مخاطر في سلوكنا القومي

إذا كانت «مخاطر في فكرنا القومي» أشبه بنقد العقل النظري على المستوى الاجتماعي، فإن «مخاطر في سلوكنا القومي» أشبه بنقد العقل العملي على المستوى الاجتماعي أيضًا.١ السلوك هو الوجه العملي للفكر، والفكر هو إمكانية وأساس السلوك.٢ وبالرغم من أن حديثنا السابق كان عن الثقافة الوطنية، إلا أن الحديث هذه المرة عن «الفكر القومي»، و«السلوك القومي»، و«الوجدان القومي». وإذا كانت الثقافة تحتمل الوصفين معًا «الوطنية» و«القومية»، إلا أن الفكر والسلوك والوجدان، كلٌّ منهما يأخذ وصفًا واحدًا وهو «القومي». ولا تعني القومي هنا أيَّ تنازل عن «الوطني» أو «الحضاري»، والوقوع في معنى «عِرقي» ظاهر أو خفي. فأنا مصري عربي مسلم، دوائر ثلاث لا حيلة لي فيها، ولا أستطيع لها دفعًا أو الاختيار بينها. هذا التداخل بين الأطراف الثلاثة هو الذي ترسَّب في أعماق الشخصية الوطنية والقومية والإسلام. وإنما اختصارًا للأوصاف أصبحَت الشخصية القومية هي الدالة على هذه الأطراف الثلاثة في آنٍ واحد.
والفكر أو السلوك أو الوجدان «القومي» هو الوصف الدقيق لما جرَت العادة على تسميته هذه الأيام «العقل العربي»، سواء في «أزمة العقل العربي» أو «تكوين العقل العربي» أو «تحديث العقل العربي» أو «نقد العقل العربي» أو «بنية العقل العربي» … إلخ. فهذه التعبيرات الأخيرة، التي يكون قاسمها المشترك «العقل العربي»، تعبيرات عنصرية مرَّتَين؛ الأولى لأنها تُجسِّد الشخصية القومية في عقل، مثل النظرية العنصرية التي تُحيل سمات الشخصية القومية إلى قُوى وسمات فزيولوجية نفسية تختلف من شعب إلى شعب، وتتميز في قوم دون قوم. فهناك عقل «عربي» وآخر «ياباني» وثالث «ألماني» … إلخ. والثانية لأنها تتحدث عن العربي كما تتحدث عنصرية القرن الماضي في الغرب عن الفرنسي والإيطالي والبريطاني والأمريكي … إلخ. وإن الذين يستعملون هذه التعبيرات عادةً يكونون من أعداء الأمة، ينكرون عليها فكرها وثقافتها وحضارتها ويجعلونها مجرَّد عرق في مقابل أعراق أخرى، إن لم يكُن أقلَّ نظرًا لتخلفه ومظاهر الانهيار فيه، في حين أن الأعراق الأخرى أكثر تقدُّمًا وازدهارًا ومساهمةً في تاريخ البشرية.٣ وما يُسمَّى «العقل العربي» عند البعض، مستشرقين كانوا أو عربًا، فإنهم قد يعنون الحضارة الإسلامية وتراث الأمة. أمَّا تعبير «الأيديولوجيا العربية» فإنه أصدق؛ لأنه لا يقع في المفاهيم العنصرية. فالأيديولوجيا فكر ومذاهب ونظريات من واقع مُحدَّد في ظروف الاجتماعية مُعيَّنة وفي مرحلة تاريخية مُحدَّدة.
وتأتي مادة البحث أساسًا من التجارب الحيَّة التي يعيشها المُفكر والتي يتَّفق معه القُرَّاء في وصفها، تعضدها الأمثال العامية وبعض النماذج الأدبية. ويمكن اللجوءُ إلى القرآن الكريم باعتباره الرافد الأساسي في الثقافة الشعبية، فالبحث نوع من الظاهريات الاجتماعية Phénoménologie Sociale الذي تمَّت ممارستُه من قبل، والذي ما زال رائجًا وخصبًا ودالًّا.٤ وهو يجمع بين الخبرات الفردية والخبرات الجماعية، بين تحليل الحاضر وتحليل الماضي، قراءة الحاضر في الماضي وقراءة الماضي في الحاضر. ولا فرق في ذلك بين العلم والسياسة، فالباحث عالِم ومواطن لا يفرِّق بين العلم والمواطنة. وعلى الرغم ممَّا يكون في تعميم الأحكام من إجحاف، إلا أنها أقرب إلى الأدب الاجتماعي أو الصرخات الوجودية، وظيفتها إثارة الأذهان، ووضع الإشكاليات، وبداية الموضوعات كجزء من حركة التنوير العام بوضع الذات الوطنية تحت المجهر.

وقد لا يتوحَّد نسق العرض بين هذه الحلقات الثلاث: «مخاطر في فكرنا القومي»، «مخاطر في سلوكنا القومي»، «مخاطر في وجداننا القومي». فلكل عقل نظري أو عملي أو وجداني خاصيته وبنيته. فبينما تتحدد علاقات فكرنا القومي بالسُّلطة من حيث التبعية والاستقلال، وبالواقع من حيث مادة الفكر أو مضمونه، وبالمنهج من حيث صورة الفكر وطرقه، وبالمؤسَّسات من حيث مواطن الفكر وتحقُّقاته، وبالتاريخ من حيث مسار الفكر وحركته، فإن سلوكنا القومي أو وجداننا القومي قد يخضع لبنية أخرى تصف وضع الإنسان في العالم. فالإنسان بين عالمَين؛ عالم المثال وعالم الواقع، أو ما سمَّاه القدماء الله والعالم، أو الوجود والطبيعة، فإن وصف المخاطر في سلوكنا القومي أو في وجداننا القومي يتم بناءً على وضع الإنسان في العالم.

والملاحظ لسلوكنا القومي وقوعه بين ثنائيات متعارضة مثل الظاهر والمُؤوَّل، القول والعمل، الحزن والفرح، التحريم والإباحية، الوفرة والندرة، العشوائية والفطرة، القدرية والفردية، الطاعة والعصيان … إلخ. هذه الثنائيات المتعارضة تعويض متبادل، يعيش كل طرف على وجود الطرف الآخر، كالصهيوني المعادي للصهيونية، والسامي المعادي للسامية، واليهودي المعادي لليهودية. وهي ظاهرة مَرَضية تُمثِّل انفصامًا في الشخصية بين طرفَين متعارضَين نُسمِّي أحدهما التطرف وننسى الطرف الآخر الذي هو تطرف أيضًا، ثم ندعو إلى القصد والاعتدال دون مسك بالطرفين لتقليل المسافة بينهما. وقد رصد الصوفية قديمًا — على مستوى الوجدان — مثل هذا التعارض فيما سمَّوه بالأحوال التي تَرِد على النفس بلا تكلُّف أو تعمُّد؛ الخوف والرجاء، القبض والبسط، الهيبة والأنس، الفرق والجمع، الغيبة والحضور، الصحو والسُّكر، المحو والإثبات، السِّتر والتجلي، الوجد والفقد، الفناء والبقاء … إلخ. كما لاحظها الأصوليون القدماء على مستوى اللغة في الظاهر والمُؤوَّل، المُحْكَم والمتشابه، المُطْلَق والمُقَيَّد، المُجْمَل والمبين. عند الصوفية أحوال نفسية وعند الأصوليين قواعد لغوية. ولا وسط بينهما، بل الانتقال من طرف إلى طرف، وفهم طرف بطرف، وإحالة طرف إلى طرف، وتأويل طرف بطرف. هذان الطرفان ليسا حُكم قيمة بل حُكم واقع. والوسط غائب، لا عن عجز عن الجمع، أو عدم الرغبة في التوفيق، أو عدم قدرة على إيجاد الوسط المتناسب في أخلاق تعريف الفضيلة فيها هو أنها وسط بين طرفين. بل إن هذه الثنائيات المتعارضة موجودة أيضًا عند المتكلمين والفلاسفة، مثل الحادث والقديم، المادة والصورة، الحركة والسكون، المعلول والعلة، الممكن والواجب، الواجب بغيره والواجب بذاته … إلخ. وهي ثنائية الأرض والسماء، العالم والله، الشيطان والملاك، الرذيلة والفضيلة، الشر والخير، العقاب والثواب، النار والجنة، الدنيا والآخرة … إلخ. تلك الثنائية في التصور هي أساس الثنائية في السلوك.

فإن قيل: إن هذه الثنائيات موجودة لدى كل شعب، وسمة عامة في كل شخصية قومية؛ فالياباني مثلًا مؤدب للغاية على السطح، ولكنه في نفس الوقت عنيف للغاية في الأعماق، متواضع إلى درجة الانحناء في الشكل، ومغرور إلى درجة العنصرية في المضمون. والأمريكي ساذج بسيط مُسالم طبيعي من الخارج، ولكنه همجيٌّ فظٌّ غليظ، وحشي إذا ما انطلقت غرائزه كما يظهر في أفلام رُعاة البقر وفي الحروب. والفرنسي متحضِّر يحبُّ الفكر واللغة والثقافة والأدب والفن، ولكنهٌ كاره للحضارة وللغة وللثقافة إذا ما خرج على حدود فرنسا إلى الجزائر أو أفريقيا أو آسيا. والألماني مثالي النزعة كما وضح ذلك في المثالية الألمانية، ولكنه في الواقع مادي أناني لا يتحرك إلا بدافع المصلحة … إلخ. فإذا كانت هذه الثنائية صحيحةً وعامةً لدى كل الشعوب، فهل يمكن تعميمُها حتى تصبح مقولةً نظريةً عامةً أو بنيةً صوريةً خالصةً تقوم على الجمع بين النقيضين وتتوحَّد فيها شخصيات الشعوب؟ إن ذلك يُقوِّي التحليل ولا يضعفه، ويعطيه أبعادًا شاملةً لا يدعيها، وطموحًا علميًّا لم يهدف إليه.

وسنحاول في السمات القادمة وصف كل تناقض في سلوكنا القومي، مُحلِّلين أسبابه ومُقترحين وسيلةً للجمع بين النقيضين كنوع من إعادة بناء الشخصية القومية من أجل اكتساب صفات جديدة. فإذا كانت الظروف الاجتماعية والتاريخية وراء اكتساب النقيضين، فيمكن لظروفنا الجديدة ورغبتنا في تجاوز ما نحن فيه من شتات وتشرذم أن تؤدِّيَ إلى اكتساب سمة جديدة نجمع فيها بين النقيضين. وبالتالي تقلُّ الهوَّة بين الطرفين المتباعدين، بدل أن نشكوَ من التطرف ونخشى من المتطرفين. ويمكن إجمالُ هذه السمات في اثنتي عشرة سمة على النحو الآتي:
  • (١)
    المستور والمفضوح:٥ إذا كان التعبير هو أحد مظاهر السلوك من خلال اللغة، فاللغة سلوك، والخطاب فعل، فإن أول تناقض يظهر في سلوكنا القومي هو تناقض المستور والمفضوح، السر والعلن، أو ما سمَّاه القدماء: الظاهر والباطن، التجلي والستر، الجلاء والخفاء. فغياب الصراحة هو سلوك على مستوى القول والمعنى؛ أن يفيد القول معنًى غير المقصود منه لفظًا. التعبير لدينا ليس مطابقًا للمعنى المقصود، إنما يكون أقلَّ فيُخفي أو أكثر فيفضح. لا يُعبِّر المتكلم عن كل ما يقصد إلا رمزًا أو إيماء، أو يفيض بعباراتٍ أكثر ممَّا يتحمل القصد. العبارات ضيقة أو واسعة ولكنها ليست على القدْر والمقاس. أصبح للكلام مدلولٌ أقلُّ أو مدلولٌ أكثر. وقد يكون للكلام مدلولٌ مُعارض. قد تعني «نعم» «لا»، وقد تعني «لا» «نعم». قد يعني الرفض القبول، وقد يعني القبول الرفض على ما عُرِف في البلاغة القديمة: المدح على سبيل الذم والذم على سبيل المدح. لذلك ظهر فنُّ التأويل، ومعرفة القصد، والدخول إلى الباطن، والتعرف على السرائر، وسبر الأغوار. وأصبح للقرآن سبعة أحرف، أيْ سبعة أعماق للتفسير. وازدهرت الباطنية بصرف النظر عن فضائحها. وتردَّد بيننا سؤال: ماذا يعني؟ ماذا يقصد؟ والمعنى في بطن الشاعر. أصبحت اللغة وسيلةً لإخفاء المشاعر الحقيقية. وقد وضح ذلك في سورة آل عمران: آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا …، فالسكوت نطق عن طريق التعبير الأقل، والنطق سكوت عن طريق الثرثرة، وتحصيل الحاصل، وفكِّ المجالس. لذلك كثُر صمتُ الصوفية، وعبَّروا عن مواجيدهم بالرمز. ولهذا كثُرت ثرثرة الفقهاء، وملئوا المُجلَّدات بالفتاوى والخطب، وسَخِر شعراؤنا من الفيهقة والفأفأة والحذلقة … إلخ.

    وفي نفس الوقت تتعدَّد ظواهر الثرثرة في حياتنا اللغوية. وتمثَّلت في الآداب الشعبية في شخصية «الست الرغاية»، أو في شخصية «أبو لمعة». كما تظهر في حديث الطلاب في الصفوف الأخيرة في الفصول الدراسية، والحديث في وسائل المواصلات العامة وفي الطرقات خاصةً وقت الحوادث، وتجمهر الناس، والتطوع بالنصائح حتى يكثُر اللغط، ويزداد الصراخ. كما يسمع الصوت المرتفع داخل الأُسرة وفي حديث الأفراد فيما بينهم لساعات طوال، وفي الأحاديث التليفونية وكأن بُعد المسافة يمكن تجاوزُها بالصراخ عبر الأسلاك، وهي الظواهر التي قصدها الشاعر الحديث بإشارته إلى العنتريات التي ما قتلَت ذبابة، منطق الناي والربابة. وهو ما يعادل الانفعال الزائد في وجداننا القومي، والذي يظهر في تملُّكنا فنون الخطابة وأساليب الإثارة، وبراعتنا في فنون الكلام حتى إننا جعلناها إحدى صفات الله.

    ومع ذلك، يمكن تقليلُ المسافة بين الطرفين عن طريق وضع الكلام على قدِّ المعنى حتى يصبح للكلام ثقل، ويقوم بدَوره في إيصال المعاني، وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ، والقصد في القول أكثر مدعاةً للتصديق. وهذا هو تعريف البلاغة القديم: اختيار القول طبقًا لمقتضى الحال. ويسهُل ذلك إذا ما اقتضى القولُ فعلًا، والكلامُ عملًا.
  • (٢)
    القول والعمل:٦ وتبدو ثنائية القول والعمل في عديد من النشاطات الوطنية في أجهزة الإعلام وفي الخطاب السياسية وفي حياة الأُسرة. ولا تزال الصيحة القديمة منذ الإصلاح الديني: «ما أكثر القول وأقلَّ العمل!» وما تزال آيات القرآن الكريم تحثُّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ. فالقول فعل، واللغة سلوك. القول إعلان، والفعل التزام. أمَّا وظيفة اللغة عندنا فإنها تطهير للأزمات النفسية الناتجة عن الضنك وشظف العيش. إخراج الكلمات أشبه بعمليات الإفراز البيولوجي التي يشعر الإنسان بعدها بالراحة، ومن هنا أتَت أهمية الخطاب السياسي الذي ينتظره الناس فيريحهم نفسيًّا بعد سماعه، وكأن مشاكلهم قد حُلَّت وأزمتهم قد فُرجَت. الكلام «فكُّ مجالس»، وفي المثل الشعبي «أسمع كلامك يعجبني أشوف أمورك أستعجب!» أو «خد من كلام الشيخ ولا تأخذ من أفعاله!» أو «كلام الليل مدهون بزبدة يطلع عليه النهار يسيح!» وهي نفس الثنائية بين الظاهر والمؤوَّل، وعدم تطابق اللفظ والمعنى. ولكن هذه المرة مع دخول الفعل كطرف مقابل للقول، وهو أيضًا ما يعادل الانفعال الزائد في وجداننا القومي. فالقول هنا انفعال وليس سلوكًا. وفي المثال الشعبي أيضًا «الكلب اللي يهوهو ما يعضش!» ونضع قادتنا موضع السخرية وهم يخطبون أمام الميكروفونات، ومن مسئولينا وهم يصرخون بأن المشاكل قد حُلَّت، وبأن الأزمات قد اختفَت. وبأن عنق الزجاجة قد تمَّ تجاوزُه. وكله «كلام جرائد» أو «تصريحات مسئولين» أو «كلام في الهوا». وكذلك إرسال برقيات التأييد للمحاربين، وبرقيات الاستنكار للمعتدين، ووضع الهمَّة في إصدار قرارات لمجلس الأمن للدفاع عن الحقوق، وشجب الاعتداء. وتبدو سهولة القول في أنه مجرَّد مخارج للألفاظ عن طريق الشفتين، وتحريك اللسان. لذلك عُرف القدماء المسلمون بالشهادتين بصرف النظر عن الفكر أو الاعتقاد أو السلوك. أصبح القول مكتفيًا بذاته لا يُحيل إلى شيء خارج عنه، لا إلى فكر ولا إلى فعل ولا إلى وجود. يُعقد مؤتمر إصلاح التعليم، وتُقدَّم الأوراق، وتُقال الخطب، وكأن التعليم قد تمَّ إصلاحُه بالفعل. ويُلقَى تصريحٌ عن أهمية الديمقراطية وأنه لا رجعة عنها، وكأن الديمقراطية قد مارسناها بالفعل. فالكلام يتحقق بمجرَّد الإعلان دون توسُّط الفعل. «في البداية كانت الكلمة، وكانت الكلمة مع الله، وكان الله هو الكلمة.» وقد دفع ذلك أحد الشعراء المُحدَثين في الغرب إلى السخرية من ذلك؛ لأنه «في البداية كان الفعل.» «كن فيكون!» تدلُّ أيضًا على الانتقال من الكلمة إلى الشيء دون توسُّط الفعل. وإن جاز ذلك لله فقد أجزناه أيضًا للإنسان. ولكن الله تكلَّم وخلق في حين أن الإنسان تكلَّم ولم يخلق شيئًا.
    أمَّا العمل فهو كالقول الضيِّق؛ نظرًا لأنه يتطلَّب التحقيق والإنجاز والتأثير والفاعلية، كما يتطلب رؤيةً للواقع لا يعطيها القول. العمل يقتضي توجيه الطاقة، لا من خلال اللسان بل عن طريق اليد، ليس بالإعلان النظري ولكنْ بالتغيير الفعلي. لذلك ارتبط الإيمان بالعمل في القرآن الكريم، وأصرت الخوارج قديمًا على أن مَن لا عمل له لا إيمان له، بل إن بعض صياغات الدعوة إلى العمل في القرآن الكريم إنما تتمُّ بالقول مثل: قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ (٦: ١٣٥)، وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ (٩: ١٠٥).
    ويمكن تقريبُ المسافة بين الطرفين وتحييد النقيضين عن طريق التوسط، وهو أن يصبح العمل هو القول، فالعمل قول مرئي كما أن القول عمل مسموع، والقول المرئي أفضل من العمل المسموع، وبالعمل يتمُّ التمايز وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ، وبالقول يحدث التشابه، بالعمل يقع التفرد، وبالقول يتكرر الإفراد.
  • (٣)
    الحزن والفرح: ومن المُسَلَّم به أن إحدى سمات الشخصية القومية هي التناقض بين الحزن والفرح، الهمِّ والمرح، البكاء والضحك، النواح والقهقهة، والتشاؤم والتفاؤل … إلخ. وفي القرآن الكريم جمع بين الاثنين وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (٥٣: ٤٣)، وكما فعل ذلك الشاعر العربي في قوله: «ولكنه ضحكٌ كالبُكا.» ويظهر طابع الحزن في صوت الناي، وهي الآلة الموسيقية المميزة للموسيقى العربية، وفي المآتم والمعازي كأحد المظاهر الاجتماعية، وفي قول: «اللهم اجعله خيرًا»، أو «اللهم أخزك يا شيطان»، إذا ما زاد الإنسان في الضحك أو أكثر في المرح. وفي الفن المصري القديم كانت هناك النائحات والنادبات كإحدى الوظائف الاجتماعية. وقد أكثر الصوفية من الإشادة بالحزن وتحريم الفرح، فإن الله لا يدخل قلب عبد فيه مزمار! وأصبح أبو الحسن البصري ورابعة العدوية من أئمة الصوفية الأوائل لتركزهما على الحزن، الحزن مع الخوف عند البصري، والحزن مع المحبة عند رابعة. لا يقول الأول «وا حزناه!» بل «وا قِلَّة حزناه!» لذلك كانت من وصايا الإسلام الأولى وأقواله: «ليس منَّا مَن لطم الخدود، وشقَّ الجيوب، ودعَا بدعوة الجاهلية.» قد يكون السبب في ذلك كثرة ما توالى على البلاد من هموم وأحزان بسبب الغزو الخارجي أو القهر الداخلي، فكثيرًا ما أتى الغُزاة فدمَّروا البلاد، وقتلوا الرجال، وشرَّدوا النساء، وخطفوا الأطفال واسترقوا العبيد، وهدموا المعابد، وعاثوا في الأرض الفساد. وغالبًا ما كان الحكام يفعلون نفس الشيء؛ مطاردة الخصوم السياسيين وجباية الضرائب قهرًا من الفلاحين. وما زالت «شكاوى الفلاح الفصيح» عنصرًا دائمًا في الأدب الشعبي. كان الفتك وشظف العيش والفقر نمط حياة دائمًا عند الغالبية العظمى من الشعب.
    وفي نفس الوقت تظهر سمة الفرح والمرح والضحك، والتي تظهر في النكتة والقفشة والقافية، لدرجة أن المسرحية قد تتكون أساسًا من مجموعة من القفشات عندما يدخل الأبطال معًا في «قافية» أمام ضحك الجمهور المتواصل، بصرف النظر عن الموضوع والخطِّ لدرامي للمسرحية، بل تُعقَد جلسات خاصة للمرح للظرفاء ولتبادل آخر النِّكات، سواء في حلقات الشراب أو المُخدِّرات أو بدونها، في اجتماعات بين الأصدقاء في حلقات الندماء والظرفاء، وكما امتلأت بهم الآداب القديمة وكُتُب الروايات. وأصبح الهزل سمةً دائمةً في السلوك الوطني، حتى الهزل من الجدِّ كما أشار إلى ذلك القرآن الكريم: أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (٥٣: ٦٠). وقد قِيلَ في الأمثال العامية: «شرُّ البلية ما يُضحك.»

    ويمكن لهاتين السمتين المتعارضتين أن تتحقَّقَا في سمة متوسطة ثالثة؛ في روح السخرية أولًا، ثم في العقلية الناقدة ثانيًا. فالسخرية هي الجِدُّ الهازل، والحزن المرِح، والمرارة الضاحكة. أمَّا النقد الاجتماعي فهو الذي يجمع بين السمتَين، حيث يظهر البكاء والحزن في روح الرفض، والمرح والفرح في روح الالتزام، يظهر الحزن في الغضب والتمرد، ويظهر الفرح في الثورة والانتصار.

  • (٤)
    الحرام والحلال: ونظرًا لتراكم طويل من الشرائع والقوانين تحوَّل العالم كله إلى منطقتَين؛ الحرام والحلال. والبداية بالحرام؛ أيْ بالكفِّ عن السلوك والاشتباه في العالم، فالعالم حرام حتى تثبُت براءته، فإذا ثبتَت أصبح حلالًا. الأشياء في الأصل على التحريم، وليست على الإباحة كما قال القدماء، واتجاهنا نحو العالم هو نفس اتجاهنا نحو الفرد، فالإنسان مجرم حتى تثبُت براءته، وليس بريئًا حتى تثبُت إدانته. لم يترسَّب في أعماقنا ما قاله الأصوليون عن البراءة الأصلية أو براءة الذمة أو أن الأشياء في الأصل على الإباحة. ويظهر ذلك في مظاهر التزمُّت التي تبدو في حياتنا، والتي تزداد يومًا بعد يوم مع تساؤلنا المستمر عن حرمة الأشياء، وتوجسنا خيفةً من العالم وكأنه شيطان نجس نتعوَّذ منه! وقد سخر محمد عبده من إنسان يرفع رأسه إلى أعلى ليسأل عن ماء سقط عليه إذا كان طاهرًا أم لا حتى لا يُنقَض وضوءه! وقديمًا سخر عمر من إنسان وجد بلحةً على الأرض فأحضرها له سائلًا هل يأكلها أم لا؛ لأنه لا يعرف من أيَّة شجرة سقطت، ومَن يملكها، وهل أكلُها حلال أم حرام، قائلًا: «كُلْها يا ذا الورع الكاذب!»

    وفي نفس الوقت الذي يطغى فيه الحرام على الحلال، والشبهات على الواضحات، ومن كثرة التزمُّت، يتمُّ رفض كل شيء بعنف، والتحول من النقيض إلى النقيض، ومن طرف إلى طرف، فيتمُّ تحليلُ كل شيء مرةً علنًا ومرةً خفاء، طبقًا لضروريات الحياة وللصراع من أجل البقاء، بل إن الحرام نفسه تحوَّل إلى تجارة للكسب والتعايش، مثل تجارة الجنس والخمور، والتجارة في المصاحف والكُتُب الدينية، والكسب من وراء الزيِّ الإسلامي، وتأسيس شركات توظيف الأموال وبنوك التقوى والصدقات؛ لأن الله حلَّل البيع وحرَّم الرِّبا! وقد يتحول الفرد في سلوكه من النقيض إلى النقيض، من التزمُّت إلى الإباحية، ومن الإيمان إلى الإلحاد، ومن الزهد إلى الجشع. يبدأ الإنسان مُتزمِّتًا وينتهي مُنحلًّا، أو يبدأ منحلًّا وينتهي مُتزمِّتًا، كما هو الحال عند عمر الخيام ورابعة العدوية. ويظهر ذلك أيضًا في المعيار المزدوج لربِّ الأُسرة؛ التزمُّت للآخرين والإباحية لنفسه، كما هو الحال في شخصية السيد عبد الجواد في الثلاثية.

    ويمكن تقليلُ المسافة بين الطرفين المتناقضين في الاتجاه الطبيعي، فما يُقوي الطبيعة ويُزهرها فهو الحلال، وما يقضي على إمكانياتها فهو الحرام. السلوك الطبيعي هو الذي يتمايز فيه الحلال والحرام، وهو السلوك الفطري؛ فكل إنسان يُولَد على الفطرة ثم يأتي التحليل والتحريم بعد ذلك من المجتمع ومن خلال الشرائع الاجتماعية.

  • (٥)
    العشوائية والقصد: وفي سلوكنا القومي يغيب المنهج تصوُّرًا وفكرًا وممارسة. لا يوجَد طريق يوصل إلى شيء، ولا توجَد خُطة طويلة الأمد لتحقيق مشروع قومي يستغرق عِدَّة أجيال. لذلك يضيع الوقت ويتشتَّت الجهد، وتكون قراراتنا بنت الساعة، ولهدف مؤقت يتغيَّر بتغيُّر الأشخاص والأنظمة السياسية. ويتضح ذلك أيضًا في حركة سَير المرور في الطرقات، والاعتماد على الجهد الذاتي الصِّرف بلا قانون أو نسق، لدرجة أن أحد زعماء الصهاينة قال مرة: «لو انتظم المرور في القاهرة لبدأت إسرائيل تخشى!»

    وفي نفس الوقت هناك الحسُّ الشعبيُّ البديل الذي يغني عن المنهج؛ بداهة ابن البلد وفطرة رجل الشارع، اعتمادًا على ما اكتسبه الناس من تراكم تاريخي طويل أكسبهم مقدرةً على العيش حتى في أصعب الأوقات، وهو ما يُسمَّى بالسليقة أو الفطرة أو التجارب المُكتسَبة أو حكمة السِّن «أكبر منك بيوم يعرف عنك بسنة». وكثُر الاعتماد على الأمثال العامية والحسِّ الشعبي؛ لذلك لم يكُن التعليم بذي قيمة، يكفي تجربة العمر. ليست الأُميَّة هي الجهل، فالأُمِّي قد يكون مُتعلمًا، والمُتعلم قد يكون جاهلًا. وكان النبي أُميًّا، وكان المُتعلم الذي يجعل نفسه خادمًا لكل نظام جاهلًا. ولقد تمَّ حفظ القرآن سماعًا قبل تعلُّم القراءة والكتابة. وقد يحصل الإنسان على مجموعة من المعارف الدينية والدنيوية ما قد يُستغنَى بها عن التعليم كما كان الرسول والصحابة الأوائل قبل أن يتحول الإسلام إلى حضارة، والدين إلى دولة، وأعراب الصحراء إلى مُعلِّمي البشرية.

    ويمكن الجمعُ بين النقيضين عن طريق صياغة منهج فِطري لا تكون خطواته مضادةً للفطرة، ولا يكون قاصرًا أو ناقصًا أو جزئيًّا. هذا منهج تجريبي للعلوم الطبيعية، وهذا منهج عقلي للرياضيات، وهذا منهج ذوقي للفنون. فالفطرة ليست مجرَّد سلوك بالسليقة، وحُكم بالبداهة والتلقائية، ولكنها فِطرة تعتمد على النظر والمِران. لقد كانت لحظات التقدم في تاريخ الفكر البشري هي لحظات اكتشاف المناهج، فالمنهج هو القادر على حلِّ المشكلات مرةً واحدة، قياسًا للأشباه بالأشباه والنظائر بالنظائر. ولقد استطاع علم الأصول عند القدماء تأسيس منهج، وهو القياس، أصبح دعامةً للاستدلال، وطريقةً لاستنباط الأحكام، واستنباطًا للمجهول من المعلوم. ولكنه لم يعِش في شعورنا القومي كما عاشت القوة المُسيطرة على العالم بلا قانون أو مبدأ. وبمجرَّد أن تمَّ تشخيصُ هذه القوة وتحويلها إلى مُسيطر أو ساحر أصبح العالم عشوائيًا يصعُب السيطرةُ عليه، وعاش الإنسان فيه بليدًا فاقدًا قوة الإيمان وثقة العقل.٧
  • (٦)
    الوفرة والندرة: ومن سمات سلوكنا القومي الوفرة في مجتمع الندرة، أو الندرة في مجتمع الوفرة. فبالرغم من نقص المواد الغذائية إلا أن عادات الطعام أقرب إلى مجتمع الوفرة، وبالرغم من نقص الثروة الحيوانية إلا أن اللحم هو الغذاء الدائم للقادر. وفي بلد يستورد ٧٠٪ من قمحه ما زال غذاؤه الأول هو الخبز. وفي الدعوات تزدحم الموائد، ويكثر الفاقد. ويمتدُّ جدل الوفرة والندرة إلى التعليم؛ ففي بلد تعمُّ فيه الأُميَّة تكون فيه أكبر طبقة من المُتخصِّصين وحاملي الدكتوراه؛ الهرم المقلوب في التعليم. وفي أساليب البناء، بذخ الإسكان الفاخر وزخرفة القصور في مقابل الأكواخ وقاطني الأرصفة. قد يكون للبيئة الجغرافية أثرٌ على ذلك، سكان الوديان في مقابل سكان الصحراء، فمثلًا يسكن المصريون في ٤٪ من مساحة البلاد في مقابل ٩٦٪ صحراء جرداء.

    وفي نفس الوقت الذي نسلك فيه سلوك الوفرة في مجتمع الندرة، نسلك أيضًا سلوك الندرة في مجتمع الوفرة، مثل نقص العمالة المُتخصِّصة وسط كَمٍّ هائل من العمالة غير الفنية الزائدة. حِرَف تعزُّ فيها العمالة في مواجهة بطالة مُقنَّعة. وأصبح التقابل واضحًا بين ندرة السبَّاك والكهربائي والنجَّار والحدَّاد والمُبيِّض، ووفرة الموظفين والأفندية وأصحاب المكاتب وحَمَلة الشهادات. وندرة المبدعين المُجدِّدين وسط الجماهير الغفيرة من المثقفين والعلماء الناقلين للمعلومات. وهي نفسها ندرة المعارضة أمام السُّلطة بالرغم من تفاقُم الأوضاع، وحِدَّة الأزمة وغليان الموقف.

    ويمكن الجمعُ بين النقيضين عن طريق إيجاد التطابق بين العادات اليومية ومُعطيات البيئة، فندرة المواد الغذائية تقتضي الاقتصاد في الغذاء كمًّا وزيادته كيفًا، كما هو الحال في المجتمع الياباني. وندرة العمالة الفنية وسط الكمِّ الغفير من الخريجين النظريين تقتضي إعادة صياغة سياسة التعليم والقبول بالجامعات. يمكن الاعتمادُ على الندرة في مَواطن الندرة مثل الإبداع العلمي والفني، والاعتماد على الوفرة في مواطن الوفرة مثل غزو الصحاري، ومحو الأُميَّة، وشقِّ الطرق، وإقامة الجسور والمَسيرات الشعبية والتجمهر للمعارضة السياسية.

  • (٧)
    العام والخاص: وكثيرًا ما نخلط بين القضايا الخاصة والقضايا العامة، ندافع عن الخاص كباعث في إطار العام كخطاب، وبالتالي يكون تفسير الخطاب ليس في منطق الألفاظ بل في منطق البواعث. صحيحٌ أن الذاتية لا تنفصل عن الموضوعية، بل هي شرطها، إلا أن هناك فرقًا بين الذاتية الخالصة التي هي أقدر على التجرُّد والوصول إلى العالم من خلالها، وبين ذاتية الهوى والنسبية والظروف النفسية والاجتماعية التي تقضي نهائيًّا على الموضوعية والصالح العام. لذلك كثُر تغييرُ القوانين طبقًا لمصالح مَن يُصدرها، وتضاربَت اللوائح تبعًا لتضارب المصالح. ومن هنا أيضًا أتَت التضحية بقضايا الوطن، وضعُف حِسُّ الانتماء، وغاب المشرع القومي المُوحِّد للبلاد، وتحوَّل الشعب إلى أفراد، كلٌّ يبحث عن صالحه الخاص، وأصبح الوطن مصلحتي، والدولة مقدار ما تُقدِّمه لي من تسهيلات.

    ومع ذلك، وفي ساعات العُسرة، وفي وقت الخطر، تظهر الروح الوطنية العامة، وتُمحَى المصالح الشخصية، وتطغى المصلحة القومية الواحدة. حدث ذلك في ثورة عرابي، وفي ثورة ١٩١٩م، وفي ثورة ١٩٥٢م، وفي حرب ١٩٦٧م، وفي حرب ١٩٧٣م، سواء كانت المبادرة من جانب الدولة أو كانت الثورة من جانب الشعب. يُضحِّي الأب في سبيل الأُسرة، والابن الأكبر في سبيل تربية الإخوة الصغار في حالة وفاة الأب. وكذلك تُضحِّي الأمُّ «الشغالة» إذا ما فقدَت زوجها لتربية أولادها … إلخ.

    ويمكن التوسُّطُ بين هاتين السمتين إيثارًا للصالح الخاص على الصالح العام، ثم التضحية بالصالح الخاص من أجل الصالح العام بأن تشعر الأُمَّة بلحظات الخطر باستمرار، وألَّا تستكين أو تستسلم أو أن تدخل في معارك جانبية أو وهمية، وتترك معركتها الرئيسية. ففي لحظات الخطر والصراع من أجل البقاء تتراجع المصالح الخاصة في سبيل الصالح العام. طالما أن الفرد يشعر بالمواطنة وبأنه ينتمي إلى كلٍّ، فإن تحقيق مصلحة الكل فيه تحقيق لمصلحته الخاصة. ومن هنا تأتي أهمية تربية المواطن ودَور الدولة في أن تكون لكل المواطنين، كما تقلُّ الهوَّة بين المصلحتين المتعارضتين عن طريق وجود نظام سياسي تتَّحد فيه المصالح الخاصة بالمصلحة العامة، مثل: عدالة التوزيع، وحرية المواطنين، وحقِّ المواطن في التعليم والعمل والإسكان، والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين.

  • (٨)
    القُدرة والفردية: وبالرغم من تشخيص العلاقات الاجتماعية والعلاقات المهنية والسياسية إلا أن الفرد لا يأخذ زمام المبادرة، ويترك نفسه تُسيِّره الأمور خاضعًا لمجرَّد الحوادث بلا تمايز بينه وبينها وبلا مفارقة. يخضع للقدَر، ويستسلم للقضاء، ويغنِّي للمقادير. لا يبدأ فعل شيء إلا في أضيق نطاق، مع أن غياب النسق يسمح بإبراز المواهب الفردية في تسيير شئون العمل بلا قانون، واعتمادًا على العلاقات العامة. هذه المواهب الفردية وظيفتها تسييرُ الأمور وعدم تعطيل المصالح وليس لخلق جديد. وفي الأمثال العامة «الكون له رب يسيِّره»، «ما حدش يقدر يعدل نظام الكون». وما أكثر الأغاني والمواويل الشعبية التي تتناول المقادير التي ترمي بالإنسان على غير إرادته.

    وفي نفس الوقت الذي تُمحَى فيه المبادرة يظهر نشاط الإنسان المكتوم في صورة مَرَضية؛ وهو حُبُّ الظهور، والتقرُّب للرؤساء، وأخذ مكان الصدارة، والحديث فيما يعلم وفيما لا يعلم، والإفتاء في كل شيء، فيصبح شخصيةً إعلاميةً اجتماعيةً مرموقة، ويصبح نجمًا في فريق الكرة ببطولاته الفردية، فتقوم الهيئة أو المؤسَّسة على أكتاف رجل واحد يعمل، تتكدس فوق مكتبه الملفات، والآخرون لا يفعلون شيئًا. كَيفٌ في مقابل كَمٍّ، وبطولة مُطلَقة في مقابل لامبالاة تامَّة. لذلك كثُرت مفاهيم البطل الأوحد، والفارس المغوار، وابن البلد، والفتوَّة، والجدع، وأصبح التاريخ كله من صُنع الأبطال. ينتظر الناس المُخلِّص والإمام الذي سيملأ الأرض عدلًا كما مُلئَت جورًا. لذلك قِيلَ علينا من بعض فلاسفة الغرب: «في الشرق واحد حر، والباقي عبيد!»

    ويمكن تجاوزُ القوة بين النقيضين عن طريق إذكاء الوعي القومي حتى يُمحَى الفرق بين الإنسان العادي والإنسان المتميز، بين الصفوة والجماهير، بين الشعب والقادة. ويمكن إعادةُ كتابة التاريخ وإعادةُ بناء الموروث الديني الطويل بحيث تبرُز قيمةُ الجماهير فتقلُّ عبادة الأبطال. وإن النصب التذكاري للجندي المجهول لأكثرُ دلالةً على روح الأمة وحيوية الشعب من تماثيل القادة والزعماء.

  • (٩)
    الفوضى والنظام: ولا يوجَد قانون عام ينظِّم العلاقات الاجتماعية، بل تتحكم فيها العلاقات الخاصة والقدرة على التأثير، فنشأت شخصيات الظريف والفهلوي والحدق والجذاب والاجتماعي. سبقت العلاقات الشخصية النظرة الموضوعية، وأصبح الاستلطاف شرط النجاح، وسماحة الوجه، وحسن المعاشرة، وطول الألفة، وعمق الصداقة المدخل لإنجاز العمل. ولمَّا كانت هذه متغيرةً توقَّف العمل وسار مرةً أخرى، تحقَّق على هذا الوجه ثم تحقَّق على الوجه الآخر. تمَّ الإنجازُ في حالة في غمضة عين، وفي حالة أخرى استغرق السنين الطوال. ولم يعد يتمُّ شيء إلا بواسطة أو معرفة أو علاقات شخصية أو تقديم أو قرابة أو رشوة صريحة أو مُقنَّعة. أصبح العمل همًّا، والإنجاز ثقيلًا على النفس. ويحمد الإنسان الله على أن أوراقه قد تمَّ اعتمادُها من كل المكاتب، وأنه حصل على التوقيعات من كل الرؤساء، وأنه «فتح عينه» أو «فتح مخَّه» وقام بأداء اللازم.

    وإذا صدر قانون فإنه يكون وفقًا لمصلحة خاصة أو لجماعة ضغط مُعيَّنة، فكثُرت القوانين وتضاربَت في موضوع واحد، وفي فترة وجيزة، كما هو الحال في القوانين الاقتصادية، وقوانين الجمارك، وقوانين الاستيراد والتصدير، وقوانين العملة، فخاف الناس أن يفعلوا شيئًا خشية أن تتغير القوانين فيضيع عليهم جهد العمر. وإن غياب القانون على مستوى العلاقات الشخصية في العمل يمتدُّ أيضًا ويصبح غيابًا كاملًا للنسق في أيَّة مؤسَّسات عامة. فلا يوجَد قانون، ولا يوجَد هدف، ولا توجَد قضية، وكل شيء متروك للأمزجة الفردية والعلاقات الشخصية. وفي غياب النسق تشخص المؤسَّسات، وتصبح تعبيرًا عن رؤية مديريها وأمزجتهم الخاصة.

    وفي نفس الوقت يتَّسم سلوكنا القومي بطاعةٍ حَرفيةٍ للقانون، لدرجة التضحية بمَصالح الناس بحُجَّة اللوائح التي لا تسمح أو القوانين التي تمنع. فوقعنا في البيروقراطية، وعاش الإنسان للقانون، ولم يعِش القانون للإنسان. وكيف يدافع الموظَّف عن مصلحة المواطن وهو يخشى مخالفة القانون وما يترتب على ذلك من جزاء؟ وكان رمز شخصيتنا في التاريخ «الكاتب المصري» رمز جامعة القاهرة، وكان أهم جزء في الدولة الأرشيف، وأهم جريدة منذ قيام الدولة الحديثة «الوقائع المصرية»، بالرغم من عدم وجود فلسفة للقانون.

    وقد يكون السبب في هذا التناقض بين الفوضى والنظام هو غياب مفهوم النظام أو النسق من ثقافتنا القومية. فالعالم تسيطر عليه إرادة قوية وسلطان مُطلَق، لا يخضع لقانون ولا يسير وفقًا لنظام. وهو تصوُّر قديم موروث منذ أكثر من ألف عام، كان القصد منه إحكام سيطرة الحاكم على الدولة ونزع الشرعية من تحت أقدام المعارضة، وتثبيت نظام الحكم وإطلاق سُلطة الحاكم. فلما استتب الأمرُ احتاجت الدولة إلى قوانين لتدبير شئون الدنيا. واستمرت هذه القوانين دون أساس نظري لا من عقد اجتماعي، ولا من إرث تاريخي، ولا من أساس وضعي يقوم على رعاية مصالح الناس، فأصبحَت قوانينَ فارغةً سرعان ما تحوَّلَت إلى لوائح ميتة وإلى بيروقراطية عقيمة.

    ويمكن تضييقُ الهوَّة بين غياب القانون وحضوره البيروقراطي عن طريق صياغة قانون يقوم على رعاية مصالح الناس، لا عن إرادة حاكم، ولا عن إرث تاريخي طويل. القانون ما هو إلا تشريع لمصالح الناس، وفرض لإرادة الجماعة، وقوة لا شخصية يخضع لها الجميع طوعًا واختيارًا.

  • (١٠)
    الطاعة والعصيان: وأمام القانون يبدو سلوكنا القومي في سمتَين متناقضتَين؛ الطاعة والعصيان، سواء كان هذا القانون في مصلحة أو هيئة أو مؤسَّسة، أو مُتجسِّدًا في الدولة ذاتها رمز القانون. ففي سلوكنا القومي إحساس عام بالطاعة والولاء للدولة. الطاعة هي الأساس، والعصيان هو الاستثناء. الدولة على حقٍّ باستمرار والمُعارض على خطأ دائمًا. وعلى مدى عصور التاريخ نشأت الدولة المركزية تسيطر على كل شيء، تُحدِّد أرزاق الناس وتقدِّر مصائرهم، فنشأت في قلوب الناس هيبتها واحترامها في شخصية شيخ البلد، والعمدة، وشُرطي المرور، وضابط النقطة، وكل ذي بذلة صفراء وزرائر نحاسية بما في ذلك مُحصِّل المركبات!

    ومع ذلك فلدينا لذة العصيان، والتحايل على القانون، وإيجاد بديل آخر له، قانون شخصي وشعبي وإنساني أكثر عدالةً وأكثر فاعليةً من قوانين الدولة وسلطانها. ويتضح هذا الخلاف في الأسعار، بين أسعار الدولة وأسعار السوق، وفي قواعد المرور، قواعد المرور العامة النظرية التي لا يتبعها أحد، وقواعد المرور الخاصة التي تعتمد على المهارة والحذق ما دامت الغاية واحدة، الوصول إلى المكان المطلوب في أسرع وقت وبأقلِّ تكلفة مع أكبر قدْر ممكن من الأمان. ولا تبدو مظاهر العصيان في مجرَّد الرفض السلبي لقانون الدولة، بل التحايل عليه بالتأويل والتخريج وتكييف حُكم القوانين وتطبيقها طبقًا للمصالح، أو إصدار لوائح وقواعد مفسرة تفرغ القانون من محتواه وتحاصره، وتجعله يفيد النقيض. ويمكن أيضًا الاستثناءُ من القانون، وكأن الشرع هو أول مَن يخرق نفسه، ويمكن تطبيقُه على البعض دون البعض، على العامة دون الخاصة. وفي كثير من الأحيان يسقط القانون كليةً بحُجَّة الأعراف والعادات، مثل مجانية التعليم النظرية ثم دفع الإتاوات للمدارس وأخذ الدروس الخصوصية عمليًّا، ومثل ملكية الأراضي الصحراوية بوضع اليد … إلخ.

    ويمكن تجاوزُ الطاعة والعصيان عن طريق قانون وضعي يقوم على المصالح العامة وتُنفِّذه سُلطة باختيار الشعب، كما هو الحال في الشريعة الإسلامية التي ترعى المصالح العامة ويُنفِّذها إمام المسلمين. والقانون الشرعي مَدعاةٌ إلى الطاعة؛ لأنه نابع من الإيمان، وأبعد عن العصيان، ومبني على قناعة شخصية. إنما التحدي هو في تطبيقه في موضعه الصحيح، أو — كما يقول الأصوليون القدماء — في تحقيق مناطه وتخريجه وتنقيحه، أيْ في البحث عن علل حُكمه حتى يمكن معرفتُها في الواقع. فالقانون الشرعي أقرب إلى التطبيق من القانون المدني، بدليل كثرة الدعاوى لتطبيق الشريعة ولما تتضمنه من عقاب دنيوي وأخروي.

  • (١١)
    الحقوق والواجبات: وبغياب القانون الذي يحدِّد العلاقات الشخصية، وغياب النسق الذي يُحدِّد العلاقات العامة؛ يغيب أيضًا قانون ينظِّم علاقة الفرد بالدولة، أيْ تغيب فكرة الحقوق والواجبات، فالواجبات بلا حقوق، والحقوق بلا واجبات. فلا الفرد مواطن، ولا الدولة وطن. لذلك يصعُب تحديدُ حقوق الفرد وواجباته تجاه الدولة إلا في حدود أداء الوظيفة والأعراف العامة. فالبعض يؤدِّي واجباته بلا حقوق، ويمارس مواطنته دون أن تُعطيَه الدولة شرف المواطنة. لذلك قاضَى كثيرٌ من المواطنين الدولةَ لخرقها الدستور، واعتدائها على القانون، وانتهاكها حقوقَ الأفراد. وكان رؤساء الدول والحكومات والهيئات والمصالح والمؤسَّسات أول مَن ينتهكون القوانين، ويوقفون اللوائح، كما يقول المثل الشعبي «حاميها حراميها». ومع ذلك تفرض الدولة سلطانها على الأفراد وتطالبهم بأداء الواجبات دون أن تُعطيَهم الحقوق، فلا الواجبات تتم، ولا الحقوق يُحصَل عليها. من حقِّ المواطن التعليم والسكن والمأكل والملبس وحرية القول واختيار نظامه السياسي، ومن واجباته طاعة القانون والولاء للدولة. والمواطن لن يؤدِّي واجباته إن لم يحصُل على حقوقه، ولن يطيع القانون إلا إذا أعطاه القانون حقوقه وحقَّق مصالحه.

    وهناك آخرون يأخذون كل الحقوق غصبًا ولا يؤدُّون أيَّة واجبات، الدولة عندهم مصدر للأخذ وليست مكانًا للعطاء. يأخذون السُّلطة والمال، ويحصلون على المناصب، وينالون الشهرة، ويبيعون البلاد، ويصالحون الأعداء، ويُهرِّبون الأموال، ويستذلون الرقاب. هم الأسياد وأصحاب الدار، لا مُعقِّب عليهم ولا مُراجع لهم. ويُسميهم أحد الفلاسفة المعاصرين في الغرب «الأوباش».

    ويمكن تجاوزُ هذين النقيضين عن طريق القضاء المستنير الذي يدافع عن الدستور، ويرعى القانون، ويحرص على حرمة المواطنين، يدافع عن حقوقهم قدْر إلزام الدولة لهم بواجباتهم. المحكمة الدستورية العُليا هي القادرة على أن تكون الحَكَم بين الدولة التي تريد من المواطنين أن يؤدُّوا واجباتهم وتسلبهم حقوقهم، وبين هؤلاء الذين يأخذون حقوقهم دون أن يؤدُّوا واجباتهم. كما أن تربية المواطن على التمسُّك بحقوقه وتأدية واجباته واختيار نظام سياسي يقوم على الاعتراف بحقوق المواطنين قبل مطالبتهم بأداء واجباتهم؛ يؤدِّي حتمًا إلى ربط الحقوق بالواجبات، حتى يكون مَن يؤدُّون واجباتهم دون حقوق غرباءَ في أوطانهم يودُّون الهجرة، وحتى لا يكون مَن يأخذون حقوقهم دون واجبات دخلاء يحلُّون محلَّ المهاجرين.

  • (١٢)
    الصبر والتمرد: وتجمع شخصيتنا القومية بين سلوكَين متعارضَين؛ الصبر بلا حدود، ثم الانفجار والتمرد والعصيان. فالصبر والجلَد، والقدرة على التحمل، والمثابرة، والانتظار، والتمهُّل؛ كلها أصبحَت سماتٍ عامةً في سلوك المواطنين، والأمثلة شاهدة على ذلك، مثل «الصبر مفتاح الفرج»، والقرآن يثبته: اصْبِرُوا وَصَابِرُوا …، والصوفية تؤكده، والأغاني الشعبية تتغزل فيه.

    ولكنْ فجأة، وبلا انتظار، يقع الانفجار، وتحدُث الانتفاضة، وتنفجر الثورة. وقد امتلأ قاموسنا السياسي بأشباه هذه الألفاظ، وسرعان ما تخبو ويهدأ البركان كي يمتلئ القدر من جديد. ما أكثر الفترات التي يطول فيها الصبر ويمتدُّ السكون، وما أكثر الفترات التي يتفجر فيها القدر، وتتفجر الثورات!

    ويمكن تجاوزُ هذا التناقض عن طريق النقد الاجتماعي والتطوير والإصلاح من أجل تغيير الوضع القائم، فبدلًا من أن يسير التطور في خطوط منكسرة يمكن أن يسير في خطٍّ متصل صاعد، ما دام التفكير مكفولًا للجميع، وما دامت حرية التعبير وحرية الاختيار حقًّا لكل المواطنين.

    قد تكون هناك مخاطر، أكثر أو أقل، في سلوكنا القومي، وقد يكون البعض منها في حاجة إلى مزيد من الإحكام. ومع ذلك تظلُّ هذه المحاولة مجرَّد دقٍّ لناقوس الخطر. وإن لم يكُن لهذه المحاولة أيُّ رصيد علمي يُذكَر، فعلى الأقلِّ تبقى إثارة للأذهان.

١  انظر دراستنا السابقة: «مخاطر فكرنا القومي».
٢  بعد كتابة «مخاطر في فكرنا القومي»، وسلمتها لمجلة «قضايا عربية» في ١٩٧٨م، لم أسمع شيئًا عنها. وبعد ذلك توقَّفتُ عن تكملة «مخاطر في سلوكنا القومي»، «مخاطر في وجداننا القومي». وبعد ذلك قامت إسرائيل بترجمة «مخاطر في فكرنا القومي» إلى اللغة الإنجليزية، بعنوان Arabic Thought in the Balance، ونشرتها في The Jerusalem Quarterly، في خريف ١٩٨٢م، مع تعليقات وشروح من المترجم مُبينًا القصدَ والوقائعَ الثقافيةَ المُشار إليها، ومُحيلًا إلى عديد من المقالات الأخرى التي كتبتُها في هذه الفترة في «المستقبل العربي»، وفي غيرها من المجلات العربية. ولما علمتُ بذلك بحثتُ في أعداد قضايا عربية حتى وجدتُها منشورةً بالفعل في عدد أبريل ١٩٧٨م. والآن، وبعد عشر سنوات، أكمل الحلقتَين الأخريَين في صيف ١٩٨٧م، «مخاطر في سلوكنا القومي»، «مخاطر في وجداننا القومي». وبالرغم من أنني أنهيتُ هذه المرحلة؛ مرحلة النضال المباشر عن طريق المجلات الثقافية، مؤثِرًا النضال العلمي الطويل في «التراث والتجديد»، إلا أنني حاولتُ الإبقاء على روح السبعينيات وأسلوبها ومُستواها وجمهورها.
٣  انظر مثلًا Philippe Pettai: The Arab Mind.
٤  انظر كتابنا: قضايا معاصرة، الجزء الأول، في فكرنا المعاصر، دار الفكر العربي، القاهرة، ١٩٧٦م، دار التنوير، بيروت، ١٩٨١م.
٥  انظر: «المستور والمفضوح» في هذا الجزء الأول، الدين والثقافة الوطنية، ١١، معارك في الثقافة الوطنية.
٦  انظر دراستنا: «التفكير الديني وازدواجية الشخصية»، قضايا معاصرة، الجزء الأول، في فكرنا المعاصر، ص١١١–١٢٧، دار الفكر العربي، القاهرة، ١٩٧٦م.
٧  انظر الدراسة السابقة «مخاطر فكرنا القومي».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤