مخاطر في وجداننا القومي١

إذا كانت «مخاطر في فكرنا القومي» تُمثِّل «نقد العقل النظري الاجتماعي»، و«مخاطر في سلوكنا القومي» تُمثِّل «نقد العقل العملي الاجتماعي»، فإن «مخاطر في وجداننا القومي» تُمثِّل نقد «الوجدان الاجتماعي»، أو بتعبير كانط المشهور «نقد ملَكة الحكم الاجتماعي»، أيْ إحساسنا بالعالم وشعورنا به من حيث هو غاية أو جمال.

ويصعُب الفصلُ بين الفكر والسلوك والوجدان، فالفكر سلوك ممكن ووجدان قبل أن يتحقَّق، والسلوك فكر مُتحقِّق ووجدان مُتعيِّن، والوجدان مظاهر للشعور الواحد.

وتبدو سمة السلوك القومي في الوجدان القومي؛ ألا وهي الجمع بين النقيضين، والانتقال من طرف إلى طرف دون توسُّط بينهما. والانتقال من النقيض إلى النقيض دون توسُّط يدلُّ على جدل الكل ولا شيء، جدل الإيجاب والسلب، جدل الهدم والبناء، في حين أن الانتقال من طرف إلى طرف عن طريق التوسُّط هو جدل التاريخ، والانتقال الطبيعي من مرحلة إلى مرحلة. جدل الأضداد يدلُّ على قلق وعدم استقرار وعدم وجود خُطة قومية مثل إعادة بناء الثقافة الوطنية لتطوير الشعور القومي، ونقله من مرحلة إلى مرحلة كما حدث في عصر النهضة ونقل الوعي الأوروبي كله من العصور الوسطى إلى العصور الحديثة.

وإذا كانت بنية الفكر القومي قد وُجدَت في خمس علاقات؛ علاقة الفكر بالسُّلطة من أجل التبعية والاستقلال، وعلاقة الفكر بالواقع لمعرفة مادة الفكر ومضمونه، وعلاقة الفكر بالمنهج لمعرفة صور الفكر وطرقه، وعلاقة الفكر بالمؤسَّسات لمعرفة تحقُّق الفكر ومَواطنه، وعلاقة الفكر بالتاريخ لتحديد مسار الفكر وحركته، فإن الوجدان القومي كالسلوك القومي يتحدَّد في بنية ثلاثية؛ الإنسان بين عالمين؛ الوجود والطبيعة، أو كما قال القدماء: «الله والعالم.» تظهر من خلال اثني عشر تناقضًا رئيسيًّا هي: غياب الطبيعة والتكالب على الأشياء، غياب البُعد الجمالي وحضور الفن للتسلية، التصور الهرمي للعالم مع تسوية كل شيء بكل شيء، التصور الرأسي للعالم والسلوك الأفقي فيه، التديُّن الشديد وحُبُّ الدنيا، غياب الإنسان وتشخيص الفرد، الإحساس بالزمان بين البطء والسرعة، الإحساس بالمكان بين الهجرة والتشبُّث بالأرض، الانفعال الزائد وغياب الوجدان، الحبُّ الشديد والكراهية الشديدة، الارتباط بالقديم وحُبُّ الجديد، وأخيرًا قدرية التاريخ ودَور الأبطال فيه. ويمكن تلخيصُ ذلك على النحو الآتي:
  • (١)
    غياب الطبيعة والتكالب على الأشياء: وغالبًا ما لا نشعر بالطبيعة، ولا يصدُر سلوكنا عنها، ولا ينبع فكرنا منها. قد تكون ميزة الوثنية القديمة أنها دين طبيعي، يبدأ الفكر فيها من الطبيعة، ويتوجه السلوك فيها نحو الطبيعة. نحن لا نعيش في عالم نسير فيه بالأقدام، ولكنْ نحيَا في وجود محكوم عليه من أعلى بالفناء. اعتبرنا العالم حادثًا، وُجدَ من لا شيء وينتهي إلى لا شيء، وُجدَ من عدم وينتهي إلى عدم. وكيف يعيش الإنسان في عالم غير موثوق به، يهتز في البداية والنهاية؟ إذا ما ضاع استقلال العالم فإن استقلال الإنسان أيضًا يضيع! لا وجود لإنسان مستقل في عالَم غير مستقل. وقد يكون السبب في ذلك تراكم حضاري قديم من اعتبار الوجود حادثًا لا يستمدُّ بقاءه من ذاته، بل مجرَّد سُلَّم لإثبات الذات القديم. وتلك هي الروحانية الجوفاء التي لا مضمون لها، والتي منها يتمُّ استلابُ العالم، فتصبح روحانيةً بلا قلب، صورةً بلا مضمون.

    وفي نفس الوقت الذي تغيب فيه الطبيعة من وجداننا القومي يتجه الشعور نحو التكالب على الأشياء بُغيةَ الاستحواذ عليها والإمساك بها، بحثًا عن الغائب مع فقد الاتزان والتصور. ويقع وجداننا القومي بين هذه الروحانية الجوفاء وتلك المادية الصمَّاء. نظرًا لأن الطبيعة قد سقطت من الروح فإنها تعود من جديد بلا روح وتصبح مادة. ونظرًا لأن الروح جوفاء فإنها تبحث عن طبيعة، وتسرع بالإمساك بها، فتمسك بالمادة من قوة الدفع والحرص على عدم الإفلات. وقد ظهر ذلك في السلوك؛ إذ يقتل بعضُنا بعضًا بسبب كوز ذرة، ويبيع بعضُنا بعضًا بثمن بخس؛ دراهم معدودة. ضاعت قِيَم المجتمع، وانفصمَت عُرى الأُسرة، وانتهَت الصداقة بسبب التكالب على الأشياء والصراع على المصالح، يطرد الأخ أخاه من السكن للاستحواذ عليه، ويقتل الابنُ أمَّه لمصاغها وثروتها، وتقتل الزوجة زوجها للخلاص منه، ويُخطَف الأطفال، ويُعتدَى على النساء في نفس الوقت الذي يظهر فيه الحجاب، ويشتدُّ فيه الوازع الديني، وتُقام الشعائر على الملأ وفوق رءوس الأشهاد!

    ويمكن تجاوزُ هذين النقيضين؛ الروحية العرجاء والمادية العمياء، عن طريق وحدة الروح والطبيعة؛ الله والعالم، على ما ظهر في تراثنا القديم في علوم الحكمة في التوحيد بين علم الطبيعة وعلم ما بعد الطبيعة، بين العلم الطبيعي والعلم الإلهي. فهما علم واحد ذو واجهتَين، وجود واحد ذو طبيعتَين. كما وضح ذلك أيضًا في علم أصول الدين في القول بقِدَم العالم، وعند الصوفية في وحدة الوجود. بل وظهر أيضًا عند علماء أصول الفقه في التوحيد بين النصِّ والواقع، بين الأصل والفرع، بين الشرع والمصلحة. لقد تقدَّم الغرب في عصر النهضة بالانتقال من الله إلى الطبيعة، من الكتاب المُغلَق إلى الكتاب المفتوح، وهو ما حاوله إخوان الصفا من قبل، ولكن الذي عاش في وجداننا القومي هو استلابُ الطبيعة واغتراب الإنسان.

  • (٢)
    جمال الطبيعة وتسلية الفن: وإن حضرت الطبيعة من وراء ستار، أو من الباب الخلفي، على أيَّة صورة كانت، فإننا نسلخ منها بُعدَها الفني وجمالياتها نظرًا لحالة الضنك التي نعيشها، فالطبيعة قدْر ما تعطينا من أود الحياة؛ الخضرة نأكلها، الورد نصنع منه شرابًا، الجمال تَرَف لا قِبَلَ للناس به، الشيء للهضم لا تتأمل، والمرأة للجنس لا للشعر إلا فيما ندر. لذلك افتخر الغرب علينا بأنه هو الذي اكتشف الحُبَّ والإنسان والزمان والتاريخ. وفي المثل الشعبي «اللي عاوزه البيت يحرم على الجامع»، وأيضًا «اللي غاوي ينقط بطاقيته»، يصبح القبح نمط حياة، وتتعود النفس عليه فتفقد إحساسها بالجمال. القبح هو القاعدة والجمال هو الشاذ. نُصَاب بالغثيان، وتضيق بنا السُّبُل، وتختنق الأنفاس. نعيش بين أكوام القاذورات وعلى حواف المجاري الطافحة، النظافة تَرَف لا قِبَل لنا به، مستوردة دخيلة، توجَد فقط في الفنادق الكبيرة. قد ينشأ ذلك من الحاجة وضرورات الحياة، فالفم يأتي قبل العين أحيانًا!

    وفي نفس الوقت الجمال لدينا هو تسلية الفن تعويضًا عن قُبح العالم، فيكثُر الرقص، وتزداد أهمية الغناء، وتتحول أجهزة الإعلام إلى وسائل للترفيه نصف الوقت، وإلى بوق دعائي للدولة النصف الآخر. يكثُر الهزل لاستجداء الضحك الرخيص، ويعظُم دَور الراقصات والفنانين في حياتنا القومية، وينزوي دَور العلماء والمُفكرين والأدباء. انتشر الفنُّ الهابط، وانزوى الفنُّ الرفيع. لم يعد في الفن فكرة ولا نبل، لم يعد يثير في النفس جمالًا ولا في الروح جلالًا. وإذا ضاعت الغائية ضاع الجمال، وإذا غاب الهدف ثقلَت النفس، وارتكنَت إلى البدن، وعمَّ القُبح، واحتاج الإنسان إلى التسلية كنوع من التفريج عن الهمِّ وتخفيف الكرب.

    ويمكن تجاوزُ هذين النقيضين عن طريق الانتقال من جماليات اللغة إلى جماليات الطبيعة، فنحن نقرأ القرآن، ونطرب لفنون التجويد. قد يكون ذلك في المقابر والأزقَّة والأحياء القديمة بين أطنان القاذورات التي يعفُّ عليها الذباب. بل إن شكل قارئ القرآن لدينا هو الأعمى، الحافي القدمين، الجائع، أشعث الشعر، مُهتَّم الأسنان، غير حليق الذقن، وَسِخ الجلباب، حامل القُفَّة، طالبًا الرحمة! فالبُعد الجمالي حاضر في اللغة وغائب في الطبيعة، حاضر في الصورة الفنية وغائب في الأشياء، يشنِّف الآذان ولا يسرُّ العيون. في حين أن الآية لغة وطبيعة، كلام وشيء، لفظ وظاهرة، وإن وصف الطبيعة في القرآن الكريم، طبيعة خضراء، يسقط عليها الماء فتهتزُّ الأرض وتربو، عليها النخل الباسقات، والشمس والقمر والنجوم، والطيور ذوات الألوان، والبحار الممتدة، والأرض المنبسطة، كل ذلك توحيد بين جماليات اللغة وجمال الطبيعة وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (١٦: ٦). وكما قِيل: «إن الله جميل يحب الجمال.» وفي التجربة الصوفية يظهر التوحيد بين التجربة الدينية والتجربة الجمالية في الشعر الصوفي والمواجيد والإنشاء الديني. إن الشعر هو شعر الطبيعة، والجمال هو جمال الطبيعة.
  • (٣)
    التصور الرأسي للعالم والسلوك الأفقي فيه: وغالبًا ما نتصور العالم تصورًا رأسيًّا؛ أيْ إن العلاقة بين الطرفين هي علاقة الأعلى بالأدنى نزولًا، أو علاقة الأدنى بالأعلى صعودًا، فالحقائق تنزل من أعلى إلى أسفل أو تصعد من أسفل إلى أعلى. النزول في حالة الأمل والانتظار، والصعود في حالة اليأس والرغبة في الخلاص. النزول في المعرفة عن طريق الإلهام، وفي السلوك عن طريق العون والمدد والدعاء ورفع الأكفِّ والشخوص بالأبصار إلى السماء، وهو ما سمَّاه إقبال «فلسفة السؤال». وكلاهما يُغذِّي بعضه بعضًا؛ فالنزول من الله إلى العالم أو من الراعي إلى الرعيَّة أو من الحاكم إلى المحكوم، والصعود من العالم إلى الله، ومن الرعيَّة إلى الراعي، ومن المحكوم إلى الحاكم. الأول أيديولوجية السُّلطة المُترسِّبة في وعينا القومي من الأشعرية القديمة، والثانية أيديولوجية الاستسلام والطاعة المختزنة أيضًا في وعينا القومي من التصوف القديم. وكانت عبقرية الغزالي في تشريعه للأيديولوجيتين؛ الأولى في «الاقتصاد في الاعتقاد»، والثانية في «إحياء علوم الدين»، بعد أن كفَّر المُعارَضة السِّريَّة المُسلَّحة في الداخل في «فضائح الباطنية»، والمُعارَضة العلنية المُسلَّحة في الخارج (الخوارج)، ثم المُعارَضة العلنية الفكرية في الداخل (المعتزلة والفلاسفة) في «تهافت الفلاسفة». لذلك ازدوجَت الأشعرية والتصوف منذ القرن الخامس حتى الآن، إبَّان الألف عام الأخيرة، مرورًا بدولة الخلافة حتى نُظم الحكم وأجهزة الإعلام الحالية. لم يعد هناك فرق بين الصعود أو النزول، فكلاهما حركة واحدة، تعيش كلٌّ منهما على الأخرى. في حالة النزول، يُنادَى لصلاة الاستسقاء حتى تهطل الأمطار، ولصلاة الاستخارة حتى يصدُر القرار الحر! درجات الرقي الوظيفي إلى أعلى في السُّلَّم الهرمي، ومستويات التعليم إلى أعلى، من المراحل الأولى فالثانية فالثالثة، من السنة الأولى إلى الثانية إلى الثالثة … إلخ. ولا فرق بين طرق الصوفية وحلقات تعاطي المُخدِّرات، بل وخلايا الأحزاب، كلاهما يبغي الخروج من هذا العالم والانتقال إلى عالَم آخر، الخروج من الواقع والدخول في الوهم. هذا الارتقاء في كل شيء إلا في المنهج؛ أي البداية من الواقع إلى الفكر، ومن الجزئيات إلى الكليَّات.٢

    وفي نفس الوقت يكون سلوكنا القومي أفقيًّا صِرفًا، دخولًا في الدنيا وتعلقًا بأمورها، وتكالبًا عليها، وكأن التصور الرأسي للعالم ما هو إلا قناع يخفي السلوك الدنيوي، وكأن حركتَي الصعود والنزول ما هما إلا مددًا وتقويةً للهدف النهائي؛ وهو التكيف في شئون الحياة. لذلك ينجح المُتديِّنون في التجارة، وتزدهر البنوك الإسلامية، وتنشط شركات توظيف الأموال، وينال الصوفية كل شيء، تركوا الدنيا طواعيةً فأتتهم كرهًا. لذلك استحسنَّا شخصية طرطوف لموليير، ونقلناها إلى الشيخ متلوف. وسخرنا من سلوك الشيخ أمام قصعة الفتَّة، ومن نحنحة الشيخ الضرير حتى تتوارى النساء ظاهرًا، والإعلان عن قدوم الذكر باطنًا!

    والحقيقة أنه يمكن تضييقُ الهوَّة بين الطرفين أيضًا عن طريق التوحيد بين الروح والطبيعة، بين الدين والدنيا دون أخذ أحدهما شعارًا للآخر، فالصعود إلى أعلى هو دخول إلى أعماق النفس لسَبْر أغوارها، والنزول إلى أسفل هو الدخول في أعماق الواقع لسَبْر أغواره كذلك. إن تحويل العلاقة بين الطرفين من الأعلى إلى الأدنى إلى الداخل والخارج أو الأمام والخلف لقادرٌ على التوحيد بين التصور الرأسي للعالَم والسلوك الأفقي فيه.

  • (٤)
    التصور الهرمي للعالَم وتسوية كل شيء بكل شيء: وينبع من التصور الرأسي للعالم، والعلاقة بين الأعلى والأدنى، التصور الهرمي له هبوطًا أو صعودًا كذلك على مراتب أو درجات. وهي ليست فقط مراتب وجود، ولكنها أيضًا مراتب شرف. كلما صعدنا إلى أعلى زادت مراتب الشرف، وكلما هبطنا إلى أسفل قلَّت مراتب الشرف. كلما صعدنا إلى أعلى زادت مراتب الكمال وقلَّت مراتب النقص، وكلما هبطنا إلى أسفل زادت مراتب النقص وقلَّت مراتب الكمال. ثم ينتقل هذا التصور من الوجود إلى الأخلاق والاجتماع السياسي فينشأ المجتمع الطبقي والمجتمع البيروقراطي. ويرتبط التصور الهرمي للعالَم بالتصور المركزي له، فالتصوُّر الهرمي على المستوى الطولي هو نفس التصور المركزي في المسقط العرضي. وكما تتركز القيمة في قمة الهرم في مقابل القاعدة، كذلك تتركز القيمة في مركز الدائرة في مقابل المحيط. ولا تُهمُّ العلاقة بين الاثنين، أيُّهما علة وأيهما معلول، فكلاهما تجربة مُعاشة في الشعور، والعلاقة بينهما وجدانية لا صورية ولا مادية.

    وقد سُمِّي ذلك التصور قديمًا نظرية الفيض أو الصدور. وكانت إحدى الاحتمالات، عند المتكلمين والفلاسفة والصوفية في مقابل الخلق والقِدَم، لتحديد الصلة بين العالم والله. لم تعِش نظرية الخلق التي بدأها الكندي. كذلك لم تعش نظرية القِدَم التي دافع ابن رشد عنها. واستقرَّ الفيض في الوعي القومي تعبيرًا عن المجتمع السُّلطوي وتشريعًا له.

    وفي نفس الوقت الذي نتصور فيه العالم متدرجًا بين الأعلى والأدنى نزولًا، أو بين الأدنى والأعلى صعودًا، نُسوِّي كل شيء بكل شيء؛ الأشخاص مع الأشياء، البشر مع الحيوان، والحيوان مع الجماد، وطبقًا للمَثَل الشعبي «كله عند العرب صابون»، أو عادةً قول «ما تفرقش»، «كله زي بعضه». ونفقد هذه الميزة الوحيدة للتصور الهرمي، وهي تفاضل القيمة، واعتبار الإنسان أعلى قيمة من الحيوان، والحيوان أعلى قيمة من الإنسان، القطط والكلاب والأطفال على أكوام الزبالة، الفلاح والحيوان يعيشان في نفس المكان. وفي الأمثال العامية: «سمك، لبن، تمر هندي»، أو «إيه اللي جمع الشامي مع المغربي»، «ما فيش فرق» … إلخ.

    ويمكن التوسُّطُ بين هذين الطرفين عن طريق التفاضل في القيمة بين البشر على نفس المستوى، فالبشر بشر متساوون من حيث المبدأ، ثم يتفاضلون فيما بينهم من حيث العمل. الشعوب كلها متساوية من حيث المبدأ، ثم تتفاضل فيما بينها من حيث الإبداع الحضاري. المساواة مبدأ واللامساواة واقع. لا يستوي العلم والجهل، الخير والشر، البصير والأعمى، النور والظلمات، الحسنة والسيئة، الإيمان والفسوق، الإنفاق والشح، الجهاد والقعود، الطيب والخبيث، العدل والظلم، الحي والميت، الجنة والنار … إلخ. وما أكثر الآيات التي تستنكر استواء النقيضين مثل: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ (١٣: ١٦)، وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ (٤١: ٣٤)، لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ (٤: ٩٥)، قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ (٥: ١٠٠)، وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ (٣٥: ٢٢)، قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (٣٩: ٩)، أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (٣٢: ١٨)، لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ (٥٩: ٢٠).
  • (٥)
    الهروب إلى الدين والعودة إلى الدنيا: وعادةً ما نُوصَف بأننا أشدُّ الشعوب تديُّنًا، وفي نفس الوقت نحن من أشدِّ الشعوب دنيويةً وحبًّا للحياة وتكالبًا عليها. وفي شخصيتنا القومية — كما تبدو في التاريخ — ارتبط الدين بالدنيا في الأخلاق والاجتماع والسياسة، فالله هو فرعون، وآمون هو الله والشمس. وكان الكهنة هم العلماء، وكانت حياة الناس مُوجَّهةً بالعقائد. خرجت العلوم الرياضية والطبيعية من ثنايا الدين لبناء المعابد ولتحنيط الموتى. لا فرق بين الشرائع الإلهية وقوانين الزراعة، كما هو واضح في شريعة حمورابي. ولا فرق بين الشريعة والقوانين الأخلاقية، كما هو واضح من ألواح موسى، ولا فرق بين الدين والدولة، كما هو واضح في القرآن الكريم. وتجسَّد ذلك كله في الدولة الفرعونية القديمة وأشكالها المختلفة عبر القرون. كما ظهر في الدولة العبرانية أيام داود وسليمان، ثم في الدولة الإسلامية أيام الخلافة. خرجت العلوم الإسلامية من ثنايا الدين، ونشأت الحضارة بفضل الدين. وكما قال ابن خلدون من قبل: «إن العرب لا يحصل لهم المُلك إلا بصبغة دينية أو ولاية أو أثر عظيم من الدين على الجملة.»٣

    ولكنْ ما إن انهارت الدولة وضعف الدين، بصرف النظر عن أيهما علة وأيهما معلول، أيهما بدأ في الانهيار أولًا وأيهما ثنَّى نتيجةً؛ بدأ الدين والدنيا يأخذان خطَّين مُنفصلَين، الأول صاعدًا إلى أعلى كما فعل الأسينيون أثناء عصر المسيح، وتابعهم المسيح داعيًا إلى الدين دون الدنيا وإلى إعطاء ما لقيصر لقيصر وما لله لله، ومؤسِّسًا الكهنوت، والثاني نازلًا إلى أسفل وهو الذي مثَّله الفريسيون والأحبار وما كانت تُمثِّله الإمبراطورية الرومانية. وأتى الإسلام ليجمع بين الخطَّين من جديد؛ بين اليهودية والمسيحية، بين الشريعة والمحبة، بين الله وقيصر. ونجح في ذلك أيام الخلفاء الأوائل حتى نشأ الصراع من جديد فانزوى الدين وراعته الصوفية، وامتدَّت الدنيا تحت أقدام الملوك. والشعب بين الاثنين حائر مُوَزَّع بين دافعيه الرئيسيين، ومُكوِّنيه لمزاجه وطبيعته وثقافته، ينشد مع الطرق الصوفية، ويختار حِرفةً يعيش منها، يغرق في الدين ويغرف من الدنيا، تطول اللحى، وتتكور الكروش، ترتفع المآذن وتُقام أعمدة القصور. ينام المُشرَّدون في المساجد، ويأوي المجاذيب على نواصي الطرقات. تزدحم المساجد بالمُصلِّين ويكثُر الباعة حولها. وعند البعض الحجُّ تجارة، والحجاب زينة، والصوم شبع كما يظهر ذلك فيما تزخر به موائد الإفطار وفي المظاهر الدنيوية في حياة الليل في رمضان. وفي أجهزة الإعلام بين صلاة المغرب والعشاء فاصل من الرقص الشرقي وإحدى حلقات الفوازير. وفي المساجد بعد التراويح الجلوس على المقاهي حتى السحور. انزوى الدين في ميدان حتى تحوَّل إلى شعائر وطقوس، وتجاور مع الدنيا بضجِّها وضجيجها. أصبح عالَمًا مستقلًّا بذاته، مُغلقًا على نفسه، فيه تعويضٌ عن مآسي الدنيا، حتى يسهُل فيه همُّ الانتصار، ويسهُل فيه الحصولُ على المعارف اللدنية.

    وفي نفس الوقت، يبزغ حبُّ الدنيا، وكما هو في المثل الشعبي «اللي عايزه البيت يحرم على الجامع». وقد وضح ذلك أيضًا في القواعد الفقهية مثل: «لا ضرر ولا ضرار»، «الضرورات تبيح المحظورات»، «لا تكليف بما لا طاقة به» … إلخ. وكل شيء في الطبيعة الإنسانية قنَّنه الشرع؛ الطعام والشراب، حتى الإشباع الجنسي المتعدِّد … إلخ. والحقيقة أن الدين الشعبي قد أظهر هذه الوحدة الأولى بين الدين والدنيا التي تحوَّلَت من مستوى الدولة إلى مستوى الممارسة الشعبية، واستطاع أن يقوم بدَور الوسيط بين الطرفين.

  • (٦)
    غياب الإنسان وتشخيص الفرد: وفي تصوُّرنا للعالَم، وفي إحساسنا بالأشياء، يغيب الإنسان كما يغيب البُعد الإنساني للأشياء. لا يُهمُّ وجوده كفرد، ولا حياته كقيمة. لا تُهمُّ راحتُه البدنية ولا معلوماتُه الصحيحة ولا تذوُّقُه للجمال. الغذاء الفاسد يكفيه، والإرهاق الجسماني لا غبار عليه، والقُبح حوله لا حرج. يكفي أنه يتنفس، ويعيش، ويتحرك ويسير على الأقدام كباقي الدواب. يتمُّ بناءُ كل شيء من أجل الكسب، بصرف النظر عن حقِّ الإنسان في أن ينال خدماتٍ في مقابل ما يدفع. يتمُّ تجهيزُ المستشفيات للاستثمار، ويظلُّ الإنسان يعاني من آلام المرض، أو في حشرجة الموت وهو يحتضر، إلا إذا دفع أولًا مُقدَّم أتعاب قبل الدخول من الباب. ويخرج الإنسان في الصباح من منزله ولا يعود إليه في المساء ويختفي. يأتي زوَّار الفجر، ويأخذون الأب والزوج والابن والأخ إلى غير رجعة. تتكدَّس الأجساد في المواصلات العامة، في الفصول والمُدرَّجات بلا فردية أو آدمية أو كيان. ولقد غاب الإنسان من قبلُ في تراثنا القديم فغاب في وجداننا القومي. يتمُّ الصعود من العالم إلى الله مباشرةً، أو النزول من الله إلى العالم دون توسُّط الإنسان إلا من قسمته إلى قسمَين؛ جسم في الطبيعيات، وعقل في الإلهيات. فالحكمة القديمة ثلاثة؛ منطق وطبيعيات وإلهيات. لا توجَد إنسانيات باستثناء إخوان الصفا الذين أضافوا النفسانيات والعقليات. أمَّا الإنسان كبُعد مستقل، ككيان ومنطقة وجود، فلا وجود له.٤

    وفي نفس الوقت الذي يغيب فيه الإنسان العادي يحضر الإنسان الفرد، الأوحد الفريد، الذي لا مثال له ولا منوال، رئيس الدولة أو الشركة أو الهيئة أو الجامعة أو ربُّ الأُسرة. وكما قال أحد فلاسفة الغرب: «في الشرق واحد فقط هو الحر، والباقي عبيد!» وذلك نتيجة للتصور الهرمي للعالَم، حيث يقبع في القمة الإمام والرئيس والقائد والمُعلم والمُلهم والزعيم والمُجاهد … إلى آخر هذه الألقاب القديمة والحديثة على السواء. إذا خرج من القاعدة على النظام — كما يقول الفارابي — فإنه يجب بترُه حتى يستويَ الجسم كله، كما يحسُن بترُ العضو الفاسد حمايةً للجسم كله! تحمل الدولة اسم الفرد. هذه دولة الأمويين، وتلك دولة العباسيين والفاطميين والإخشيديين والطولونيين حتى العصر الحاضر. الفرد الأوحد هو الدولة، هو الذي يضع السياسات ويُنفِّذها، والمؤسَّسات تتابع وتراقب مَن يعصي أو يعترض ولا تراقب صحة التنفيذ. هو المؤسَّسة أو المصلحة أو الهيئة. وزير الزراعة هو الزراعة، وزير الصناعة هو الصناعة، وزير الكهرباء هو الكهرباء … إلخ. رئيس الجامعة هو الجامعة، والأستاذ هو الفصل أو المُدرَّج، والسائق أو المُحصِّل هو المَركبة، والأب هو الأُسرة. لذلك قِيلَ من قبل: «إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.» وقِيلَ أيضًا: «الناس على دين ملوكهم.» وقال الشاعر العربي:

    إذا كان ربُّ البيت بالدُّفِّ ضاربًا
    فشيمةُ أهل البيت كلهم الرقصُ

    إذا ما تغيَّر الفرد الأوحد تغيَّرت سياسات الدولة وسياسات الهيئات والمصالح العامة. وبتغيُّر مزاج الأفراد واختياراتهم وولاءاتهم تنقلب السياسات رأسًا على عقب. مات الملك، يحيا الملك. كفرعون مصر القديم الذي يأتي فيمحو سجلات الفرعون السابق ليسجِّل التاريخ من جديد على حوائط المعابد، فالتاريخ يبدأ عنده وينتهي به. لذلك غاب من وعينا القومي التراكم التاريخي اللازم لنشأة الوعي التاريخي. أول خبر في نشرة الأخبار عن الرئيس، ماذا فعل؟ ومَن قابل؟ ومَن أرسل له برقيةً أو خطابًا؟ ومَن هنَّأ ومَن عزَّى؟ ما هي آخر حركاته وأولى سكناته؟ ما هي تنقُّلاته ونصائحه وتوجيهاته؟ أمَّا مصائب الناس وأزماتهم، المنازل المُهدَّمة، والمجاري الطافحة فهي ليست بأخبار. ثم يتمُّ الانتقالُ من فرد إلى فرد، من حياة رئيس إلى موت رئيس، من رئيس مقتول إلى مرءوس قاتل، تجرأ فاغتال الرئيس أو أحد الوزراء من معاونيه. كلاهما منطق البطولة! وكثيرًا ما ينال البطلُ المضادُّ، الذي يزعزع مكانة الرئيس الأوحد، تعاطُفَ الشعب وإعجابه. وكلاهما يتصدر أخبار الصحف في الصفحات الأولى. وكما قال برودون وروسو من قبل: ليس السارق مَن سرق، ولكنه أول مَن أخذ شيئًا وقال هذه لي. كذلك ليس القاتل مَن قتل ولكنه أول رئيس قال: أنا ربُّكم الأعلى!

    ويمكن تجاوزُ هذين النقيضين؛ غياب الإنسان وتشخيص الفرد، عن طريق تحوُّل التصور الرأسي كله إلى تصوُّر أفقي للعالم. وبدل أن تكون العلاقة صعودًا وهبوطًا تكون تقدُّمًا ونكوصًا، وبالتالي يمكن ردُّ الاعتبار إلى القاعدة من القمة، وإثبات استقلال المؤسَّسات عن رؤسائها، ويكون الجميع على قَدَم المساواة.

  • (٧)
    الإحساس بالزمان: البطء والسرعة: وفي إحساسنا بالزمان البطء الشديد في إنجاز العمل، وتأجيل عمل اليوم إلى الغد طبقًا للأمثال الشعبية المألوفة: «فوت علينا بكرة»، «هيه الدنيا طارت»، «في التأني السلامة وفي العجلة الندامة». مواصلاتنا من أبطأ المواصلات في العالم، مواعيدها في تأخر مستمر. أصبحنا نُعرَف بعدم الدقة في تحديد الزمان وضبط المواعيد، يقول أحدنا «سأمرُّ بعد الظهر»، أيْ في خلال أربع ساعات، أو «سأمر غدًا»، أيْ في فترة يبلغ مداها ثماني ساعاتٍ على الأقل! ويظهر عدم الدقة هذا في برامج الإعلام عندما تُغيِّر مواعيد البرامج طبقًا لأهمية الأحداث، أو طبقًا للكمِّ الهائل من الإعلانات بُغيةَ التجارة، ما دام المشاهدون ينتظرون الفيلم! كل ذلك على الرغم ممَّا قِيلَ في أمثلتنا وحُكمنا ونصائحنا «لا تؤجل عمل اليوم إلى الغد»، وكذلك قول الشاعر العربي: «وكان أفضل لو أنهم عجلوا.»

    وفي نفس الوقت لدينا إحساسٌ مضادٌّ بالعجلة وعدم الدقة في إتيان أيِّ شيء و«الطسلأة». يبدو ذلك في سرعة تناول الطعام، وسرعة قيادة السيارات، لا إبقاءً على حياة ولا حفاظًا على أحد. نريد أن نبني المجتمع الاشتراكي في جيل واحد فنقفز على المراحل قفزًا فنُصاب بردَّة، ويكتسب الشعب مناعةً ضدَّ الاشتراكية إذا ما عادت ثانية. نريد أن تُحقَّق الوحدة القومية فنعلن عنها وحدةً جزئيةً بين يوم وليلة بمجرَّد لقاء زعيمَين، سرعان ما يدبُّ الخلاف بينهما فتنفضُّ الوحدة قبل أن تتم. لا يعيش الإنسان منَّا عمره، بل عمر أجيال قادمة أو أجيال ماضية، فنحن باستمرار خارج الزمن والمرحلة واللحظة، إمَّا مُبطئين وإمَّا مُسرعين.

    ويمكن تجاوزُ هذا التناقض بين البطء والسرعة، بين السكون والحركة، عن طريق الانتقال المرحلي، ومعرفة مسار الأشياء، وتحديد المرحلة التي يعيشها. وهذا يتطلب إحساسًا واعيًا بالتاريخ وبحركة الأشياء وبالمراحل المتعاقبة، حتى لا يتمَّ القفز عليها، والعودة إلى مرحلة ماضية أو السبق إلى مرحلة تالية. لذلك كان أهم سؤال لجيلنا: في أيِّ مرحلة من التاريخ نحن نعيش؟ ويمكن لأفكار الوقت والأجل والكتاب واللحظة التي لا تتقدم ولا تتأخر أن يكون لها أبلغ الأثر في إحساسنا بضبط الزمان، وكما هو الحال في القرآن الكريم: قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (٣٤: ٣٠)، فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (١٠: ٤٩، ١٦: ٦١).
  • (٨)
    الإحساس بالمكان: الارتباط بالأرض والهجرة: وفي الإحساس بالمكان لدينا أيضًا إحساسان متعارضان؛ الأول الالتصاق بالأرض، وعدم مغادرة القرية، والشكوى من الغربة، ومن فراق الأوطان. والثاني: الهجرة والفرار، والسعي في أرض الله الواسعة بحثًا عن الرزق، سواء كانت هجرةً مؤقتةً أو دائمة. ويرتبط بالالتصاق بالأرض الضيق والزحام والمكاتفة والتصاق الأجسام. في مصر خمسون مليونًا يسكنون في ٤٪ من مساحة البلاد، ولا يختلف الحال كثيرًا في البلاد العربية من حيث الكثافة السكانية، حيث تمتدُّ الصحراء الشاسعة ولا يقطن السكان إلا في الوديان وعلى ضفاف الأنهار أو في السهول وعلى شواطئ البحار. والأمثلة الشعبية على ذلك كثيرة «الأرض تكفي ماية». وبسبب ضيق المكان اختنقَت الأنفاس، وتوتَّرَت الأعصاب، ولم يعد أحدٌ يتحمل أحدًا لا من القادة ولا من المواطنين. وفي نفس الوقت ننزع إلى الهجرة، ونريد أن نهرب من المكان الضيِّق إلى مكان أوسع وأرحب في الخليج أو الحجاز أو ليبيا أو الشام أو العراق. وقد تمتدُّ الغربة إلى أيِّ مكان إلى أوروبا وأمريكا وأستراليا. وعلى أبواب السفارات العربية والأجنبية يتجمهر الناس منذ الصباح الباكر بالآلاف طلبًا لتأشيرات الدخول فتُقفَل في وجوههم الأبواب، ويُستدعى الأمن المركزي لضربهم بالعِصيِّ الخشبية والسيور الجلدية مع السبِّ واللعن للأب والأم، «إيه اللي رماك على المر قال اللي أمر منه!» أصبحَت الهجرات العربية الحديثة ظاهرةً تسترعي الانتباه، ليست كهجرة القدماء الفاتحين حاملين لواء الإسلام، ومُبشِّرين به للبلاد المفتوحة، ولكنْ حاملينَ حقائبَ الأموال كالعربي القبيح في لندن لشراء مخازن بأكملها تُفتَح له أيام العطلة والآحاد ويشتري بالملايين، بما في ذلك الحوائط والأسقف ومستلزمات القصور. وآخرون يهاجرون ليناموا على الأرصفة وفي محطات مترو الأنفاق، يغسلون الأطباق، ويعملون خدمًا في المقاهي والمطاعم وحُرَّاس فنادق بالليل. وتكوَّنَت في الخارج مستعمرات عربية بأكملها في أحياء خاصة بالمُدن الأجنبية، يتحدثون فيها لغتهم الوطنية، وينعمون فيها بتقاليدهم، ويستأنفون نميمتهم وحسدهم، تتلقَّفهم الكنائس والمساجد لتنسيق نشاطاتهم، يعيشون في أحياء معزولة Ghetto كما عاش يهود أوروبا من قبلُ، وكما هو الحال في عديد من المُدن الأمريكية؛ الحي الألماني، الحي الإيطالي، الحي الهولندي، والحي العربي … إلخ.
    ويمكن الجمعُ بين النقيضين عن طريق الهجرة المؤقتة إمَّا لطلب العلم أو لجمع المال أو لكسب الخبرات، كما حدث أيام محمد علي وعبد الناصر من أجل عودة قريبة إلى الوطن والمشاركة في تنميته الشاملة. أمَّا الهجرة بسبب الاضطهاد فإنها تكون أيضًا مؤقتة، أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا، وذلك مثل هجرة الرسول ثم العودة إلى موطنه الأصلي. الهجرة نوع من الانتظار المؤقت إلى أن يحين وقت العودة من أجل فعالية أكثر وحماية أكبر.
  • (٩)
    الانفعال الزائد واللامبالاة القاتلة: وممَّا يميز سلوكنا القومي أيضًا هو زيادة النبرة، وحِدَّة الانفعال في موقف قد لا يتطلب ذلك، بل كعنصر دائم ونمط حياة. وفي نفس الوقت، وفي مواقف تتطلب حِدَّة الانفعال نُظهر لامبالاة قاتلة، وحيادًا باردًا، وكأن الأمر لا يعنينا. فالانفعال الزائد هو شحنة عاطفية زائدة على الموقف تطفو منه، وتنساب عليه، مثل الصراخ والعويل والضجة غير اللازمة حيث تفيض في اللغة بلا حساب، فيغرق الانفعال الألفاظ متجاوزًا المعنى. وأصبح الانفعال الزائد وظيفته، مثل الصراخ، الإعلان عن الذات، وتسجيل موقف، ويكشف بطريق غير مباشر عن العجز عن السيطرة على الموقف أو على عدم اهتمام به عن طريق إظهار العكس. أصبحَت الانفعالات التي تبدو في المعارك الكلامية إحدى سمات سلوكنا القومي، ولا مثيل لها في العالم. وإذا كنَّا تميَّزنا بالمديح قديمًا فإننا تخصَّصنا في «الردح» حديثًا! غاب تحليلُ العقل، وساد انفعالُ العاطفة. أصبحَت تحليلاتنا وقتيةً تتغير باستمرار بتغيُّر العواطف وتقلُّب الأهواء. تغيَّرَت مجتمعاتنا واختياراتنا من النقيض إلى النقيض، من المصالحة إلى الخصام، ومن الخصام إلى المصالحة دونما سبب يدعو إلى هذا أو ذاك. سادت أساليب التمثيل، والمسرح لدينا طابعه الصراخ والعويل والانفعال الزائد، سواء في المأساة أو في الملهاة دون أن يتطلبه الموقف، وعلى حساب العمل الفني والأداء السليم. أعلانا صوتًا هو أكثرنا انفعالًا! يظنُّ أنه بذلك «التهويش» ينال غرضه، ويحقِّق المنال. وفي نفس الوقت نقرأ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ (٣: ١٣٤)!

    وفي نفس الوقت كثيرًا ما تتطلَّب بعض المواقف حميةً وثورةً وغضبًا أو رفضًا، ونسلك فيها ببرود تام وكأن الأمر لا يعنينا، حتى ولو كان الأمر في صلب حياتنا، يمسُّ كرامتنا ويهدِّد وجودنا. نقول أشياء، ونأتي بأفعال دون اقتناع وبلا شعور، ودون أن نضع قلوبنا فيها، ودون بواعث. أصبح الاضطرار أحد أنماط السلوك، لأنه تحوَّل إلى بناء نفسي دائم، ونظرًا لأن الفعل الحرَّ أصبح نادر الوقوع. ولا يُستَثنى الجنس من ذلك، فأصبحنا أحيانًا نعطي أجسادنا دون قلوبنا. في مواقف تستدعي الانفعال، مثل النَّيل من الكرامة أو هضم الحقوق، يكون ردُّ الفعل هو البرود التام، وطأطأة الرأس، والقَبول والاستسلام. نرى الظلم ولا ننفعل. وفي نفس الوقت نُردِّد: «الساكت عن الحقِّ شيطان أخرس»، «إن أعظم شهادة كلمة حقٍّ في وجه سلطان جائر».

    ويمكن تجاوز هذين النقيضين عن طريق تحويل الانفعال الزائد إلى تحليل عقلي دال، فذاتية الانفعال إحدى مراحل موضوعية العقل. إن الفعل الإرادي الحرَّ الواعي قادر على احتواء الانفعال والسيطرة على الموقف دون التنازل عن حقِّ الإنسان الطبيعي في الحياة الكريمة. ويتمُّ التعبير عن ذلك بالفعل لا بالقول، بالسلوك لا بالكلام، فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ (٤٨: ٢٩).
  • (١٠)
    المحبة والكراهية: وهما انفعالان متناقضان يميزان وجداننا القومي، ويصلان إلى أقصى حد، ويتداخلان ويتبادلان المواقف. إذا أحببنا لا نرى فعل مَن نحبُّ أو سلوكه بل نرى شخصه، وإذا كرهنا لا نرى إلا فعله أو سلوكه، ولا نرى شخصه. نصالح العدوَّ فلا نرى إلا شخصه مجرَّدًا عن أفعاله وسلوكه، ونعادي الصديق فلا نرى إلا فعله أو سلوكه، ولا نرى شخصه. نصالح العدوَّ فلا نرى إلا شخصه مجرَّدًا عن أفعاله وسلوكه، ونعادي الصديق فلا نرى إلا أفعاله وسلوكه مجرَّدًا عن شخصه. نحب مَن يجب أن نكره، ونكره مَن يجب أن نحب! لذلك ظهرت العداوة بين الإخوة الأعداء إلى حدِّ الاقتتال بالسيف، وسفك الدماء. وفي نفس الوقت نقرأ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ، لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ، وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا. حُبُّ الزعامة يطغى على حُبِّ الأخ، وحُبُّ السيطرة يطغى على الإبقاء على حياة الأخ.

    وفي نفس الوقت نحبُّ مَن يجب أن نكره. البعض يحبُّ الطاغية والمُتسلِّط والمستغل والجاهل تملُّقًا أو قضاءً لمصلحة أو تطلعًا، والبعض الآخر يصالح العدو ويمدح سماته، ويتاجر معه، ويلقِّبه بابن العم! نحبُّ التغريب وهو يقضي على الهُويَّة، ونحبُّ تقليد الآخر وهو اغترابٌ للذات. ربما ترسَّب في وعينا القومي محبة الصوفية الشاملة التي لا تفرِّق بين عدو وصديق، بين شيطان ومَلاك. ربما لأننا ضحايا الذاتية الجوفاء الفارغة من أيَّة واقع موضوعي، ذاتية عمياء لا ترى.

    ويمكن تجاوزُ هذا الخلط بين المحبة والكراهية عن طريق التحليل الموضوعي للمواقف وللعلاقات الاجتماعية، مع التفرقة بين التناقضات الرئيسية والتناقضات الثانوية. فالخلافات العربية تناقضات ثانوية، خلافات لا تقضي على الأواصر ووحدة الهدف والمصير، في حين أن الصراع العربي الإسرائيلي صراع رئيسي؛ إذ لا مصالحة مع الصهيونية والغزو والتوسع والعنصرية مهما قِيلَ من إمكانية السلام والتحديث والتنمية والتعاون المشترك. الخلافات داخل الوطن الواحد فرعية والصراع بين الوطن وأعدائه خلاف رئيسي، أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ.
  • (١١)
    القديم والجديد: ويرتبط وجداننا القومي بالقديم حتى جعلنا القِدَم أحد أوصاف الذات الإلهية الستِّ بعد الوجود! وفي أمثالنا العامية «مَن فات قديمه تاه»، نعشق الجبن القديم، ونمدح الخمر المُعتَّق، ونُقدِّس البيت العتيق، ونقرأ العهد القديم، نرتِّق الملابس القديمة، ونُصلح العربات القديمة، ونجمع مخلفات المنازل (الروبابكيا)، ولا نقذف بشيء. لا يوجَد فاقد، بل الكل يُعاد استعماله جيلًا بعد جيلًا. المخزن مملوء، والصناديق عامرة بالرغم من ضيق الأماكن. الطعام خزين؛ السمن والزبد. والمشهيات خزين؛ الزيتون، والليمون والفلفل … إلخ. والسلطان في المغرب العربي هو المخزن، مخزن الغلال. العجوز أكثر خبرةً من الشباب، والماضي أكبر قيمةً من الحاضر. نتحسَّر على الماضي الذي ولَّى، ونندم على الحاضر الذي أتى. العصر الذهبي في الماضي نودُّ اللحاق به، عصر الخلفاء الراشدين، والعصر الحاضر في هذا الزمن الرديء نلعنه وندينه ونتنصل منه، مع أن القديم لفظ اشتباهي يعني ما قدُم عليه العهد، وفي نفس الوقت يعني ما يتقدم إلى الأمام بالمعنى الحديث، فالتقدم قد يكون إلى الوراء وقد يكون إلى الأمام، قد يكون عَودًا إلى الماضي، وقد يكون استباقًا للمستقبل.

    ومع ذلك، هناك الولع الشديد بالموضة وآخر الصيحات كفقاعات الهواء وكنتوءات وبروزات متناثرة. ندافع عن الشعر الجديد ضدَّ الشعر القديم، ونُؤيِّد الأدباء الشبَّان، ونُشجِّع الشعراء الشبان، ونأخذ صفَّ الشباب في معارك الأجيال. نحبُّ الجديد في الثقافة، ويعرض المثقف آخر المذاهب الفكرية، ويستعرض آخر التيارات الأدبية والفنية دون وعي بالقديم ودون تطوير له. وتكون النتيجة أحيانًا ازدواجية الوعي القومي بين قديم تقليدي وجديد منقول. يبدو ذلك بوضوح في مناهج التعليم وفي تكوين السلوك وفي أساليب البناء والمعمار. لم تسلم الأحياء القديمة من نتوءات جديدة، ولم تخلُ الأحياء الجديدة من بروزات قديمة. ويتحوَّل الأمر في الفكر والسياسة من مجرَّد تجاور إلى عداء مُستحكَم.

    ويمكن تجاوزُ هذين النقيضين عن طريق الانتقال من القديم إلى الجديد انتقالًا طبيعيًّا متصلًا، فلا جديد بلا قديم إذا أردنا الأصالة دون التقليد، ولا قديم بلا جديد إن أردنا التطوير دون التحجُّر والتقوقُع على الذات، وإذا كان القِدَم إحدى صفات الذات الإلهية فإن الإبداع أحد أسمائها.

  • (١٢)
    قدرية المصير والبطولة الفردية: وفي وجداننا القومي نتصوَّر التاريخ وكأنه يسير طبقًا لخطة مُسبقة وقَدَر محتوم، «لك يوم يا ظالم»، وأن الإنسان لا يستطيع أن يُغيِّر من الواقع شيئًا. هناك يد تُحرِّكه وتتحكم في مساره، عادلة وواعية، تأخذ للإنسان حقَّه وتقتصُّ من ظالمه. وعلى الظالم تدور الدوائر. والشواهد كثيرة في الماضي. وفي قصص الأنبياء هلاك عاد وثمود، وهلاك قوم نوح وآلِ فرعون، قد يعطي ذلك نوعًا من التفاؤل والثقة بالحق، ولكنه في نفس الوقت يطيل الانتظار والترقُّب، ويسلب الإنسان أيَّة قدرة على الفعل أو التدخل في مسار التاريخ.

    وفي نفس الوقت، هناك انتظار للمخلِّص، وتوقُّع لظهور البطل، متمثلين دَور الأنبياء في التاريخ، ومعتمدين على دَور الأبطال في السِّيَر الشعبية؛ عنترة بن شداد، سيف بن ذي يزن، الزناتي خليفة … إلخ. يخرق البطل مسار التاريخ، ويظهر فيه كنبع عالٍ ينضب بعد قليل أو كبركان ثائر يخمد بعد فترة. ويكون التاريخ هو مجموع هذه اللحظات، ربط هذه القمم، تجمُّع هذه الاستثناءات.

    ويمكن تجاوزُ هذين النقيضين عن طريق تحقيق الفعل في التاريخ، والقيام بمبادرة تاريخية في اللحظة التاريخية المحدَّدة على مسار تاريخي طويل باجتماع القانون التاريخي والفعل التاريخي. من اجتماع المسار التاريخي والمبادرة الإنسانية يقع الحدث التاريخي. البطل نفسه مُعبِّر عن احتياجات عصر، ومتطلبات شعب، والتاريخ لا يتعين ولا تنفجر براكينه إلا في وعي الأبطال، فلا التاريخ قَدَر ومصير، ولا البطولة الفردية وحدها خالقة للأحداث.

    كانت هذه محاولةً اجتهاديةً خالصةً لتحديد المعالم الرئيسية لوجداننا القومي. قد تكون أخطاؤها أكثر من صوابها، وقد تكثُر ظواهر أو تقل، وقد يقع خلافٌ في تلمُّس أسبابها وطرق علاجها، ولكنْ تظلُّ الأبعاد الرئيسية للوجدان القومي قائمةً بصرف النظر عن طرق تناولها.

    وقد تكون عموميات وأحكام تنقصها الدقة والتحليلات الجزئية، ولكن القصد منها إثارة الموضوع، وتنبيه الأذهان. قد يصل الوضوح فيها إلى حدِّ السذاجة، ولكن غياب الرؤية الواضحة هو في نفس الوقت تعالُم وهروب، وتشدُّق بالنظريات؛ تعميةً للواقع وتغليفًا له، وتحويرًا للموضوع وتبخيرًا له.

    وواضحٌ أن التراث الديني هو المُكوِّن الرئيسي للوجدان القومي، كما أنه الرافد الأساسي في الثقافة الوطنية، والباعث الرئيسي في السلوك القومي. وهذا حُكم واقع وليس حُكم قيمة، إقرار بواقع وليس رغبةً وتمنِّيًا واختيارًا شخصيًّا. منه يأتي الإيجاب والسلب، ومنه يخرج النقيضان، وهو القادر أيضًا على تجاوزها عن طريق التوسُّط إلى فكر وسلوك ووجدان سوي.

    وقد يُقال إن مصر باستمرار هي المثال، وإن الأمثلة المضروبة كلها من مصر، ومصر لا تُمثِّل الوجدان القومي كله. والحقيقة أن ما يحدث في مصر في الفكر أو السلوك أو الوجدان إنما يحدث أيضًا في الشعور القومي كله، فمصر ممتدَّة فيه، والأمثلة العامية المصرية، بصرف النظر عن ذيوعها في الوجدان القومي العربي، لها ما يرادفها فيه، كما أن التراث الديني عامل مشترك بين مصر والأمة العربية، يجمع بينهما في وجدان قومي واحد.

    فإن قِيل: إن كل هذا الوصف للوجدان القومي إنما هو وصف لظروف مُعيَّنة حدثَت في جيلنا، ولكن الوجدان القومي أعمُّ منها وأشمل، وأعمق منها وأكثر استقلالًا، قد يتأثر بهذه الظروف وقد لا يتأثر. وعلى أكثر تقدير هي ظروف مؤقتة، وليست سماتٍ دائمةً يتمُّ بها تشخيصُ وجداننا القومي. والحقيقة أنه نظرًا لطول دوام هذه الظروف واستمرارها، أصبحَت واقعًا اجتماعيًّا وتاريخيًّا مستديمًا، وانعكسَت على الشخصية القومية في الفكر والسلوك والوجدان، وتحوَّلَت إلى سمات فيها تظهر في صور مختلفة، وتكون انطباعًا عامًّا لدى المُفكرين والأدباء. وقد يكون المحكُّ الأخير مدى اشتراك الآخرين في نفس التجارب الموصوفة، التي من خلالها يوصَف الفكر القومي والسلوك القومي والوجدان القومي، فلعلَّ التجربة المشتركة تكون الضامن لصدق الوصف وإن تفاوتَت طرقُ التعبير.

١  كتبت هذه الدراسة في صيف ١٩٨٧م، إكمالًا للمقالين السابقين؛ «مخاطر في فكرنا القومي»، «مخاطر في سلوكنا القومي».
٢  انظر دراستنا السابقة: «مخاطر في فكرنا القومي».
٣  ابن خلدون: المُقدِّمة، ص١٥١، المكتبة التجارية، القاهرة.
٤  انظر دراستنا: «لماذا غاب مبحث الإنسان في تراثنا القديم؟» (دراسات إسلامية، ص٣٩٣–٤١٥)، الأنجلو المصرية، القاهرة، ١٩٨١م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤