إجهاض العقول١

كثُر الحديثُ في السنوات الأخيرة عن هجرة العقول، واستنزاف الثروات البشرية في البلاد النامية، ونهْب خبرات أبنائها لحساب الدول المتقدمة، حتى لم يعد مفهوم التنمية، على هذا الخطر من داخل البلاد أو من المحافل الدولية، يثير أيَّ فزع لدى الحكام أو الشعوب، وأصبحَت الهجرة أمرًا واقعًا تُشجِّعه الحكومات في البلاد النامية، لتخفيف ضغط المعارضة السياسية عليها، سواء من صفوة المثقفين أو من جمهور الخريجين أو من مجموع قُوى الشعب العامل، حتى تأمن الانفجار الداخلي الذي يُعرِّض نُظمها للانهيار. وتقبله البلاد المتقدمة بصدر رحب، بالرغم ممَّا تدَّعيه من صعوبات قوانين الهجرة؛ إمعانًا في تفريغ بلاد الموادِّ الخام من طاقاتها البشرية، وزيادةً لقدرات البلاد المتقدمة في الخلق والإبداع والسيطرة على موارد الطبيعة وتسخير قوانينها من أجل السيادة على شعوب العالم والهيمنة على قدراته البشرية.

ولكنْ آنَ الأوانُ للحديث عن «إجهاض العقول»؛ عقول العلماء الصامدين داخل البلاد النامية الذين ما زالوا يشاركون في معارك التحرر والاستقلال، ويساهمون في عمليات التنمية والتغير الاجتماعي، مُدافعين عن الحرية، ومُطالبين بالديمقراطية، ومُنادين بالعدالة الاجتماعية، وحارسين لأمَّتهم، وواضعين لها علاماتٍ على الطريق حتى يستمرَّ التاريخ من خلالهم، وتبقى روح الأمة نابضةً فيهم. وكأن النزيف البشري الخارجي للبلاد النامية لم يتوقَّف على هجرة العقول التقليدية، بل تحوَّل إلى نزيف داخلي يُهدِّد الجسم البشري كله بالموت البطيء والفناء التام. وكأن هناك عقلًا ذكيًّا شاملًا يُخطِّط لاحتواء البلاد النامية وامتصاص قدراتها الإبداعية وتفريغ طاقاتها، بعد أن فرحَت باستقلالها الوطني وأخذَت مظاهر السُّلطة والحكم وأشكال الدولة والسيادة، سفراء وممثلين، وزراء ومديرين، تشريفات ونياشين، استقبالات وأعياد، وبطولات وانتصارات، وأعلامًا وأناشيد. والنظام الاجتماعي نفسه يقوم بالحراسة والإبقاء على هذا الطنين الأجوف لإبعاد الشعوب عن أخْذ مصائرها بأيديها، وحصار المَلَكات حتى لا تلتفَّ حولها القُوى الإبداعية الوطنية وتشقَّ طريقها في سبيل التقدم. وحكومات البلاد النامية ألعوبة في أيدي هذا «الشيطان الماكر»، تتَّحد مصالحها معه من أجل تفريغ قُوى الإبداع، حتى تطمئنَّ النُّظم السياسية على مستقبلها أولًا، وتضمن لأنفسها الأمان والاستقرار، وقد لا تدري ماذا يُحاك لها من شِراك تاريخية وحضارية؛ نظرًا لأنها، وهي الشعوب التاريخية، قد أسقطَت البُعد التاريخي من شعورها القومي، فتصير ألعوبةً في أيدي غيرها، وهي تعلن أنها تتمتع بإرادة وطنية مستقلة تظهر في الصراخ الإعلامي وفي الخُطب السياسية، وإلغاء البيانات، ومظاهر الابتهاج في الأعياد الوطنية.

وسيتمُّ وصف هذه الظاهرة، «إجهاض العقول»، ابتداءً من تحليل التجارب المُشترَكة عند العقول المُجهَضة والإحباط العام الذي نشعر به جميعًا، كُتَّابًا وأدباء، علماء وفنانين، مُفكرين وقادة، دون ذكر لأسماء أو لمؤسَّسات أو لوقائع أو لإحصاءات، بل نكتفي بمجرَّد وصف للماهيات من خلال التجارب المُعَاشة لدى العلماء والمُفكرين والأدباء. وما أسهل أن تأتيَ الوقائع وتتقابل، ويكون مقياس صدق الوصف حينئذٍ هو مطابقته لما يمرُّ به كلٌّ منَّا من تجارب وما يحمله من ماهيات يدركها بحدسه الصامت، وإن لم يتمَّ تحليلها بعقله بعد. تحاول هذه الدراسة إذَن تحليل تجارب الإحباط عند المبدعين في البلاد النامية وتحويل حديث النفس الخافت إلى حديث الأمة الجهور.

(١) لماذا إجهاض العقول؟

إن الأمم لا تتحرك إلا بعقول أبنائها، فالعقل هو مُحرِّك التاريخ لأنه هو الذي يدرك قوانين الحركة ويُوجِّه إليها طاقات الشعوب. وقد قامت الثورات كلها بعد حركات تنويرية قام بها المُفكرون الأحرار معتمدين على العقل وعلى دَوره في الكشف عن الظلم الاجتماعي والقهر السياسي إرهاصًا للإحساس بالظلم والاضطهاد. حدث ذلك في الثورة الفرنسية لدى المُفكرين الأحرار، وفي الثورة الاشتراكية الكبرى على أيدي الأدباء. ولمَّا قامت ثورتنا الأخيرة على أيدي الضباط الأحرار دون أن يسبقها تمهيد من المُفكرين الأحرار، الثوريين وليس فقط الليبراليين، كان لا بدَّ أن يحدث صدام بين الضباط والمُفكرين، فعادت الثورةُ المثقفين، وقضت على فضائل الليبرالية القديمة الموروثة تاريخيًّا في المائتَي سنة الأخيرة من الفكر الديني الإصلاحي أو الفكر العلماني الغربي أو الفكر القومي السياسي، فيما يتعلَّق بالفكر وحرية الرأي، وحوَّلَت فكرنا الوطني إلى مجرَّد تبرير للسُّلطة القائمة. لذلك لم يخشَ الاستعمارُ التقليديُّ هذه الثورات في بدايتها ولا في نهايتها إلا فيما تُمثِّله من مبادئ وطنية عامة، ونزعات اشتراكية واتجاهات لمقاومة الاستعمار، ورفض للرأسمالية، ومعاداة للصهيونية، ومناداة بوحدة شاملة، عربية وأفريقية، أفريقية وآسيوية، أو وحدة القارَّات الثلاث، أو لدول عدم الانحياز. ولمَّا كانت إمكانية هذه الثورات محدودة، بمواردها الطبيعية، وبنُظمها الاجتماعية والسياسية من أجل تحقيق هذه الأهداف القومية بالإضافة إلى محاصرة أعدائها لها من الخارج، فإن التحرر الوطني سرعان ما خبَا بانقلاب هذه الثورات على نفسها، وعملها ضدَّ مشروعها القومي الأول في مشروع مضاد، وقعَت في حبائله. كما أن التحرُّر الاجتماعي سرعان ما أدَّى إلى ظهور طبقات جديدة ورثَت المجتمع الإقطاعي القديم، وأصبحَت عميلة الرأسمالية العالمية، بيدها السُّلطتان؛ السياسية والاقتصادية.

وحتى تتأكَّد الثورات المضادة، ويتمَّ ترسيخُها أتت محاولةٌ أخرى للسيطرة على الأذهان البشرية وحصارها من أجل إجهاضها، حتى تستسلم الشعوب تمامًا وتنتهي آخر قُوى المقاومة فيها لأهداف القُوى الكبرى التي كثيرًا ما تتَّحد فيما بينها لامتصاص ثروات الشعوب، والهيمنة على مقدَّراتها، واقتسام الغنائم بينها، على الرغم ممَّا يبدو من ادِّعاءات حول الخلافات الأيديولوجية وتباين النُّظم السياسية بينها. وكثيرًا ما نبَّه البعضُ منَّا إلى مخاطر الاستعمار الثقافي الذي يعود فيه الاستعمار من الباب الخلفي بعد أن تفرح الشعوب بمظاهر الاستقلال السياسي، وببدايات الاقتصاد الوطني. وكنَّا نعني آنذاك بالاستعمار الثقافي ظاهرة «التغريب» Westernization في مجتمعاتنا، أيْ تبعية المثقفين للغرب وتقليدهم له، ليس فقط في المظاهر الخارجية من لباس وأسلوب حياة ولغة، بل في قوالبهم الذهنية واتجاهاتهم الحضارية، والتبشير بأثر الحضارة الغربية من خلال الإرساليات الدينية أو مراكز الثقافة التابعة للسفارات الأجنبية. ولكنْ تحوَّل الأمرُ من هذا الاستعمار الثقافي المباشر، الذي يقوم على الدعاية والإعلام، إلى استعمار وطني يقوم على محاصرة مَواطن الإبداع داخل الشعوب في مراكز الأبحاث والمعاهد العلمية والجامعات الوطنية، وفي الجمعيات العلمية والمنتديات الأدبية والدوائر الثقافية بوجه عام. فالاستعمار الثقافي الدعائي عن طريق المجلات والنشرات والإذاعات نشاط علني مفضوح، ولكن إجهاض العقول من الداخل عن طريق استعمال النُّظم الوطنية ذاتها ضدَّ أبنائها ونصائح الخبراء وتوجيهاتهم أجدى وأبقى وأقل علانيةً وأكثر تستُّرًا، ويلبس ثوب الحقِّ والمصلحة الوطنية. فإذا كان الاستعمارُ الاقتصاديُّ قد ورث الاستعمارَ العسكري، وإذا كان الاستعمارُ الثقافيُّ المباشر قد ورث الاستعمارَ الاقتصادي، فإن الاستعمار الحضاري الحالي وهو وريث الاستعمار الثقافي التقليدي من أجل إنهاء خصوصيات الحضارات المستقلة، والتي لها جذورها التاريخية العريقة، والتي يُخشى منها في المستقبل؛ نظرًا لإمكانياتها في توليد فكر أصيل يتحوَّل إلى حركات شعبية تدافع عن الخصوصية والأصالة، وهما أكبر خطرَين يواجهان القُوى العُظمى التي تريد الهيمنة على باقي الشعوب.

الهدف إذَن من «إجهاض العقول» هو السيطرة على إمكانيات الإبداع لدى الشعوب ذات التاريخ العريق، وإدخالها في النطاق الحضاري للغرب الذي ما زال يُمثِّل بالنسبة لنا التحدي الحضاري الأعظم، حتى تستمرَّ التبعية للغرب والتقليد لنُظمه وتبنِّي قِيَمه ومُثُله. ولا إبداع حيث التقليد، ولا خلق حيث التبعية، وبالتالي تستمر الشعوب التاريخية في النقل عن الغرب، خاصةً إذا كان الغرب سريع الإنتاج، ولا تستطيع الشعوب التاريخية — كما يُقال دائمًا — اللحاقَ به ترجمةً أو نقلًا، قراءةً أو تمثُّلًا، وبالتالي تظلُّ لاهثةً حتى يُتعبها العدو، فتقف عاجزة، وتُصَاب بعُقدة النقص، وتتحوَّل إلى شعوب تابعة إلى الأبد، من الدرجة الثانية أو الثالثة، مهمَّتها النقل والاستيعاب دون الخلق والإبداع. ثم يتحوَّل ذلك الوضع إلى تأكيد ملموس للنظرية العنصرية بأن الغرب وحده هو الخالق، وما سواه من الشعوب، بالرغم من جذورها التاريخية، ليس أمامها إلا التقليد. فإذا ما أصرَّت القُوى الوطنية الإبداعية في الشعوب «المتحررة حديثًا»، والمتخلفة دائمًا، على أن تكون خالقة، فليس أمامها إلا تقليد نمط الغرب بعدائه للدين، وبنقده لكل الموروث، وبرفضه لكل المُعطيات السابقة، وبتذَبذُبه الدائم بين المذاهب وشكله المُطلَق. إذا ما أرادت الشعوب غير الأوروبية أن تبدع فليس أمامها إلا تقليد المبدعين.

الهدف من إجهاض العقول هو «أسْر الروح»؛ وذلك لأن روح الشعوب تظهر في حضاراتها، فإذا ما تمَّ أسرُ الروح ضمرَت الحضارة وأجدبَت ثم اندثرَت واختفَت. كانت تلك خُطة الاستعمار الأبيض في أفريقيا، خاصةً عندما أسر الروح الزنجية، وحوَّل المُواطن الأفريقي إلى أوروبي أبيض، مسيحي غربي، يلبس غير ثوبه، فيما يُسمَّى بعملية التحضير أو التثقيف Acculturation، الهدف منها ليس إعطاء ثقافة جديدة، بل القضاء على الثقافة الوطنية والإيقاع في «التغريب».

فإذا ما تمَّ «أسرُ الروح» ضمن الغرب المستقبل لنفسه بعد أن قام بتخدير الشعوب التاريخية، فالمستقبل يُقلق الغرب، ويُثير همومه، قام لأجله بإنشاء «الدراسات المستقبلية»، وتحدَّث عن سنة ٢٠٠٠م، وأدرك أزمة الطاقة وغزو الفضاء والإنسان الآلي والحاسب الآلي، ثم أوحى بالصدمة الحضارية للشعوب التاريخية واتساع الهوَّة بينها وبين الشعوب المتقدمة، واتساع الهوَّة المتزايدة، وأن سرعة البلاد النامية للحاق بالتقدم، تقليدًا وتبعية، أقلُّ بكثير من سرعة البلاد المتقدمة على التقدم أشواطًا أخرى في طريق التقدم خَلقًا وإبداعًا. وشيئًا فشيئًا يتمُّ أسرُ الروح نهائيًّا.

(٢) مظاهر الإجهاض

وتبدو مظاهر الإجهاض في محاربة المبدعين الشبَّان، أدباء ومفكرين وعلماء، بل ومهنيين وفنيين وأسطوات، بطرق عديدة مثل منع النشر، ضيق إمكانيات البحث العلمي، الرقابة على الفكر، إلغاء المؤتمرات ومظاهر النشاط الجماعي، تحريم جميع منابر الرأي ووسائل التعبير حتى يتقوقع الشبَّان على ذواتهم، ويجترُّون أدبهم وفكرهم وعلمهم لأنفسهم، ويمارسون نشاطاتهم كما يمارس المراهقون «العادة السرية» دون أن يجدوا مَنفذًا لهم في العالم الخارجي، فيضمرون ويعجزون، ويتحولون إلى أجساد بشرية تكبر وتزداد بطنة، وتنجب الأولاد، ويعيشون في مجتمع يسوده الكبار على مدى أكبر من نصف قرن، فهم الروَّاد والمُريدون، يخشَون المنافسة تستُّرًا على عيوبهم. يصبح المبدعون الشبَّان موظفين بالهيئات العامة، يجلسون على مكاتبهم أو في بيوتهم، فالأمر سيَّان، ويقضون الساعات الطوال، بين الحضور والانصراف في العلاقات الاجتماعية وذكر سِيَر الآخرين، ومَن ينزوي منهم يكتب الأبحاث الطوال للترقية أو للتاريخ، تُوضَع في الأدراج، فإذا ما حاول واحدٌ أو أكثر أخْذ زمام المبادرة، والتحرك بطاقاته الخاصة قُتلَت محاولتُه في مهدها، ووُضعَت أمامه العراقيل حتى ييأس ويتحطم، ويلعن الزمن ويكفر بالحياة أو يتمتم: «لا يكذَّب نبيٌّ إلا في بني قومه.»

ثم يفرز المجتمع قِيَمًا جديدةً لهم لامتصاص طاقاتهم تُعوِّضهم عن خلقهم المكتوم، وعلى رأسها قِيَم التسلُّط والإدارة، فيُوضَع البعض منهم في السُّلطة والإدارة حتى يكون الصعود البيروقراطي في المناصب الإدارية من أجل سُلطة أكبر — لا من أجل علم أكبر — مطمح العلماء. ولمَّا كانت السُّلطة في مجتمع متخلِّف توحي بالأثرة والتسلُّط، وكان المنصب وسيلةً للصعود الاجتماعي؛ ينشأ التنافس على السُّلطة والقتال على المناصب الإدارية، والإحباط حين عدم الوصول لكثرة العرض وقلة الطلب. فبدل أن يتَّحد العلماء ويعملون معًا في خلق العلم يتقاتلون على المناصب، وبدل أن يعمل المُفكرون معًا يتناحرون على الإداريات، وبدل أن يكون المبدعون فريقًا يتفرَّقون شِيَعًا. ولمَّا كانت المناصب الإدارية تتبعها درجات مالية، تحوَّل التنافس على السُّلطة إلى قتال من أجل لقمة العيش. ويتلهَّى الجميع في لعبة الكراسي الموسيقية وحساب المُدَّخَرات، وفرق المرتب، واستبدال المَعاش انتظارًا لحسن الختام. وكلما ازداد الغلاء ازداد التناحر، وكأن الضائقة المالية مقصودة بالمبدعين حتى يقاتلوا من أجل قُوت الحياة اليومية، ويتركوا العلم. ومع ضياع كرامة العلماء لا يحدث خَلقٌ أو إبداع.

فإذا ما استطاع بعض المبدعين الصمود، ورفْض هذه القِيَم الجديدة التي يفرزها لهم المجتمع، فإنه يسهُل إيقاعُهم في المخالفات الإدارية وخرق القوانين إذا ما حاولوا التحرك والعمل، وتحويلهم إلى مجالس التأديب، والحكم عليهم باللوم أو التأديب، وأحيانًا الفصل والحرمان حتى يسأم الإنسان العمل في وطنه ويكفر بأداء الواجب. ومعروف أن المبدع دائمًا يلجأ إلى المضمون دون الصورة، وأن من مظاهر التخلف تغليب الصورة على المضمون كما يظهر ذلك في البيروقراطية. ينشأ الصدام بين القُوى الإبداعية للعلماء والأدباء والمُفكرين الشبَّان وبين اللوائح والقوانين والنُّظم الإدارية. والمبدع في لحظة الخلق لا يفكر في قانون أو لائحة، والرئيس في لحظة الإدارة الجدباء لا يفكر إلا في القوانين واللوائح التي يُسلِّطها على رقاب العاملين طوعًا أو كرهًا، عن حسن نيَّة أو سوء نيَّة، حقًّا كان ذلك أم باطلًا. فتفتُر العزائم، وتضعُف الهمم، وينال كل عالِم جزاء سنمار، ويتساءل: «وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟»

فإذا استطاع المبدع تَرَك الدنيا لأصحابها، وعكف على العلم، وترك المناصب لأهلها، وعزف عن السُّلطة، وحاول تأصيل فكرة أو أخْذ موقف أو نقد موروث أو إعادة بناء علم، فإنه سرعان ما تحوم حوله الشبهات ويُتَّهم بالغرور أو التعالم في أحسن الأحوال، وبالإلحاد والشيوعية والكفر في أسوأ الأحوال. ولمَّا كان الإبداع لا يتمُّ إلا بعد رفض ما هو موجود كان المبدع أيضًا رافضًا للنظم القائمة، ومن ثَم سهل اتِّهامه أيضًا بأنه ضدُّ السُّلطة، يعمل لحزب المعارضة؛ وبالتالي يتمُّ حصارُه، وتشويه سُمعته واضطهاده، وتسليمه للسُّلطات، يَسلبونه شخصية العالم ويُلبسونه شخصية المشاغب، يصفونه بأنه غير متعاون، غير اجتماعي، لا يعيش عصره ولا زمانه، ولا يوجَد في الصورة، مثالي، غير واقعي، يسيء إلى الجميع، ويخشاه الناس، ويصبح كالأجرب وسط الأصحَّاء، وهنا يتحول إبداعه إلى مناجاة للنفس، أو بالأحرى إلى مواساة للنفس، يتأمل غربته عن الناس ويقارنها بغربة الناس عنه.

(٣) نتائج الإجهاض

تبدو نتائج «إجهاض العقول» في الداخل في مزيد من هجرتها إلى الخارج لمَن يريد لإبداعه أن يستمرَّ وأن ينفع به أيَّ وطن، ما دام وطنه الأول قد حاصره وأسَر روحه. وهناك، وبعد مدَّة قصيرة، حيث الإمكانيات العلمية غير المحدودة، وتقييم الفرد طبقًا لقدراته الإبداعية، والمجالات العديدة المفتوحة لأكبر قدْر ممكن من الباحثين؛ هناك يبرُز المبدعون، ثم تنقل صحفنا وأخبارنا: جرَّاح القلب الأول في العالم مصري، عالم الفضاء الأول مصري، مهندس الذرَّة الأول مصري، دون ذكر لأوضاع هؤلاء العلماء عندما كانوا في جامعاتنا، وكيف تمَّ إجهاضُ عقولهم، وإحباط هِمَمهم. ثم يأتون إلى الوطن في مؤتمرات سنوية أو في مهمات قصيرة لتعليم العقول المُجهَضة وللتعامل مع أحدث الأجهزة، ولإجراء أدقِّ الجراحات، ولإعطاء النصائح والتوجيهات، ويصبحون مستشارين علميين للسُّلطة، وتظهر صورهم على الصفحات الأولى. ولا أحد يدري أن عقل مصر المُجهَض في الداخل قد أبدع في الخارج، وأن يأتي العون من الخارج خير من الاعتماد على الجهد الذاتي. تنزف الأمة من دماء أبنائها، وتجهض عقول مواطنيها، ثم تعيش بعد ذلك على نقل الدم منهم إليها، وكنَّا أحوج إلى اختصار الطريق بدل أن نُميت أنفسنا ثم نُحييها.

أمَّا العلماء الصامدون بالداخل، الذين يؤثرون الاستمرار في المعاناة دون الحلول السريعة السهلة في الهجرة، فإنهم يتمزَّقون، وتُستنزَف طاقاتُهم. هؤلاء هم الأنبياء والقِدِّيسون والشهداء، ويكونون علاماتٍ على الطريق للأجيال من بعدهم، شهداء عصرهم وشاهدين عليه. بهم ذرات أمل لا تنتهي، ومن خلالهم تظلُّ روح الأمة سارية، لا تأسرها حبائل الاستعمار الحضاري للشعوب التاريخية. وكلما قَوِيَ الصمودُ ازداد التحطيمُ واشتدَّ الحصار. قد ينتهي البعض إلى الجنون العقلي أو الموت حسرةً وكمدًا، فجأةً وبلا مُقدِّمات! أو العزلة التامة؛ لا يرى أحدًا ولا يراه أحد، ولكنْ يشير الناس إليهم، ويتمنَّون لهم الخير إن كانوا من الأحياء، أو يطلبون لهم الرحمة إن كانوا من الأموات.

فإذا اشتدَّ الحصار حول العلماء الصامدين ولم يستطيعوا النفاذ منه يحدث الصدام والانفجار ثم الانتحار، فإن قوة الإبداع لا تعرف الكتمان، بل تقفز من وراء الأسوار أو ترتطم بالصخور. نسمع عن انتحار الأدباء أو جنون الفلاسفة أو الاكتئاب النفسي عند الفنانين أو عزلة الكُتَّاب أو التنفيس عن النفس بالانشغال بالتجارة وبتربية الدواجن بدل تربية الشعوب، وفي النهاية يكون المبدع هو الخاسر، ويكون الإبداع شهادة العصر، ويكون الخَلق هو تعلُّم الموت.

فإذا ما استمرَّت محاولات فكِّ الحصار والصدام حتى الموت، وقع اليأس القاتل وشاعت روح الهزيمة بعد فشل محاولات الصمود الفردية، وبالتالي تنجح الهيمنة الحضارية للعرب في امتصاص روح الأمم وابتلاع ثقافاتها وضياع خصوصياتها ودخولها في أنماط استهلاكية خالصة؛ تلك التي أفرزها الغرب ويحاول تصديرها بعد أن ثبَت له فشل مشروعه القومي؛ مزيد من الإنتاج والوفرة لمزيد من الاستهلاك، والنهم لمزيد من السعادة والرفاهية، وقلب أنماط الشعوب التاريخية واستبدال قِيَمها، تلك التي عُرفَت بدياناتها ومذاهبها وأيديولوجياتها، يريدون لها أن تقلب قِيَمها كما حدث في الغرب، وبالتالي تتحول باسم الثورة وباسم الرفاهية إلى تحليل مادي للمجتمعات الذي على أساسه تقوم الأيديولوجيتان المعاصرتان المتصارعتان، فتغفل الشعوب التاريخية مصادر قوتها في روحها وقيمها ودياناتها وتراثها. ويؤمِّن الغربُ مستقبلَه بعد أن فقد قُواه الذاتية، وبعد أن خدَّر باقي الشعوب التاريخية.

(٤) وسائل الإجهاض

ويتمُّ إجهاضُ العقول عن طريق إيقاع العلماء في تنافس مُصطنَع بينهم في إذكاء روح العداوة والفُرقة داخل الجماعات العلمية والأدبية، وتحويلهم إلى وحوش يفترس بعضهم بعضًا، ويتكالب الجميع على المبدع لقتله. والسُّلطة تدَّعي البراءة الأصلية ولا تقتل بيدها، بل تُنفِّذ أغراضها من خلال الأجهزة والنُّظم القائمة. ولمَّا كان المبدع مهمومًا بإبداعه ولا يدخل معركةً مع خصوم أحياء إلا فيما يتعلق بالتقاليد الأوروبية وبالصور الفنية القديمة؛ فإنه لا يُحسن النزال، وسرعان ما يهزمه الأحياء وإن استطاع هو أن يقضيَ على الصور الموروثة القديمة. المطلوب من المبدع أن يفعل كل شيء إلا إبداعه، وأن تُغرقه هموم الحياة اليومية وتداخُل العلاقات الاجتماعية، إلا أن يغرق في إبداعه ويكون مهمومًا به. بل إن نظام التفرغ للفنانين دخل عليه أيضًا التنافس والاقتتال، وتمَّ عزل الفنان فيه عن معترك الحياة العامة. وفي النهاية تمَّ حصارُهم جميعًا في قلعة واحدة لاغتيالهم دفعةً واحدةً وكأنهم المماليك الجدد.

ويتمُّ الإجهاضُ أيضًا عن طريق امتصاص قُوى المبدع داخل النظام بإرهاقه بالأعمال الإدارية، وتوزيع نشاطه، وتشتيت جهوده في مسائل بيروقراطية لا يأتي منها أيُّ نفع، وتقضي على نشاطه الذهني وتُفرغه من مضمونه. ولمَّا كان المبدع لا يحسن الأعمال غير الإبداعية فإنه يتوه لا محالة، ويخطئ لا ريب، ويظهر كالمعتوه الذي لا يعلم شيئًا ولا يحسن عمل شيء، ومن ثَم يقوم حاجز بينه وبين مجتمعه؛ إذ كيف يقبل المجتمع إبداع معتوه أبله. أو تحويلهم إلى موظفين كَتَبة، خبراء علم وحَمَلة معلومات ينقلونها لغيرهم، ويستبدلونهم عند الحاجة بآخَرين، وطنيِّين أم أجانب، دون تعامل مباشر مع الواقع، ودون أن يُنشئوا العلم برؤيتهم للعالم. هذا النوع هو الذي يخلط بين العلم والسياسة، هو السياسي الماكر الذي يلبس ثوب العلم والخداع! وبالتالي يغيب قيام العلم الوطني خاصةً في العلوم الإنسانية، ويتحول العلماء إلى حرفيين ومهنيين يتمُّ نقلُهم من وطن إلى وطن مُجتثي الجذور عن شعوبهم التاريخية.

ويحدث الإجهاض كذلك عن طريق إهمال المبدع وعدم الاستماع إليه وتركِه وكأنه يصرخ في وادٍ بلا مجيب، وكأنه يبدع لنفسه، فيصبح الفنان بلا جمهور، والمُفكر بلا قرَّاء، والعالم بلا مواطنين، يصبح ذاتًا بلا موضوع، وروحًا بلا بدن، وعقلًا بلا مادة، وفي ذلك ضمورُ المبدع وموته، أو على أكثر تقدير، جعلُه ماشيًا بلا تأثير على الناس، لا يلمسهم ولا يلمسونه، وكأنه جَرِبٌ لا يقترب منه أحدٌ إلا كحالة للدراسة والاستقصاء. فيعيش العالِم على هامش مجتمعه وكأنه لا ينتسب إليه، وبالتالي يشعر بأن العالَم ليس عالمه وكأنه بلا جذور فيه. فإذا ما حدث الانفصام بين المبدع والعالَم يضمر المبدع لأن العالم هو الذي يمدُّه بنبض الحياة.

وأخيرًا يتمُّ الإجهاضُ عن طريق جعلِ وطن العالِم استثناءً بين الدول يخضع لقانون خاص لا تسير عليه باقي البلاد، وكأن وطنه هو الاستثناء من حركة التاريخ وقوانين المجتمعات. فإذا ما أراد المبدع الخَلق والتغيير بُثَّ في روحه أن الوطن ليس ككل الأوطان بل أقلُّ بكثير، وأن الشعب ليس كباقي الشعوب بل أحطُّ بكثير، وأننا لسنا وطنًا ولا شعبًا، وليس لدينا علمًا ولا جامعة، وأنه لا بدَّ من قبول الأمر الواقع والعيش بحساب.٢ وبالتالي، يُطالَب المبدع بأن يكون له مقياسان للتقييم؛ مقياس عالمي يقبل إبداعه ونشاطه، ومقياس محلِّي يدعو للتسليم وقَبول الأمر الواقع وعدم بذلِ الجهد؛ لأنه لا فائدة تُرجَى من أيِّ عمل في مجتمع متخلف لا يستحقُّ منَّا إلا التعالي عليه، والتعالم أمامه، والرثاء له. ويصبح الوطن وكأنه بدعةٌ بين الأوطان، ويصبح الشعب وكأنه استثناءٌ من بين الشعوب!

(٥) تجاوز الإجهاض

ومع ذلك يمكن تجاوزُ الإجهاض عن طريق الصمود الذاتي، بالرغم من كل محاولات الحصر والأَسر، فالمبدع علامة على الطريق، تؤشر للناس، وبالرغم من إحساسه المُرهَف بالزمان وبالعصر إلا أنه في حالنا هذه قد يكتب للتاريخ وللأجيال القادمة انتظارًا لفكِّ الحصار، واتساع البؤرة التي يكون هو مركزها. وكلما قَوِيَ الصمودُ حَمَى نفسه من التآكل الداخلي، يكفيه الصدق مع النفس، وتحدِّيه للعالم، وفرجته على الناس كعالِم دائمًا في معمله، أو مُفكر دائمًا يصف واقعه، أو كفنان يرسم في مرسمه، فماذا ينفع الإنسان لو كسب العالم وخسر نفسه؟!

ويمكن أيضًا العمل من خلال الجماعة الضيقة، حتى تمتدَّ الذات وينتشر المبدع من خلال الآخرين، يجد مَن يستمعون له، ويقيمون له أفكاره، ويبينون له مواقفه. ولمَّا استحالت الجماعات الكبيرة؛ الجمعيات الحرة، الأحزاب السياسية، الندوات الثقافية، فلم يبقَ إلا جماعات الأصدقاء أو المنتديات الخاصة إلى أن تدخل الجماهير الساحة فتُغيِّر النُّظم السياسية لصالحها؛ حينئذٍ تظهر حلقات المثقفين وندوات العلماء كطليعةٍ لحركة جماهيرية واسعة.

ويمكن أيضًا تكوينُ خلايا وبؤر ثقافية يلتفُّ حولها النبت الجديد، وتحويلُ جماعات الأصدقاء إلى جمعيات أدبية وفلسفية وعلمية ودينية وفنية وثقافية بوجه عام. وقد قامت هذه الجمعيات في عديد من الأمم بكسر الأَسر الحضاري الذي فرضَته القُوى العُظمى عليها حينئذٍ، وظلَّت الحافظة لروح الأمة. فالتغير الاجتماعي هو في الحقيقة تراكم ثقافي ذو منظور حضاري في وعي العلماء، والحزب السياسي هو في حقيقة الأمر تيَّار ثقافي يرتكز على أسُس حضارية في تاريخ الأمة، وبالتالي يمكن لإبداع العلماء أن يستمرَّ في أضيق الحدود حتى يتراكم ويكون حركةً تاريخيةً مقصودةً وواعيةً حتى يأتي العرض التاريخي الخالص فتنفجر الثورة؛ ثورة الأقلام، مُعبِّرةً عن حركة التاريخ.

ويمكن أخيرًا الكتابة الجادة للتاريخ وللأجيال القادمة، سواء في صيغة أعمال علمية، أو في صيغة سِيَر ذاتية. وإن كثيرًا من الأعمال العلمية ظلَّت مجهولةً في عصرها، بل ظلت مخطوطةً ولم تؤثِّر إلا في الأجيال القادمة. كما أن كثيرًا من السِّيَر الذاتية كشفَت عن أحوال عصر أصحابها، وكانت خير شهادة على الموقف الإنساني الذي عاش فيه المبدع وعلى وسائل إحباطه. لمَّا كانت الأعمال الإبداعية سابقةً على عصرها فلا عجب ألا تؤثِّر إلَّا في العصور التالية. لا يعني ذلك أيَّ تقوقع على الذات أو كفر بإيصال الرسالة، ولكنه يعني أنه مهما حدث حصار للحريات فإن شعور المبدع يظلُّ خارج دائرة الأَسر، أوحد عصره، ووحيد زمانه. ومهما حاول الاستعمار في أشكاله الجديدة الإيقاع بالشعوب التاريخية في شِرَاكه وحبائله فإن وعي هذه الأمم، من خلال وعي رُوَّادها، يحُول دون تحقيق مخطَّطاته، وإن التاريخ لخير شاهد.

١  الفكر المعاصر، بيروت، ١٩٨٠م.
٢  انظر: «ولماذا تكون مصر استثناءً؟» في الجزء الثاني؛ الدين والتحور الثقافي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤