المسئوليات الراهنة للثقافة العربية١

إن ثقافة كل أمة تُعبِّر عن المرحلة التاريخية التي تمرُّ بها، فالثقافة هي تسجيل لتاريخها، وتعبير عن وجودها. وفي المرحلة الراهنة التي تمرُّ بها الأمة العربية تتَّحد مسئوليات الثقافة العربية بحيث تواكب هذه المرحلة وتدفعها إلى مرحلة أخرى، وحتى تؤمِّن مسار الأمة في التاريخ. وإن الأمن الثقافي العربي لا يقلُّ أهميةً عن الأمن الغذائي أو الأمن العسكري، وطالما وقفَت الأمة العربية عبر تاريخها أمام الغزوات الحضارية المتتابعة وحقَّقَت لنفسها أكبر قدْر ممكن من الأمن الحضاري.

وأداءً لهذا الدور، تتحدَّد المسئوليات الراهنة للثقافة العربية على النحو الآتي:

أولًا: مسئوليتها تجاه التراث القديم

لقد ورثَت الأمة العربية تراثًا حضاريًّا، قد يكون أغزر تراث عرفه تاريخ الأمم القديمة والحديثة على حدٍّ سواء. يشمل التراث جميع أنواع العلوم والفنون والآداب والفلسفات والديانات. أصبحَت الأمة العربية وريثة دين إبراهيم؛ اليهودية والمسيحية والإسلام، كما أصبحَت موطنًا لتفاعل هذا الدين مع ديانات فارس والهند، كما استطاعت احتواء الحضارات القديمة من يونانية ورومانية، ثم أبدعَت، بعد ظهور الإسلام، علومَها الخاصة؛ العلوم النقلية كالتفسير والحديث، أو العلوم النقلية العقلية مثل أصول الدين وأصول الفقه وعلوم الحكمة وعلوم التصوف، أو العلوم العقلية الخالصة مثل العلوم الرياضية من حساب وهندسة وفَلَك وموسيقى ووضع أصول علم الجبر، أو العلوم الطبيعية مثل الكيمياء والطبيعة، أو العلوم الإنسانية مثل الجغرافيا والتاريخ. وإن الثقافة العربية الراهنة لمسئولةٌ عن هذا التراث كله على النحو الآتي:
  • (١)

    جَمْع هذا التراث المُوزَّع بين مكتبات العالم العامة والخاصة، وتحقيقه ونشره حتى يظهر تاريخنا أمامنا، وأن نضع أنفسنا فيه بدلًا من أن يكون غائبًا عنَّا ونحن خارجون عنه، وأن يتمَّ النشرُ تبعًا لأولويَّات احتياجاتنا. فإن كنَّا في حاجة إلى عقلانية إثر نهضتنا الحديثة، أعطينا الأولوية للتراث الاعتزالي الفلسفي، وليس للتراث الصوفي الإشراقي الذي نرزح تحته، وتمتلئ به أنوفنا وآذاننا، وتموج به قلوبنا. وإذا كنَّا في حاجة إلى رعاية الصالح العام والدفاع عن مصالح المسلمين، أعطينا الأولوية للتراث الأصولي وما وضعه من أصول تشريعية تقوم على جلب المنافع ودفع المضار، وليس فقط للتراث الفقهي الافتراضي الذي تزخر به مكتباتنا، ويحفظه علماؤنا، وتضجُّ منه أُسرنا ومجتمعاتنا. إن ما تنشره جامعات العالم ومراكز البحث الدولية لتحقيق التراث العربي لأَولى أن يتمَّ كجزء من خُطتنا القومية لتأصيل جذور النهضة العربية وبعث ماضيها الحضاري الذي تجد فيه نفسها، كما تجد فيه دَفعةً لها على الانتقال من مرحلة الإحياء إلى مرحلة النهضة.

  • (٢)

    إحياء هذا التراث عن طريق إعادة بنائه، وبيان مواطن أصالته وجِدَّته، ومعرفة كيف واجه علماؤنا مشاكل حضارتهم، وكيف جابهوا الحضارات المجاورة، وتمثَّلوها وردُّوا عليها. إن إعادة بناء المواقف الحضارية القديمة لهو السبيل إلى فَهْم المواقف الحالية التي نبدو فيها أحيانًا عاجزين أو متفرجين أو ناقلين. وتتمُّ إعادة بناء التراث عن طريق تجديد لغته وإعادة التعبير عن مضمونه بلُغة العصر، كما تتمُّ أيضًا عن طريق تجديد مناهج فكره واكتشاف مناهج الواقع ووسائل المدركات الحِسيَّة وطرق العلل، بعد أن نقلنا طويلًا مناهج التنزيل وطرق الاستنباط والمعارف القبلية من الأخبار المتواترة، كما يتمُّ أيضًا عن طريق تغيير المحاور القديمة واكتشاف بؤر جديدة، مثل الإنسان والتاريخ، حتى نستطيع أن نجد في تراثنا ما نحتاج إليه في حاضرنا لتأصيل حاجاتنا وتحقيقها على نحوٍ دائم.

  • (٣)

    تنقية هذا التراث ممَّا عَلِق به من شوائب عارضة، نظرًا للظروف التي مرَّت بها مجتمعاتنا القديمة، مثل العداء التقليدي بين الشيعة وأهل السنة، أو تكفير الفِرَق المُعارِضة، أو ظهور التصوف كردِّ فعل سلبي تجاه النُّظم السياسية القائمة، واستحالة مقاومة الظلم الاجتماعي والاستبداد السياسي، أو ظهور بعض جوانب الفقه الافتراضي الذي يُضحِّي بالواقع في سبيل النَّص، ويترك المصلحة التي هي أساس التشريع. كذلك تنقية علوم التفسير والحديث ممَّا علق بهما من روايات غير صحيحة، والانتقال من التفسير الإخباري الذي يجمع أكبر قدْر من المعلومات التاريخية عن الوقائع والحوادث الماضية إلى التفسير الاجتماعي الهادف المُوَجَّه نحو المجتمع الإسلامي لحلِّ مشاكله والقضاء على أوجُه النقص فيه.

  • (٤)

    تطوير بعض جوانب تراثنا القديم التي نحن في أمسِّ الحاجة إليها الآن، وذلك عن طريق إمَّا إعادة الاختيار بين البدائل، كما هو الحال بين الأشاعرة والمعتزلة، وقضائنا على المعتزلة منذ القرن الخامس وسيادة الأشعرية في فكرنا القومي حتى الآن، وضرورة إحياء التراث الاعتزالي كما حدث ابتداءً من حركاتنا الإصلاحية الأخيرة، خاصةً عند محمد عبده؛ نظرًا لما نحتاجه في نهضتنا العربية الحالية من تركيز على العقل وإعلاء من شأن الحرية والديمقراطية. وقد يتمُّ أيضًا عن طريق إعادة الاختيار بين الغزالي وابن رشد، فكما قضينا على المعتزلة في القرن الخامس قضينا على ابن رشد في القرن السادس، وآثرنا الغزالي فازدوجت الأشعرية بالتصوف وساد حتى القرن الماضي. لقد تأخرنا باختيارنا الغزالي على ابن رشد، وتقدَّم الغرب باختياره ابن رشد على الغزالي. وقد يتمُّ أيضًا عن طريق تطوير مواطن الإقدام والجرأة في تراثنا القديم، مثل القول بالطبائع عند المعتزلة، حتى نُخفِّف من وجداننا المعاصر عالم المعجزات والأسرار، أو بإبراز جوانب المصلحة العامة وإعادة بناء تشريعاتنا على نحوٍ وضعي؛ دفاعًا عن مصالح الأمة التي هي مقاصد الشرع.

  • (٥)

    تحريك هذا التراث حول محاور جديدة نحتاجها في واقعنا المعاصر، ولم تظهر بوضوح في تراثنا القديم، فنحن نحاول في نهضتنا الحالية إقامة حضارتنا حول الإنسان والمجتمع، أيْ حول الفرد والتاريخ، حتى نقيم حضارةً إنسانيةً تكون تطوُّرًا لحضارتنا ومكانتنا في التاريخ. فالإنسان والتاريخ محوران جديدان يمكن تحريكُ حضارتنا القديمة حولهما، فقد دارت حضارتنا القديمة حول الإلهيات وأوفَتها حقَّها، وكانت الطبيعيات إلهيات مقلوبة، فعشنا مع الإلهيات خارج الزمان. ولقد حدث في كل حضارة أن أُعيدَ تفسيرُ الإلهيات بحيث تصبح العناية الإلهية تقدُّمًا في التاريخ، وبحيث يصبح الإنسان عاملًا مُحركًا فيه. والإنسان في النهاية خليفة الله في الأرض، والأمة هي الوارثة لهذه الخلافة. على هذين المحورين يتحرك تراثنا القديم من جديد، ويسير إلى الأمام بدل أن كان دائرًا حول مركزه القديم، سائرًا في محلِّه لا يتحرك.

  • (٦)

    استمرار التراث؛ وذلك عن طريق استمرار مواقفه واستئناف نشاطه، فنحن الآن في مواجهة حضارات غازية، وعلى رأسها الحضارة الغربية، كما كان الحال في الموقف القديم في مواجهة الحضارة اليونانية. مسئوليتنا هي في إعادة فهم الأصول الأولى، أيْ معطيات الوحي بناءً على متطلبات المواجهة الجديدة ومعطيات العصر، ولإرساء دعائم النهضة العربية الحديثة. إن استمرارية التراث أمر ممكن؛ نظرًا لأنه ما زال حيًّا يفعل في نفوسنا، ويؤثِّر في سلوكنا، فالقدماء رجال ونحن رجال، والجبهات متكررة، والمواجهة مستمرة، ومعارك التحديث قائمة.

ثانيًا: مسئوليتها تجاه التراث الغربي

وتقع علينا هذه المسئولية وعلى الثقافة العربية؛ وذلك لأننا اليوم في مواجهة مع الحضارة الغربية باعتبارها حضارةً غازيةً وفدَت إلينا منذ قرنَين من الزمان، وما زالت تُمثِّل تحدِّيًا حضاريًّا لنا، نقف منها إمَّا موقف الرافض المطلق بدعوى أن تراثنا القديم قد أغنانا عن كل شيء، أو القابل المطلق بدعوى أن الغرب هو نمط التحديث والتقدم أو المُنتقَى الذي يبتسر أحد جوانبها ويفصله عن بيئته ويُخرجه ويُعمِّمه ويطلقه وينقله إلى كل حضارة، فيحدث الاغتراب في الحضارات غير الأوروبية، وتتحول هذه الجوانب المُبشِّرة إلى مواطن اغتراب في وجداننا المعاصر مثل الوضعية العربية، والماركسية العربية، والوجودية العربية، والبنائية العربية … إلخ.

وتتحدَّد مسئولية الثقافة العربية تجاه التراث العربي على النحو الآتي:
  • (١)

    تحجيم التراث الغربي، وردُّه إلى داخل حدوده الطبيعية؛ وذلك لأنه يحتوي على فكر بيئي خالص نشأ في ظروف مُعيَّنة، وحتَّمَته طبيعة معطياته الدينية. ثم كشف هذا الادِّعاء الذي كثيرًا ما روَّجنا له فوصفنا الفكر الغربي بأنه فكر شامل إنساني عام، تنقله كل حضارة، وتتبنَّاه كلُّ أمة سواء في العلم أو في الفنِّ أو في الدين أو في السياسة. وعلى هذا النحو يمكن إيقافُ الغزو الثقافي الغربي، وإظهارُ خصوصيات الثقافات غير الغربية حتى تتنوع الثقافات ويثري بعضُها بعضًا، ولا تكون هناك ثقافةٌ أمٌّ وثقافات فرعية، ثقافة نموذجية وثقافات تحذو حذوها، ثقافة مبدعة وثقافات مُقلِّدة. وقد يكون في ذلك فائدة كبرى للتراث الغربي ذاته الذي قد يرى حينئذٍ ثقافته من خلال ثقافات الآخرين المتميزة، ويكون له نقاط إحالة أخرى يمكن الرجوعُ إليها، وبالتالي تخفُّ نرجسيته، ويتعلَّم من الثقافات التي حاول مرةً القضاء عليها.

  • (٢)

    القضاء على اغتراب مثقفينا الذين انحازوا للغرب وأصبحوا جزءًا منه، وتخليص أذهاننا من قوالب الفكر الغربي وخروجنا عن اتجاهاته، حتى يمكن أن يعود لشعورنا الحياد والقدرة على الرؤية الموضوعية لهذا التراث كموضوع مستقل عنَّا. ولمَّا كان المثقفون طليعةَ الجماهير ومُحدِّدي مسار الوعي، فإن القضاء على اغتراب المثقفين هو عودة الوعي للجماهير الغربية واكتشاف لذاتيتها الخاصة، ووَضْعها في مسار تاريخها الصحيح بدلًا من استغرابها على أيدي قادة وعيها، أو رجوعها إلى تراثها القديم، تجد فيه ملاذها وفرارها.

  • (٣)

    دراسة التراث الغربي دراسةً نقديةً خالصة، والقيام بمحاولة لوصف بداية الوعي الأوروبي ومساره واكتماله، فينشأ لدينا علم «الاستغراب» كما أنشأ الغربيون لديهم علم «الاستشراق». وبالتالي تكون نهضتنا الحالية قد تحوَّلَت من مجرَّد خطابة وإعلان للنوايا الحسنة إلى تخطيط علمي، كما حدث في نهضة أوروبا في القرون الماضية، وأخذها غيرها من الشعوب موضوعًا للدراسة. وعلى هذا النحو يمكننا تحديدُ مراحل هذا الوعي ابتداءً من مصادره اليونانية والرومانية أو المسيحية اليهودية إلى فتراته، سواء في العصور الوسطى أو في العصور الحديثة، حتى يمكننا معرفةُ في أيِّ مرحلة من التاريخ نحن نعيش، سواء بالنسبة لأنفسنا أو بالنسبة لغيرنا. وإذا كنَّا قد وقعنا تحت إغراءات العصور الحديثة ووضعنا أنفسنا في القرن العشرين، فإن مسئوليتنا في تحديد مهامِّ هذه العصور ابتداءً من الإصلاح الديني في القرن الخامس عشر، والنهضة في السادس عشر، والعقلانية في السابع عشر، والتنوير في الثامن عشر، والعلمية في التاسع عشر، وأزمة العشرين. وقد نكون نحن قد خرجنا للتوِّ من الإصلاح الديني وفي بدايات عصر النهضة.

  • (٤)
    بيان حدود العقلانية الأوروبية ومصادرها، سواء عند اليونان أو عند العرب القدماء، وكيف أن العقل أصبح فيما بعدُ إمَّا أُحادي الطرف أو مرتبطًا بالوجدان أو بالحِسِّ أو بالتاريخ أو بالقومية أو بالعنصرية. أصبحَت العقلانية مرادفةً لروح الشعب، وتُعبِّر عن القومية والنزعة العنصرية، وأصبح الشمول الذي يفرضه العقل مرتبطًا بالأمة La Nation، فظهرت لدينا عقلانيات عِدَّة بقدْر ما لدينا من قوميات؛ عقلانية ألمانية تُمجِّد الروح والشعب والتاريخ، وعقلانية إنجليزية تُمجِّد الحِسَّ والتجربة والواقع، وعقلانية فرنسية تُمجِّد النفس والتجارب الباطنية والشعور، وعقلانية أمريكية تُمجِّد الحرية والديمقراطية والمساواة. وبالتالي تحطَّمَت العقلانية الأوروبية على حدود القوميات، ونقصها الشمول الذي قد لا يظهر في العقل إلا بفعل التوحيد.
  • (٥)

    بيان حدود التجريبية الأوروبية ومصادرها، سواء عند الشكاك اليونان والرومان، أو عند العلماء العرب، أو بعد الاكتشاف التلقائي للواقع المادي في أوائل العصور الحديثة بعد رفض كل المعطيات القبلية التي لم تستطع الصمود أمام نقد العقل ومُكتشَفات الطبيعة. تحوَّلَت التجربة الغربية إلى مادية ساذجة أو حِسيَّة خالصة، وأصبحَت مصدر كل علم بناءً على المشاهدة والتجربة ورفض أيِّ مصدر آخر. لقد ارتبط الوعي الأوروبي بالواقع التجريبي حتى فقد حريته في نقد التجربة وبيان حدودها، وبأن المُجرَّبات والمُشاهَدات والحِسيَّات ما هي إلا مصادر للمعرفة مثل الحدسيات والعقليات، والتجارب الباطنة والمتواترات كما قال علماؤنا في التراث. بل إن العلم الأوروبي، وهو الذي قام على التجربة والمشاهدة، لا يُهمُّ نقلُه إلى حضارات أخرى بقدْر ما يُهمُّ تأسيسُه في وعي الشعوب غير الأوروبية عن طريق مناهج التجربة الكاملة وليست المبتسرة.

  • (٦)

    بيان حدود المذهب الإنساني الغربي، ابتداءً من عصر النهضة في السادس عشر، مارًّا بالليبرالية الأوروبية في السادس عشر، حتى النزعات الإنسانية الاجتماعية في الثامن عشر، والاتجاهات الاشتراكية في التاسع عشر، والفلسفات الوجودية في العشرين. فالنزعة الإنسانية الغربية ظلَّت على مستوى النظر ولم تتحقَّق في الحياة الأوروبية التي سادتها الحروب الطائفية والصراع بين القوميات. وإذا ما تحقَّقَت داخل أوروبا فإنها سرعان ما تختفي خارجها، وكأن الإنسانية في أوروبا وحدها، تنقلب إلى همجية ووحشية واستعمار وإذلال للشعوب خارج أوروبا وبفعل شعوبها. فالاكتشافات الجغرافية خيرٌ لأوروبا لاتساع رقعتها وزيادة ثرواتها واسترقاق أفريقيا في عصر قيام النزعة الإنسانية على مستوى الثقافة والفكر.

ثالثًا: مسئوليتها تجاه الواقع العربي

إن المسئوليات الراهنة للثقافة العربية لا تتحدَّد فقط بالنسبة للتراث القديم أو بالنسبة للتراث الغربي؛ وذلك لأنها لا تتجاوز المهامَّ الحضارية المُلقاة عليها إلى الواقع المباشر الذي تعيش الثقافة العربية والجماهير العربية فيه. فالثقافة تعبير عن الواقع، والواقع تحكمه الثقافة. ومن ثَم كانت المسئوليات الراهنة للثقافة العربية هي أيضًا مسئوليات تجاه الواقع العربي. وتتحدَّد هذه المسئوليات أيضًا على النحو الآتي:
  • (١)

    مسئولية محو الأُميَّة التي ما زالت هي الغالبة على جماهيرنا العربية. ولا تعني الأُميَّة مجرَّد تعلُّم القراءة والكتابة، فقد يكون مَن يجهلهما أكثر علمًا ووعيًا ممَّن هو عالم بهما؛ وذلك بفضل التراث الشفوي، والسُّنة المروية، والقرآن المحفوظ، وخبرة السنين الطويلة. ولكنْ تعني الأُميَّة أيضًا أُميَّة أنصاف المتعلمين الذين يقرءون دون أن يحدث لديهم الوعي الحضاري، كما تعني أُميَّة المتعلمين المغتربين أو الناكصين على أعقابهم هاربين إلى التراث القديم، وكلاهما ناقل علم وليس مؤسِّس علم، مرةً عن القدماء ومرةً عن المُحدَثين. وتعني ثالثًا أُميَّة المهنيين المتخصصين في شتَّى فروع المعرفة دون أن يكون لهم أيُّ ثقل حضاري أو أيُّ دَور في توجيه الواقع العربي الراهن.

  • (٢)
    خلق الثقافة الوطنية التي يمكن أن تجمع الجماهير العربية عليها، وتشمل الحدَّ الأدنى من الاتفاق على بعض المعايير النظرية، والمقولات الذهنية، فالثقافة الوطنية في البلاد النامية هي الحامل لأيديولوجياتها السياسية. ونحن نتحدث منذ رُبع قرن أو يزيد عن ثوراتنا العربية دون أن نقيمها على ثقافة وطنية؛ أيْ على تصوُّرات الشعب ومقولاته التي من خلالها يُحقِّق مشروعاته القومية، وبالتالي ظلَّت قوالبنا الذهنية منفصلةً عن ثوراتنا العربية. وما كان أسهل إذا ما أُصيبَت هذه الثورات بانتكاسةٍ ما أن تظهر قوالبنا الذهنية كدعامة للمحافظة. إن الثقافة الوطنية، ومفاهيم الجماهير عن الإنسان والزمان والتاريخ والتطور والحركة، هي التي تضمن استمرار الثورة، فلا ثورة بلا نهضة، ولا نهضة إلا بثقافة وطنية، أيْ تنظير النهضة على مستوى الفكر.٢
  • (٣)

    مساهمة الثقافة العربية في حلِّ المشاكل الكبرى التي يغرق فيها عالمنا العربي الراهن، وعلى رأسها قضية تحرير الأرض. فما زالت أجزاء كبيرة من أراضينا محتلة، وما زالت فلسطين في يد العدو الصهيوني. وبالتالي فإن مسئولية الثقافة العربية تتحدَّد في مساهمتها في ربط الثقافة بالأرض، والدين بالتحرر، والفكر بالمقاومة، والفن بالصمود، وإقامة لاهوت الثورة؛ أيْ ربط ثقافتنا بحياتنا، وأن تصبح ثقافتنا جزءًا من مصيرنا. إن قوة العدو الصهيوني تتمثل في قوة دعاواه التي يستند عليها، والتي تقوم أساسًا على تاريخه ودينه وتراثه، أيْ ثقافته الوطنية. وإن الحقَّ العربي يمكنه أن يتأكد أكثر وأكثر من خلال إقامة ثقافة وطنية. وما أكثر المفاهيم في تراثنا حول استخلاف الأمة، ووراثتها للأرض.

  • (٤)

    مساهمة الثقافة العربية في حلِّ مشاكل التخلف، فالتنمية لا تعني فقط زيادة الموارد، وتخطيط العمران، وشقَّ الطرق، وبناء السدود، وإصلاح الأراضي؛ بل تعني التنمية الشاملة التي تضمُّ أيضًا تصوُّراتنا للعالم ونظرتنا للحياة، وإحساسنا بالتاريخ، وشعورنا بالزمان، وتصوُّرنا للعلاقات بين الأطراف بين الأعلى والأدنى أم بين الأمام والخلف، وتصوُّراتنا لمراكز الكون، الله أم الأمة أم الإنسان. إن كثيرًا من المظاهر المادية للتخلُّف في حياتنا لَترجعُ أساسًا إلى تصوُّرات نظرية ورثناها وأصبحَت أبنيةً شعوريةً لنا تُوجِّه سلوكنا وتفرض على حياتنا العامة أنظمتها. وقد تكون نظريةُ الفيض التي ورثناها من تراثنا الفلسفي سببَ ما نعانيه من بيروقراطية وتفاوت طبقي في حياتنا الاجتماعية والسياسية، وقد يكون إدانةُ الصوفية للعالم واحتقارُهم له سببَ هزائمنا السياسية والعسكرية؛ نظرًا لأننا لم نعد نعيش في عالم باقٍ نحرص عليه. والأمثلة كثيرة على أن الشعوب النامية لا تتحرك إلا من خلال تراثها وثقافتها الوطنية وإعادة صبِّها في مخزون حاجات العصر.

  • (٥)
    خلق ثقافة تستطيع أن توصل شعارات الأمة العربية من حرية واشتراكية ووحدة، حتى لا تبقى هذه الشعارات مجرَّد كلمات خالية من أيِّ مضمون، أو أن تكون لها مضامين متضاربة طبقًا لنوعيات الأنظمة العربية، وحتى تتحول الشعارات الثلاثة إلى مطالب قومية لا تخضع لتقلُّبات الأنظمة السياسية. تتأصل الحرية بالرجوع إلى جذورها في تراثنا القومي؛ تأكيدًا لحرية الإنسان واستقلال فعله وإنهاء كل التصورات التسلُّطية التي تحدُّ من الحرية الإنسانية.٣ وتتأصل الاشتراكية لا عن طريق تبرير ما هو قائم اعتمادًا على تراثنا، ولكنْ على المطالبة بمزيد من العدالة الاجتماعية والمساواة اعتمادًا على التوحيد والاستخلاف. وتتأصل الوحدة العربية في حياتنا بالرجوع أيضًا إلى التوحيد الذي يعني أيضًا وحدة الأمة، ووحدة هدفها، ووحدة نضالها المُشترَك.
  • (٦)

    تحديد مسار الحضارة العربية في التاريخ بعد أن بدأ العالم يعي نهضة الأمة العربية والإسلامية ويخشى نهضتها المستمرة، وعودتها إلى حضارتها المجيدة، وقيادتها لمسار التاريخ. مهمَّة الثقافة العربية هي أن تكون على مستوى المسئولية المُلقَاة على عاتقها في تحديد مسار الأمة، خاصةً وأن الحضارات المعاصرة التي ما زالت تُمثِّل تحدِّيًا لنا، في الشرق أو في الغرب، يؤذِّن أهلُها ومُفكروها ببداية النهاية بالنسبة لها، ويتحدثون عن الخلط، والقلب، والتبديل، والانهيار، والسقوط، والأزمة، والمحنة، والصدمة التي تعمُّ كل شيء. وبالتالي، تستطيع الأمة العربية أن تختطَّ لنفسها استراتيجيةً حضاريةً جديدةً تُحدِّد مسارها في المستقبل، وتشقُّ طريقها بين مختلف الشعوب، فقد تستطيع، إذا ما هي قامت بمهمَّتها، قيادةَ مسار التاريخ في الأجيال القادمة.

    تلك هي بعض المسئوليات الراهنة للثقافة العربية تتجاوز بها مرحلة التعالم وجَمْع المعلومات، كما تتجاوز بها التخصص الدقيق والثقافة المهنية، وتتجاوز بها كثرة المؤسَّسات الثقافية كمًّا ونوعًا. فالثقافة بالنسبة للأمة العربية هي حياتها ورسالتها. وكثيرًا ما تُهزَم الأمم ولكنْ تحيا ثقافتها، بل إن الصمود الثقافي هو الضمان الوحيد للأمن الحضاري، وهو ما تحتاجه الأمة العربية في هذه الأيام العصيبة من تاريخها.

١  مجلة «أقلام» المغربية، العدد ٩ أبريل، ١٩٧٩م.
٢  انظر دراستنا السابقة «في الثقافة الوطنية».
٣  انظر مقالنا: الجذور التاريخية لأزمة الحرية والديمقراطية في وجداننا المعاصر، المستقبل العربي، يناير، ١٩٧٩م. وأيضًا الفصل الثاني: الدين والتحرر الثقافي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤