الفلسفة كمشروع قومي١

أولًا: ماذا تعني الفلسفة؟

ليست الفلسفة، كما تبدو من المعنى الشائع، مجرَّد كلام نظري غامض يتشدَّق به المتعالمون، ويدَّعيه الجاهلون، أو هي سفسطة تقلب الحقَّ باطلًا والباطل حقًّا؛ تمويهًا على الناس، وتعميةً لواقعهم. وهي ليست بديلًا عن تراث الأمة أو خروجًا على تقاليدها، تُحاصَر، وتُستبعَد، ويُكفَّر أصحابُها. إنما الفلسفة هي الحكمة. وقد شاع اللفظ اليوناني المُعرَّب، وهو الفلسفة، مثل ذيوع اللفظ العربي الأصيل، وهو الحكمة، خاصةً لدينا في عصورنا الحديثة تحت أثر الثقافة الغربية. سمَّاها القدماء الحكمة؛ اقتفاءً لأثر القرآن الكريم وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا (٢: ٢٦٩). والحكيم في النهاية أحد أسماء الله الحسنى، وقد ارتبطت الحكمة في القرآن الكريم بالكتاب؛ أيْ بالوحي. فإذا كانت الحكمة هي الفلسفة، والكتاب هو الوحي، فإن الفلسفة والوحي يكونان صِنوَين كما قال فلاسفة المسلمين من قبل؛ الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد. الحكمة والشريعة أختان رضيعتان، متحابَّتان بالجوهر والغريزة. ثم ارتبطت الحكمة أيضًا بالمُلك، أيْ بالسياسة والحكم، وبالأخلاق والموعظة الحسنة، وبفصل الخطاب، أيْ بالقول السديد والمنطق السليم.٢
وقد ظهرت الفلسفة في كل أمة، ولدى كل شعب، وكانت أحد مُقوِّمات حضارته. وبلُغة العصر، ارتبطت الفلسفة بالمشروع القومي لكل أمة وحضارة وشعب، تساهم في البناء، وتؤسِّس النُّظم، وترعى الدولة. ففي الصين القديمة، ارتبطت الفلسفة بالأخلاق السياسية وبعلاقة الفرد بالدولة وبتربية الحاكم الصالح، كما يبدو ذلك من تعاليم كونفوشيوس حتى ماوتسي تونج والماركسية اللينينية الماوية. كما ارتبطت الفلسفة بالهند، وصاغت تصوُّرها للعالم، وحدة الروح والطبيعة، وصلة الإنسان بالكون، كما بدَا ذلك في تعاليم بوذا وفي المنطق البوذي والاستنارة الداخلية. كما ارتبطت الفلسفة بحكمة فارس القديمة، وبتدوين الدواوين، وبفنِّ الحكم، وبتكوين الحاكم الفيلسوف، كما ظهر ذلك في عديد من الكتب الفارسية القديمة التي نقلها ابن مسكويه.٣ وفي مصر القديمة ارتبطت الفلسفة بالدين وبالدولة، وكانت العقائد أساس التنظيم ومهد العلم وأساس الدولة، وفي مُقدِّمتها فرعون الإله والخلود. وعند اليونان نشأت الفلسفة مرتبطةً بالتعليم وبالمدارس وبالجدل والحوار من أجل تنظير العالم وتأسيس الأخلاق وإقامة نظام للدولة أيضًا. وكما ارتبطت الفلسفة بالأمم والشعوب فإنها ارتبطت أيضًا بالديانات والحضارات، كما هو الحال في الفلسفات اليهودية والمسيحية والإسلامية. فالفلسفة اليهودية تعبير عن الحضارة اليهودية، سواء في عصر التدوين وجمع التراث اليهودي؛ التوراة وكُتُب الأنبياء والحَكَمة وكُتُب القُضاة والملوك، أو التراث الشفاهي كما هو الحال في التلمود والمشناة. ثم نشأت الفلسفة العقلية اليهودية في أحضان الفلسفة الإسلامية لتعقل المشروع اليهودي وتجعله أقرب إلى التوحيد الشامل.٤ كما نشأت الفلسفة المسيحية من ثنايا الفلسفة اليونانية مع المعطى الجديد، وهو العقائد المسيحية المتمركزة حول شخص المسيح. وعبَّرت عن سيادة الإمبراطورية المسيحية في العصور الوسطى، والتي خلَّفَت الإمبراطورية الرومانية، ومن نفس العاصمة، حتى العصور الحديثة وبروز القوميات الأوروبية. وهنا ارتبطَت الفلسفة من جديد بالمشروع الغربي الحديث وتأسيس الذاتية، بعد التحول من التمركز على الله والكنيسة إلى التمركز على الإنسان والطبيعة. ولم تكُن الفلسفة الإسلامية استثناءً من ذلك، فقد ارتبطَت بالمشروع الإسلامي، وهو تحويل الوحي لنظام الحكم وارتباط الدين بالدولة.
وقد مرَّت الحضارة الإسلامية بمرحلتين؛ الأولى استغرقت القرون السبعة الأولى، حيث نشأت الحضارة الإسلامية وتطوَّرَت وازدهرَت واكتملَت وبلغَت قمَّتها في القرن الرابع الهجري، ثم بدأت في التقلُّص والانزواء منذ هجوم الغزالي على العلوم العقلية في القرن الخامس. ولم تشفع بارقة ابن رشد في القرن السادس أن تعيد إلى الفلسفة حيويتها وعنفوانها الأول. ثم انهارت الحضارة كلها في القرنين السادس والسابع حتى أتى ابن خلدون في القرن الثامن ليؤرِّخ للحضارة الإسلامية في دورتها الأولى. ارتبطَت الفلسفة بالمشروع الإسلامي الأول، وهو تحويل الوحي إلى علم، وتحويل العلوم إلى نسق علمي حضاري واحد، وإقامة النُّظم والمؤسَّسات ومُقوِّمات الحياة المدنية على أساس من النهضة العلمية والحضارة الجديدة، فنشأت العلوم النقلية الخمسة؛ علوم القرآن والحديث والتفسير والسيرة والفقه، كما تأسَّسَت العلوم النقلية العقلية الأربعة؛ علم أصول الدين، وعلم أصول الفقه، وعلوم الحكمة، وعلوم التصوف. ثم قامت العلوم الرياضية والطبيعية والإنسانية الخالصة معتمدةً على العقل والطبيعة الرياضة مثل الحساب والهندسة والفلك والموسيقى، والطبيعة مثل الكيمياء والطبِّ والصيدلة والحيوان والنبات، والإنسانية مثل اللغة والأدب والجغرافيا والتاريخ. نشأت المرحلة الأولى في أحضان الفتح وتأسيس الدولة الإسلامية المترامية الأطراف، لذلك نشأت العلوم لتأسيس حضارة، ونشأت الحضارة لقيام أمة.٥
أمَّا المرحلة الثانية التي استغرقت القرون السبعة التالية من القرن الثامن حتى القرن الرابع عشر، فإنها شاهدت ثلاث فترات أيضًا كالتي شاهدتها المرحلة الأولى؛ وهي النشأة والتطور، الازدهار والاكتمال، التوقف والانهيار. أمَّا فترات المرحلة الثانية فهي الاستمرار عندما ازدهرت الفلسفة الإشراقية في القرون الثامن والتاسع والعاشر في إيران في الفلسفة الإشراقية عند صدر الدين الشيرازي، ثم فترة الشروح والملخَّصات وتدوين الموسوعات الكبرى للحفاظ على التراث الحضاري بعد أن توقَّف خشية الضياع وتمهيدًا لإبداع جديد، ثم فترة الإصلاح والنهضة منذ القرن الماضي والتي قامت بها الحركات الإصلاحية الحديثة. ارتبطت الفلسفة في المرحلة الثانية أيضًا بمشروع ثانٍ، ألا وهو استمرار الإبداع خارج المنطقة السنية في إيران، ثم تدوين التراث في المنطقة السُّنية، خاصةً في مصر، ثم بداية النهضة الجديدة في شتَّى أرجاء العالم الإسلامي؛ في الهند وشبه الجزيرة العربية والعراق والشام ومصر والسودان والمغرب العربي كله، وتركيا وعلى ربوع القارتَين العظيمتَين أفريقيا وآسيا.٦

ثانيًا: الفلسفة كوعي بالذات وبالأمة وبالتاريخ

وبصرف النظر عن الحضارات والشعوب، والعصور والمراحل والفترات، ظلَّ عنصر دائم في الفلسفة؛ ألا وهو الفلسفة كوعي بالذات وبالأمة وبالتاريخ، فارتبطت الفلسفة أولًا بالوعي أو الشعور أو النفس أو الفرد أو الذات أو المُواطن أو الإنسان، وارتبطت ثانيًا بالأمة والشعب والوطن والمجتمع، وارتبطت ثالثًا بالتاريخ والتطور والزمان. الفلسفة إذَن هي وعي بالذات، ووعي بالأمة، ووعي بالتاريخ.
  • (١)
    الفلسفة كوعي بالذات: الفلسفة هي أولًا وعي بالذات. ودون البحث عن أصولها في حكمة الشرق القديم، وضع سقراط أساسها الأول في «اعرف نفسك بنفسك»، والتي من أجلها وصفَته كاهنة معبد دلفي بأنه أحكم البشر. وقد انتقل الشعار، وتحوَّل إلى قول مأثور عند الصوفية في «مَن عرف نفسه فقد عرفه ربَّه»، واستمر في العصر الوسيط الأوروبي عند أوغسطين في نظرية «المعلم»، ففي داخل كلٍّ منَّا مُعلِّم يُعلِّمنا الحكمة «في داخلك أيها الإنسان، تكمن الحقيقة.»٧ ثم أكدت العصور الأوروبية الحديثة كلها على ذلك منذ الكوجيتو الديكارتي «أنا أفكر فأنا إذَن موجود»، والثورة الكوبرنيقية عند كانط، الذات مركز والعالم يدور حولها، وعندما جعل هيجل الروح هي كل شيء، وجعلت الوجودية الذاتية محور العالم. وقد لخص القرآن الكريم ذلك كله في آية وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (٥١: ٢١) مطالبًا إيانا بالنظر في آياته في الكون، ثم الارتداد في الذات والتأمل في النفس.
    الفلسفة إذَن وعي بالذات. وقد أكدت الحركة الإسلامية المعاصرة على ذلك بتركيزها على يقظة الوعي أو فلسفة الوعي أو «الجوانية».٨ وقد حدَّد الإمام محمد عبده الحكيمَ الفيلسوفَ بأنه «العاكف على شأنه، الخبير بأهل زمانه»، أي الواعي بالذات وبالعالم. الفلسفة هي القادرة على جعل الإنسان يتأمل في ذاته، ويستبطن مكنونات نفسه، ويقرأ ضميره، ويسمع صوته الباطن. وفي نفس الوقت هو القادر على توحيد طاقاته؛ نظره وعمله، قوله وسلوكه، فكره ووجدانه. لا يؤمن بشيء إلا بعد تصديق، ولا يفكر في شيء دون أن يعيه، ولا يقول شيئًا إلا إذا عمله وإلا كان من الأخسرين أعمالًا. لذلك ارتبطت الفلسفة بحياة الإنسان، بوجدانه ومشاعره، بأحزانه وأفراحه، بأزماته وكروبه، بآلامه وآماله، بأشواقه وطموحاته. وعلى هذا النحو يمكن قراءةُ النصوص الفلسفية عن طريق ردِّها إلى تجاربها الأولى التي نشأت منها ومشاركة الطالب لها، معها أو ضدَّها، بحيث تكون حياة الطالب تأويلًا للنَّص؛ إذ يتحول النصُّ لديه إلى تجربة مُعاشة، إلى موقف فلسفي، فيصبح العلم قضية.٩ حينئذٍ لا يُصاب الطالب بالملل، ولا ينتابه الفتور، لا يأنف ولا يتضجر، لا يغيب ولا يكسل، لا يرهب الامتحان، ولا يهرب من الفلسفة، لا يتجاهلها ولا يعاديها، ولا يقع تحت تأثير خصومها الذين يقطعون بالحقائق الجاهزة، ويتخذونها حرفةً لهم بالدفاع عنها والتكسُّب منها. فإذا تحوَّل تعليم الفلسفة إلى مسافات وكتب مُقرَّرة، معلومات تُلقَّن ونظريات تُحفَظ، ومواد يُمتحَن فيها سرعان ما ينساها الطالب بعد الامتحان؛ فإنه يشبُّ ويكبر ولم يعِ نفسه؛ وبالتالي يقضي على الفلسفة من الأساس.
  • (٢)
    الفلسفة كوعي بالأمة: والوعي بالذات يؤدِّي بالضرورة إلى الوعي بالآخر، فالآخر يقبع في الأنا، ويكون قصدًا لها. الذاتية، على ما يقول محمد إقبال، إمَّا فردية وإمَّا جماعية، إمَّا ذاتية الفرد أو ذاتية الأمة. فإذا ما حقَّقَت الفلسفة غايتها بتكوين وحدة الشخصية الإنسانية فإنها تتجه نحو وعي الأمة لتربيته، كما تربي الفرد من قبل على الحرية والاستقلال، لذلك ارتبطت الفلسفة في تاريخها بحياة الشعوب، وتاريخ الحضارات، ونشأة الدول.

    لقد ألهب خيالَ حكماء الإسلام الصلةُ بين أرسطو والإسكندر، فجعلوا أرسطو المُعلِّم الأول، والإسكندر تلميذه النجيب. وإن أول مشروع تكوين إمبراطورية في الشرق لهو فكرةُ الأستاذ نفثها في روع التلميذ. وكثُرت النصائح والرسائل والتوجيهات من المُعلِّم الأول إلى الإسكندر، عَبَّر فيها القدماء عن الصلة بين الفلسفة والدولة. كما جعلوا الفيلسوف هو الرئيس، وهو أحكم الناس، وأكثرهم علمًا وقدرةً على الرؤية والاستنباط. والمدينة الفاضلة هي التي يرأسها الفيلسوف، كما هو الحال عند الفارابي. كذلك تصوَّر أوغسطين «مدينة الله»، مدينة المؤمنين التي يحكمها قانون الفضيلة، على عكس مدينة الشيطان التي تقوم على القهر والغلبة واستعباد القوي للضعيف. الأولى لا تنهار أبدًا لأنها ملكوت السماوات بينما تنهار الثانية لأنها ملكوت الأرض.

    ولا يوجَد فيلسوف إلا وله مشروع سياسي؛ فلأفلاطون الجمهورية، ولأرسطو السياسة ودستور أثينا، ولأوغسطين مدينة الله، وللفارابي آراء أهل المدينة الفاضلة والسياسة المدنية، ولابن سينا رسالة في السياسة، وللصوفية مدينة الأقطاب والأبدال، وللمتكلمين الإمامة، وللفقهاء السياسة الشرعية، وللحكماء «إخوان الصفا وخلان الوفاء». وفي بدايات عصر النهضة، لمارسيليوس البادوي «المُدافع عن السلام»، ولتوماس مور اليوتوبيا، ولميكيافيلِّي الأمير. وفي العصور الحديثة لا يوجَد فيلسوف إلا ويُطبِّق فلسفته النظرية على السياسة، كما فعل كانط في مشروع السلام الدائم، وهيجل في نظرية الحق، وفشته في نداءاته للأمة الألمانية، وباكونين في الله والدولة، وبوزانكويت في النظرية الفلسفية للدولة، وكاسيرر في الإنسان والدولة … إلخ.

    ولم تنهض أمة إلا بفلسفة قومية لها؛ أيْ عندما تحوَّلَت الفلسفة إلى مشروع قومي لها. فنشأة الدولة الروسية الحديثة وتوحيدها إنما تمَّ بفضل مُفكري وأدباء حركة أنصار السلافية «السلافوفيل» للبحث عن روح روسيا قبل تأسيس دولة روسيا، ووجدوها في الأورثوذكسية الوطنية القائمة على حُبِّ الأرض والشعب. وقامت الوحدة الألمانية بفضل الفلاسفة الألمان وتصوُّرهم للدولة التي تُجسِّد روح الشعب وحركة التاريخ، دولة واحدة تُكوِّن صورة الواحد في الأمة. وقد بدأت الوحدة الألمانية في الفلسفة الألمانية قبل أن تتحقَّق على يد بسمارك، وذلك عند فلسفات الوحدة المُطلَقة عند هيجل وشلنج في الجامعات الألمانية. وإذا كان غاريبالدي هو مؤسِّس الوحدة الإيطالية، فإن مازيني هو فيلسوفها الذي صاغ وحدتها على مستوى الفكر وفي وعي الأمة. بل إن دولة باكستان الحديثة إنما كانت خيالًا في ذهن شاعرها محمد إقبال، قبل أن تتحقَّق بالفعل على يد محمد علي جناح. وإن الجمهورية الفرنسية الحديثة قامت بفضل فلسفة التنوير وشعارات الثورة الفرنسية، الحرية والإخاء والمساواة وآراء المُفكرين الأحرار في الحرية والعقد الاجتماعي. كما قامت الثورة الأمريكية من أجل الاستقلال بفضل إعلان حقوق الإنسان. وإن انقلاب أمريكا الآن إلى ثورة مضادة إنما كان نتيجة للنكوص عن المبادئ العامة التي قام عليها الدستور الأمريكي ووثيقة الاستقلال منذ إعلانها.

    الفلسفة إذَن ممكنة باعتبارها مشروعًا قوميًّا يبدأ بتربية المُواطن وإذكاء وعيه بالأمة. فلا توجَد فلسفة بلا وطن، ولا فكر بلا شعب، ولا ثقافة بلا قوم. لقد ارتبطَت الفلسفة بتكوين المُواطن حرًّا وعاقلًا ومسئولًا، ومساويًا لأقرانه، متسامحًا معه. عينه على الطبيعة، الكتاب الأبدي المفتوح، ونبضه على مسار التاريخ وحركته. الفلسفة إذَن ليست مزاجًا خاصًّا، أو مجرَّد تعبير أدبي عن واقع اجتماعي للمشاهدة، بل هي رؤية للواقع وتحديد له، وكشف لحركته، وصياغة لنُظمه وقوانينه. الفلسفة خُطة تنمية لمجتمع ومشروع نهضة لأمة. إن غياب الفلسفة كمشروع قومي تجعل مشاريعنا في التنمية مجرَّد هندسة بشرية ترمي إلى زيادة مُعدَّلات النمو على نحو مادي خالص كما يتصوره خبراء التنمية في الغرب، مرهونة بوجود القيادة الرشيدة، وبالتمويل اللازم، اعتمادًا على الخبرات الأجنبية أو المحلية. فتظلُّ مشاريع التنمية فوقيةً لا ينتسب إليها الناس ولا ينضمُّون إليها أو يشاركون فيها لأنها لم تنبع من تصوُّراتهم للعالم، وليست لديهم البواعث على المشاركة فيها. إن شرط الفلسفة كمشروع قومي هو أن تنبعث الفلسفة من روح الأمة المتمثل في تراثها. فالنُّظم السياسية الجاهزة قيود على الفكر وحكر على الإبداع، سرعان ما تنتهي أمام المدِّ التراثي الشعبي والحركات الإسلامية الغاضبة الرافضة للتغريب. إن الفلاسفة ليسوا أعداء الأمة أو خصومها، بل هم المؤسِّسون لها، والمُدعِّمون لمؤسساتها، والحارسون على أمنها. لا يعني ذلك أنهم فلاسفة السُّلطة أو فقهاء السلطان، يُبرِّرون قراراتها ويُشرِّعون لسلطانه، بل هم يرشدون ويُوجِّهون وينصحون ثم ينذرون ويحذرون ويبصرون، ثم يقودون ثورات الشعوب ضدَّ الظلم والطغيان.

  • (٣)
    الفلسفة كوعي بالتاريخ: لمَّا كان لا وجود لفرد بلا وطن، ولا لإنسان بلا أمة، كذلك لا وجود لشعب بلا تاريخ. وكما أنه لا وجود لوعي فردي دون وعي اجتماعي، فإنه لا وجود لوعي اجتماعي دون وعي تاريخي. وكما أن الفرد يعيش في الزمان والأمة تعيش في عصور، فإن تراكم عصورها يولِّد في شعورها الجمعي شعورًا تاريخيًّا، رصيد الخبرات السابقة وحصيلة تعلُّم الأجيال. الفلسفة هي القادرة على تجسيم روح العصر والتعبير عنه، فلا حركة بلا تاريخ ولا تاريخ بلا روح، وتبدو الروح في الثقافة وفي كل مظاهر الإبداع الذهني للأمة. الفلسفة هي الوعي الطبيعي لكل ذلك. والفلسفة هي القادرة على تحديد المرحلة التاريخية التي تمرُّ بها أمةٌ ما حتى لا تؤدِّي أدوارًا أدَّتها من قبلُ أو تؤدِّي أدوارًا لم تأتِ بعدُ. وفي كلتا الحالتين تنسى دَورها الحاضر! الفلسفة إذَن هي وعي بالزمان وبالتطور وبالتاريخ، وإدراك للمرحلة التي تمرُّ بها الأمة. لذلك ظهرت فلسفات التاريخ لتحديد قانون لتطور الشعوب وتحديد المرحلة الراهنة التي يمرُّ بها كل شعب. لقد قام فلاسفة التاريخ المُحدَثون بتتبع مسار الغرب، وانتهَوا إلى وصف بداياته، وحدَّدوا مساره، وتنبئوا بنهاياته. تحدَّث إشبنجلر عن أفول الغرب، وتوينبي عن نهاية الحضارة الغربية، وهوسرل عن أزمة العلوم الأوروبية باعتبارها أزمةً للوعي الأوروبي، وبرجسون عن تدهور الغرب وآلاته التي تصنع آلهةً جديدة. الفلسفة إذَن بلا وعي بالتاريخ تجعل الشعب بلا مسار، بلا ماضٍ أو حاضر أو مستقبل، مجرَّد ميتافيزيقا تربطه بالخلود، بكل الزمان دون تحديد أيَّة لحظة فيه. لذلك ارتبطت العلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية والعلوم التاريخية معًا ارتباط الوعي الفردي بالوعي الاجتماعي بالوعي التاريخي، بل إن الأصل هي العلوم التاريخية التي من ثناياها نشأت العلوم الاجتماعية ثم العلوم الإنسانية المستقلة، وكأن الإنسان تاريخ ثم مجتمع ثم فرد!
    وكما أن في كل حضارة فلسفة اجتماعية، ولدى كل فيلسوف رؤية اجتماعية وتطبيق لفلسفته النظرية في السياسة، كذلك لكل حضارة فلسفة في التاريخ ورؤية لمسار التطور البشري، كما أن لكل فيلسوف تطبيقًا لفلسفته النظرية في التاريخ. فأرسطو فيلسوف مؤرِّخ للفلسفة اليونانية. وأوغسطين فيلسوف ومؤرِّخ للنظم السياسية، سواء لمدينة الله أو لمدينة الشيطان. وكان يواقيم الفيوري في القرن الثاني عشر أول من صاغ فلسفة للتاريخ بعد تحويل التثليث من مستواه الرأسي إلى مستواه الأفقي في ثلاث مراحل؛ مرحلة الأب، ومرحلة الابن، ثم مرحلة الروح القدس.١٠ ولكن العصور الأوروبية الحديثة، منذ هردر ولسنج وكانط وفيكو وكندرسيه وتورجو، حتى فلاسفة القرن التاسع عشر، هيجل وماركس وأوجست كونت وكورنو، ثم فلاسفة القرن العشرين عن كروتشه وإشبنجلر وتوينبي هي التي جعلَت فلسفة التاريخ روايةً لقصة الوعي الأوروبي بمراحله المختلفة، وكأنه قد اكتمل في القرن العشرين كما اكتملت الفلسفة اليونانية من قبلُ على يد أرسطو مؤرِّخًا.

    وبالنسبة لنا، تستطيع الفلسفة أن تكشف أننا الآن في مرحلتنا الثالثة بعد أن اكتملت الدورة الأولى للحضارة الإسلامية على مدى سبعة قرون، بلغت ذروتها في القرن الرابع الهجري، وهي الفترة التي أرَّخ ابن خلدون لنشأتها وتطوُّرها ونهايتها. ثم تلَتها فترة ثانية؛ عصر الشروح والملخَّصات، الذي تمَّ فيه تدوينُ الحضارة لنفسها بعد أن توقَّفَت عن الإبداع وتطوير العلوم القديمة. عملَت الذاكرة بعد أن توقَّف العقل، ونشأ التدوين بعد أن تحقَّق الإبداع. ومنذ القرن الماضي ونحن في بداية مرحلة ثالثة منذ الحركة الإصلاحية الحديثة، ونحاول منذ أربعة أجيال بداية نهضة جديدة وإبداعًا ثانيًا يخلِّص الأمة من هزائمها، ويقيل نهضتها الأخيرة من عثرتها. ولقد قام جيلنا بثورات حديثة لتغيير النُّظم الاجتماعية القديمة، ونال البعض منَّا الاستقلال الوطني، قام البعض بالثورة، ونال البعض الآخر الثروة. واجتمَعت الثورة والثروة في جيل واحد. ولكن القضية الآن هي تعثُّر الثورات العربية الحديثة وانقلاب البعض منها إلى ثورات مضادة، أو ثورات عاجزة عن مواجهة احتلال الأراضي ومقاومة العدو. كما أن القضية هي ظهور عصر ما بعد النفط، وتقلُّص مشاريع التنمية واختراق الأوبك، والحروب الطاحنة الجانبية وتفتيت الأمة. مهمَّة الفلسفة إذَن هي إعادة النظر في تعثر الثورات العربية المعاصرة، والتمهيد لعصر ما بعد النفط، وتأسيس مجتمعات لها مصادرها من إنتاجها القومي.

ثالثًا: الفلسفة كمشروع قومي حديث

والفلسفة بالنسبة لجيلنا قادرةٌ على صياغة مشروع قومي حديث للأمة، تُثبت به ذاتيتها وتُحقِّق به مصالحها. ولقد تمَّت صياغةُ هذا المشروع منذ القرن الماضي، وما زال قائمًا. وكلما تحقَّقَت إحدى خطواته تعثَّر من جديد، وعدنا كما بدأنا بحيث لم يحدث تراكمٌ تاريخي كافٍ يُولِّد تغيرًا كيفيًّا في رؤيتنا للواقع وتجديد المشروع وإعادة صياغته. ما زال مشروعنا القومي الذي حدَّدناه منذ القرن الماضي نظريًّا، خطابيًّا، شعاريًّا، دعائيًّا، بينه وبين الواقع هوَّة سحيقة. كلما ازدادت الخطابة النظرية ازداد الواقع عنه ابتعادًا. لم تتحول من الشعارات إلى إعادة بناء حياتنا الثقافية والفكرية والعقائدية والتشريعية ونُظمنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية وقِيَمنا الأخلاقية والجمالية بناءً على متطلبات هذا المشروع ومراحل تحقُّقه.١١
هذا المشروع القومي الحديث هو التعبير عن الواقع الحالي على مستوى النظر والأهداف. هو رؤية مباشرة للواقع من حيث هو متطلبات تُعبِّر عن حاجة العصر ومصلحة الجماهير. ولمَّا كانت الفلسفة ثقافةً وحضارة، فإنها تدخل ضمن هذه الرؤية للواقع، إمَّا كعامل مُساعد أو كعامل مُزاحم، لتقوية هذه الرؤية أو لإضعافها. ولمَّا كانت الفلسفة في جيلنا تنبع من مصدرَين؛ التراث القديم والتراث الغربي، فإن الرؤية المباشرة للواقع تصبح المصدر الثالث للفلسفة. ومن هنا يجد المثقف العربي نفسه في جبهات ثلاث؛ اثنتَين حضاريتَين؛ التراث القديم والتراث الغربي، وثالثة وهي الواقع المباشر. ولمَّا كان يسهُل التعاملُ مع التراثين الحضاريَّين بالقراءة والتأويل والاختيار وإعادة البناء في حين أنه يصعُب تبديل الواقع، فإن مهمَّة الفلسفة في بناء المشروع القومي الحديث إنما يكون عن طريق إعادة بناء التراثين القديم والغربي بناءً على هذه الرؤية المباشرة للواقع، أيْ تركيب الثقافتين على الواقع، وصبِّ الرافدين في منبع الحاضر، وجَعْل الثقافة برافدَيها كعامل مُساعد لتقوية الرؤية المباشرة للواقع تنظيرًا وعلميةً وتعبئةً للجماهير.١٢
ويمكن تحديدُ أهدف العصر، بصرف النظر عن أسمائها، في سبعة، وبصرف النظر عن ترتيبها الذي قد تختلف فيه الرؤى السياسية. ويمكن للفلسفة المُستمدَّة من التراثَين، القديم والغربي، أن تساهم نظريًّا من حيث التصورات والمفاهيم، وعمليًّا من حيث تعبئة الجماهير على النحو الآتي:
  • (١)
    تحرير الأرض المحتلة: وهو الهدف الأول الذي ما زال قائمًا منذ الاستعمار الأوروبي الحديث، وحتى ما بعد حركات الاستقلال الحديثة التي حرَّرت أجزاءً من الأرض وبقيَت الأجزاء الأخرى خاضعةً للاحتلال في فلسطين، وسبتة، ومليلية، وكشمير، وأفغانستان. قد يكون هذا الاحتلال في صورة قواعد عسكرية أو أحلاف أو تبعية سياسية أو مناورات مشتركة أو كمصدر خارجي للتسليح المشروط. تحرير الأرض هدف قومي ضدَّ الاحتلال المباشر أولًا قبل أشكال الاحتلال الأخرى، مثل التبعية الاقتصادية، والغزو الثقافي، وارتهان الإرادة الوطنية. ولا يكفي في ذلك «يوم الأرض» أو «فرقة الأرض»، بل إظهار الأرض في وعينا القومي وإعادة بناء ثقافتنا القومية ارتكازًا عليها، فالأرض مفهوم رئيسي في تراثنا القديم، ابتداءً من مصدره الأول وهو القرآن الكريم «إله السموات والأرض»، رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ. وفي علم أصول الدين، العالم طريق إلى الله، ومن العالم الحادث يثبُت الله القديم. وفي علوم التصوف، وكما ظهرت في الفلسفة الإلهية، الله والعالم حقيقة واحدة، واجهتان لشيء واحد، الحق والخلق. وفي علم أصول الفقه الواقع أساس النصِّ في التشريع نشأةً وتطورًا وتطبيقًا في تخريج المناط وتحقيق المناط وتنقيح المناط. ولكننا ما زلنا حتى الآن في حرج من إعلان ذلك نتيجةً لتطهُّرنا القديم ونقص في وعينا السياسي النظري.
    لقد استطاعت الصهيونية إيجاد الصلة بين الله والأرض في أرض المعاد، فاليهودي لا يستطيع أن يعبد الله دون أرض ومدينة ومعبد وهيكل، فدفاعه عن الأرض تأكيدٌ لله وإثباتٌ له. والفلسفة قادرةٌ على أن تصوغ عقيدةً في الأرض كما استطاع فشته في ألمانيا صياغة فلسفة في المقاومة لطرد المُحتلِّ بعد غزو نابليون لأراضي ألمانيا «أنا أقاوم فأنا إذَن موجود»، «الآن تضع ذاتها حين تقاوم». وحتى الآن لدينا شعر المقاومة، وأدب المقاومة، وليست لدينا فلسفة المقاومة. إن الاستنفار بالجهاد حمية، ولكن تحرير الأرض جزء من العقيدة، لدرجة تحريم الفقهاء الصلاة في الأرض المغصوبة؛ إذ لا يجتمع فعلان، حسن وقبيح، في موضوع واحد. تحرير الأرض أولًا ثم الصلاة فيها ثانيًا.١٣ يمكن إذَن إبرازُ ارتباط الفلسفة بالأرض في كل حضارة ولدى كل شعب وفي كل تراث؛ الأرض في الأدب الروسي عند أنصار الحركة السلافية، الأرض في حركات التحرر الوطني، الأرض في أدب المقاومة الفلسطينية كنماذج لصياغة فلسفة في الأرض، وميتافيزيقا الأرض، وجماليات الأرض … إلخ.
  • (٢)
    إطلاق الحريات: ممَّا لا شك فيه أن أمَّتنا تعاني من أزمة في الحريات العامة، فكثير من الأنظمة تقوم على الرأي الواحد، والحزب الواحد، والتنظيم الواحد، والصحافة الواحدة باستثناء القليل. وإن غياب الرأي الآخر إضرارٌ بالفكر، ونذيرٌ بسوء العاقبة. ويُضرَب بمجتمعاتنا المثل في عدد نزلاء السجون وضحايا حرية الرأي، وتُثار لدينا باستمرار قضايا حقوق الإنسان. والفلسفة قادرة على الدفاع عن حرية الرأي الآخر. الفلسفة حوار، وتبادل وجهات النظر، لا تُكفِّر أحدًا، وتقبل كل شيء. حُجَّتها البرهان، ومقياسها الصدق الداخلي. لا تعتمد على سلطان إلا سلطان العقل، ولا تخاف سُلطة، ولا تداهن سلطانًا. وهي في هذا مثل الدين تمامًا في تأكيده على ضرورة النصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعن خلق الله الناس أحرارًا. وإن أول ركن من أركان الإسلام «أشهد أن لا إله الله …» لهو إعلان عن حرية المسلم؛ فهو يشهد ويتكلم، لا يصمت ولا يداري، فالساكت عن الحقِّ شيطان أخرس. والشهادة شهادة على العصر، ومنها يأتي الشهيد الذي يسقط شهيدًا جزاء شهادته من جرَّاء قول الحقِّ في وجه حاكم ظالم. تضمُّ الشهادة فعلَين؛ الأول فعل نفي «لا إله»، والثاني فعل إثبات «إلا الله». ينفي المسلم من شعوره كل مظاهر الطاغوت، كل آلهة العصر المُزيَّفة، فإذا ما تحرَّر منها قام بالفعل الموجب الثاني «إلا الله» إثباتًا للحقِّ الواحد الذي يتساوى أمامه الجميع.١٤ وإذا كان القدماء قد اختاروا الجبر أو الكسب نظرًا لظروفهم الخاصة ورغبةً في الاستسلام للسلطان بُغيةَ الاستقرار وحصارًا للمعارضة، فإن من مصلحتنا اليوم إبراز حرية الاختيار حتى يستردَّ الناس مصيرهم بأيديهم ضدَّ طغيان الدولة واحتكارها الرأي والنظر. وإذا كان الصوفية قديمًا قد أسقطوا التدبير، فإن من صالحنا اليوم إثبات التدبير وقدرة الإنسان على تسيير أموره. وإذا كان بعض فقهاء السلطان قد أفتَوا بجواز الاستيلاء على السُّلطة بالشوكة، فإن من مصلحتنا حاليًّا الإصرار على أن الإمامة بيعةٌ وعقدٌ واختيار. وإذا كان القدماء قد أساءوا تأويل أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فإن من واجبنا اليوم إبراز أنه «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق». وإذا كان الحكماء قديمًا قد تصوَّروا الكون في إطار من الحتمية، فإن من حقِّنا اليوم أن نتصوَّر الكون في إطار من الحرية الإنسانية القادرة على تشكيله. ولقد حاولنا ذلك في التراث الغربي لأنه أقل خطورةً وأقل إثارةً للمشاكل، فترجمنا دستور أثينا وسياسة أرسطو اعتزازًا بالليبرالية القديمة، ولكننا عندما أتينا إلى العصر الحاضر ربطنا بين الليبرالية والرأسمالية، كما هو الحال في الغرب الحديث، فتحوَّلَت الليبرالية إلى محافظة والرأسمالية إلى إقطاع، نظرًا لأن المجتمع كله لم ينتقل من مرحلة إلى أخرى. ونقلنا تصوُّرات ديكارت وكانط للحرية العاقلة، ونشرنا آراء الوجوديين عن الحرية والالتزام، ولكننا حتى الآن تنقصنا فلسفةٌ في الحرية وممارسات في التحرر دفاعًا عن الحريات السياسية وفي إطار الوحدة الوطنية.
  • (٣)
    العدالة الاجتماعية: نحن أمة يصيبها الجوع والقحط والجفاف وسوء التغذية عند الأغلبية بينما يُضرَب بها المثل في تضخُّم الثروات وتكدُّس الأموال والبذخ والترف عند الأقلية. هذا التفاوت الضخم في الدخول في أرجاء الأمة بين مَن يهلكون جوعًا ومَن يموتون بطنة، أحد أسباب انتشار المذاهب الغربية الداعية للمساواة والعدالة الاجتماعية. والفلسفة قادرةٌ على حلِّ قضية الغنى والفقر والمساهمة فكريًّا وعلميًّا في صياغة فلسفة للفقر وفقر الفلسفة الداعية إلى الغنى، وتأسيس نظريات في العدالة الاجتماعية، وإيجاد الأساليب لإعادة توزيع الدخول. وما أسهل تأصيل ذلك في التراث القديم في نظرية العمل كمصدر وحيد للقيمة بدليل تحريم الرِّبا، وجَعْل المصالح العامة في يد الدولة منعًا للاستغلال والاحتكار، وحقِّ الحاكم في تأميم الوسائل العامة للإنتاج دفاعًا عن الصالح العام، وحقِّ الفقراء في أموال الأغنياء، وانهيار المجتمعات القائمة على التفاوت الطبيعي، وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ، والله باعتباره إشباعًا من جوع وأمانًا من خوف فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ. وفي نظرية الاستخلاف ما يكفي للحدِّ من الملكية الخاصة المُستغَلة، فالمال مال الله، والإنسان مُستخلَف فيه. له حقُّ الانتفاع والتصرف والاستثمار، وليس له حقُّ الاكتناز والاحتكار والاستغلال.
    الملكية وظيفة اجتماعية وليس شيئًا يتمُّ الاستحواذُ عليه. وإن الركاز، أيْ كل ما هو في باطن الأرض مثل الذهب والحديد والنحاس، وبلغتنا النفط، لا تجوز ملكيتُه ملكيةً خاصة؛ لأنه مِلكٌ للأمة. كل ذلك عناصر من التراث يمكن أن تُعطيَنا فلسفةً اجتماعيةً قادرةً على حلِّ قضية الغنى والفقر. والأمثلة في التراث الغربي كثيرة أيضًا، ترجمناها منذ برودن وسان سيمون وماركس وروبرت أوين وكل أنواع الاشتراكات الغربية. ما زالت موضع شبهة وخوف، نقترب منها بحذر، وقد نستبعد بعضها. إن التراث الاشتراكي الفكري الغربي يفوق الآن القرن الواحد في فكرنا المعاصر، كما أن تأصيل مفاهيم العدالة الاجتماعية في تراثنا القديم قد بدأ منذ وقت طويل. ولكن حتى الآن، لم تنشأ فلسفة متكاملة للفقر والغنى في لبِّ الفلسفة العامة التي ظلت مباحثَ في المعرفة والوجود والأخلاق الفردية. إن الفلسفة قادرةٌ على أن تتجاوز مرحلة الدعاية من خلال أجهزة الإعلام ومرحلة النقل النظري للفلسفات الغربية بلا اختيار وتوجيه مقصود.١٥
  • (٤)
    وحدة الأمة: وتظلُّ وحدة الأمة مطلبًا أساسيًّا من مطالبنا القومية بعد عصر تجزئة مُصطنَعة موروثة من الاستعمار، عندما قسمت الدول الأوروبية الكبرى العالم الإسلامي فيما بينها، خاصةً بعد انهيار دولة الخلافة بعد الحرب الأولى وخَلْق مشاكل حدود وهمية مُصطنَعة لبثِّ التفرقة وإحداث الحروب بين الإخوة الأعداء، كما نشاهد هذه الأيام من التدمير المتبادَل والدماء المُرَاقة وتشتيت جبهة الصراع العربي الأولى في فلسطين إلى جبهات أخرى ثانوية هنا وهناك. تستطيع الفلسفة بفكرتها عن الواحد، وحدة الذات ووحدة الأمة ووحدة الكون ووحدانية الله، وضْع أسُس للوحدة الشاملة، فالله واحد. وتنعكس هذه الوحدانية في الأمة الواحدة إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (٢١: ٩٢)، وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (٢٣: ٥٢). وإن أيَّ توحيد للأمة يقوم على أساس عِرقي أو لغوي أو مصلحي صِرف ليظلَّ قاصرًا عن إدراك الأساس النظري للوحدة. بل إن خلق الشعوب والقبائل والأمم المختلفة إنما تمَّ لأجل التعارف وخلق وحدة المعرفة بينهما، فالتعدد من أجل الوحدة. ويمكن تأصيل وحدة الأمة في تراثنا القديم في وحدانية الله كأحد أوصاف الذات الإلهية، وفي وحدة مصدر الوحي وفي نظريات الوحدة عند الصوفية، ابتداءً من وحدة الذات الإنسانية إلى وحدة الشهود إلى وحدة الوجود. ونظرية الوحدة في تراثنا القديم هي بلورة لنظريات الوحدة في الشرق القديم في الهند خاصة، وحدة الإنسان مع الطبيعة والكون، ووحدة حضارة ما بين النهرَين، وحدة الله والطبيعة، ووحدة مصر القديمة، وحدة الله مع النفس والطبيعة والكون والدولة. وفي التراث الغربي الحديث تحقَّقَت مفاهيم الوحدة عمليًّا في نشأة الدول القومية مثل الوحدة الألمانية، والوحدة الإيطالية. ودون مفهوم أصيل للوحدة، والاقتصار على وحدة المصالح والأعراق، تتعثر التجارب كما هو الحال في وحدة الأراضي الروسية والوحدة الأمريكية والوحدة الأوروبية.
  • (٥)
    التنمية القومية: ويُضرَب بأمَّتنا المثل في التخلف الشامل، وليس فقط في التخلف الاقتصادي، فما زال اقتصادنا يعتمد على الخارج إمَّا في التجارة بتصدير النفط، أو في الغذاء باستيراد المواد الغذائية، أو في الدفاع باستيراد السلاح. كما أننا نعتمد في تكنولوجيا الصناعة على الخارج ونقل الخبرات. وعلى أقصى تقدير تُصنَّف الأمة في عِداد الدول النامية؛ إذ إن معظمنا في آسيا وأفريقيا، أيْ أننا ننتسب إلى العالم الثالث الذي يحتاج إلى تنمية شاملة في الزراعة والصناعة والخدمات والتعليم والصحة ووسائل الاتصال … إلخ. والفلسفة قادرةٌ على الدخول في معارك التنمية اعتمادًا على تراث الأمة، ففي القرآن الكريم الأرض خضراء، ينزل عليها الماء فتهتزُّ وتربو وتنبت من كل زوج بهيج، والأرض الصفراء هشيم تذروه الرياح. وقد سخَّر الله الطبيعة للإنسان كي يكتشف قوانينها ويسيطر عليها ويستخدمها لصالحه. فالإنسان سيد الكون بأمر الله، وخليفة الله في الأرض وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً (٢: ٣٠)، يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ (٣٨: ٢٦). فالخلافة هنا اقتصادية للتعمير وسياسية للحكم.١٦ بل إن «القِدَم»، وهو إحدى صفات الذات الإلهية من التقدم، أي السبق إلى الأمام وليس بالضرورة التقدم إلى الخلف. وإن لفظ التقدم لفظ قرآني لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (٧٤: ٣٧). وإن ما نسميه نحن بلُغة عصرنا التقدمي والمتخلف يُسميه القرآن بلُغة المستقدم والمستأخر، وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (١٥: ٢٤). وفي تراثنا القديم إمكانية تأصيل مفاهيم التنمية والتقدم. ففي علم أصول الدين في مُقدِّماته النظرية الأولى، هناك أنواع التقدم بالزمان وبالمكان وبالرُّتبة وبالعلية وبالشرف … إلخ. وفي الفلسفة هناك التقدم في الزمان وأنواع الحركة. وفي علوم التصوف يتدرج الوعي، وتتجلى النبوَّة خطوةً خطوةً في الزمان، جيلًا بعد جيل، وعصرًا بعد عصر. وفي أصول الفقه يتواتر الإجماع جيلًا بعد جيل، فلكل جيل إجماعه، ولكل عصر مصالحه، والجيل اللاحق قادرٌ على عقد إجماعه، حتى ولو خالف إجماع العصر السابق. ولقد أصبح مفهوم التقدم والتغير والارتقاء دعامة التشريع على ما هو معروف في علوم القرآن باسم «الناسخ والمنسوخ»؛ أيْ تطور التشريع في الزمان طبقًا لتطور القدرات.١٧ وفي التراث الغربي، أصبح مفهوم التقدم هو دعامة العصور الحديثة منذ نشأته في فلسفة التاريخ، عند هردر ولسنج وكانط وفيكو وتورجو وكوندرسيه، حتى فلسفات التاريخ في القرن التاسع عشر عند هيجل وماركس وكورنو، ويظلُّ الغرب حتى الآن بالرغم من توقُّف المفهوم وتحوُّله إلى مفهوم النكوص أو الانهيار أنه وحده هو الذي صاغ مفهوم التقدم وأقام فلسفات في التقدم. وقد قامت كل خُطط التنمية في الغرب على فلسفات التقدم. لذلك كانت فلسفات التاريخ في الغرب أحد الروافد لإقامة فلسفة قومية تقوم على مفهوم التقدم إلى الأمام وليس التقدم إلى أعلى أو التقدم إلى الداخل أو التقدم إلى الوراء.١٨ وما أكثر المجلات الثقافية التي حاولت، منذ فجر النهضة الحديثة، التي أخذت مفهوم التقدم شعارًا لها، ولكننا ما زلنا حتى الآن دون تأصيل نظري له كأساس لخُطة قومية في التنمية.
  • (٦)
    الهُويَّة الحضارية: وتختلف أزمة الهُويَّة الحضارية من قُطر إلى قُطر، وإن كان هناك شعور عام بأنها هدف قومي عام، بصرف النظر عن اختلاف درجة الشدة من قُطر إلى آخر. وقد نشأت الأزمة منذ اتصالنا بالغرب الحديث وخلق مصدر جديد للثقافة ونمط جديد للسلوك وأخْذ من الخارج، دون تطوير طبيعي للقديم، بعد أن توقَّفَت الحضارة في عصر الشروح والمُلخَّصات. فازدوجَت حياتنا الثقافية والسلوكية بين موروث قديم ووافد جديد، بين أغلبية وأقلية، بين محكومين وحُكام. وكلما ازداد الرافد قوةً وانتشارًا زادت المحافظة التقليدية دفاعًا وتمسُّكًا بالقديم، وقد حاولت الحركة الإصلاحية الحفاظ على المصدرين وشقَّ الطريق بين الموروث القديم والوافد الدخيل في التمسك بالهُويَّة الحضارية مع التفتح على ثقافات العصر، بين العثمانيين أنصار الخلافة وبين العلمانيين أنصار الاتحاد والترقي. وازدحمَت المفاهيم، وتداخلَت الهُويَّات القومية والحضارية والثقافية، ونشأ الخلاف بين أنصار الإسلام وأنصار العروبة، بين الهُويَّة الحضارية والهُويَّة القومية. والحقيقة أن الهُويَّة، بصرف النظر عن وصفها، قومية أو وطنية أو ثقافية أو حضارية، هي أساسًا إثبات الذات في مواجهة الغير، إثبات الأنا في مقابل الآخر، فهي أقرب إلى الكوجيتو الحضاري منها إلى إثبات واقعة قومية، ويمكن تأكيدُها اعتمادًا على تراثنا القديم في تحريم موالاة الغير والتقابل بين الأنا والآخر قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ. لا يجوز إذَن موالاة المسلم لغير المسلم لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ (٣: ٢٨)، الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلهِ جَمِيعًا (٤: ١٣٩)، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ (٤: ١٤٤)، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ (٥: ١٥)، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ (٥: ٥٧)، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ (٦٠: ١).١٩ وفي التراث الغربي طالما تحدَّثَت العلوم الاجتماعية عن الهُويَّة الثقافية كأساس للتنمية في مواجهة الاغتراب، فقد كان من أهداف الاستعمار القضاء على الهُويَّات الثقافية للشعوب كمُقدِّمة للقضاء على الهُويَّات القومية حتى يسهُل عليه السيطرة العسكرية والهيمنة الثقافية. وكانت حُجَّة الاستعمار في الاستمرار أنه لا توجَد هُويَّات قومية أو ثقافية للمستعمرات! وما زال الغزو الثقافي مستمرًّا بالرغم من تغيُّر أشكاله، بما في ذلك نقل التكنولوجيا. وإذا كانت مشكلة «الهُويَّة والاختلاف» هي المشكلة الميتافيزيقية الأولى، فإن الفلسفة تكون قادرةً على المساهمة في حلِّ هذه القضية التي تُكوِّن أحد معالم مشروعنا القومي الحديث.
  • (٧)
    تعبئة الجماهير: وهي إحدى قضايا عصرنا، حتى لو بدَت أقلَّ فلسفيةً وأكثر عملية. والحقيقة أنها القضية العلمية العملية الأولى؛ لأنه بدون الجماهير ومشاركتها لا يمكن تحقيقُ أيِّ هدف قومي من الأهداف التي تكوِّن ملامح مشروعنا القومي الحديث. اقتصر دَور الجماهير على التأييد المفروض عليها من خلال أجهزة الإعلام، أو المُعارَضة المكتومة من خلال الأحزاب والتنظيمات السِّريَّة، أو اللامبالاة وعدم الاكتراث، وهو موقف الأغلبية الصامتة منها. وفي حركاتنا الإصلاحية الحديثة كان حُلمًا لدى الأفغاني تكوين حزب جماهيري شعبي يقوم بتحقيق مشروع الإصلاح الذي ما زال هو الصياغة الأولى لمشروعنا القومي الحديث، ولكنه لم يتحقَّق إلا نظرًا فيما سمَّاه رشيد رضا «حزب الإصلاح»، وعملًا لدى الإخوان المسلمين عند حسن البنا، والذي انتهى بصراعه مع الثورة المصرية ثم تحوُّله في داخل السجون إلى الجماعات الإسلامية الحالية.٢٠ ويمكن تأصيلُ هذا الهدف، أعني تعبئة الجماهير، من خلال تراثنا وممارساتنا القديمة، ففكرة الحزب، حزب الله، فكرة قرآنية في مقابل الأحزاب، فهو الحزب الغالب فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (٥: ٥٦)، وهو الحزب الناجح أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥٨: ٢٢). ولقد انتشر الإسلام وتحوَّل إلى دولة بفضل الحزب الإسلامي، الجيل القرآني الفريد، جيل الصحابة الأوائل من المُهاجرين والأنصار. قادته هم الأمة الذين يتوجَّهون بالنصيحة، ويقومون بالأمر بالمعروف وينهون عن المنكر، ويدافعون عن مصالح الأمة. وفكرة الجمهور فكرة شرعية، فالجمهور هم الغالبية من فقهاء الأمة الذين لا يخشون في الله لومة لائم، وينصرون الحقَّ ضدَّ الباطل، والعدل ضدَّ الظلم. وفي التراث الغربي أصبحَت فكرة «الجماهير» فكرةً فلسفية، وعصرًا من العصور، إذ إننا نعيش الآن في عصر الجماهير.٢١ ولقد سمَّاها ماركس البروليتاريا، وجعلها الوريث الوحيد للأيديولوجيا الألمانية. واجهتان لعملة واحدة؛ العمل في مقابل النظر، تغيير العالم في مقابل فهمه، لذلك كان العمل السياسي جزءًا لا يتجزأ من العمل الفلسفي، وكان الحزب الثوري إحدى مهامِّ التراث والتجديد.٢٢

تلك هي الأهداف الوطنية السبعة التي حدَّدها جيلنا، والتي تُمثِّل تحدِّيات عصره الكبرى، والتي تُكوِّن العناصر الرئيسية في مشروعه القومي الحديث. والفلسفة قادرةٌ على أن تتبنَّاها وتؤهلها في التراثين، القديم والغربي، اللذين يُكوِّنان المصدرَين الرئيسَين في ثقافتنا المعاصرة. وعلى هذا النحو يكون واقعنا المعاصر أساس بناء هاتين الثقافتين؛ الموروثة والوافدة. عندئذٍ لا تكون ثمة شكوى من عزلة الثقافة عن الواقع، ولا يكون ثمة عتاب للفلسفة أنها لم تقُم بدَور في جيلنا؛ ألا وهو المساهمة في صياغة مشروعنا القومي الحديث.

١  كُتبَت عناصر هذا المقال في ربيع ١٩٨٥م، أثناء وجودي أستاذًا زائرًا بجامعة الإمارات العربية المتحدة، أثناء الفصل الدراسي الثاني للعام الجامعي ١٩٨٤ / ١٩٨٥م، وبعد إحساسي بأزمة المجتمع كله؛ وهي عدم ربط الجامعة عامةً وقسم الفلسفة خاصةً بمشروع قومي واحد للبلاد؛ إذ لا فلسفة بلا وطن، ولا طالب بلا مواطن، ولا جامعة بلا أمة. وهذه صياغة ثانية من تلك العناصر الأولى كُتبَت في صيف ١٩٨٧م. انظر أيضًا بعد ذلك «الجامعة والوطن».
٢  ذُكر لفظ الحكمة في القرآن عشرين مرة؛ سبع مرَّات بمفردها مثل: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا (٢: ٢٦٩)، ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ (١٧: ٣٩)، وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلهِ (٣١: ١٢)، وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ (٣٣: ٣٤)، قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ (٤٣: ٦٣)، حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (٥٤: ٥). وعشر مرات مُضَافة إلى الكتاب مثل: يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ (٢: ١٢٩)، يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ (٢: ١٥١)، وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ (٢: ٢٣١)، وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣: ٤٨)، لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ (٣: ٨١)، يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ (٤: ١١٣)، وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (٥: ١١٠). ومرةً واحدةً مع الموعظة الحسنة: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ (١٦: ١٢٥). ومرةً واحدةً مع المُلك: وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ (٢: ٢٥٠). ومرةً واحدةً مع فصل الخطاب: وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (٣٨: ٢٠).
٣  ابن مسكويه، الحكمة الخالدة، تحقيق د. عبد الرحمن بدوي، النهضة المصرية، القاهرة، ١٩٥٢م.
٤  انظر دراستنا: Islam and Judaism, UNESCO, Paris, 1985.
وأيضًا في كتابنا: Religion, Ideology and Development.
٥  انظر خُطة مشروع إعادة بناء هذه العلوم في كتابنا «التراث والتجديد، موقفنا من التراث القديم»، ص٢٠٣–٢٠٩، المركز العربي للبحث والنشر، القاهرة، ١٩٨٠م.
٦  مالك بن نبي، فكرة الأفريقية الآسيوية، ترجمة عبد الصبور شاهين، دار العروبة، القاهرة، ١٩٥٧م.
٧  القديس أوغسطين، محاورة «المُعلِّم» في كتابنا، نماذج من الفلسفة المسيحية في العصر الوسيط، الأنجلو المصرية، القاهرة، ١٩٧٨م.
٨  عرف المرحوم د. عثمان أمين بهذا التيار وتأويله المثالية الغربية ورواد الإصلاح الديني بهذا المعنى. انظر دراستنا: «من الوعي الفردي إلى الوعي الاجتماعي» في دراسات إسلامية ص٣٤٧–٣٩٢، الأنجلو المصرية، القاهرة، ١٩٨١م.
٩  انظر دراستنا: «قراءة النص» في دراسات فلسفية، الأنجلو المصرية، القاهرة، ١٩٨٨م. وأيضًا: «العلم قضية»، في هذا الجزء الأول، الدين والثقافة الوطنية.
١٠  انظر دراستنا: “Joachim of Fiore and Islam,” in Religious Dialogue and Revolution, pp. 95–108, Anglo-Egyptian Bookshop Cairo, 1977.
١١  انظر دراستنا: «جمال الدين الأفغاني»، قضايا معاصرة، الجزء الأول من فكرنا المعاصر، ص٩١–١١٠، دار الفكر العربي، القاهرة، ١٩٧٦م. وأيضًا: «كبوة الإصلاح»، دراسات فلسفية، الأنجلو المصرية، القاهرة، ١٩٨٨م.
١٢  انظر دراستنا: «موقفنا الحضاري»، بحوث المؤتمر الفلسفي العربي الأول، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ١٩٨٥م. وأيضًا: «الفكر الإسلامي والتخطيط لدوره الثقافي المستقبلي»، في دراسات فلسفية، الأنجلو المصرية، القاهرة، ١٩٨٨م.
١٣  انظر مقالنا: «هل تجوز الصلاة في الدار المغصوبة؟» (الجزء السابع؛ اليمين واليسار في الفكر الديني).
١٤  انظر مقالنا: ماذا تعني «أشهد أن لا إله إلا الله»، الجزء السابق.
١٥  انظر بحثَينا: «الدين والتنمية في مصر»، «الدين وتوزيع الدخل القومي في مصر»، الجزء الرابع، الدين والتنمية القومية.
١٦  انظر دراستنا: Human Subservience of Nature, Stockholm, 1980.
وأيضًا في كتابنا: Religion, Ideology and Development.
١٧  انظر دراستنا: علم المستقبليات (عالم الغد بين الأمس واليوم)، في دراسات فلسفية، الأنجلو المصرية، القاهرة، ١٩٨٨م.
١٨  انظر مقدمة كتابنا: لسنج، تربية الجنس البشري، دار الثقافة الجديدة، القاهرة، ١٩٧٧م.
١٩  انظر دراستنا: «هل يجوز شرعًا الصلح مع بني إسرائيل؟» (اليسار الإسلامي، القاهرة، ١٩٨١م). وأيضًا: الجزء الثالث؛ الدين والنضال الوطني.
٢٠  انظر دراستنا: «كبوة الإصلاح»، دراسات فلسفية، الأنجلو المصرية، القاهرة، ١٩٨٨م، وأيضًا: «الأصولية الإسلامية»، الجزء السادس.
٢١  انظر دراستنا: «ثورة الجماهير عند أورتيجا آي جاسيه»، دراسات فلسفية، الأنجلو المصرية، القاهرة، ١٩٨٨م.
٢٢  انظر كتابنا: «التراث والتجديد، موقفنا من التراث القديم»، ص٣٧–٥٥، الطبعة الثالثة، الأنجلو المصرية، القاهرة، ١٩٨٧م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤