المقومات الثقافية للشخصية العربية١

أولًا: مقدمة

ما زال موضوع «الشخصية القومية» موضع بحث في العلوم الإنسانية، خاصةً علوم النفس والاجتماع والأنثروبولوجيا الحضارية، وما زالت نتائجه مزيجًا من الأيديولوجية والعلم، من الأفكار المسبقة والتحليل العلمي الموضوعي، وما زالت أحكامه تتفاوت بين العموم والخصوص، فما ينطبق منها على الكل قد لا ينطبق على الجزء، وما ينطبق على الأفراد قد يستحيل تعميمُه على المجموعات. ولمَّا كان يصعُب اتباع منهج استقرائي كلي تام، نظرًا لاستحالة استقراء جميع أفراد الجنس، فإنه اكتفى إمَّا بمنهج الملاحظة الخارجية، أو تلك التي تقوم على المشاركة لبعض النماذج والأفراد، أو بدراسة عيِّنات فردية مُمثِّلة للمجموع.

وقد ظهر موضوع الشخصية القومية في أوروبا في القرن التاسع عشر إبَّان المد الاستعماري من أجل صياغة نظريات التفوق العنصري الغربي في مقابل نظريات الانحطاط والتخلف التي تتسم بها الشعوب المستعمرة، نظريات التفوق الآري في مقابل الانحطاط السامي، أو التفوق الجرماني في مقابل قوميات سلافية أو رومانية أو كلتية أو أنجلوسكسونية أقلَّ منها. بل قد تحولَت هذه النظريات إلى أيديولوجيات سياسية وأنظمة للحكم أدَّت إلى حروب طاحنة، داخل أوروبا وخارجها، إلى آخر ما هو معروف في تاريخ أوروبا النازية والفاشية.

ولكنْ في نفس الوقت ظهر حديث آخر عن الشخصية القومية، داخل أوروبا وخارجها، كدافع للتحرر من الاستعمار، فالحفاظ على الطابع القومي للثقافة أحد مظاهر التحرر. ومن ثَم كان المُقوِّم الثقافي شرط التحرر. تشير الثقافة إلى الجانب المعنوي أو الفكري في الشخصية القومية في مقابل الجانب العملي الذي ينتُج من الظروف والعوامل الموضوعية المادية الحاملة للشخصية القومية. وقد ظهر ذلك بوضوح لدى فشته في «نداءات إلى الأمة الألمانية» عندما لجأ إلى الثقافة واللغة والحضارة والفلسفة والفن والعلم والتاريخ … إلخ، كمُقوِّم أساسي للشخصية الألمانية، تساعد على بقائها ومقاومتها للمُحتلِّ الأجنبي المُمثَّل في نابليون. فإذا أمكن احتلال الأرض فإنه لا يمكن احتلال الروح، أي الثقافة.

وقد كثُر الحديثُ في حياتنا المعاصرة إثر الهزائم المتلاحقة خاصةً بعد هزيمة «حزيران»، يونيو ١٩٦٧م، صراعًا من أجل البقاء. وما زال الحديث قائمًا كردِّ فعل تاريخي على شمولية الدولة العثمانية وعجزها عن صهر القوميات في إطار وحدة أيديولوجية شاملة، وظهور القومية العربية كبديل للدولة الإسلامية وكردِّ فعل على القومية الطورانية وحركة التتريك. وبعد هزائم العرب المتتالية في مواجهة العدو الصهيوني، وبعد صياغة حركة القومية العربية إبَّان المدِّ الناصري، وفي مواجهة التغريب، استمرَّ الحديث عن الشخصية العربية حفاظًا على الهُويَّة، وبالتالي كانت مقاومة الغزو الثقافي أحد مطالبنا القومية.

وفي كل شخصية قومية عنصران؛ عنصر دائم وثابت يكون أقرب إلى الهُويَّة والفكر، وعنصر مُتغيِّر ومُتحوِّل يكون أقرب إلى الاكتساب والممارسة. الأول يُحدِّد معالم الشخصية، يعطيها رؤيتها للعالم، ويُحدِّد أهدافها البعيدة، ويساعدها الثاني على التأقلم مع الظروف السياسية والاجتماعية والمراحل التاريخية. والمُقوِّمات الثقافية من النوع الأول، أي العنصر الثابت الدائم الذي لا يتغير، وإن تعدَّدَت مظاهره وصيغه وأشكاله وممارساته طبقًا لظروف كل عصر. ويمكن رصدُ العنصرَين بسهولة؛ فيمكن استقراءُ بعض عناصر الثبات في الشخصية القومية عبر التاريخ، خاصةً إذا كانت تتحدَّد بماهيات أو بموضوعات مثالية. كما يمكن التعرفُ على الظروف التاريخية التي تجعل الشخصية القومية ترتكن على جانب أو آخر من جوانبها الثقافية.

والشخصية «العربية» ممتدة عبر التاريخ، فهي ليست وليدة القومية العربية كحركة سياسية معاصرة، بل هي ممتدَّة حتى قُبيل الإسلام في الجزيرة العربية، تظهر في الشعر الجاهلي كما تظهر في القرآن، بل إنها ممتدة إلى ما وراء الجاهلية، إلى حضارات ما بين النهرَين، حضارات الشرق الأوسط القديم، وتكون رافدًا أساسيًّا لها مثل حضارة مصر القديمة، وحضارات آشور وبابل. تنتسب إلى حمورابي قدْر انتسابها إلى إبراهيم، وترجع إلى أخناتون قدْر رجوعها إلى موسى، وما القرآن إلا أحد مراحل صياغاتها الثقافية، وما الإسلام إلا أحد أشكال تعبيرها. ومن ثَم فلا تعارض فيها بين الشخصية العربية والشخصية الإسلامية، فالإسلام قلب العروبة، والعروبة جسد الإسلام، الإسلام هو المُقوِّم الثقافي، والعروبة هي الحامل التاريخي. هذا التعارض نشأ من التغريب وانطلق من ظرف تاريخي طارئ مرَّت به أوروبا، وهو التعارض في الشخصية القومية بين مُقوِّماتها الثقافية وحواملها التاريخية.

ولمَّا كان التوحيد هو جوهر الإسلام وعقيدته الأولى، كان التوحيد هو المُقوِّم الرئيسي لهذه الشخصية العربية التي ليس لها مُقوِّم ثقافي آخر إلا هذا التوحيد. ولا يعني التوحيد هنا مجرَّد عقيدة دينية دعَا إليها الأنبياء، بل التوحيد تصوُّر للعالم، وموجِّه للسلوك، يقوم على مبادئ نظرية عامة لا ترتبط بجنس أو بشعب أو بمرحلة تاريخية محدَّدة أو بمكان وزمان معنيَّين. التوحيد مبدأ ميتافيزيقي يجعل الإنسان يرى كل شيء بعين الوحدة دون التشتُّت والتضارب والاختلاف. التوحيد مبدأ كوني يُفسِّر نشأة العالم وتطوره ونهايته، ومبدأ معرفي يضع للإنسان نظريةً في المعرفة تجمع بين الحسِّ والعقل والوجدان، ومبدأ جمالي يجعل الإنسان يعيش في العالم شاعرًا مدركًا للجمال كبُعد للحقيقة، ومبدأ أخلاقي يظهر في وحدة الشخصية والعمل الصالح، ومبدأ اجتماعي يؤسِّس المجتمع على العدالة الاجتماعية والمساواة، ومبدأ سياسي يضع نظامًا يقوم على الحرية والشورى واستقلال المؤسَّسات والرقابة الشعبية.

التوحيد إذَن في كل مظاهره مبدأ وجداني، يظهر في شعور الفرد والجماعة، وبالتالي فهو أقرب إلى التجربة المشتركة والخبرة المُعاشة، يعطي بناءً شعوريًّا للعالم. ولذلك كان أقرب المناهج لوصفه هو المنهج الشعوري، الذي يمكن بواسطته تحليلُ هذه التجربة التي يشارك فيها الجميع باعتبارهم عربًا ومثقفين، وهي تجربة واضحة يمكن إدراكُها بوضوح، لا تحتاج إلى وقائع مادية بقدْر ما تحتاج إلى حدْس للماهيات، ورؤية مباشرة للموضوع. ولكن التوحيد أيضًا وظيفة عملية تظهر في شعور الإنسان وفي البيئة الاجتماعية، ولا يشير إلى كائن مشخَّص، بل ترتبط الوظيفة بإرادة الإنسان الحرة، وبوعيه بحركة التاريخ، وقدرته على تحريك الشعوب. ومن ثَم يظهر التوحيد كفعل أو يتوارى كإمكانية طبقًا لفعل الإنسان المستقل وإرادته الحرة وقيادته للجماهير. يكون في حالة ظهور أو كُمون، فعل أو انفعال، إقدام أو إحجام، تقدُّم أو نكوص، امتداد أو ضمور، اتساع أو انكماش. وهو في كلتا الحالتين موجود إمَّا بالفعل أو بالقوة — كما يقول القدماء — سواء على مستوى الفرد أو مستوى الجماعة أو مستوى التاريخ. التوحيد إذَن له لحظتان؛ لحظة تقدُّم ولحظة تخلُّف، لحظة نهوض ولحظة انهيار. فإذا كانت حضارتنا القديمة تمثل اللحظة الأولى، فإن وجداننا المعاصر قد يُمثِّل اللحظة الثانية، ومحاولة تجاوزنا وتحوُّلها إلى اللحظة الأولى من جديد. وهذا هو معنى عصر النهضة الذي نعيش فيه.

ثانيًا: المبدأ الميتافيزيقي

التوحيد مبدأ ميتافيزيقي يجعل الإنسان قادرًا على رؤية كل شيء بعين الوحدة دونما تشتُّت أو تضارب أو اختلاف أو شقاق. فالإنسان وحدة واحدة لا تضارب فيه ولا صراع بين مقتضيات الروح ومطالب البدن، والمجتمع وحدة واحدة لا طبقات فيه، والإنسانية وحدة واحدة لا وجود فيها لشعب مُختار مُفضَّل على سائر الشعوب، له كل شيء، وليس للشعوب الأخرى أيُّ شيء. وغاية الإنسانية واحدة لا تضارب فيها ولا أهواء، فالوحدة كمبدأ ميتافيزيقي ليست مبدأً مجردًا، بل هو تصوُّر للعالم يظهر في الإنسان وفي المجتمع وفي التاريخ وفي الكون. تبدو مظاهر الوحدة في كل شيء، في الذهن وفي الواقع، في الداخل وفي الخارج، في الإنسان وفي العالم، فمعارف الإنسان الحِسيَّة والعقلية والوجدانية تجتمع كلها لإثبات شيء واحد، والعلوم كلها تبحث حقيقةً واحدة، وكل العلوم يمكن ردُّها إلى موضوع واحد، والمبادئ العقلية العامة يمكن ردُّها كلها إلى مبدأ واحد هو مبدأ الهُويَّة، وموضوعات الحساب كلها تُرَد إلى الواحد الرياضي، وموضوعات الهندسة كلها تُرَد إلى النقطة الرياضية، والموسيقى تقوم على قياس الوحدة الزمنية، وعلم الطبيعة يقوم على حساب الذرة والجزئيات. والأديان واحدة، ورسالات الأنبياء واحدة، والتاريخ البشري واحد، يكشف عن حقيقة واحدة، ويحكمه قانون واحد. الوحدة أصل كل شيء ومنتهى كل شيء. لا يُفَسَّر العالم بالاثنينية أو بالتثليث أو بالكثرة اللامتناهية، فالاثنينية ترجع إلى الوحدة؛ إذ لا يمكن أن يتساوى الطرفان في الاثنين وإلَّا كانا واحدًا. والكثرة ذاتها تُرَد إلى الوحدة؛ لأنها تكرار للواحد إلى ما لا نهاية. وقد كانت كل النظريات والأيديولوجيات الإنسانية التي أثَّرت في التاريخ؛ كانت كلها تقوم على الوحدة.

ولمَّا كانت الوحدة مانعةً من التفرق والاختلاف، وحارسةً من الوقوع في الفتن والحروب والصراعات الدموية، كانت أقدر على الجمع بين الأطراف، والتوفيق بين المصالح دونما تنازل عن حقِّ الوحدة الشاملة على الجميع. ومع ذلك فالوحدة لا تمنع من التعدُّد والكثرة مثل تعدُّد اللغات والأجناس، وتعدُّد الآراء والاجتهادات، ولكنه تعدُّد في إطار الوحدة. فتعدد اللغات والأجناس لا يمنع من التفاهم والتعاون المُشترَك يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا … (٤٩: ١٣). وتعدُّد الآراء والاجتهادات لا يمنع من وحدة الحقيقة النظرية، ووحدة الغاية والهدف.

وقد قامت الحضارة الإسلامية على هذه الوحدة، وحدة الحقيقة واختلاف الفرق، وحدة الأصول واختلاف الفروع، وحدة الأمة واختلاف الأمصار، وحدة التاريخ واختلاف المراحل، وحدة الشريعة واختلاف المذاهب، وحدة العقيدة واختلاف التفسيرات … إلخ. بل إن الحضارة الإسلامية كلها قد قامت ابتداءً من نقطة مركزية واحدة هي الوحي، تنبثق منه العلوم كدوائر متداخلة (الكلام والفلسفة)، أو كمحاور متبادلة للتنزيل والتأويل (الأصول والتصوف). وقد ظهرت الوحدة بوجه خاص في علم اصول الدين كتوحيد في العقيدة وفي علوم التصوف في وحدة الشهود، ووحدة الوجود، والوحدة المُطلَقة.

ولكنْ عندما ضمر التوحيد كمبدأ ميتافيزيقي ظهر التشتُّت والتشرذم، وتضاربت الأهواء، وعمَّت الفتن، وتطايرت الرقاب، وكفَّرَت كل فرقة الفِرَق الأخرى، واعتبر كل مذهب نفسه هو الحق ودونه من المذاهب باطلة، فضاعت الوحدة، وانقلب التعدُّد إلى تشتُّت، وتحوَّل الخلاف إلى اختلاف. ومظاهر التشتُّت كثيرة في حياتنا الخاصة والعامة، في التعليم بين التعليم الديني والتعليم العلماني، بين التعليم الوطني والتعليم الأجنبي، بين التعليم العام والتعليم الخاص. كما بدَا في الوجهات والمقاصد، فهذا شرقي وذاك غربي، وهذا اشتراكي وذاك رأسمالي، وهذا قومي والآخر إسلامي، وأنا وطني وهو عميل، ونحن المناضلون وهم الخونة.

وإن بقِيَت الوحدة، فهي وحدة الزعامة الفردية المُطلَقة التي تجبُّ ما عداها، وتبتلع ما سواها، وتقهر ما دونها، فهناك الزعيم الملهم، والمجاهد الأكبر، والسيد الرئيس، والقائد المُظفَّر. فهي وحدة فردية تسلطية، تمنع التعدُّد والخلاف في الرأي، وترفض الاجتهاد، وتأبى المراجعة، أو تبقى الوحدة كوحدة في الشعارات عن القويمة والحرية والاشتراكية والوحدة، ومفاهيم النضال والتحرير والمقاومة نسمعها في كل مكان، وتضجُّ بها كل أجهزة الإعلام، وفي نفس الوقت يقتتل الفرقاء، وتتصارع الطوائف، وتتفتَّت الأمة، ويتكالب عليها الأعداء.

ومع ذلك، تبقى الوحدة هدفًا قوميًّا، ومطلبًا شعبيًّا، وغايةً ومقصدًا، تُحرِّك الجماهير، تفرح لوجودها، وتسعى لتحقيقها، وتحزن لفراقها، وتتألم لضياعها. هذه الوحدة كمبدأ فلسفي عام ما زال ضامرًا في شعور الناس، يُحرِّكهم لا شعوريًّا، وقادرًا، إذا ما تحوَّل إلى الشعور، أن يقضيَ على التشرذُم والتفتُّت وأن يُوحِّد أوصال الأمة، ويُوحِّدها من جديد.

ثالثًا: المبدأ الكوني

والتوحيد مبدأ كوني يُفسِّر نشأة العالم وتطوُّره ونهايته. التوحيد بداية العالم، مبدأ أولي كوني، بداية مُطلَقة ليس قبلها بداية أخرى. وهو مُساوِق لتطوُّر العالم، لا يغيب عنه، يسايره ويحاذيه. وهو نهاية العالم وغايته، يبقى بعد فنائه، ويستمرُّ في البقاء إلى ما لا نهاية. يقوم هذا المبدأ الكوني إذَن بالربط بين الإنسان والعالم، يجعل موقف الإنسان في العالم واضحًا لا غُربة فيه ولا تشكُّك، يُقدِّم له تفسيرًا لنشأة العالم على نحو مبدئي، بحيث يكون التفسير أقرب إلى البداية المُطلَقة منه إلى البداية النسبية، أو أقرب إلى الانفصال الكيفي منه إلى الاتصال الكمِّي، وهي نظرية «الخلق من عدم» المشهورة في الفكر الكوني، التي تشير إلى البداية الجديدة المُطلَقة، وإلى خروج الشيء من اللاشيء، ممَّا يعطي الإنسان القدرة على الخلق والنموذج للإبداع. وعلى هذا النحو، لا يكون الوجود مَبعثًا على الإحساس بالغثيان، ووجودًا منبثقًا من عدم، دون مُبرِّر أو أساس، ودون فهم أو إدراك. وبالتالي تجعل النظريةُ الإنسانَ أكثر قدرةً على فهم الوجود والتعامل معه، فالوجود له مُبرِّر، وليس مجرَّد انبثاق من عدم، يقوم على عدم، وينتهي إلى عدم، وكأن العدم هو الأساس، والوجود هو المظهر. كما يجعل هذا المبدأ الكوني الإنسان أبعد عن الشكِّ والحيرة فيما يتعلق بنشأة الكون بين النظريات العلمية المختلفة التي تحاول كلها صياغة نظرية تقوم على الاتصال الكَمِّي دون التمايز الكَيفي، وبالتالي يَقدر الإنسان على أن يأخذ منها جميعًا موقفًا، وعلى إعطاء البديل الآخر، كما يساعد الإنسان على اكتشاف قوانين التطور الداخلي في الوجود بعد نشأته، والتعرف عليها ومسايرتها، والسيطرة عليها والاتحاد بها. فالإنسان حالٌّ في التاريخ، وجزءٌ من حركته، وبالتالي يذهب عنه أيُّ عجز عن مواجهة الواقع. كما يساعد المبدأ الكوني الإنسانَ على التنبؤ بالمستقبل بعد معرفة قوانين التطور، وإدراك المستقبل طبقًا لها، وبالتالي يغيب عنه الخوف من المجهول، بل يصبح المجهول لديه معلومًا. كما أنه يمنع من تصوُّر الكون على أنه مادة خالصة؛ إذ إن الكون مادة وصورة، وبالتالي يحمي الإنسان من التجريبية الخالصة، ومن الصورية الخالصة، وهما عنصر العلم. ومن ثَم لا يتأزم العلم بفقدانه أحد عنصرَيه كما حدث في الوعي الأوروبي. كما يجعل الإنسان مرتبطًا بالطبيعة وملتصقًا بها، فالطبيعة قريبة من المبدأ، والمبدأ قريب من الطبيعة، وبالتالي ينشأ العلم بتوجُّه الإنسان نحو الطبيعة. كما أنه يجعل الإنسان عاملًا في الطبيعة، مؤثرًا في الكون، مُثبتًا للعالَم، غير زاهد فيه أو ناكر له.

وقد ظهر هذا المبدأ الكوني في الحضارة الإسلامية فنشأ العلم، وسيطر القدماء على قوانين الطبيعة، وأوجدوا أنفسهم في العالم، ودخلوا التاريخ. وأصبحَت مهمَّتنا نحن التعرف على العلم العربي نبعثه من جديد بعد أن ترجمه الغرب وطوَّره وأنشأ العلم الحديث، فقد نشأ العلم العربي على هذا المبدأ الكوني الذي كان مُوجِّهًا لذهن العلماء نحو الطبيعة.

ولكنْ لمَّا ضاع هذا التصور — التوحيد كمبدأ كوني — وانهارت الحضارة العربية الإسلامية مؤقتًا، وتوارى المبدأ؛ تحوَّل التوحيد إلى عقيدة خلق العالم على أسُس تشبيهية، فأصبح الله صانعًا، يخلق من عدم، ويخرج الشيء من الشيء كما يفعل السحرة والحواة دون تمثُّل هذا الخلق في علاقة الإنسان بالكون. ثم تصوَّرنا العالم على أنه فانٍ، زائل، هراء، هباء منثور، لا قوام له ولا قانون بفضل حدوث العالم الذي حوَّلناه من مستوى العمل، أيْ إن العالم طيِّع للإرادة الإنسانية، إلى مستوى النظر، أيْ غياب القانون كما حدث عند الأشاعرة. كما تصوَّرنا العالم على أنه روح، وذرات، ومعانٍ. فتبخَّرت المادة، وأصبح العالم هو الله، والله هو العالم، كما فعل الصوفية. أو تصوَّرنا العالم يفيض عن الله، ويتدرَّج منه ولكنه أقلُّ منه، وبالتالي صغُر العالم وقلَّت قيمتُه كما فعل الفلاسفة. ومع ذلك، ظهر التوحيد كمبدأ كوني في الاعتزال، عند الطبائعيين، فأثبت المعتزلة قوانين الطبيعة، واستقلال العالم. وبعد اضطهاد المعتزلة وسيطرة الأشعرية المزدوجة بالتصوف، توارى هذا التصور من وجداننا المعاصر، وانزوى في المخزون الثقافي اللاشعوري.

ومن ثَم يمكن للتوحيد، كمبدأ كوني، إيجادُ الصلة بين الله والعالم من خلال شعور الإنسان، وتجاوُز مرحلة الكمون إلى مرحلة الظهور، العودة إلى وظيفة التوحيد الأولى التي على أساسها قامت الحضارة الإسلامية في دورتها الأولى، وإنهاء ضمور التوحيد في القرون الأخيرة، وإسقاط العالم من الحساب، حتى سُلِب منَّا واستولى عليه الغير. ويظلُّ التوحيد كمبدأ كوني أحد مُقوِّمات الشخصية العربية الإسلامية.

رابعًا: المبدأ المعرفي

والتوحيد مبدأ معرفي يعطي الذهن البشري موقفًا معرفيًّا محدَّدًا من العالم يقوم على وجود حقيقة ثابتة ودائمة، وبالتالي يحمي الإنسان من الموقف العدمي الذي يجعل العدم أساس الوجود. وهي حقيقة يمكن معرفتُها بوسائل المعرفة الإنسانية الحِسيَّة والعقلية والوجدانية والتاريخية المشروطة بالحسِّ والعقل والوجدان، وبالتالي تحمي الإنسان من الوقوع في الشكِّ واللاأدرية، ويمكن معرفتُها بيقين، ويتفق الناس عليها وتتواتر معارفُهم فيها؛ وبالتالي تحمي الإنسان كذلك من الوقوع في النسبية. والتوحيد بهذا المعنى يعني أن هذا العالم مفهوم، وأنه يقوم على تصوُّر يمكن للإنسان إدراكُه، وبالتالي يحمي الإنسان من الوقوع في اللامعقول والتناقض كمرادفَين للوجود. والتوحيد على هذا النحو بحث مستمر عن الحقيقة دون توقُّف. ولمَّا كان مبدأً مُنزَّهًا لا تشبيه فيه، كان البحث دائبًا ومستمرًّا عن الخالص الصوري المجرد، مَطمع العلماء والفلاسفة، وكلما انتهى الذهن إلى صيغة تجاوزها إلى صيغة أخرى حتى لا يقع في التشبيه والتوحيد بين المعنى واللفظ، أو بين الماهية وحاملها، أو بين الموضوع وأشكال تعبيره. التوحيد بهذا المعنى تقدُّم مستمر للعلم، وبحث دائب عن الحقيقة، ورفض للوقوع في القطعية والمذهبية والانتهاء إلى الرأي الأخير النهائي في كل شيء، ومنع للتقليد، ودفْع على الإبداع والابتكار، وإعمال للاجتهاد.

وقد ظهر هذا المبدأ المعرفي في حضارتنا القومية، خاصةً في علم أصول الفقه، وتأسيس مناهج الاستنباط والاستقراء في القياس الشرعي، ووضع شروط التواتر في علوم الحديث. كما ظهر في علم أصول الدين في اعتبار المعرفة الحِسيَّة والعقلية والوجدانية كأساس لموضوعات الإيمان ولفهم النَّص. وأصبحَت مادة العلم تأتي من الأوليات والبديهيات والمحسوسات والمُجرَّبات والمشاهدات والمتواترات. وظهر العقل أساسًا للنقل عند المعتزلة، والحس ومجرى العادات كمقياس لليقين عند الفقهاء، والتجربة الوجدانية كموطن للمعارف والحقائق عند الصوفية. كما استبعدت علومُ القدماء الشكَّ والوهمَ والظنَّ والاعتقادَ وتكافؤَ الأدلة كمواقف معرفية، وأصبح البرهان هو طريق المعرفة، وما لا دليل عليه يجب نفيُه. بل يمكن أن يُقال إن الحضارة الإسلامية القديمة كانت حضارة العقل، وأصبحَت نموذجًا يُهتدى به في العصر الوسيط المتأخر الأوروبي، ونشأ بفضلها التيار العقلاني الأوروبي الذي مهَّد لبداية عصر النهضة ونشأة الفلسفة الحديثة.

ولمَّا توقَّفَت الحضارة الإسلامية وبدأت في الانحسار، وضمر التوحيد في وجداننا، غابت المعرفة عن كونها وعيًا بالعالم، وأصبحنا ننظر إلى العالم وكأنه غير معروف، وسقط الرباط المعرفي بيننا وبين العالم فعشنا كأشياء في عالم الأشياء دون أيِّ أساس معرفي للشيء نفسه. كما ضاع إيمان البعض منَّا بوجود حقيقة ثابتة، ووقع في اللاأدرية والنسبية والشك، يُقوِّي ذلك فيه أثر المذاهب الغربية المماثلة بالرغم من اختلاف الظروف والمعطيات. ثم انزوى هذا المبدأ المعرفي وتحجَّر فوقعنا في التشخيص والتشبيه، وتحوَّلَت العلاقة المعرفية بين الذهن وموضوعه إلى علاقة تبعية بين الإنسان والله، فالإنسان يسأل والله يجيب، والإنسان يدعو والله يستجيب. كما تحوَّل التنزيه، باعتباره تقدُّمًا مستمرًّا للعلم، إلى قطعية وثبوت وتقليد، وتمَّت صياغة العقائد الخمسين صياغةً نهائية، والتي على كل مسلم أن يؤمن بها، اثنان وأربعون في الله، وثمانية في الرسول! توقَّف الاجتهاد، وعمَّ التقليد، وانتهى الإبداع، وساد الاتباع. كما قضى على المعرفة الحِسيَّة ومجرى العادات، وشهادة الواقع كأساس لصدق الوحي، ولم تعد هناك ثقة بشهادة الحواس وكأنها خداع ووهم. كما قضى على المعرفة العقلية، ولم يعد العقل أساس النقل، وظهر اللامعقول في حياتنا، وساد اللامفهوم في صورة إيمان قلبي. كما تحوَّلَت التجربة الوجدانية إلى تجربة صوفية خالصة مناقضة لشهادة الحسِّ ولحكم العقل، فسادت الغيبيات، وأصبح الإلهام طريقًا وحيدًا للمعرفة، لا يربطه رابط، ولا يحدُّه حد. ولم تعد المعرفة المتواترة مشروطةً بصدق شهادة الحسِّ ومنطق العقل، بل أصبحَت أقرب إلى أخبار الآحاد تعتمد على الرواية وصدقها الخارجي المظنون. ومع ذلك يظلُّ التوحيد في وجدان الناس حافظًا لتصوُّرهم للعالم ومؤكدًا على شهادة الحسِّ وحكم العقل وبداهة الوجدان.

خامسًا: المبدأ الجمالي

والتوحيد مبدأ جمالي يجعل الجمال بُعدًا للحقيقة، سواء في إدراكها أو في التعبير عنها. وقد ظهر ذلك في الشعر العربي قبل الإسلام، وكيف أنه كان سجلًّا قوميًّا للعرب، يضعون فيه حكمتهم وعرفهم، يُظهرون فيه إبداعهم وتصوُّرهم للحياة. وكما قال عمر بن الخطاب: «عليكم بشعر جاهليتكم، فإن فيه تفسير كتابكم.» ثم نزل الوحي مستعملًا الصور الفنية كوسيلة للتعبير، ولإيضاح المعاني، وللتأثير على النفوس، ولإقناع الخاصة والعامة، فالتقى العقل بالحسِّ بالوجدان لفهم الواقع وتصويره وإدراكه بالحس، فأحدث ذلك أبلغ الأثر في النفوس، وآمن الناس، واتصلت حياتهم الماضية بالحاضرة. وكما تذوقوا الشعر الجاهلي فهموا الوحي الإسلامي، وتمَّت صياغة نظرية «التخييل» عند عبد القاهر الجرجاني، يُعبِّر بها عن جماليات الذوق العربي، سواء في الشعر أو في الوحي. وقد تمَّ التركيزُ في جيلنا على هذا الجانب التصويري كما هو واضح لدى سيد قطب.٢

وقد ظهر هذا البُعد الجمالي في الفن العربي؛ فن الزخرفة، سواء بالحروف العربية أو بالأشكال الهندسية. ظهرت جماليات الخطِّ العربي بأنواعه المختلفة حتى أصبح الكلام ليس فقط صفةً لله أو أحد مظاهر الطاقة الإنسانية، بل أيضًا إبداعًا جماليًّا للإنسان. وتوالت الأشكال الهندسية تُعبِّر عن اللانهائي في الروح، وتتحد فيها الطبيعة بالفن. واستطاع الإنسان أن يتصوَّر اللانهائية من خلال الخطوط الهندسية اللانهائية، وبالتالي حفظ البُعدُ الجماليُّ الشعورَ من الوقوع في التشبيه والتجسيم، وفي ثبات ومحدودية الفنون التشكيلية.

وتأسَّسَت العمارة العربية على نقل جمال الطبيعة إلى جمال الفن، فكان صحن الدار قطعة غنَّاء من الطبيعة بها الماء والخضرة والهواء، تطلع عليه الشمس، وتسري فيه النسمات، ويستقبل الضوء والهواء، وتدور حول الصحن أعمدة النخيل الرخامي فوقها أقواس كالجذوع، وتتدلى من السقوف الثريا كالطلوع. كما أدرك الصوفية جمال الطبيعة وصوَّروا آياتها وصاغوا القول المشهور «إن الله جميل يحب الجمال» تفسيرًا لآية رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ (٣: ١٩)، وتعبيرًا عن آية وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (١٦: ٦). وكان الجمال أحد أسماء الله الحسنى، وغنَّى الصوفية في أشعارهم جمال الكون تعبيرًا عن الجمال الإلهي. وكانت المدينة العربية القديمة بأسواقها ومسجدها الكبير وحمَّاماتها نموذجًا للمدينة المتكاملة التي تدور حول مركز تجتمع فيه شئون الدين والدنيا، وكانت بأسوارها وقلاعها وحصونها وحامياتها نموذجًا للدفاع طبقًا لمستوى العصر.

ولمَّا ضمر التوحيد في النفوس وانزوى في القلوب، انهارت الحضارة العربية الإسلامية، فخبَا هذا البُعد الجمالي، وتحوَّلَت الصور الفنية إلى وقائع حِسيَّة، ووقعنا في التفسير الحرفي المادي للنصوص، وبالتالي تحوَّلَت الحقائق إلى أطماع ورغبات مستقبلية تعبيرًا عن الحرمان بدلًا من تأثيرها في النفوس وإقناعها للأذهان في الحاضر، كما تحوَّل الفن العربي إلى فنٍّ مُتحفيٍّ لا يزوره أحد، من بقايا العهود الغابرة، يعجب مَن يراه بالقدماء أكثر ممَّا يبعث في المُحدَثين من جمال، أو يهتمُّ به كمظهر فني خالص دون أن يدرك ميتافيزيقاه أو يُحدث أثره في الإحساس بالتنزيه والتأليه واللانهائية. وضاع من وجداننا فنُّ العمارة العربي، وحوَّلناه إلى كهوف حديثة، وعُلب مغلقة لا منافذ لها ولا مخارج، هواؤها مُصطنَع، وضوءُها مُصطنَع، ملساء جرداء، ووقعنا تحت أثر التغريب. كما أسقطنا البُعد الجمالي من الطبيعة وحوَّلناها إلى مكان للنُّفايات البشرية حتى تعوَّدنا على القبح. وغابت المساحة الخضراء، وينابيع المياه، وانتهى التخطيط المستدير للمدينة حول القلب إلى خطوط متقاطعة لا رابط بينها، يتباعد سكانها، كل جماعة في طريق. ولكن لمَّا كان إدراك الجمال مستقلًّا عن القدرات المادية، فالإدراك الجمالي ليس مكلفًا، تكفيه أبسط المظاهر، وقد يؤدِّي الغنى إلى القبح، ويُبعد عن الجمال؛ لمَّا كان الأمر كذلك، ظلَّ هذا البُعد الجمالي كامنًا في الوجدان العربي، حيًّا في أحلك الظروف، وإن غاب إدراكه في العالم أو عجز عن التأثير فيه.

سادسًا: المبدأ الأخلاقي

والتوحيد مبدأ أخلاقي يعطي الشعور بناءً توحيديًّا خالصًا. فإذا كانت طاقات الشعور وأشكال تعبيره أربعة؛ الفكر، والوجدان، والقول، والعمل، فإن التوحيد يقوم بتوحيد هذه الطاقات الأربعة ليُكوِّن وحدة الشخصية الإنسانية، وبالتالي يمحي خطر الفصال بين الفكر والوجدان الذي يولِّد الخوف والجبن، أو بين الفكر والقول الذي يولِّد النفاق والمداهنة، أو بين الفكر والعمل الذي يولِّد السلبية والعجز، أو يحدث الفصام بين الوجدان والقول الذي يولِّد الثرثرة والهراء، أو بين الوجدان والعمل الذي يولِّد الآلية والرتابة. أو يحدث فصام ثالث بين القول والعمل، فيولِّد الخطابة والإنشاء، وبالتالي تتسرب طاقات الإنسان من خلال هذه المنافذ، فيضيع التوحيد كمشروع فردي وتاريخي يبدأ من شعور الفرد حتى يضمَّ التاريخ الإنساني كله. يخلق التوحيد إذَن وحدة الشخصية؛ حيث يتوحَّد الفكر والوجدان فيولِّد الصدق، والفكر والقول فيولِّد الصراحة، والفكر والعمل فيولِّد القوة. كما يوحِّد بين الوجدان والقول فيولِّد الجرأة، وبين الوجدان والعمل فيولِّد المتعة والالتزام. كما يوحِّد بين القول والعمل فيولِّد الفعالية والأثر. وعلى هذا النحو تتوحَّد طاقات الإنسان وتُختزَن ثم تنطلق في مسارها الطبيعي لتغيُّر الواقع، وتحقق التوحيد من داخل الشعور الفردي إلى خارجه في العالم.

كما يظهر هذا التوحيد في العمل الصالح، وفعل الخير للناس، وفي تحقيق الرسالة على الأرض، فالإيمان لا يظهر إلا في العمل الصالح كما هو واضح في آيات إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ … التي تقرن الإيمان بالعمل الصالح. لا يظهر التوحيد في الشعائر أو الطقوس أو الرسوم أو المسوح أو الكهانة، بل في العمل الصالح المؤثر في حياة الفرد والجماعة والمُحرِّك للتاريخ، فالدنيا دار عمل، والعمل الصالح يُبقيها. والإنسان خليفة الله في الأرض، عليه أداء الأمانة، وهو تحقيق كلمة الله أو تنفيذ إرادته، أيْ تحويل الوحي إلى نظام للعالم. والإنسان سيد الكون ولأجله تمَّ تسخيرُ كل شيء في العالم، من أجل السيطرة على قوانينه، واستعمار الكون. وبالعمل الصالح يتحدَّد مستقبل الإنسان وأثره في الدنيا، وعليه يكون الحساب طبقًا لقانون العدل دونما وساطة أو شفاعة.

وقد ظهر هذا التوحيد كمبدأ أخلاقي في تراثنا القديم، فقد أظهر الصوفية هذه الوحدة الشاملة ابتداءً من وحدة الشخصية الإنسانية، ومرورًا بوحدة الشهود ووحدة الوجود، وانتهاءً إلى الوحدة المُطلَقة. كما ظهر في أصول الفقه تحقيقًا لخلافة الإنسان لله في الأرض وأداء الرسالة عليها، وظهر في الفلسفة وعلوم الحكمة في أهمية العمل الصالح وفعل الخير، وظهر في علم أصول الدين، خاصةً عند الخوارج، واقتران العمل بالإيمان وعند المعتزلة في مبدأ العدل وإقرانه بالتوحيد.

ولكنْ بعد أن توقَّفَت الحضارة الإسلامية وانزوى التوحيد كمبدأ أخلاقي، ظهر الفصام في الشخصية، وتسرَّبَت طاقاتها، وظهر الفصل بين الفكر والوجدان فشاع الخوف، وبين الفكر والقول فساد الجبن، وبين الفكر والعمل فظهر العجز، وبين الوجدان والقول فانتشر الكذب، وبين الوجدان والعمل فنتج الاستسلام، وبين القول والعمل فعمَّ النفاق. وأصبح يُضرَب بنا المَثَل بالذين يقولون ما لا يفعلون، وفي نفس الوقت نقرأ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (٦١: ٢-٣). كما ظهر الإيمان فارغًا بلا مضمون، وكأن الشهادتين كتمتمة بالشفتين تكفيان. وغابت الشهادة على العصر، والاستشهاد من أجل قضاياه، وأصبح إيماننا مثل إيمان العجائز. كما تحوَّل العمل الصالح إلى شعائر وطقوس؛ استسهالًا للإيمان، وإيثارًا للسلامة، وهروبًا من المعركة، أو تستُّرًا على العمل الفاضح الذي يؤدِّي إلى الفساد في الأرض. كما سادت الجوانب السلبية في التصرف على حياتنا العامة، فزهد البعض في الدنيا، وتصوَّرها دار فناء، وأنه كراحلة أو كعابر سبيل، فترك العمل فيها، وتخلَّى عن رسالته عليها، ورنَا إلى عالم آخر يعُدُّ نفسه له خارج الدنيا، فلعله يجد تعويضًا عمَّا فاته، ويلحق بركب الفائزين. وتمَّ تأجيلُ المعارك إلى يوم الحساب يفصل الله فيها كما يشاء، وحيث يتأكد الفوز المبين. وتحوَّلت قيمة الإنسان إلى الثروة والجاه، أو السطوة والسلطان، أو النسب والحسب، أو العشيرة والقبيلة، أو الوجاهة والصدارة، أو الدرجة والطبقة. وكاد يُمحَى من وجداننا الحديث المشهور: «لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى والعمل الصالح.»

ولمَّا كان هذا الضمور في التوحيد كمبدأ خُلقي هو المسئول عن تخلُّف الأمة، فإن الوعي به أحد مُقوِّمات نهضتها.

سابعًا: المبدأ الاجتماعي

والتوحيد مبدأ اجتماعي، عليه تقوم بنية المجتمع، فالله واحد، والأمة واحدة إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (٢١: ٩٢)، لا فرق بين جنس وجنس، أو قوم وقوم، أو شعب وشعب، أو قبيلة وقبيلة، فالأمة مجتمع إنساني واحد، يجمعه التوحيد، ولا تفرقه الحدود الجغرافية المُصطنَعة، أو العادات والأعراف، أو اللغات والقوميات.

والمجتمع الواحد، مجتمع بلا طبقات، مجتمع المساواة الكاملة، العمل فيه مصدر القيمة بدليل تحريم الربا. فالمال لا يولِّد المال من تلقاء نفسه دون توسُّط العمل المنتج والعرق الكادح. والعمل رسالة لتحقيق غاية عُليا أو هدف قومي، ليس غايته الربح أو الكسب المادي من أجل الثراء واكتناز المال. الملكية وظيفة اجتماعية وليس له حق الاستغلال أو الاحتكار أو الإضرار بالغير، فإن أساء الاستعمال أو أضرَّ بالغير كان للإمام، ممثِّل الأمة، حقُّ التدخل لحماية الصالح العام، بانتزاع الملكية والمصادرة والتأميم. وهذه هي نظرية «الاستخلاف» المشهورة في علم الفقه، فالمال مال الله والإنسان مُستخلَف فيه وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ (٥٧: ٧). المال وديعة لدى الإنسان، أمانة اؤتُمِنَ عليها، وعليه أداء الأمانة إلى أهلها. ولا يمكن تركيزُ المال في أيدي قلة والأغلبية مُعدِمة كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ (٥٩: ٧). لا يمكن أن يظهر في المجتمع الواحد، أغنياء وفقراء، فما فاض عن الحاجة أصبح لصالح الأمة وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (٧٠: ٢٥)، وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (٥١: ١٩). وفي المال حقٌّ غير الزكاة. هذا الانتقال للثروة ممَّن يملك لمَن لا يملك ليس مجرَّد دافع خلقي أو عاطفة إنسانية أو صدقة، بل هو إعادة لتوزيع الثروة طبقًا لمبادئ العدالة الاجتماعية والمساواة وتذويب الفوارق بين الطبقات. ولا توجَد في المجتمع ملكية خاصة لأدوات الإنتاج، بل هي ملك الأمة، كما أن أنماط الإنتاج تقوم على العمل المشترك والملكية العامة لقطاعات الإنتاج الرئيسية مثل الزراعة (الكلأ) والصناعة (النار) والتعدين (الملح). كل ما تُنتجه الأرض من فوقها كالزراعة، أو من باطنها كالمعادن، مِلكٌ للأمة. لقد عرف القدماء الذهب والفضة والنحاس والحديد في باطن الأرض من الركاز، وعرفنا نحن النفط، فلا يجوز لقبيلة أو لمَلِك أو لأمير أو لحاكم امتلاكه وبيعه والتصرف فيه. أقام المجتمع الإسلامي الأول بنيته الاجتماعية على هذه الأسُس: لا فرق بين أمير وعامة، بين حاكم ومحكوم، وظلَّ التوحيد هو المنبع الأول لهذه البنية الاجتماعية.

ولمَّا خبَا التوحيد كمبدأ اجتماعي، ظهر الفرق الشاسع بين الأغنياء والفقراء، بين مَن يملكون كل شيء ومَن لا يملكون شيئًا، وشاعت الملكية الخاصة، وأطلقه بلا حدٍّ أعلى للكسب وبلا حدٍّ أدنى للفقر، وأحاط الناسُ أراضيَهم بالأسوار، ووضعوا على أبوابهم الأقفال، ووضعوا ثرواتهم تحت أرقام سِريَّة في الخزائن والمصارف، داخل البلاد وخارجها، وأصبح الصالح الخاص مُقدَّمًا على الصالح العام، وظهرت طبقة العمال والأجراء الذين لا يشاركون في رأس المال أو في نتاج الأرض. كما نشأت طبقات الفقراء والمُعدِمين في مقابل الأثرياء المترفين، وتشتَّتت الأمة، واتسع نطاق الطبقات المحرومة، تفرز لها أجهزة الإعلام ثقافة الحرمان والتعويض، وتقضي على أيَّة إمكانية لتثويرها وتحريكها وكأن قدَرَها قد حتَّم عليها، ولا مفرَّ منه. استحال الحراك الاجتماعي، وانتكسَت الثورات، ولم تدُم مفاهيم الاشتراكية والعدالة الاجتماعية والمساواة وتذويب الفوارق بين الطبقات، وأصبح يُضرَب بمجتمعاتنا المَثَل في الغنى والفقر على حدٍّ سواء، في البطنة والحرمان في نفس المجتمع، في الترف والبؤس، في البطر والشقاء. نستجدي المعونة من غيرنا لفقرائنا، ويساعد أغنياؤنا فقراء غيرنا، ونحن أولى بالمساعدة، فالأغيار لا تخشى منهم ثورة، بل الثورة كامنة في نفوس فقرائنا.

ومع ذلك ظلَّ التوحيد قابعًا في الوجدان، تتأصل فيه الثورة الاجتماعية، وتمتدُّ إلى جذوره الدعوات الاشتراكية، يحفظ الأمة، ويعطيها أهدافها القومية، ويزلزل أنظمة الإقطاع والرأسمالية، ويُهدِّد العروش والتيجان، ويقضي على الأمراء والسلاطين، فأساس الأمة هو الوحدة وليس التفاوت، وعمادها المساواة وليس الطبقات الاجتماعية، وبالتالي يستحيل وجودُ نظام إقطاعي أو رأسمالي في الوجدان العربي إذا ما نشط التوحيد، وانتهى ضموره، واتسع نطاقه، وخرج من الوجدان إلى نظام العالم.

ثامنا: المبدأ السياسي

والتوحيد مبدأ سياسي، عليه تقوم الدولة، أي الكيان السياسي للمجتمع، فلا يوجَد مجتمع دون سُلطة، ولا توجَد سُلطة دون حاكم ومؤسَّسات وشعوب. فالحاكم يُمثِّل الأمة، ويرعى مصالحها، ويُنفِّذ الشرع، والشرع له أساس وضعي في المصلحة، والحاكم نائب عن الأمة بالبيعة، والأمر شورى بين الناس، والمؤسَّسات مستقلة وعلى رأسها القضاء، فلا يُعزل قاضي القضاة، بل هو الذي يَعزل الحاكم إن لم يُنفِّذ أوامر الشرع، وإن لم يؤدِّ الأمانة، فالولاية أمانة. ويقوم المحتسبون بالرقابة على أجهزة الدولة، ويسهرون على تطبيق الشريعة، فالحسبة هي وظيفة الحكومة الإسلامية كما يقول الفقهاء، والأئمة عليهم واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتوعية الأمة، وتهيئتهم للثورة على الحكام إن عصَوا الشريعة أو خرجوا على أحكامها أو تهاونوا في تطبيقها أو طبقوا غيرها. ولكل عالِم حرية التعبير والرأي، وله حقُّ الاجتهاد والإفتاء، لا عصمة لأحد، يتصدَّى لعظائم الأمور وليس لصغائرها، ويتعرَّض لما تعمُّ به البلوى، ويتقدم على السلطان في الرأي والاجتهاد. وعلى هذا النحو، كان التوحيد ثورةً في التاريخ، منذ نشأة الإسلام حتى الثورة الإسلامية في إيران. «الله أكبر» تهزُّ العروش، وتقضي على الجبابرة، وتقصم الجبارين، فالتوحيد تحرير سياسي واجتماعي لوجدان الإنسان من أيَّة سُلطة خارجية باستثناء سُلطة الله؛ أيْ سُلطة الأمة الممثلة في مصالح الجماهير.

ولمَّا خبَا التوحيد كمبدأ سياسي في النفوس، عمَّ التسلُّط، وتكبَّر الحكام، وملكوا رقاب الناس، وحكمَت القبائل والعشائر باسم الحكم الوراثي، فيُولَد ابن المَلِك مَلِكًا، وهو مخالفٌ لنصِّ التوحيد وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (٢: ١٢٤). ظهر حُكم الفرد المُطلَق مُدَّعيًا الحكم باسم الله، جاعلًا نفسَه خليفة الله في الأرض دونما بيعة أو شورى أو رعاية لمصالح الناس، ودونما ردٍّ من علماء المسلمين. وغابت المؤسَّسات المستقلة عن السُّلطة التنفيذية، أو وُجدَت كصُوَر وأشكال، لا قوام لها ولا كيان، مهمَّتها الموافقة والتأييد لقرارات الحكام واستنكار وشجب قرارات خصومه. وضاع استقلال العلماء، وساروا وراء الحكام يُبرِّرون سلطانهم بالفتاوى، ولا يتعرضون لعظائم الأمور التي أصبحَت حكرًا على السلطان، وتُرِك لهم قانون الأحوال الشخصية، يصولون فيه ويجولون دون تعرُّض لنظام الإسلام السياسي والاجتماعي، فأصبحوا «فقهاء السلطان وفقهاء الحيض والنفاس». ولم تعد هناك رقابة على أجهزة الدولة في الدواوين أو في الأسواق، ولم يعد هناك محتسبون، بل سيطرت الدولة على أجهزة الإعلام، وعيَّنَت رؤساء تحرير الصحف، وفصلت المعارضين، واضطهدَت المخالفين في الرأي. وعمَّ تغييبُ الوعي القومي، وأصبحَت العامة في يد السلطان يُسيِّرها كيف يشاء، ويزجُّ بطليعتها الثورية في السجون، وتُلفَّق لهم القضايا، فلا يجدون أمامهم إلا الخروج أو الجهاد، ويمارسون شتَّى أنواع العنف والاغتيال السياسي.

ومع ذلك يظلُّ التوحيد أكبر خطر على أنظمة القهر والتسلُّط، محافظًا على الوجدان العربي الإسلامي الحر، وتظلُّ «لا إله إلا الله» تحريرًا للوجدان الإنساني بنفي كل قُوى الطاغوت من جاه وسلطان وشهوة وتجبُّر وإثبات الإله الواحد القهار الذي يقف أمامه جميع البشر أحرارًا متساوين. فالتحرر الدائم هو أحد العناصر المُكوِّنة للوجدان العربي الذي لا يعرف إلا الصحراء الشاسعة والسماء المُرصَّعة بالنجوم، ولا تعتري نفسه إلا القِيَم العربية التي نقَّاها الإسلام. الشوق إلى الحرية مُقوِّم أساسي للشخصية العربية، وهو نابع من التوحيد، وأحد وظائفه، فالتوحيد اسم فعل، يدلُّ على عملية أكثر ممَّا يشير إلى شيء.

تاسعًا: خاتمة

ومع ذلك فقد ظلَّ التوحيد في كلتا الحالتين؛ تمدُّدِه في وعينا القديم أو ضُمورِه في وجداننا المعاصر، المُقوِّمَ الرئيسيَّ للشخصية العربية والمُحافظَ على هُويَّتها، والحاميَ لبقائها واستمرارها في التاريخ، يظلُّ التوحيد هو الجدار الحافظ لها من التغريب والضياع، والراعي لأصالتها واستقلالها في مواجهة الغير ومخاطر التميُّع والذوبان.

وبالتالي يكون السؤال هو: ما الضامن لبقاء التوحيد في حيويته وانتشاره دون ضموره وانحساره؟ وكيف يمكن إعادةُ الحياة إلى التوحيد في وجدان العصر كما كان حيًّا في وجدان القدماء؟ ويكون الجواب: إن حرية الإنسان وقدرته على التأثير في الجماعة هي القادرة على حيوية التوحيد، وإطلاقه من ضُموره الحبيس إلى رحابة الحياة في العالم الفسيح، فإذا ما فرضت ظروفُ العصر وأوضاعُه ضُمورَ التوحيد فإن حرية الإنسان؛ حرية الاعتقاد وحرية الممارسة، قادرةٌ على إطلاق التوحيد الحبيس من عقاله حتى يُوجِّه الظروف، ويُحرِّك التاريخ.

إن الظروف التاريخية وحدها لا تُحرِّك شعبًا، والأوضاع السياسية وحدها لا تخلق فكرًا، والأبنية الاجتماعية وحدها لا تثير ذهنًا. وبالتالي كانت المُقوِّمات الثقافية في الشخصية العربية تُمثِّل العامل الأول، وليس الوحيد، في تحديد معالم هذه الشخصية والتأثير عليها، سلبًا أم إيجابًا. ومن هنا أتت أهمية العقائد والتصورات والنبوَّات في تاريخ العرب. وكما قال ابن خلدون من قبل: «إن العرب لا يحصل لهم المُلك إلا بصبغة دينية من نبوَّة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين على الجملة.» وبدلًا من أن تكون النبوَّة في عصرنا الألفاظَ والعباراتِ والشعاراتِ أو المذاهبَ التي انتشرَت على غفوة منَّا تحت أثر التغريب، فإنها تكون تصوُّرًا للعالم تنتُج عنه نُظم اجتماعية وسياسية واقتصادية، وبالتالي يمتلأ «الفراغ» النظري الذي يشعر به المعاصرون. وتظلُّ الشخصية العربية محافظةً على هُويَّتها في التاريخ.

١  أُلقيَ هذا البحثُ في إحدى ندوات المجلس القومي للثقافة العربية التي عُقدَت في طرابلس الغرب بالجماهيرية الليبية عام ١٩٨٤م.
٢  انظر دراستنا: أثر الشهيد سيد قطب على الحركات الإسلامية المعاصرة، الجزء الخامس؛ الحركات الإسلامية المعاصرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤