشأ الخلاف بيننا. والصراع في ظاهره غربي، وفي حقيقته يكشف عن موقف حضاري خاص بنا، وهو أن المثالية وريث طبيعي للمحافظة، والواقعية هي التطور الطبيعي للدين. المثالي هو الأكثر قدرةً على الدفاع عن حياة الناس ومصالح الشعوب. وفي حقيقة الأمر فإن المذاهب الغربية وليدة بيئتها.
    • (٣) لقد تحوَّلَت الفلسفة لدينا إلى نقل، وغاب التنظير المباشر للواقع، وأصبحَت الثقافة في جانب والواقع في جانب آخر، ثقافة غريبة وواقع غير مفهوم، مجرَّد وعي صوري بلا مادة.

    إن عدم التعوُّد على المنهج الاجتماعي في دراسة الأفكار أو نشأتها وتكوُّنها من الوضع الاجتماعي يجعل الباحثين يستسهلون عرض الأفكار، فلم يَعُد الطالب يبدع نصًّا فلسفيًّا، بل صار مجرَّد شارح للنصوص، هذا بالإضافة إلى الجوِّ العام لإجهاض العقول، فليس في صالح المصالح الكبرى أن يبدع العقل الذي هو بطبيعته تمسُّك بالحريات ودفاع عن المصالح العامة. وإذا ما حاول أحدهم الخروج على المألوف والتمسُّك بحقِّه في البحث الحر اتُّهِم بالإلحاد، ويصبح شريدًا مطاردًا لا وطن له، فلا يبقى له إلا الهجرة إلى الخارج، أو الهجرة إلى الداخل همًّا وكمدًا حتى يُصاب بالجنون، أو يعمل عن وعي تاريخي طويل، من خلال الحركات السرية التي سرعان ما يتمُّ انكشافها فيصبح دخيل سجون.

    فالواقع يفرض أن يكون موقفنا من التراث القديم موقف الناقد والمطوِّر، وأن يكون موقفنا من التراث الغربي كذلك نقده وردَّه إلى حدوده الطبيعية والقضاء على أسطورة عالمية لإفساح المجال للإبداع الذاتي للشعوب.

    والموقف من الواقع ليس بالعزلة التي تتبدَّى في النفس إحباطًا أو تتبدَّى في الخارج معارضة أو تمردًا، الموقف من الواقع هو فَهمُه أولًا وسَبر مُكوِّناته (الثقافة الوطنية، الجماهير الشعبية)، حتى يمكن تفجيرُ طاقاته القادرة على الوقوف أمام الأبنية الاجتماعية والنُّظم السياسية التي تقوم على التصورات السُّلطوية الموروثة، حل أزمة الموقف الحضاري إذَن في نقل الموقف من مستواه الخطابي إلى مستواه العلمي.

  • التراث القديم: إن تراث القدماء المحفوظ المدوَّن في الكتب القديمة هو مواقف السُّلطة من حلول المعارضة، فقد ساد تراث القوة الغالبة على تراث القوة المغلوبة. كما أن القول بأن المعاد خارج العالم هو من أجل أن يؤسِّس الإنسان ملكوته خارج العالم ويُعِدَّ له بعد الموت، أمَّا داخل العالم وقبل الموت فهو حقُّ السُّلطة القائمة لا ينازعها فيه أحد.

    كان الخطر قديمًا على التوحيد كتصوُّر في عصر الفتوح، وأصبح الخطر الآن على الأرض في عصر الهزائم، والواحد يتجلَّى في الدفاع عن وحدة الأمة ضدَّ تجزئتها. وربما يكون الأصلح الآن هو حرية الاختيار عند المعتزلة وليس الكسب الأشعري، وإثبات استقلال العقل والإرادة وليس تبعيتهما. وقد تكون مهمَّة الحكيم اليوم التخلُّص من الإشراقيات القديمة؛ دفاعًا عن العقل، ومع النظر إلى الطبيعة نظرة علمية خالصة، واختيار منطق حِسِّي طبيعي تجريبي كاختيار الأصوليين.

    هناك إمكانية لتغيير العالم وإقامة ملكوت على الأرض، وتحويل الوحي إلى نظام مثالي للعالم؛ الجماهير حاضرة، والطلائع متشوِّقة، والغضب والإحساس بالظلم يعمُّ الجميع.

    إن علوم التفسير قد خضعَت في حقيقة الأمر لباقي العلوم الأخرى، كعلوم اللغة أو التاريخ أو الحكمة أو الكلام أو التصوُّف، فخرجَت تفسيرات لغوية وتاريخية وكلامية. ولم يظهر التفسير الاجتماعي إلا مؤخرًا في حركات الإصلاح، كما لم يظهر التفسير النفسي الاجتماعي أيضًا إلا مؤخرًا عندما دعَت الحاجة إلى إعادة الوحي إلى قلوب الناس وشعور الأمة. إن علينا إضافةَ التفسير السياسي للمساهمة في حلِّ إشكال العصر وتمزقه بين المحافظة الدينية وبين التقدمية العلمانية. كذلك على الفقيه اليوم إعادة الاختيار من أجل تأسيس فقه المعاملات كما تأسَّس فقه العبادات من قبل؛ من أجل إعطاء الأولوية للمسائل العملية الواقعية على المسائل النظرية.

    قد تكون مهمَّة الباحث اليوم هي إعادة المحاور والبؤر واكتشاف الإنسان والتاريخ؛ إذ تُرسَل إلينا لجان الأمم المتحدة لدراسة أوضاعنا بالنسبة إلى حقوق الإنسان. كما أننا خارج التاريخ، وليس لدينا تراكمٌ تاريخي.

    بهذا الموقف من التراث يمكن تحقيقُ عِدَّة فوائد، منها نزع سلاح التراث من أيدي الخصوم في الداخل وفي الخارج؛ ومن ثَم القضاء على أهمِّ مُعوِّقات التقدم، كذلك إبراز تراث الشعب؛ وبالتالي يمكن تقوية نضال الجماهير بإعطائهم تراثًا ثوريًّا من خلال تثوير ثقافتها الوطنية، والقضاء على الازدواجية في الشخصية القومية، ومحو التفرقة بين الثقافة الوطنية الخاصة وبين ثقافة العامة، وبالتالي تتوحد اللغة، ويُعاد بناء الثقافة بروح العصر ولغته، ثم تجنيد الجماهير فتنزل بثقلها إلى الساحة وتأخذ مصائرها بأيديها.

    إن التغيير الاجتماعي بلا تغيير مُوَازٍ في الثقافة، والعمل السياسي دون منظور تاريخي مجرَّد ضرب في الهواء.

  • التراث الغربي: إن موقفنا من التراث الغربي لا يعني الانغلاقَ، بل إن فترة التلمذة قد طالت، وما زالت مرحلة الإبداع بعيدةً عن الأفق، حيث إن التعلُّم من الغير وسيلةٌ لا غاية، ونظرًا لطول المدَّة، انقلب الانفتاح إلى الضدِّ، وهو التقليد والتبعية؛ فنشأت ظاهرة التغريب في حياتنا الثقافية وفي وعينا القومي، والتي تبدو في الآتي:
    • (١) اعتبار الغرب النمطَ الأوحد لكل تقدُّم حضاري، وهذا أدَّى إلى إلغاء خصوصيات كل شعب، واحتكار الغرب حقَّ الإبداع.
    • (٢) اعتبار الغرب ممثِّل الإنسانية، فتاريخها هو تاريخ الغرب.
    • (٣) اعتبار الغرب المعلِّم الأبدي، واللاغرب التلميذ الأبدي.
    • (٤) رد كل إبداع لدى الشعوب إلى الغرب، فكلُّ دعوة إلى العقل ديكارتية، وكل دعوة إلى الحرية ليبرالية غربية، وكل نضال من أجل العدالة ماركسية، حتى أصبح الغرب هو الإطار المرجعي الأول والأخير.
    • (٥) أثر العقلية الأوروبية على أنماط التفكير العامة، بحيث تضع كل طرفي معادلة في علاقة تضاد؛ مثالية أو واقعية، فردية أو اجتماعية … وقد نقلنا أنصاف الحقائق هذه وجعلنا أنفسنا أطرافًا في معركة لم نخضها.
    • (٦) تحوُّل ثقافتنا إلى وكالات حضارية للمذاهب الغربية، حتى لم يعد أحدٌ قادرًا على أن يكون مُفكرًا أو عالمًا، أو حتى مثقفًا، إن لم يكُن له مذهب.
    • (٧) إحساس الآخرين بالنقص أمام الغرب، ممَّا قد ينقلب إلى إحساس «وهمي» بالعظمة، كما هو الحال في بعض الجماعات الإسلامية المعاصرة، وفي الثورة الإسلامية في إيران.

    ويشمل تطوُّر الوعي الأوروبي في نشأته الأصل اليوناني الروماني والأصل اليهودي والمسيحي والبيئة الأوروبية. وبالرغم من التباين في جوهر كلٍّ من اليهودية والمسيحية، إلا أن الأصل اليهودي المسيحي قد جمع بينهما ابتداءً من الكتاب المقدَّس، ونظرًا للتآلف الطائفي العنصري بينهما ضدَّ الحضارات الأخرى؛ إسلامية أو بدائية، فقد أصبحتَا مصدرًا واحدًا.

    إذَن حتى نأخذ موقفًا من التراث الغربي علينا أن ندرس الوعي الأوروبي على أنه تاريخ وليس خارجه؛ أيْ على أنه مرحلة من مراحل تاريخ الوعي الإنساني وليس على أنه المسار الحضاري الأوحد، وبداية فلسفة جديدة للتاريخ تبدأ من الشرق، واكتشاف خصوصيات الشعوب، بما فيه إفساح المجال للإبداع الذاتي للشعوب غير الأوروبية، وإعادة كتابة التاريخ بما يُحقِّق أكبر قدْر من المساواة في حقِّ الشعوب بدلًا من النهب الأوروبي لثقافات العالم، وتكوين الباحثين الوطنيين الذين يدرسون حضاراتهم من منظور وطني.

  • الموقف من الواقع٢: إن كلا الموقفَين من التراث أو من الغرب، هما في حقيقة الأمر مصدر واحد من مصادر المعرفة، وهو النقل، بصرف النظر عن مصدر النقل من الماضي أو من الحاضر. والحقيقة أن الواقع لم يكُن غائبًا في كلا الموقفَين، حيث كنَّا نردُّ كلا الموقفَين إلى الواقع ونأخذ ما اتَّفق معه، فالواقع حاضر في قلب الحضارة؛ إذ بدون البُعد الواقعي يظلُّ الموقفان الأولان مجرَّد معلومات في كتب (صفراء أو بيضاء)، إذَن لا بدَّ من إحصاء دقيق لمشاكل الواقع ومتطلباته التي يمكن أن تكون مقياسًا يُعاد وَفقه بناء التراث القديم والجديد.

ويمكن إحصاءُ متطلبات الواقع على النحو الآتي:

تحرير الأرض من الاحتلال، وهي القضية الأولى في واقعنا القومي، لقد قامت حركاتنا الإصلاحية الحديثة دفاعًا عن الأرض ضدَّ المحتل الأجنبي أو الإقطاعي الداخلي. وقد احتلَّت الصهيونيةُ الأرضَ بعقيدة أرض الميعاد وأرضنة الله The Enlandisent of GOD. كذلك إعادة توزيع الثروات والإصلاح الاجتماعي وتحقيق العدالة، والديمقراطية في مواجهة الطغيان. فالفلسفة ليس لها موضوع إلا الحرية، كذلك تحقيق الوحدة في مواجهة التجزئة، وتحقيق الهُويَّة في مواجهة التغريب، حيث إن أهمَّ قضايانا التي نثيرها باسم الأصالة والمعاصرة هي كيف يمكن مواجهة ثقافات العصر دون الوقوع في مخاطر التبعية؟ كذلك تحقيق التقدم في مواجهة التخلف، وتجنيد الجماهير ضد السلبية واللامبالاة، فليس المُفكر فكره فقط بل جمهوره، وليس نظرياته فقط بل أمته التي يتحدث إليها ويعمل من أجلها، فلا فكر إلا من واقع، ولا ثقافة إلا من شعب، وبدون هذا الموقف الحضاري ستظلُّ الفلسفة في جامعاتنا نباتًا بلا غرس وهواءً بلا طير وكتابةً بلا مداد.

قد لا يحتوي هذا البحث إلا على عموميات يعرفها الجميع منذ أجيال، وقد يكون فيه نوع من تغريب النفس، ولكنه يبقى على أيَّة حال صراخ يوحنا المعمدان على تلال عمان.

(ب) الوعي شرط الإبداع٣

  • شرط الإبداع هو الوعي بمشاكل العصر والدخول في تحدياته الأساسية.

  • التخلُّص من التبعية هو التخلِّي عن مناهج النقل، سواء عن القدماء أو الغرب.

– من خلال خبراتك العميقة، ما هي الإشكالات التي يعاني منها الوعي العربي حضاريًّا؟

• إشكال الوعي العربي يظهر في ثلاثة أبعاد؛ فمنذ مائتَي عام وحتى الآن لم نجد حلًّا بعدُ للقضية الأولى، وهي قضية الموقف من التراث القديم الذي ما زال حاضرًا وجاثمًا في الوعي العربي وفي الأذهان والنفوس، يُحدِّد السلوك للأفراد وللجماعات. ونظرًا لأن التراث القديم السائد كان تراث السُّلطة بعد محاصرة تراث المعارضة واندثاره أو تدوينه من خلال مؤرخي السُّلطة منذ عام، فإن ثقل المحافظة يجعله كتيَّار تاريخي من الصعب التهرُّب منه، ويعطي للمحافظة شرعيةً تاريخية، حاول البعض الهجوم عليها، والدعوة إلى الانفصال عنها؛ ممَّا سبَّب ردَّ فعل أعنف في الدفاع عنها والتشبُّث بها، وهذا هو الإشكال، حيث لم يحاول أحد حتي الآن أن يأخذ موقفًا نقديًّا منها ليخفِّف من حدَّتها، كي يمنع عوائق التقدم أو يساهم فيه، على الأقل، على نحوٍ سلبي. والإشكال الثاني هو الموقف من الغرب؛ فمنذ مائتَي عام ننقل ونترجم ونعرض، لكن معدل إنتاج الغرب أسرع بكثير من معدل الترجمة، وبالتالي تتَّسع الهُوَّة ونُصاب بالصدمة الحضارية، ويصبح الغرب هو «المُعلم الأبدي»، ونحن «التلميذ الأبدي»، ويكون دَورنا باستمرار هو استهلاك الثقافة لا إبداعها. فقد حاول البعض الترويج للثقافة الغربية باعتبارها ثقافةً عالميةً لا وطن لها ولا زمان ولا مكان؛ ممَّا سبَّب ظاهرة التغريب في الفكر والسلوك. وقد سبَّب ذلك ردود فعل، كرفض التغريب والدعوة إلى الانغلاق على الذات، ولكنْ لم يحاول أحد، حتى الآن، أن يأخذ موقفًا نقديًّا منه بدلًا من الدفاع عنه أو الهجوم عليه؛ أيْ لم يحاول أحدٌ تحجيم الغرب وردَّه إلى حدوده الطبيعية وإرجاعه إلى ظروفه التي نشأ فيها والقضاء على أسطورة الثقافة العالمية واعتبار الغرب ممثلًا للإنسانية جمعاء.

والموقف الثالث هو موقفنا من الواقع الذي ما زال بعيدًا عن أن يكون مصدرًا لفكر جديد لم يحاول أحدٌ أن يُنظِّره تنظيرًا مباشرًا، لذلك انعزل التياران السابقان عنه، ولم يعد هناك فَرق بين مَن يقول: قال ابن تيمية أو قال ماركس. لم يحاول أحدٌ أن يعيد بناء التراثَين معًا، القديم والغربي، بناءً على حاجات العصر.

هذا هو الإشكال الرئيسي في الوعي العربي المعاصر، هناك ثلاث جبهات، ولا أحد يدخل فيها مرةً واحدة، ولكنْ يصارع بعضها بعضًا.

– من خلال هذه الإشكاليات المختلفة، هل تتطلعون إلى الوصول إلى فلسفة عربية موحدة في هذا المؤتمر؟

• لا يوجَد شيء اسمه فلسفة واحدة، عربية أو يونانية أو غربية، فالفلسفة تعدُّد وجهات نظر وصراع آراء، ولا يوجَد فيها رأي صحيح والآخر باطل، كما يُرَوَّج عادةً في حديث «الفرقة الناجية»، كل رأي يُعبِّر عن جانب من الحقيقة، وكل عصر يُعبِّر عن روحه، ومن ثَم تقوم الفلسفة أساسًا على التعددية، وفي الوقت الذي تتحوَّل فيه الفلسفة إلى رأي واحد ينتهي الفكر.

لقد قامت حضارتنا القديمة في عصرها الذهبي حتى القرن الرابع الهجري على التعددية، وفي الوقت الذي تحوَّلَت فيه إلى فلسفة واحدة بعد ضرب الغزالي للعلوم العقلية، وحدث نفس الشيء في العقيدة عندما تحوَّلت الأشعرية إلى عقيدة رسمية للدولة وازدوجت الأشعرية والتصوف إبَّان الحكم العثماني، انتهى الرأي الآخر وتوقف الإبداع.

ولمَّا كان في علم الأصول الحقُّ النظريُّ متعددًا، وإن كان السلوك العملي واحدًا، فإنه يمكن حاليًّا تعدُّد الأطر النظرية، والاتفاق على برنامج عربي موحد. سِيَّان أن تتحرَّر فلسطين مثلًا باسم الدين أو باسم القومية أو باسم الوطنية أو باسم الاشتراكية أو باسم البروليتاريا العالمية … لا يُهم. فلا يمكن أن تتوحَّد الأُطر النظرية في حين أنه يمكن الاتفاقُ على برنامج وطني سياسي اجتماعي واحد، وهذا هو الدرس المستفاد من الجبهة المتحدة.

– لكن بعض هذه الأُطر الثقافية والفكرية التي ذُكِرَت لا تَسلَم من التبعية لغير المناهج العربية الأصيلة.

• إن شرط تخلُّص الفكر الوطني من التبعية هو التَّخلِّي عن مناهج النقل، سواء عن القدماء أو عن الغرب. وإذا كانت بلادنا قد قامت بحركات تحرُّر وطني على مدى جِيلَين، فإنه لم يواكب هذه الحركة حركةٌ أخرى للتحرُّر من التبعية وهيمنة الآخر. شرط الإبداع إذَن هو الوعي بمشاكل العصر والدخول في تحدِّياته الأساسية، وإعادة بناء الثقافة الوطنية للجماهير بناءً على هذه الحاجات والتحديات.

فالتطوير من الداخل أكثر بقاءً وأدوم من التطوير من الخارج، فكلُّ ما يحتاجه الوعي العربي حاليًّا من عقلانية وحرية وإنسانية وطبيعية ومساواة، إنما يمكن أن يتحقَّق باكتشاف جذور هذه المفاهيم في التيارات المشابهة في ثقافة الناس الشعبية الممتدة جذورها في التاريخ خير من نقل هذه التيارات من ثقافة أخرى لا يمكن فهمُها إلا للنخبة المثقفة التي يسهُل حصارُها وعزلتُها.

إن شرط الإبداع هو الاعتماد على القوة الذاتية وعدم اليأس، سواء بهجرة العقول إلى الخارج أو بإجهاضها من الداخل، وتأسيس مفهوم الاستقلال، ليس فقط الوطني ولكن كمفهوم أصيل في الذهن تُربَّى عليه الجماهير، بحيث يصبح الإنسان قادرًا على أن يتعامل مع الموقف، هو من طرف والطبيعة من طرف آخر، تظهر حريته في التحدي مع ثقة بالنفس وقدرة على صنع تاريخ لم يتحدَّد بعد.

– لكن الفكر العربي المعاصر لم يتخلَّص من تبعيته للفكر الإسلامي العربي القديم، فإلى أيِّ مدًى تغلغل التراث وانعكس في آثارنا الفكرية؟

• بطبيعة الحال الأصولية الحديثة لها ما يُبرِّرها، فهي تعي حقائق التاريخ، وترى أن الإسلام في مدٍّ قادم يماثل المدَّ الأول في القرون السبعة الأولى، وسيكون قادرًا على تجاوز مرحلة الانهيار في القرون السبعة الأولى، كما أنه سيحاول تجاوز كبوة الإصلاح التي حدثَت في جيلنا من الأفغاني إلى محمد عبده إلى رشيد رضا إلى الحركة السلفية المعاصرة، بفعالية أكثر وبتجنيد للجماهير. كما أنها تُعبِّر عن ردِّ فعل رفضها إبَّان الثورات العربية المعاصرة التي استولت على السُّلطة دون شرعية من عقد اجتماعي أو دستور، حيث لم يُسمَح لها بالعمل العلني على مدى ثلاثين عامًا؛ لأنها منافسة على السُّلطة، ومن ثَم فإن حضورها الفعال حاليًّا إنما هو تعبير عن كبت جيل بأكمله. ونظرًا للفشل النسبي لأيديولوجيات التحديث العلمانية من ليبرالية وقومية وماركسية فقد احتلَّت مزيدًا من الأراضي وزادت الهُوَّة بين الفقراء والأغنياء، وازدادت قوانين القهر ومنع الحريات، وازداد التفتُّت والتجزئة، وازداد التغريب.

لكل هذه الأسباب تُقدِّم الأصولية المعاصرة نفسَها كبديل عن التجارب التي سادت في حياتنا المعاصرة.

– أخيرًا، هل سيقوم فلاسفتنا من خلال هذا المؤتمر بتقديم تصوُّرات توفيقية كالعادة؟

• التوفيق له معنيان؛ معنى سلبي ومعنى إيجابي. المعنى السلبي هو أن تأتي بأجزاء متناثرة لا رابط بينها، وتُكوِّن منها بناءً كليًّا سرعان ما يتفكَّك ويقوم على نفاق وتظاهر، كمَن يأخذ بالتحديث كمضمون ويترك الأشكال الخارجية للتراث، أو بين مَن يأخذ بآخر نتاجات العلم وفي نفس الوقت تسود حياته اليومية الخرافة أو في النُّظم السياسية والاجتماعية … إلى آخر كل ما يُقال باسم الاشتراكية العربية … إلى آخره.

وهناك معنًى إيجابي للتوفيق، وهو استيفاء حاجتَين أصيلتَين شرعيتَين كالتراث والتجديد والأصالة والمعاصرة. فممَّا لا شكَّ فيه أن المجتمعات منها تراثية، كما هو الحال في مجتمعاتنا، ولا يمكن عملُ أيِّ تحديث إلَّا من خلال التواصل، وإلا حدث انقطاع في تاريخ المجتمع، كما هو الحال في تركيا وبولندا؛ ممَّا يُسبِّب ردَّ فعل عكسي بعد عِدَّة أجيال.

لا سبيل إذَن في هذه المجتمعات إلا التحديث من خلال التواصل، وفي نفس الوقت قَبول تحدِّيات العصر، وعدم الانعزال عنها، وإيجاد حلول أصيلة إبداعية لها دون نقل حلول جاهزة من تلك النظرية أو غيرها، لأنه في هذه الحالة لا يكون ذلك توفيقًا، بل حرص على وحدة الواقع وتجانسه في التاريخ. بهذا المعنى أيضًا يكون التوفيق إيثارًا للكل على الجزء، للشمول على التفتُّت، كما فعل الفارابي قديمًا في الجمع بين أفلاطون وأرسطو، وكما نفعل نحن في الجمع بين المثال والواقع، بين الأصالة والمعاصرة.

(ﺟ) أزمة الفكر العربي٤

  • الفيلسوف هو الذي يساهم في خلق نهضة جديدة، ويحاول نقل المجتمع من مرحلة إلى أخرى.

  • يجب على المُفكر تطهير رؤيتنا للواقع من آثار الفكر الغربي، وأن يُخلِّص الثقافة الوطنية من القيم السلبية للتراث.

  • النهضة الجديدة انقلبت إلى ضدِّها؛ لأنها لم تنشأ على نحوٍ جذري.

  • للمُفكر العربي دَورانِ أساسيَّان في تربية الكوادر العلمية والنضال الاجتماعي.

س: تتنوَّع المدارس الفلسفية والفكرية في العالم الغربي، وقد تجد هذه المدارس أصداءً لها ومُفكرين وفلاسفة خارج العالم الغربي، وبالنسبة لواقعنا العربي المعاصر. هل يوجَد فلاسفة عرب؟
ج: في الحقيقة، إن هذا يتوقف على تعريف الفيلسوف، فعادةً عندما يُطرَح هذا السؤال يتبادر إلى الذهن معنى الفيلسوف في الفلسفة الغربية، وهو صاحب النظرية أو واضع المذهب أو مؤسِّس الاتجاه؛ لأنه حدث في الغرب بعد الإصلاح الديني، وفي عصر النهضة رفض للقديم ورفض للعقائد ولكل الغطاء النظري للواقع، واضطر المفكر الأوروبي أن يجد البديل النظري، وبدأ يضع نظريات واتجاهات وآراء، فأصبح الفيلسوف بهذا المعنى فيلسوفًا مثاليًّا، مثل ديكارت وكانط وهيجل، أو واقعيًّا مثل هوبز ولوك وميل وبيكون، أو فيلسوفًا وجوديًّا مثل الفلاسفة الوجوديين المعاصرين.

أمَّا بالنسبة لنا فلم يحدث، حتى الآن، أن أسقطنا الغطاء النظري القديم. وما زالت العقائد تفسر لنا العالم، وما زال الموروث القديم يمثِّل لنا غطاء نظريات للواقع. وبالتالي لا يمكن أن ينشأ فيلسوف؛ لأن الفيلسوف هو الذي يجد البديل عن المرفوض، ونحن لم نرفض بعدُ. ولكن أي مُفكر يحاول قدْر الإمكان أن ينقد القديم وأن يؤسِّس نهضةً جديدةً بناءً على نقد القديم وتبنِّي الجديد هو الفيلسوف. ومن ثَم كان الأفغاني فيلسوفًا؛ لأنه ينقد التراث القديم ويؤسِّس نهضةً جديدةً في الحركة الإصلاحية. وكان محمد عبده ومحمد إقبال ورفاعة الطهطاوي فلاسفةً لتنظيرهم لنهضة جديدة. وكان شبلي شميل فيلسوفًا لأنه ينقد القديم ويدعو إلى تأسيس العلم. إذَن لدينا فلاسفة بهذا المعنى؛ أي المصلحون المجددون الذين يساهمون في خلق نهضة جديدة، الذين يتوجَّهون بذهنهم وجهودهم إلى نقد الموروث، الذين يحاولون نقل المجتمع من مرحلة إلى أخرى. وهذا هو المعنى الثاني للفيلسوف، ولدينا الكثير منهم.

س: وبهذا المعنى يمكن أن نقول: هناك فلاسفة عرب في الوقت الحاضر؟
ج: يعني كل مَن يدخل في هذا التيار، في الحركة الإصلاحية مثل الأفغاني ومحمد عبده والكواكبي والسنوسي والمهدي ورشيد رضا وسيد قطب، وكل هذا التيار الذي يدخل ضمن الإصلاح الديني، وكذلك التيار العلمي الذي بدأه شبلي شميل وصار فيه يعقوب صنوع ونقولا حداد وإسماعيل مظهر وزكي نجيب محمود وسلامة موسى وفؤاد زكريا، هؤلاء أيضًا فلاسفة، والتيار الليبرالي الذي بدأه الطهطاوي وسار فيه لطفي السيد والعقاد وطه حسين. فلا فرق بين الفيلسوف والمُفكر وصاحب الرأي الذي يحاول أن يؤصل تيَّارًا يخدم به قضيةً اجتماعيةً أو سياسيةً أو ثقافية. وبهذا المعنى لكلمة المُفكر هي التي نقصدها عندما نقول لدينا فلاسفة.
س: على هذا الأساس من التعريف، فإن إسهامات المُفكرين العرب غير واردة، فكيف نقيم مساهمة المُفكرين العرب في التيارات الفكرية المعاصرة؟
ج: هذا صحيح، فعندما نقول: فلاسفة عرب معاصرين؛ فإننا نعني بهم ممثلين لروافد التيار الغربي، فلدينا مثلًا فلاسفة، ماركسيون، وجوديون، مثاليون، بنائيون، وكلهم يمثلون مذاهب في الفلسفة الغربية، وأقرب إلى الوكلاء في الفلسفة الغريبة، ومن ثَم لا أسمي هؤلاء فلاسفة، بل ولا حتى مذاهب غربية في واقعنا، فلا هي مؤصَّلة في القديم ولا هي نابعة من مجتمعهم. والفيلسوف هو كل الذي يحاول أن يُطوِّر تيارًا قديمًا لدينا في فكرنا المعاصر، أو الذي يحاول أن يُجدِّد أصول الفقه أو التصوف أو أصول الدين، فكل الذي يحاول أن يتَّحد بالواقع وأن يعيش تجربته وأن يُنظِّره هؤلاء أيضًا مُفكرون، كل هؤلاء الذين ينقدون الغرب، لا الذين ينشرون ثقافة الغرب، الذين يأخذون موقفًا نقديًّا من الغرب ويدرسون الفلسفة الغربية داخل إطار البيئة. وأنا أرى أن الفيلسوف المعاصر لدينا عليه ثلاث مهامَّ رئيسية، هي أولًا: موقف من القديم وتطويره. ثانيًا: موقف من الغرب ونقده. ثالثًا: موقف من الواقع وتنظيره.
س: لكن كيف تنشأ العلاقة الصحيحة ما بين المُفكر وواقعه من ناحية، مع عدم انفصاله أو تبعيته للفكر الغربي أو التراث؟
ج: إذا كان المقصود هو حماية الواقع من أيِّ تشويه نظري له، سواء من القدماء أو المُحدَثين من أجل إفساح المجال للمفكر العربي في الاتحاد بالواقع وتنظيره، فيجب على المُفكر تطهير رؤيتنا للواقع من آثار الفكر الغربي بتحجيم الغرب؛ رده إلى داخل حدوده، رفع كل الأغطية النظرية التي أتتنا من الغرب لتفسير واقعنا. ولا نحاول أن نفهم واقعنا من منظور رأسمالي، اشتراكي، علمي، وضعي، مثالي، ماركسي، هيجلي، كل تلك فرضيات نظريات غربية عن الواقع، وبالتالي تكون العلاقة هي تطهير العلاقة من هذه الإسقاطات. ونفس الشيء بالنسبة للقديم، فمهمَّة المُفكر الكشفُ عن المخزون النفسي في واقع الناس حاليًّا الذي رسب لديهم من التراث القديم، وتصفية ما يشكل عائقًا للتقدُّم من هذا المخزون، وإبراز ما يدفع إلى التقدم والتغيير. وسأعطي بعض الأمثلة؛ فإذا كنَّا قد ورثنا من التصوف القديم بعض قِيَم الزهد والرضا والتوكل والقناعة، مثل «الصبر مفتاح الفرج»، «القناعة كنز لا يفنى»؛ كل هذه الأشياء تمنع الناس أحيانًا من التقدم والتغير. وظيفة المُفكر أن يُخلِّص الثقافة الوطنية من هذه القِيَم السلبية، ودفع قِيَم أخرى تدعو إلى الثورة والتمرد والغضب حتى تستطيع المجتمعات أن تتحرك وتتقدم. ومثال آخر في علم العقائد؛ فنظرًا لضياع الأرض واستيلاء الصهيونية على الأرض ربما أركِّز على صلة الله بالأرض، كما هو واضح في القرآن الكريم (إله السموات والأرض) ورَبِّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، حتى أستطيع أن أضع الأرض كجزء من وعي الأمة وثقافتها. وهكذا أقول إن مهمَّة المُفكر هي، بالنسبة للتراث، القضاء على ما يعوق تقدُّمنا وتغييرنا للواقع، مع دفع العناصر المخزونة في التراث القديم، والتي تساهم في قضايا التغيير والثورة الاجتماعية.
س: تُثار الآن وبشكل واسع جدًّا مسألة أزمة الفكر العربي المعاصر، فما رأيكم فيما يُثار وما هي أسباب تلك الأزمة؟
ج: ما يُقال عن أزمة الفكر العربي هو تجنٍّ. صحيحٌ أن الشجاعة مطلوبة، ولكن فرق بين نقد الذات وتعذيب الذات، فنحن في فترة انتقال بين القديم إلى الجديد، ومن التخلف إلى التقدم. ولطبيعة هذه المرحلة التاريخية هناك ما يُسمَّى بالأزمة، وتتلخَّص في أن النهضة التي بدأت منذ قرنَين من الزمان بدأت تتلاشى، وبدأ القوس في الانهيار؛ فمن الأفغاني إلى محمد عبده ورشيد رضا إلى حسن البنا، القوس صعد لكي ينزل. ومن الطهطاوي إلى لطفي السيد إلى طه حسين إلى التغييب الحالي ونقد الليبرالية والقضاء على الحريات، هنا أيضًا القوس نزل بمجرَّد أن صعد. وكذلك أيضًا من شبلي شميل ويعقوب صروف ونقولا حداد وسلامة موسى وإسماعيل مظهر وزكي نجيب محمود إلى ما يُسمَّى بالعلم والإيمان، وأن العلم لا بدَّ أن يهدف إلى خدمة الإيمان. ومن ثَم فإن فترة النهضة الحالية التي عشناها من قرن انقلبَت إلى ضدِّها، كما أن الثورة المصرية انقلبَت إلى ضدِّها أيضًا. وكأن كل نهضة وكل ثورة تحتوي على عناصر النهضة والنهضة المضادة. هذه هي أزمة حقيقية ويكون السؤال: ما هو السبب في أن هذه النهضة سرعان ما ولدَت نهضةً مضادةً وترسَّبَت؟ ربما لأن النهضة لم تنشأ بشكل جذري، وأن الإصلاح الديني كان نسبيًّا. كان في التعليم والمؤسَّسات ولم يتناول أُسس العقائد التي ما زالت راسخةً في أذهان الناس، كذلك النهضة عند الليبراليين والعلمانيين؛ ربما كانت تعبيرًا عن مواقف مشابهة في الغرب ولم تكُن نابعةً من الذات. وبما أن النهضة لم تنقد القديم بشكلٍ كافٍ، وإذا كان أهمُّ ما يميز عصر النهضة في الغرب هو موقفه من القديم، ورفض أيِّ مصادر مسبقة للمعرفة، واعتبار الحسِّ والعقل هما مصدران للمعرفة، والتي تنشأ من خلال جهد الإنسان الخاص وليس مصدرها السُّلطة الكنيسة وأرسطو؛ فنحن لم نمرَّ بمرحلة نقد الموروث، وما زلنا نعتمد على التقاليد ونقول: قال الرئيس … قال الوزير … إلخ. ولم نأخذ علمنا من مصادر الطبيعة ككتاب مفتوح للعقل والحس. وطالما إننا لم نتوجَّه إلى نقد القديم، فلن يبدأ الجديد ولن ينشأ الفكر.

وسبب آخر؛ هو غلبة مناهج النقل علينا. وبصرف النظر عن الأيديولوجية، فالسَّلَفي ينقل من الفقه القديم، والماركسي ينقل من الماركسية التقليدية الأوروبية، والليبرالية تنقل عن جون ستيوارت مل … وهكذا، ولم يحاول أحدٌ أن يبدع. وسببٌ أخير؛ هو أننا لم نأخذ الواقع كمصدر للمعرفة، فمعرفتنا تبدأ بنظريات مسبقة، ولكن لكي ننظر للواقع فلا بدَّ من معايشة الواقع والمجتمع وتحليله، ثم بعد ذلك محاولة الإبداع والتنظير للفكر والاتجاه.

س: إلى أيِّ حدٍّ يؤثِّر التضييق على حريات المُفكرين والبحوث العلمية في أزمة الفكر العربي؟
ج: أسباب أزمة الفكر العربي ليست في الجامعة فقط، بل يمتدُّ الأمر إلى المدارس وأجهزة الإعلام وإلى الأُسرة … إلخ. ولا يوجَد تعليم منفصل عمَّا يُسمَّى مشروعًا قوميًّا، يعني أن الأمة تصوغ مشروعًا قوميًّا ذا مراحل يتحقَّق جيلًا بعد جيل، أو أن يكون هنا هدفٌ قومي. فالتعليم ليس مجرَّد معرفة، بل معرفة مرتبطة بقضايا مصيرية، والعلم الخالص الذي لا وطن له ولا هدف له لا وجود له. ومن ثَم فإذا كانت قضايانا المصيرية الحالية تتركز في أربع قضايا؛ تحرير الأرض التي ما زالت محتلة، القضاء على الفقر والتفاوت بين ما يملكون ومَن لا يملكون، قضايا الحرية والديمقراطية في مواجهة النُّظم الدكتاتورية والتسلطية، وقضية توحيد الأمة بدلًا من هذا التفتيت والتشرذم والاختلاف والتضارب والتقاتل والصراع. وربما كانت هناك قضية أخرى، هي تجنيد الجماهير وتحويل هذا الكمِّ الهائل من الملايين إلى كيف. ونحن نعلم أن ٣ ملايين يستطيعون أن يضعوا مليونًا تحت السلاح في ٤٨ ساعة، ونحن أكثر من ١٨٠ مليون عربي، وحتى الآن لم يتحوَّل هذا الكَمُّ إلى كيف. وبينما كان يجب أن ترتبط مناهج التعليم حتى العلوم الطبيعية بهذه القضايا حدث العكس؛ جرَّدنا العلم وقطعناه عن هذه القضايا القومية، ومن ثَم تحوَّل إلى علم ميِّت بلا وطن، واتبعنا منهج الحفظ والتلقين، وبحشو الطالب في ذهنه بمعلومات غير مرتبطة بقضاياه المصيرية. وبمجرَّد أن يتخرَّج ويحصل على شهادة يتحول إلى موظف وينسى كل شيء، أو قد يهاجر ليكسب أكثر. والكل رضي بذلك؛ الدولة لأن بها أكبر قدْر من خريجي الجامعة، والجامعة رضيَت لأن العام الدراسي مرَّ بدون مظاهرات، والأساتذة راضون لأنهم باعوا الكتب المُقرَّرة، والطلبة راضون لأنهم حصلوا على الشهادة. وبالتالي، فهناك نوع من الاتفاق العام. ولا طرف يهتمُّ بإبداع العلم، الطالب، لأنه سيُجهد عقله في جوٍّ لا يساعد على الاجتهاد، وسيضايق الجامعة لأنه ما دام الطالب قد فكر وأبدع فقد يتعرض لقضايا مصيرية، وهو سوف تراه الدولة مصدر قلق وتهديد لنظامها. ومن ثَم فهناك ارتباط وثيق بين العلم والقضايا المصيرية، بما يجعل منهج الإبداع ضروريًّا، وترك الطالب يختار بين عددٍ من القضايا، وطرح كل البدائل أمامه ومساعدته على الاختيار، بالإضافة إلى وجود اتحادات طلابية حرة يستطيع الطالب من خلالها أن يمارس حياته خارج المدرج ويمارس حياته العلمية في مُدرَّج الجامعة.
س: إلى أيِّ حدٍّ تظهر تلك الأزمة في أقسام الفلسفة؟
ج: قسم الفلسفة لا يختلف عن قسم التاريخ والاجتماع، فالقضية واحدة بغضِّ النظر عن الأقسام، هي قضية الدولة نفسها والمجتمع ككل. فلماذا البكاء على الجامعة وعلى ضياعها، والدولة كلها قد ضاعت، والأمة نفسها قد ضاعت، والمشروع القومي نفسه قد ضاع من كيان الأمة.
س: سؤال أخير عن دَور الفكر العربي في الوقت الراهن في قضايا أمته ومجتمعه المصيرية.
ج: للمُفكر الطليعي دَوران؛ علمي بمعنى أن يحاول قدْر الإمكان أن يرى دائرة صغيرة، جماعة علمية قادرة على أن تستمرَّ في العلم، وهذه مهمَّة الدراسات العُليا، المدارس الفكرية، مراكز البحوث العلمية، لبناء كوادر علمية في كل فرع حتى نستطيع أن نؤسِّس فيما بعدُ الدولةَ على أُسُس علمية. والدَّور الثاني هو النضال الاجتماعي؛ بأن يتحوَّل الدَّور العلمي من البثِّ إلى رسالة اجتماعية في قالب عام جماهيري، وبمخاطبة الجمهور العريض الواسع، والمساهمة في زيادة وعيه العلمي. فالعلم المرتبط بالقضايا المصيرية هو علم اجتماعي وطني، وبالتالي كان على الفكر أن يخاطب الجماهير من خلال المجلات وأجهزة الإعلام والصحف والمنتديات العامة والمحاضرات الشعبية حتى يستطيع أن يُنمِّي الوعي العلمي المرتبط بالوعي الوطني، وحتى لا يُقال إن الفكر يعيش في برجٍ عاجيٍّ أو صومعة، ولكنْ أن يكون له دَور أساسي فيما يتعلَّق بزيادة الوعي العلمي والوطني للمجتمع. بالإضافة لذلك، يجب أن يكون المُفكر قدوةً في الأمانة والشرف مع الالتزام بقضايا المجتمع وأن يرفض أن يكون في ركاب السلطان، عليه أن يكون في المقدمة، أن ينير الطريق لا أن يُبرِّر، يرشد لا أن يصفق، ويُعبِّر عن الإرادة الجماهيرية والوعي الشعبي العام أكثر مما يُعبِّر عن الحكام.

(د) أين الفلاسفة العرب؟٥

– هل يوجَد، حاليًّا، فلاسفةٌ عرب؟

• هذا يتوقف على تعريف الفيلسوف. عندما يُطرَح هذا السؤال يتبادر إلى الذهن فورًا معنى الفيلسوف في الفلسفة الغربية؛ أيْ صاحب النظرية وواضع المذهب أو مؤسِّس الاتجاه؛ ذلك أنه حدث في أوروبا عصر النهضة رفضٌ للقِيَم القديمة، واستُبدِلَت بنظريات وآراء، وأصبح الفيلسوف، في هذا الاتجاه، فيلسوفًا مثاليًّا مثل ديكارت وكانط وهيجل، أو فيلسوفًا وجوديًّا مثل كيركجارد وهيدجر وسارتر.

أمَّا بالنسبة إلينا فلم يحدث حتى الآن أن أسقطنا الغطاء النظري القديم. وما زالت العقائد الموروثة تفسِّر لنا العالم، وتُقدِّم أجوبةً إلى الواقع المُعاش. نتيجةً لذلك، لا يمكن أن ينشأ عندنا فيلسوف؛ لأنه هو الذي يجد بديلًا عن المرفوض من الموروث، ونحن لم نرفض بعد. ولكن كل مُفكر، في رأيي، يحاول أن ينقد القديم يساهم في إنشاء نهضة فكرية جديدة، وهو لذلك يُدعَى الفيلسوف. على هذا الأساس يمكن اعتبارُ الأفغاني فيلسوفًا؛ لأنه نقد التراث القديم وأسَّس الحركة الإصلاحية. وكان محمد عبده ومحمد إقبال ورفاعة الطهطاوي فلاسفة؛ لأنهم نظَّروا لحركة فكرية جديدة. ولا ننسى شبلي شميل الذي دعَا إلى فلسفة العلم. جميع هؤلاء هم فلاسفة لأنهم مُصلحون ومُجدِّدون في الفكر العربي في القرن التاسع عشر. إنهم حاولوا نقل المجتمع من حالة إلى أخرى، وهذا هو المعنى الحقيقي للقَب فيلسوف.

– بناءً على ما تقول، هل يمكن العثورُ على فلاسفة عرب في الوقت الراهن؟

• نعم إذا اعتبرنا كل مَن ينتمي إلى الحركة الإصلاحية فيلسوفًا، مثل الأفغاني والكواكبي ومحمد عبده والسنوسي والمهدي ورشيد رضا وسيد قطب، أيْ كل مَن يدخل تيَّار الإصلاح الديني. ويُعتبر فيلسوفًا كلُّ مَن ينتمي إلى التيار العلمي الذي بدأه شبلي شميل وتابعه يعقوب صروف ونقولا حداد وإسماعيل مظهر وزكي نجيب وسلامة موسى وفؤاد زكريا. أو مَن ينتمي أيضًا إلى التيار الليبرالي الذي بدأه الطهطاوي وسار فيه لطفي السيد وعباس محمود العقاد وطه حسين. لا فرق إذَن بين الفيلسوف والمُفكر وصاحب الرأي الذي يحاول أن يُوصل تيَّارًا يخدم به قضيةً اجتماعيةً أو سياسيةً أو ثقافية. الفيلسوف عندنا هو المُفكر.

– كيف يمكن الكلامُ على إسهام المُفكرين العرب في التيارات الفلسفية المعاصرة، وهم ينتمون إلى الفكر الغربي أكثر ممَّا ينتمون إلى الفكر العربي؟

• هذا صحيح، فحين نقول: فلاسفة عرب معاصرون، فإننا نعني بهم ممثلين لروافد التيار الغربي، لدينا مثلًا فلاسفة ماركسيون ومثاليون ووجوديون، وجميعهم يمثلون مذاهب الفلسفة الغربية. إنهم أقرب إلى وكلاء الفلسفة أو وكلاء الغرب، وأنا لا أسميهم فلاسفة بالمعنى الحقيقي. الفيلسوف، في رأيي، مَن يحاول أن يُطوِّر تيَّارًا قديمًا في فكرنا العربي، أو الذي يحاول أن يُجدِّد أصول الفقه أو التصوف أو أصول الدين. من هنا فإن الفيلسوف العربي المعاصر مَن يتَّخذ موقفًا من القديم العربي ويُطوِّره، وموقفًا من الفكر الغربي وينقذه، وموقفًا ثالثًا من الواقع المعاش فينظر له.

– كيف تتصور علاقة المُفكر العربي بمجتمعه من غير أن يقع في تبعية الغرب؟

• إذا كان المقصود حماية الواقع العربي من أيِّ تشويه نظري، فيجب على المُفكر أن يطهر رؤيته مبتعدًا عن تأثيرًا الفكر الغربي. يجب رفعُ كل الأغطية النظرية التي أتتنا من الغرب وفسَّرنا من خلالها واقعنا؛ ذلك أنه لا يمكن فَهمُ الواقع العربي من خلال المنظور الرأسمالي أو الاشتراكي أو العلمي أو الوضعي أو المثالي … إلخ.

وفي المستوى نفسه يجب نقدُ الموروث، وإظهارُ ما فيه من حسنات تسهم في تطوير حياتنا، والتخلي عن سيئاته التي باتت عبئًا يمنع تقدُّم مجتمعاتنا. من هذه السيئات بعض الأفكار المتوارثة مثل «الصبر مفتاح الفرج»، و«القناعة كنز لا يفنى» … إلخ. هذه الأفكار وسواها كثير تمنع الناس من التقدم. ووظيفة المُفكر أن يُخلِّص الثقافة العربية من القِيَم السلبية؛ بُغيةَ إبراز قِيَم أخرى تدعو إلى الثورة والتمرد لكي تستطيع المجتمعات أن تتحرك وتخطو إلى الأمام.

– تُثار حاليًّا مسألة أزمة الفكر العربي، ما هي أسباب الأزمة في رأيك؟

• إننا نعيش فترةً انتقاليةً من القديم إلى الجديد، والأزمة هي في طبيعة هذه المرحلة التاريخية، التي تتلخَّص في أن النهضة العربية التي بدأت قبل قرنَين، باتت في حُكم التلاشي. كأن كل نهضة تحتوي على عناصر مضادة تتحول فيما بعدُ إلى أزمة. لماذا هذا التلاشي؟ ربما لأن النهضة لم تتأسس جذريًّا، والإصلاح الديني كان نسبيًّا، فلم يتناول أُسُس العقائد التي ما زالت راسخةً في أذهان الناس، والفلاسفة الليبراليون والعلمانيون لم تكُن أفكارهم نابعةً من الذات ولا هم انتقدوا الموروث نقدًا كافيًا. وإذا كان أهمُّ ما يميز عصر النهضة الأوروبية هو الرفض لأيِّ مصدر من مصادر المعرفة المسبقة، واعتبار العقل مصدرًا وحيدًا للمعرفة، فنحن لم نمرَّ بعدُ بمرحلة نقد الموروث، وما زلنا نعتمد على التقاليد، وطالما لم نتوجَّه إلى نقد القديم فلن يبدأ الجديد، وبالتالي لن ينشأ فكر جديد.

– ما هو دَور المُفكر العربي في تخطي هذه الأزمة؟

• للمُفكر العربي الطليعي دَوران؛ الأول أكاديمي يسهم في تطوير مناهج التدريس وإرساء قواعد للمدارس الفكرية ومراكز البحوث العلمية تسهم في نهضة وطنية. والدَّور الثاني هو في التوجُّه إلى الجمهور العريض بُغيةَ توفير الوعي العلمي والفكري لدى رجل الشارع وربط هذا الوعي بالقضايا المصيرية. ولا يتمُّ هذا بمعزل عن استخدام وسائل الإعلام السمعية والبصرية والمقروءة. بذلك ننقذ الفكر من برجه العاجي، ويصبح المُفكر قدوةً في الشجاعة والوطنية والالتزام بقضايا أمته ووطنه ومجتمعه.

(ﻫ) التجسُّس العلمي في مصر٦

الهدف: إعادة تشكيل العقل المصري حسب احتياجات أمريكا وضرب الباحثين الوطنيين.

لماذا الإسلام؟ يُعلَّل الاهتمام الغربي، في مجال البحوث المشتركة، بالإسلام والتيارات الدينية بالآتي: منذ بدايات انحسار الثورة العربية، خاصةً بعد هزيمة ١٩٦٧م، والنجاح النسبي أو الفشل الذي لاقته حركات التحديث العلمانية مثل الشيوعية في محيط التقاليد الليبرالية، ومنذ حصار الأحزاب والعقائد الموروثة، بحيث جعل تحرُّكها صعبًا، وفي نفس الوقت اضطهاد الجماعات الإسلامية في شتَّى أنحاء العالم الإسلامي من الفلبين شرقًا إلى المغرب غربًا، ومن تركيا شمالًا إلى السودان جنوبًا، تكاتفَت كل هذه العوامل لطرح سؤال: ما العمل؟ وما البديل؟ وبعد اندلاع الثورة الإسلامية في إيران التي أخذَت الغرب غرَّة، وازدياد نشاط الجماعات الإسلامية في كل مكان، والرغبة الشعبية العارمة للعثور على ملجأ وملاذ يجدونه في الدين وفي التراث، بدَا الدين كأنه القوة المُحرِّكة للشعوب، مهما كان ما يبدو على السطح من تحديث علماني غريب يدلُّ على خلاف ذلك. رأى الاستعمار الذي نجح في إجهاض الثورة العربية في الستينيات وتحويلها إلى ثورة مضادة في السبعينيات، أن يتصدَّى لاحتمال إقالة الكبوة عن طريق اللجوء إلى الدين، خاصةً أن مُقوِّمات نجاحه بادية مثل التحامه بالثقافة الوطنية للناس، مقاومة العلمانية، وجود جماعات نشطة مدنية وعسكرية، جو عام من السخط على الهزائم المتكررة ومظاهر الانحلال. ويقوم الغرب الآن بعِدَّة محاولات لاحتواء هذا المدِّ الإسلامي الجديد، منها:
  • (١)

    إعطاؤه طابعًا محافظًا تقليديًّا (صعوديًّا)، حتى تأمن مخاطره كحركة تغيير اجتماعي قادمة.

  • (٢)

    اتِّهام الحركة الإسلامية الرافضة للإسلام المحافظ بالشيوعية أو الخومينية.

  • (٣)

    تقديم الطائفية كبديل للمدِّ الإسلامي، فليس المدُّ المسيحي أو اليهودي أو الدرزي أو العلوي بأقلَّ أهميةً من المدِّ الإسلامي العام. لذلك يحاول الغرب مع العالم الإسلامي كله لمعرفة المُقوِّمات الرئيسية للحركات الإسلامية المعاصرة ومستقبلها حتى لا يؤخَذ على غرَّة، كما حدث في إيران وحادث المنصة، خاصةً أن المدَّ الإسلامي هذه المرة قد يعيد الحياة لمشروع الثورة العربية المُجهَضة.

إنهم يخترقون مصر: بالرغم من توافر الكثير من المعلومات الدقيقة في الغرب ومراكز بحوثه وأقماره الصناعية وجميع وسائل استخباراته الحديثة الموجهة نحو المناطق الساخنة في العالم (أمريكا اللاتينية، المنطقة العربية، آسيا)، إلا أنها تحليلات كَمِّية صِرفة لا تستطيع أن تكون رؤيةً محليةً خاصةً بكل المنطقة، وبالتالي تخرج مفاجآت بين الحين والآخر تُبين حدود التحليلات الكَمِّية للمعلومات (الثورة الإسلامية في إيران، حرب أكتوبر ١٩٧٣م، حادث المنصة، أكتوبر ١٩٨١م) لذلك كان اللجوء إلى الباحثين المحليين، وبوجه خاص الوطنيون الذين في نفس الوقت على مستوى عالٍ من الكفاءة العلمية، ويشعرون بنبض الشارع، ولهم رؤية مستقبلية للأحداث. ولمَّا كان هؤلاء الباحثون لا يعملون بكل طاقاتهم في مراكز أبحاثهم والجامعات والمعاهد أو حتى في الأحزاب التقدمية في البلاد، وتحت ضرورات الحياة ومتطلباتها الملحَّة، وربما أيضًا طلبًا لمزيد من التسهيلات في البحث العلمي وتوافر المعلومات في الداخل والخارج لم يرَ الباحثون الوطنيون حرجًا في التعامل مع مراكز الأبحاث الأجنبية، وقبول ما يُعقَد عليهم من عقود. ويمكن تفادي ذلك بسهولة عن طريق إقامة مراكز بحوث وطنية تكون مصبًّا لخبرات الباحثين مع إعطائهم كافة التسهيلات والإمكانيات للاطلاع على المعلومات والوثائق المطلوبة أسوةً بالباحثين الأجانب الذين تفتح لهم البلاد ذراعيها، ومجازاتهم بمكافآت يستعينون بها على ضرورات الحياة. وذلك في إطار مشروع وطني عام من أجل إقامة مجتمع جديد على أساس البحث العلمي والدراسات الجادة.

(و) إصلاح الجامعة٧

  • «لا سياسة في الجامعة» شعار غريب على تاريخ الجامعة المصرية.

  • لم يكُن أمام الطلاب إلا التصوف أو الدخول في التيار الماركسي، أو الوقوف موقف المُتفرج.

  • الحلم المُجهَض في قضايا المجتمع.

الجامعة المصرية نشأت على أنها جامعة رأي، وليست جامعة حفظ وتلقين، وهذه حقيقة تاريخية لا يمكن أن يُخفيَها أحد. ولكن هذا الدَّور الأساسي انعكس في الآونة الأخيرة، فلقد نشأت الجامعة بعد ثورة ١٩١٩م، وكان ذلك باكتتاب عام من خلال الحزب الوطني ومن خلال مدرسة الحقوق سنة ١٩١٧م، وتحوَّلت إلى جامعة وطنية سنة ١٩٢٥م. وأمام جامعة القاهرة النصب التذكاري لذكرى الشهداء، ومن الناحية الأخرى يربض تمثال نهضة مصر؛ أيْ إن نهضة مصر مرتبطة بذكرى الشهداء. إذَن محاولة تحجيم الجامعة في دَور البحث العلمي الضيق، ووضع شعار «لا جامعة في السياسة ولا سياسة في الجامعة» غريب عن تاريخ الجامعة المصرية التي قامت أساسًا من خضم ومن تحت الحركة الوطنية.

والجامعة المصرية، وكل الجامعات في الدول النامية لها دَوران أساسيان:
  • الأول: قيادة الحركة الوطنية.
  • والثاني: هو البحث العلمي التخصُّصي، وهذا وحده ترف لا يمكن أن ننعم به، بل إنه عبارة عن نقل لصورة الجامعات الأوروبية التي كانت في فترات مشابهة لفتراتنا، أيْ إبَّان عصر النهضة، وفي بداية نشأة القوميات الأوروبية تقوم بنفس الدَّور. وحدث أكبر اضطهاد للمُفكرين والعلماء في جامعات كمبريدج والسربون وغيرهما؛ نظرًا لانشغالهم بقضايا التحرُّر وقضايا النهضة بوجه عام. وعندما حصلت هذه الدول على استقلالها وحصلت على حريتها وأصبحَت حرية الفكر كالماء والهواء وليست محو الأمية فقط، وبعد القضاء على الأمية اللغوية ثم مرحلة أخرى للقضاء على الأمية الفكرية الحضارية، بعد ذلك بدأ البحث العلمي الدقيق المهني الذي يتحول فيه الأستاذ إلى عالِم متفرغ، نتيجةً لعملية أخرى هي عملية قيادة حرية الرأي وحركة الفكر وقيادة عملية التغيير والنقد الاجتماعي.
والجامعة المصرية بدأت طريقها بالشكل الصحيح، كانت جامعة وطنية تدافع عن حرية الرأي. وبعد الحصول على الاستقلال بدأت تأخذ دَورها كجامعة رأي. ورأينا طه حسين يخرج بكتابه «في الشعر الجاهلي» ناقدًا كل التقاليد والأوضاع القديمة، يسانده لطفي السيد عندما هُدِّد بالاستقالة، بعدما كثُرت الضغوط حول طه حسين، ولكنْ للأسف لم يجد أساتذة الجامعة المنقولون في حركة سبتمبر الماضي مَن يقف بجوارهم، بالرغم من أن قانون الجامعات المصرية لا يسمح بنقل عضو هيئة التدريس بغير الطريق التأديبي. وكان على وزير التعليم أن يستقيل وقتها، ولكن لسوء الحظ نموذج طه حسين ونموذج لطفي السيد لم يكُن بيننا. أقول: إن الجامعة كان لها دَور في الأربعينيات والخمسينيات، كانت جامعة رأي، وفي الستينيات كانت تقود البناء الاشتراكي، ولو أن ذلك كان بتوجيه من السُّلطة، وليس نابعًا من داخل الجامعة. والدليل أنه بعد أن تحوَّلَت مصر عن الخطِّ الاشتراكي، في بداية السبعينيات، لم نسمع عن هؤلاء الاشتراكيين وعن قياداتهم لمعارك الاشتراكية، ولكن الكل آثر الانزواء أو الخوف، وإمَّا إعادة العمل والتبرير والتأييد لما سُمِّي فيما بعدُ بالاشتراكية الديمقراطية.٨

إن الجامعة حدث بها أخيرًا نوع من التخلِّي عن قيادتها الوطنية، وأصبحَت خاويةً تمامًا من أيِّ نشاط طلَّابي يستطيع من خلاله الطالب أن يُعبِّر عن نفسه. ثم بعد ذلك نشكو من مشاكل الشباب؛ لأن الجامعة طوال الأربع سنوات لم تقدِّم للطالب شيئًا. لا اتِّحاد طلَّاب حُر ولا أساتذة أحرار ولا نقاش ولا عرض لجميع القضايا التي تشغل بال الشباب، واكتفت الجامعة بمجرَّد تحويل الطلاب إلى كَتَبة وحُفَّاظ كتب مُقرَّرة. الكل يجد نوعًا من السهولة، الطالب يحفظ وينجح، والأستاذ يكتب ويبيع. وفيه نوع من المصلحة العامة؛ أيْ إن كل واحد مصالحه محقَّقة، ولكنْ في النهاية البلد هي الخاسرة!

فالجامعة لم تعطِ الطالبَ الوسيلةَ لكي يتربَّى كمواطن، فيخرج الطالبُ وليس أمامه إلا ثلاثة سُبُل؛ إمَّا الإغراق في الدين، وذلك بدخول الجامعات الإسلامية التي انتشرت ووُجدَت وتربَّت في أحضان السُّلطة في بداية السبعينيات. والسبيل الثاني: التيارات الناصرية والاشتراكية. والثالث: الوقوف موقف المُتفرِّج، وهو ما تفعله الأغلبية من الطلاب! والطالب المخلص الذي كان يريد أن يَهَبَ نفسه لقضية لم يكُن أمامه إلا التيَّارَين، وبعد ذلك نشكو من مشاكل الشباب.

هذا هو جوهر مشكلة الجامعة، والعلاج سهل وبسيط، ولكن أين الأطباء؟! الروشتة تقول: استقلال الجامعة، والحريات الأكاديمية، ورئيس الجامعة لا بدَّ أن يتمَّ اختيارُه بالانتخاب، ليس فقط من الأساتذة ولكن اتحاد الطلاب، والعميد يكون بالانتخاب، ليس فقط من الأساتذة ولكن من مُمثِّلي الطلاب، حتى يمكن تمثيل الجامعة لدى الحكومة تمثيلًا ديمقراطيًّا، ولكن الذي يحدث الآن هو العكس؛ الحكومة هي التي تُمثِّل الجامعة!

ولا بدَّ من حرية تكوين اتحادات الطلاب، فمبنى الاتحاد الطلابي في أيِّ جامعة من جامعات العالم هو مبنى النشاط الطلابي، نجد فيه كل شيء من نشاط سياسي وثقافي وفني ورياضي واجتماعي، والطالب بالفعل يتكون من خلال ممارسة النشاط العام أفضل من تكوينه عن طريق محاضرة. لا يوجد شيء اسمه «لا سياسة في الجامعة»؛ فالطالب يتلقَّى العلم، صحيح، ولكنه أيضًا مُواطن؛ وبالتالي لا بدَّ أن يتكون على حرية الرأي وعلى احترام الرأي الآخر والتعرض للقضايا الوطنية ولا يخشى شيئًا، لأنه سيُسأل بعد ذلك في موقعه الانتخابي ليُبدي رأيه. فكيف ينتخب إذا لم تُعلِّمه الجامعة ما هي القضايا الوطنية العامة للبلاد؟

وطالما أن الجامعة لا تُعلِّم الطالب كيف يفكر وكيف يستدل وكيف يُحلِّل الواقع تحليلًا مباشرًا، وكيف يستقي معلوماته من الواقع بشكل مباشر، فإن رسالتها الأساسية ستضيع وهي تربية المُواطن. فالعلم هو تسليح الطالب بمنهج علمي تحليلي، وإعطاء الطالب أكبر قدْر ممكن من الجرأة على نقد القِيَم والتقاليد، فلا توجَد قِيَم ثابتة، ولا يوجَد شيء اسمه مَحكمة القِيَم، ولا يوجَد شيء اسمه الدفاع عن القِيَم الثابتة، فوظيفة الجامعة هي تغيير القِيَم ونقد القِيَم، فالقِيَم هي نبتُ أوضاعنا الاجتماعية. فإذا كنا مجتمعًا يرجو التنمية والتغير الاجتماعي، فلا يمكن أن يتمَّ ذلك بالدفاع عن القِيَم القديمة وهي بنت المجتمع القديم. ولكنْ لا بدَّ للجامعة أيضًا ألَّا تفصل القضية العامة عن القضية الخاصة؛ أيْ قضية تربية المُواطن عن قضية البحث العلمي، حتى لا نشكو بعد ذلك من مشاكل الشباب. وعلى حدِّ قول أحد الفلاسفة: إننا نثير الغبار ثم نشتكي بعد ذلك من عدم الرؤيا!

من الضروري الانتساب لقضية الوحدة الوطنية، وهي ليست بالمعنى الضيِّق؛ أي المصالحة بين الأقباط والمسلمين، ولكنها قضايا التنمية والبناء الاشتراكي. ولو تأملنا الفترة من سنة ١٩٦١م إلى ١٩٦٤م، وهي الفترة التي كانت البلد كلها مجنَّدة في المشروع الاشتراكي، لم نشهد أيَّ حادثة طائفية. وبالتالي عندما يغيب المشروع القومي، وينتهي الصراع ضدَّ الصهيونية والتخلف، وعندما تصبح قضايا الحرب والسلام القضية الرئيسية، وقضايا الغنى والفقر وعروبة ومصر وقضية الحرية عندما تصبح هذه القضايا حِكرًا لا يجوز لأيِّ مواطن التعرُّض إليها، والإنسان بطبيعته لا بدَّ أن ينتسب إلى قضية، فلا يجد أمامه إلا عِدَّة أشياء: أنا صعيدي بحراوي … أنا مسلم قبطي … أنا أهلاوي زملكاوي … أي التعصب لمبدأ مُعيَّن، وهو ما يُسمَّى بالتعصب المرضي الذي ينشأ لغياب الأحزاب السياسية، وهذا حقُّه الطبيعي ما دامت الطاقة غير مُصرفةً تصريفًا طبيعيًّا في الرأي المضادِّ من أجل قضية عامة.

إن الباب لا بدَّ أن يُفتَح على مصراعيه أمام المواطنين والجامعة بصفة خاصة؛ للتحدث والنقاش في قضايا مصرية، مثل قضية الوحدة الوطنية، وأن هذا البلد بلد الجميع وليس بلد فئة، قضايا الحرب والسلام، قضايا الغنى والفقر؛ أن الشارع الذي أسكن فيه أصبح فيه عشرون مليونيرًا؛ لأنهم يبنون عماراتٍ لا يقلُّ ثمن الواحدة منها عن ٢ مليون جنيه، قضية الحرية، قضايا الانحياز، قضية عروبة مصر، كل ذلك أهمُّ من قضايا الإسكان والمجاري. صحيحٌ أن هذه القضايا مهمَّة، ولكن المواطن أساسًا بثقافته الوطنية واتجاهاته الوطنية لا بدَّ أن يبني. ومصر مستعدَّة لأن تربط الحزام من جديد في سبيل مشروع قومي. باشوات مصر في أيام الخديو إسماعيل ذهبوا لإسماعيل وقالوا له: لا تنزعج من الدَّين؛ نحن مستعدون لدفع دَين مصر في سبيل الحفاظ على استقلال مصر. ولكنْ يا للأسف! باشوات هذه الأيام مستعدون لبيع مصر من أجل المال، ونحن نسمع يوميًّا عن عمليات التهريب والتجارة والأطعمة الفاسدة من أجل حفنة ملايين!

ولكنْ أقولها حقيقة؛ منذ أكتوبر الماضي أشاهد يقظةً للوعي القومي، وهناك حماس حتى من المصريين المقيمين في الخارج استعدادًا للعودة والبدء مرةً أخرى في بناء مصر، وعلى استعداد للتضحية فقط مع العودة إلى المشروع الوطني الذي حدَّدَه جمال عبد الناصر مرتبطًا ارتباطًا شديدًا بتراث مصر.

(ز) الوحدة العربية٩

للوحدة أساسان؛ أساس مادي وأساس عقائدي. الأول دون الثاني يكون مجرَّد تبادل مصالح، وعادةً ما تكون الأنظمة الحاكمة، والثاني دون الأول يكون مجرَّد شعار بلا مضمون. الوحدة جسد وروح، ولا بقاء لأحدهما دون الثاني، وإلا كان الموت في الدنيا قبل المعاد في الآخرة.

ويتمثَّل الأساس المادي للوحدة في حرية انتقال المواطن العربي من بلد عربي إلى آخر بلا تأشيرات دخول أو تحويلات للعملة أو صكوك براءة أو توصية من ملك أو أمير، ودون الوقوف بالساعات، بل الأيام، على الحدود، تحت شعار أمة عربية واحدة في يافطة مكتوبة وكأن المُواطن مهرِّب حشيش أو عملة، وكأنه مجرم يبغي القتل وسفك الدماء. كما يتمثَّل أيضًا في رفع كل الحواجز والقوانين التي تمنع من حرية تبادل المصالح بين الشعوب، تبادل البضائع والمنتجات علنًا بدل التهريب ودون خوف من انتقال الثروة من مكان إلى مكان، فالحسن أخو الحسين، بالإضافة إلى المصاهرة والتزاوج القائم على الحبِّ والاحترام والتقدير. هكذا انتشر العرب القدماء، وخرجوا من الجزيرة العربية إلى آسيا شرقًا وأفريقيا غربًا، عبر البحار والفيافي من أجل التجارة التي تبعَتها المصاهرة واختلاط الدماء وتداخُل الأنساب. انتقلوا من مكان واستقروا في مكان آخر، وُلِدوا بمنطقة وماتوا في أخرى، حملوا معهم عقيدة التوحيد. ويظهر الأساس المادي أيضًا في حرية تبادل الكتب والصحف والمجلات بلا قيد وشرط أو رقيب أو مُراجع، وكأن الكلمة مِدفع والعبارة مُصفَّحة يُخشى منهما على النُّظم القائمة. إن نشر الأفكار وإجراء الحوار المتبادل حول قضايا الوطنية لهُو السبيل للعثور على وحدة الإشكال ووحدة الحلول، ووحدة الرؤية والتصور، فتضيع المخاوف وتتبدَّد الشكوك، وتعلم الأنظمة أنه ليس في حرية الفكر خطر على الإيمان أو سلامة الدولة، بل إن القضاء على حرية الفكر فيه تهديد للإيمان ولسلامة الدولة ذاتها. ويُضَمُّ إلى ذلك ربط العواصم العربية ومرافئها ومدنها بشبكة من الطرق السريعة والاتصالات السلكية واللاسلكية، حتى يمكن أن ينطلق المواطن من عاصمة إلى عاصمة أخرى في يومها بل ساعتها، وأن يطلب من المشرق أخاه في المغرب من الهاتف في منزله مباشرة دون انتظار الساعات الطوال يكفر الإنسان بعدها بالوحدة!

بلادنا من المحيط إلى الخليج متكاملة، تتركَّز القُوى البشرية في بلد، والأراضي الزراعية في بلد آخر، والأموال والاستثمارات في بلد ثالث، فالمال وحدَه بلا أرض وبشر يُنفَق على موائد القمار ويُودَع في البنوك الأجنبية لتعمير الغرب وإسرائيل. والقُوى البشرية وحدها تهاجر بحثًا عن الرزق في البلدان العربية كغرباء، وفي البلدان الأوروبية كأُجراء. والأراضي الزراعية وحدها بلا زرع أو حرث يصبح خواءً بورًا. حياة المنطقة إذَن في وحدتها وموتها في تجزئتها.

ولا خوف على النُّظم من ذلك، فليحكُم مَن يشاء بأيِّ نظام يريد، ولتتعارك النُّظم فيما بينها، ولكن مصالح الشعوب ومصلحة الأمة تظلُّ خارج الخصومات الوقتية والنزاعات السياسية. بهذه الطريقة تُصنَع الوحدة، وحدة المصالح والاتصال بين الشعوب. أمَّا التفكير في الوحدة السياسية وحدة العلم والنشيد والنظام السياسي والمقعد في الأمم المتحدة، فذلك وضع للعربة أمام الحصان.

وفي نفس الوقت الذي فيه يتحقَّق هذا الأساس المادي للوحدة يتمُّ إعدادُ الشعب بمفاهيم الوحدة، وفي مقدمتها «التوحيد»، فالوحدة ليست مفهومًا عرقيًّا، بل هي مفهوم لغوي إنساني. العروبة هي اللسان. والقرآن عربي، والأمة عربية، والوحدة مبدأ إنساني يحرِّر الوجدان الإنساني بفعل الشهادة من الخوف والنفاق والازدواجية، ويحرِّر المجتمعَ الإنسانيَّ من الطبقة والتفاوت في الدخول، ويحرِّر الإنسانية كلها من شتَّى مظاهر التفرقة العنصرية وويلات الحروب، فالبشر جميعًا أمام المبدأ الواحد سواء. ولمَّا كانت الجماهير عربية اللسان توحيدية العقيدة، تنعكس لديها وحدانية الله في وحدة المجتمع إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ، هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ، فلا تحتاج الجماهير إلى قلب في مفاهيمها واستلاب لثقافتها وإغراق لها في متاهات التحديد النظري لمفاهيم القومية التي يختلف عليها المُنظِّرون غربًا وشرقًا. جماهيرنا وحدوية بثقافتها كما هي وحدوية بمصالحها.

١  على هامش المؤتمر الفلسفي العربي، عرض وفاء أحمد، جريدة صوت الشعب، ١٥ كانون الأول (ديسمبر)، ١٩٨٣م، عمان. والعبارات الأربعة الأولى من تلخيصها.
٢  على هامش المؤتمر الفلسفي العربي، أجرى اللقاء وفاء أحمد، صوت الشعب، ١٢ كانون (ديسمبر)، ١٩٨٣م، عمان. والعبارتان الأوليان من تلخيصها.
٣  صدرت الصحيفة حديثها بالفقرة الآتية:
الدكتور حسن حنفي ذو باعٍ طويل في التنظير للمجتمع العربي من خلال خبراته الطويلة، في مصر وغيرها، مع الاتجاهات التي تُكوِّن تنوُّعات هذا المجتمع الممتدِّ من اليمين إلى اليسار. ومع أن الدكتور حنفي يُدرِّس في الجامعات الأكاديمية «هو الآن يُدرِّس في كلية الآداب والعلوم والمجتمعات بحضرها وقُراها وبدوها. والأهمُّ من ذلك تلك الخبرة الطويلة بحاجات الفرد العربي الحضارية التي تجمع بين متطلبات العصر الحديث المتغير وبين الإرث الثقافي الإسلامي والقومي».
٤  جريدة الرأي، ١٠ / ١٢ / ١٩٨٤م، عمان. وهذه العبارات الأربع من اختيار الجريدة. وقد قامت بالتصدير الآتي:
الدكتور/حسن حنفي هو واحد من أبرز المُفكرين العرب وأكثرهم جرأةً في تناول قضية التراث وإعادة طرح مفاهيمها في صورة تلائم العصر، وتطمح إلى استشراف آفاق المستقبل من خلال اكتشاف مخزون الماضي الحي في وجدان الجماهير. إنه مُفكر أصيل، وله سعي دءوب لاكتشاف وتجديد الفكر الإسلامي وتنقيته من الشوائب وإعادة طرحه كنظرية ثورية وقوة دائمة لحركة الشعوب العربية. وقدَّم رؤيته النظرية في كتابه الهام «التراث والتجديد»، وكتابه «من العقيدة إلى الثورة».
وإذا كان هناك خلاف مع الدكتور حسن حنفي، فهذا الخلاف ليس في مضمون النضال من أجل نهضة شاملة لشعوبنا، ولكن حجم اللقاء والاتفاق من أجل الثورة والتقدم أقوى من أيِّ خلافات شكلية أو فكرية.
وفي اللقاء يُحدِّد الدكتور حسن حنفي رأيه في مشكلات الفكر العربي والنقاش الدائر حول الفلسفة العربية المعاصرة ودَور الفكر العربي.
٥  الوطن العربي، العدد ٣٦٨، وقد صدَّر المراسلُ الحديثَ بالفقرة الآتية:
د. حسن حنفي من أبرز المُفكرين المصريين الداعين إلى تجديد الفكر العربي، عن طريق الموروث والنظر في التراث. وهو لا يرى نهضةً جديدةً في فكرنا الراهن من دون أن نتخطى النظريات الفلسفية الغربية، والتي أثبت الزمن عدم جدِّيتها في النظر إلى مجتمعاتنا العربية. في حديثه من «الوطن العربي» يتناول تعريف الفيلسوف وحاجة الفكر العربي إليه، كما يتكلم على دَور المُفكر العربي في تخطي الأزمة الحالية.
٦  تحقيق عن التجسُّس العلمي في مصر، أجراه رفعت سيد أحمد بجريدة الشعب، ١١ / ٩ / ١٩٨٤م، القاهرة. والعبارة الأولى من اختيار المُحرِّر.
٧  حوار مع ماجدة الجندي، صباح الخير، العدد ١٣٦٢، بتاريخ ١١ / ٢ / ١٩٨٢م، القاهرة. والعبارات الثلاث من المُحرِّرة، وقد صدَّرَت الحديث بالآتي:
عاد الدكتور حسن حنفي، أستاذ الفلسفة بكلية الآداب جامعة القاهرة، إلى مكانه الطبيعي، أستاذًا في الجامعة. والدكتور حسن حنفي من المؤمنين بأهمية دَور الجامعة في أيِّ مجتمع، وكذلك كان الحوار معه مثيرًا حول هذا الموضوع.
٨  استمرار الحوار مع عزت الشامي بصباح الخير، العدد ١٣٦٣، بتاريخ ١٨ / ٢ / ١٩٨٢م، القاهرة.
٩  طرابلس، ١٩٨٣م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤