الإصلاح الجامعي١

الجامعة هي نقطة التقاءٍ بين مختلف النُّظم التعليمية — التعليم العام والتعليم العالمي — من ناحية، والثقافة الوطنية والوعي السياسي من ناحية أخرى، ولقد ثارت مشكلة الإصلاح الجامعي في الآونة الأخيرة على صفحات «الاشتراكي»؛ ممَّا يؤكد وجودَها الفعليَّ وضرورة إعادة النظر في مفهوم الجامعة وصلتها بالدولة، فالذي يُهمُّنا إذَن ليس الجانب الوضعي للجامعة؛ عدد كليَّاتها، وعدد كراسي أساتذتها، وشكل اللوائح والقوانين، ونُظمها الخاصة كما عرضت لذلك الجريدة بشكل وافر ومستفيض، بل بعض القضايا العامة التي تشغل بال المثقفين، أي الجامعيين أنفسهم، ترجع إلى المفهوم الأساسي الذي تقوم الجامعة عليه، وإلى فهم الدولة لمهمَّتها العلمية والسياسية.

ومشكلة الجامعة تتلخَّص أساسًا في انخفاض مستواها العلمي وفي تشتُّتها الفكري وفي عزلتها السياسية، وذلك يرجع أساسًا إلى الحالة التي عليها التعليم الآن، وإلى مناهج التدريس المُتَّبَعة داخل الجامعة، وإلى نظرة الدولة للجامعة والجامعيين.

أولًا: مهمة الجامعة العلمية

إذا كانت مهمَّة الجامعة الأولى مهمَّة علمية، فإن انخفاض مستوى التعليم بها لا يسمح بالقيام بهذه المهمَّة. ويرجع انخفاض مستوى التعليم إلى أسباب مُعيَّنة يمكن تلمُّسُها في الأستاذ وفي الطالب وفي مناهج التدريس المُتَّبَعة، فحول هذه الأقطاب الثلاثة تدور مشكلة الإصلاح الجامعي.
  • (أ)
    الأستاذ: الجامعة أساسًا ليست بناءها ولا ضخامةَ عدد مناصبها أو طلبتها، بل الأستاذ، فمتى وُجِد الأستاذ وُجِدَت الجامعة، وطالما عُرِفَت الجامعات عن طريق الأساتذة الذين درسوا بها، فهم يضعون تاريخها، حتى لو كانت جامعةً صغيرةً في بلد صغير. فقد عُرِفَت جامعة كونجزبرج عن طريق كانط، وجامعتا يينا وبرلين عن طريق فشته وهيجل، وجامعة فريبورج عن طريق هوسرل وهيدجر. والأستاذ ليس هو منصبه بل فكره، وفكره مرتبط بتكوينه وعمله. السبب الأول إذَن لانخفاض مستوى التعليم بالجامعات المصرية هو انخفاض مستوى أساتذتها الذي يرجع إلى نقص في التكوين أو في التطوير، فقد نشأت الجامعات المصرية أولًا من مُحبِّي العلم والثقافة على أكتاف صفوة محدَّدة وأفراد معدودين وجدوا في ذلك شهرةً لهم. وكان الاتصال بالخارج عن طريق الثقافة الأوروبية أو بعثة دراسية شرفًا وميزة، بل وسيلة للحصول على مغنم مباشر. وازدادت شهرتُهم لدخولهم في جدل فكري، بل في خصام شخصي لا غرض له إلا بيان قدرة كلٍّ منهم وعلمه، واتِّهام خصمه بعكس ذلك، خاصةً فيما يتعلق بالدراسات النظرية. وكان هذا حال الرعيل الأول من الجامعة، وأتى رعيلٌ ثانٍ كثُر عددُه فقلَّت شهرتُه، واتصل بالخارج عن طريق البعثات التي ما زالت تُعتبر ميزةً وشرفًا. وقفوا عند مستوى رسائلهم، وانشغلوا بالمنافسة على المناصب، ونسوا تكوين جيل ثالث بعد أن تركزت الوظائف الجامعية في مناصب لهم — أستاذ كرسي وأستاذ مساعد — وقلَّت وظائف المُدرسين تدريجيًّا حتى تلاشت، أو تكاد، حتى أصبح من العسير البحث عن جيل ثالث لم يتكون، اللهم إلا من بعض أفراد معدودين آثروا التكوين بجهدهم الخاص. فإذا كان الجيل الأول قد أثار عِدَّة مشاكل وفتح عِدَّة طرق يسَّرَت للجيل الثاني توجيهًا نسبيًّا، أتى الجيل الثاني إمَّا مُردِّدًا لما حصل أو مُدَّعيًا الابتكار والخَلق، وجاءت مأساة الجيل الثالث التي نعانيها نحن اليوم.
    فضعف المستوى الحالي لأساتذة الجامعة راجع إذَن لعدم إمكانية التطوير بعد مرحلة التكوين النسبية. وإن المسئولية لا تقع كلها على الظروف الخارجية، بل على عاتق الأستاذ نفسه الذي كان يمكنه تكوين مكتبته أثناء وجوده بالخارج، أو الاتصال الدائم بالمكتبات التي عرفها والحصول على المراجع بطريق شخصي، أو مراسلة أساتذته ومَن تعرَّف بهم حتى يتمَّ الاستمرارُ في تكوينه، أو أن يحاول الاطلاع عندما تتيح له الظروف إلى السفر إلى الخارج من جديد، دون التأليف السريع، عن طريق الترجمة أو النشر غير المُحَقَّق، أو بتكوين جمعيات علمية لها نشاطها ونشراتها ومجلتها، فالعمل الجماعي أضمن وسيلة، إن لم تكُن للتطوير فعلى الأقلِّ للمحافظة على المستوى العلمي. وحتى تكون المسئولية كاملة، فإن تهيئة إمكانيات التطوير عن طريق الدولة أمر لا بدَّ منه، وذلك يتأتى بالطريق الآتية:
    • (١)

      الاتصال بالخارج، إمَّا عن طريق الخروج ثانيةً على فترات مُتعدِّدة مرةً كل ثلاث وأربع سنوات؛ ممَّا يتيح للأستاذ الاطلاع على أحدث المؤلَّفات في ميدانه، ممَّا يحفظه من عدم التكرار أمام طلبته، بل ويحثُّه على النقد والبحث والتأليف لغرض علمي محض دون نظر لترقية أو لمنصب، وما أكثر الجامعات التي تودُّ ذلك. وربما لا يكلف الدولة ذلك إذا تمَّ عن طريق تبادل الأساتذة، الذي يتمَّ عن طريق الجدارة الشخصية والاختصاص، لا عن طريق الوصول والتوسُّط.

    • (٢)

      تطوير مكتباتنا التي ترجع مراجعها إلى أواخر القرن الماضي وأوائل القرن الحالي، وذلك ما تودُّه جميع المكتبات بالخارج. بل إن شراء الكتب الأجنبية بطريق شخصي أصبح عسيرًا بل ومعدومًا. وطالما تشكو المكتبات الخاصة بالخارج عن عدم إمكان تزويدها بالمراجع العربية. وطالما شكَا المثقفون بالداخل من عدم وجود ما يمكن أن يُشترى بالمكتبات الخاصة. فبدل تبادل نشرات الإعلام التي لا يقرؤها الكثير يمكن تبادلُ الكتب العلمية والثقافية التي تخدم الباحثين، ويكون في ذلك خير دعاية. وهناك كتب تنفذ، فإن لم تسارع المكتبات الجامعية في شرائها فلن يمكنها ذلك بأضعاف ثمنها. وهناك اشتراكات في كتب تظهر، فإن لم تبادر مكتباتنا في الاشتراك فلن يكون لها نصيبٌ فيها. يكفي الاتصال بالمبعوثين في الخارج حتى يمكن الاستعلام منهم، وتهيئة ذلك عن طريقهم دون إرسال وفد يكلف الدولة الكثير، وقد لا يستطيع عمل شيء. وخير ضمان لوصول كل المؤلَّفات لمكتباتنا هو الارتباط بشكل رسمي مع دُور النشر الكبرى في العالم لموافاة مكتباتنا بالجديد دائمًا.

    • (٣)

      دعوة الأساتذة الأجانب فترةً مُعيَّنةً للتدريس بالجامعات المصرية وللقيام بحلقات بحث، وذلك ممَّا يوفر على الدولة إرسال عشرات من المبعوثين لمدة مهما طالت فهي قصيرة بالنسبة لفرع التخصُّص. وذلك ما يودُّه كثير من الأساتذة في الخارج، مع تهيئة الجوِّ العلمي لهم حتى لا يفقدوا أكثر ممَّا يعطون. وقد كان ذلك سُنَّةً للجامعات المصرية للرعيل الأول، بل كانت الصلة الفكرية بين الجامعة المصرية والجامعات بالخارج، خاصةً جامعة باريس، أقوى من صلة بعض جامعات شمال أفريقيا بها.

    • (٤)

      دعوة الأساتذة المصريين الذين بالخارج، والذين آثروا عدم العودة، بل الذين قد غيَّروا جنسيتهم بالرغم منهم، فقد تمتَّعوا ببعثات دراسية وبمنح مالية من الدولة، أو حتى الذين درسوا على حسابهم الخاص وآثروا عدم الرجوع لأسباب ليست ماليةً فقط، بل أيضًا وأساسًا لأسباب سياسية أو علمية، كلٌّ منهم يودُّ أن يكون حرًّا في رأيه دون أن يقبل فكرًا رسميًّا مفروضًا عليه، كلٌّ منهم يودُّ أن يكون في مكان تخصُّصه، فأستاذ العلوم يودُّ معملًا لا مكتبًا، ويودُّ تطبيق أبحاثه لا حفظها في الأدراج. وإن خيبة الأمل التي تصيب عددًا من المبعوثين بعد عودتهم هي السبب الأساسي في تلمُّس الفرصة للخروج من جديد في مهمَّة علمية، ثم إيثار عدم الرجوع، فالأساتذة المصريون الذين يدرسون في الجامعات الأوروبية يمكن دعوتُهم والاستفادة بهم في تطوير الجامعات المصرية بعد تذليل كل العقبات التي تحُول دون رجوعهم.

    • (٥)

      إعادة النظر في الكادر الحالي الجامعي داخل إطار الخطة العامة للتنمية، وعلى ضوء سياسة جديدة للأجور تقوم على تقويم موضوعي للوظائف على اختلافها. فالمجتمع الاشتراكي قائم على الفلاح والعامل، وأستاذ الجامعة هو عامل للفكر، بل عامل في الحقل والمصنع بجوار عمله الثقافي، مع أن دخل أستاذ الجامعة أقلُّ من دخل العامل الماهر في بعض الأحيان، وأقلُّ دائمًا من دخل الفنان. بل إن عكوف الأساتذة على الدروس الإضافية لزيادة دخلهم قد يقلب مهمَّة الأستاذ الفكرية إلى وظيفة التدريس على حساب البحث وتكوينه المستمر. فماذا يمكن للأستاذ أن يقوله، في عشرين ساعةً أو أكثر أسبوعيًّا، إن لم يُكرِّر نفسه ويكتفِ بالسطحيات؟ ومتى يمكنه التحضير أو البحث إذا كان يقضي نهاره في الإلقاء؟ وذلك كله راجع لعدم وجود سياسة ثابتة للأجور كجزء من التخطيط العام للدخل القومي.

    • (٦)

      زيادة هيئة التدريس، خاصةً المُدرسين والمُعيدين الأكفاء؛ وذلك لأن النقص الحالي في أساتذة الجامعة يجعل الأستاذ يقوم بمهمَّة عشرة حتى خارج نطاق اختصاصه. فبدل أن يدرس في تخصُّصه يدرس كل شيء لمَلء الفراغ الموجود، إمَّا لنقص طبيعي في هيئة التدريس أو لنظام الإعارة للجامعات العربية الأخرى، دون نظر إلى عدم كفاية الأساتذة بالجامعات المصرية، أو حتى إرسال الأكفاء منهم إلى الخارج؛ وذلك لأن نظام الإعارة يخضع في غالب الأحيان، بل دائمًا، إلى الكسب المادي الذي يعود على الأستاذ المُعَار. والتغلُّب على ذلك لا يتمُّ إلا عن طريق التوسُّع في تكوين هيئة التدريس عن طريق البعثات، خاصةً الجامعية منها، أو عن طريق دعوة الأساتذة من الخارج للإشراف على حلقات البحث، أو عن طريق تنظيم الدراسات العُليا بالجامعات، وخَلق المعاهد المتخصِّصة لذلك، كمعهد لتاريخ العلوم أو لتاريخ الأديان أو للدراسات الفلسفية.

    • (٧)

      العمل الجامعي داخل الجامعة يقوم به الأساتذة، كلُّ طائفة في اختصاصها، فلا تكفي مجلة الكلية أو الجامعة، بل لا بدَّ أن يكون لكل فرع نشاطه المستقل، سواء في العلوم الطبيعية أو في العلوم الرياضية أو في العلوم الإنسانية، مع مراعاة مستواها العلمي وإمكانية نشرها مع اللغة العربية بإحدى اللغات الأجنبية، حتى يمكن مساهمةُ الجامعات الأجنبية في تطويرها وإمدادها بأحدث النظريات العلمية والتيارات الفكرية.

    • (٨)

      إعادة النظر في قوانين ولوائح نظام البعثات، فقد يكون هو المسئول الأول عن انخفاض المستوى العلمي للجامعة؛ وذلك لأن البعثات هي التي تؤهِّل خرِّيج الجامعة لأنْ ينتسب إلى هيئة تدريسها، فمقاييس الاختيار للبعثة لا يجب أن تكون الدرجات في الليسانس، والتي يمكن الحصول عليها عن طريق حفظ المقررات المُعطاة وتكرارها، ولكنْ بالنظر إلى الأبحاث التي يقوم بها الطالب إمَّا قبل ترشيحه أو بعده، في مدَّة يُوضَع أثناءها تحت الاختبار والتوجيه. ومتى أثبت الطالب جدارته يمكنه أن يقوم بالبحث الممكن عمله بالجامعات المصرية قبل سفره، حتى إذا ما وصل إلى مقرِّ بعثته يكون قد تمَّ استعدادُه الفعلي، ويكون قد وفَّر على نفسه وعلى الدولة مدَّة سنتَين تضيع غالبًا من مدَّة البعثة في التكوين الأولي، بل المبدئي، للباحث، أيًّا كان فيما يتعلَّق باللغات الأجنبية القديمة أو الحديثة أو بالثقافة العامة، حتى يمكن تركيزُ مدَّة البعثة أساسًا في البحث والتخصُّص. وكذلك يجب أن تكون موضوعات البعثات مدروسةً ومُخطَّطة، بحيث تسمح بتكوين الطالب أثناء بعثته، كما تسمح بالاستفادة منه بعد رجوعه. وكثير من موضوعات البعثات، خاصةً النظرية منها، يمكن دراستُها في مصر. بعد ذلك يُرسَل الطالب للخارج لمزيد من الثقافة أو لتطوير أبحاثه التي سبق له القيام بها. وأخيرًا، يجب تجديدُ المشرفين على نظام البعثات، بل تغييرُ معظمهم ممَّن تنقصهم الخبرة والدراية، ووضعُ مَن يلمسون الموضوع عن قرب، أو ممَّن عاصروا مشاكله، وعدمُ تركها لمَن وصلوا إلى ذلك عن طريق الأقدمية أو الترقية الإدارية. وكثير من الموضوعات تُقَرَّر دون معرفة سابقة بمكان البعثة أو مدَّتها أو الإمكانيات المطلوبة لها أو حتى الغرض منها. ناهيك عن البطء المُطلَق، بل عدم الردِّ أحيانًا على طلبات المبعوثين. وكثيرًا ما يأتي الردُّ بتجديد عِدَّة أشهر بعد انقضائها بستة أشهر أو عام. ويكفي زيارة عابرة للمشير حتى تُجاب الطلبات كلها، إن لم يكُن على الفور، فعلى الأكثر في أسابيع معدودة.

  • (ب)
    الطالب: تتركَّز مشاكل الطالب وقت القَبول بالجامعة وأثناء دراسته وبعد تخرُّجه، فنظام اختيار طلاب الجامعة وتكوينهم السابق ثم توجيههم يُعَدُّ مسئولًا عن سبب انخفاض المستوى العلمي للجامعة. فإذا كان التكوين السابق مرتبطًا بنظام التعليم العام في المرحلة الأخيرة (انظر بحث التعليم العام)، فإن اختيار الطالب يتمُّ عن طريق المجموع، كما هو الحال الآن في نظام البعثات؛ ممَّا يعطي أولويةً لجامعة على أخرى، أو لكلية على أخرى، أو حتى لفرع آخر، وهو تفضيلٌ لا أساس له. فيضطر الباقون الذين لا يحصلون على المجموع المطلوب إلى التحول خارج الجامعات في وظائف أيًّا كانت، بل في التدريس أو إلى السفر إلى الخارج؛ ممَّا أدَّى إلى وجود جمهور غفير من الطلبة الذين يدرسون بالجامعات الأوروبية. ونظرًا لعدم تمكُّنهم من اللغة، ونظرًا لظروف المعيشة في الخارج وضعف إمكانياتهم المادية، فإن كثيرًا منهم لا يُتِمُّ دراسته الجامعية. والسبب الأول في ذلك هو نظام القبول في الجامعات المصرية، الذي لا يستطيع استيعاب خريجي المدارس الثانوية. وحتى الذين تقبلهم الجامعات خاضعون لتوجيه مكاتب التنسيق التي لا تراعي، في كثير من الأحيان، رغبات وميول الطالب، بل الأماكن الخالية في كل كلية وفي كل قسم. فلا بدَّ إذَن من إعادة النظر في نظام القَبول والاختيار، حتى يمكن للطالب الدراسة بالجامعة وَفق ميوله واتجاهاته، بل واستعداداته.

    والمدَّة التي يعيشها طالب الجامعة أثناء دراسته — أربع سنوات على الأقل — ليس غرضها الحصول على وظيفة لكسب العيش بعدها، ولكنْ تكوين للمثقف والمواطن. فهدف الجامعة هو البحث والفكر لا التخرج للحصول على شهادة؛ ممَّا يؤدِّي إلى سيول من الخريجين تطرق أبواب الوظائف، حتى الممتازين منهم. وليس الحل هو إيجاد الوظائف لهم، بل في توجيه الخريجين، خاصةً الذين أثبتوا جدارةً في البحث العلمي أثناء حياتهم العلمية بالجامعة، والاستمرار في الدراسة والتفرغ للبحث والإحصاء والنشر. فمشاكل الخريجين تتمثل أولًا في الانقطاع عن الجامعة، وذلك ما يمكن تفاديه عن طريق الاستمرار في البحث العلمي، وعن طريق تكوين هيئة للخريجين تضمُّ جمهور المثقفين، يمكن توجيهُهم لمحو الأميَّة سنةً بعد التخرُّج، أو في العطلات الصيفية.

  • (جـ)
    مناهج التدريس: يرجع انخفاض مستوى التعليم ثالثًا إلى مناهج التدريس المُتَّبَعة، القائم معظمها على التلقين والحفظ، لا على البحث والتفكير. فالدراسة بالجامعة لا تتمُّ عن طريق إلقاء محاضرة من مجهول تسمعها مئات سالبة، ولكنْ عن طريق حلقات بحث صغيرة يديرها أستاذٌ معروفٌ عنه اتجاه مُعيَّن في دراساته، ويشترك فيها عددٌ محدودٌ من الطلبة للبحث والمشاركة والتوجيه، يقوم الطالب أثناءها بالبحث والعرض. فتكون الجامعة بذلك فترة إعداد للدراسات العُليا. فيجب استبدال بمحاضرات الأستاذ التي ليست إلا أخبارًا أو فكرًا شخصيًّا النصوص والكتب المقررة بلغات أجنبية، حتى يتمَّ للطالب عمل برنامجه ومُقرَّره بنفسه في حدود البرامج العامة، وحتى يتمكَّن من اللغات الحديثة بجانب اللغات القديمة. وإن كثيرًا من الجامعات الحديثة لا يوجَد بها مدرَّجات عامة بقدْر ما توجَد بها حجرات للبحث، التي توجَد غالبًا في قاعات المكتبات.

ثانيًا: وحدة التعليم الجامعي وخلق الثقافة الوطنية

كثيرًا ما يعدُّ الدارسون الجامعات المصرية الأربعة؛ القاهرة، وعين شمس، والإسكندرية، وأسيوط، ثم يضيفون الجامعة الأزهرية باعتبارها جامعةً مستقلةً لها مشاكلها ومواضيعها، بل بناؤها الخاص بالنسبة للجامعات المصرية الأخرى، مع أن مشكلة الجامعة واحدة، سواء ما يخصُّ الجامعة العصرية أو الجامعة الأزهرية. بل إن هذه الثنائية توحي بأن الجامعة المصرية لا صلة لها بالدين وأن الجامعة الأزهرية غير عصرية لا هم لها إلا الدين، وهذا في الحقيقة وهم لا واقع له. وإن كل المحاولات لإضافة الدين إلى الجامعة المصرية أو إضافة العلوم الحديثة إلى الجامعة الأزهرية ما هو إلا حلٌّ لمشكلة وهمية، وتفاديًا لوضع تاريخي مُعيَّن أمْلَته الظروف دون أن يكون له أيُّ أساس شرعي أو عقلي، فمشكلة الجامعة مشكلة واحدة. وهذا ما يُقصَد بوحدة التعليم الجامعي، فإذا كنَّا نقاسي من ثنائية اللغة — العامية والفصحى — ممَّا يؤدِّي إلى تشتُّت في القول والبحث، بل وفي القراءة والكتابة، فإن ثنائية النُّظم الجامعية تؤدِّي إلى ثنائية في الثقافة والحضارة لا أساس له، فالحضارة الإسلامية تُدرَّس في الجامعات المصرية كشريعة في الحقوق، وكفلسفة وآداب ولغة وحضارة في الآداب. بل يمكن تدريسُها أيضًا كاقتصاد وسياسة في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، وكعمارة في الهندسة، وكرياضة في العلوم. فالدراسات الإسلامية جزءٌ من المادة التي تُدرَّس بالجامعات المصرية. وإن قطع هذا الجزء منها وجعله مادةً لجامعة مستقلة بحُجَّة التفرغ والتخصُّص والتعمُّق، لا يؤدِّي إلا إلى البتر والجمود والسطحية، يستحيل من بعدها إضافة الدراسات الحديثة التي تُدرس بالجامعات المصرية بحُجَّة التطوير والتجديد والإصلاح، فلا فرق بين كلية الطب بجامعة القاهرة وكلية الطب بالجامعة الأزهرية مثلًا. فالطبيب الأول ليس ناقصًا في دينه ولا في ثقافته. والطبيب الثاني ليس زائدًا في دينه ولا في ثقافته. حتى إذا كان غرض الجامعة الأزهرية هو نوع من التبشير الجديد الأكثر فاعلية، فتكفي لذلك الخدمة الإنسانية التي يؤدِّيها الطبيب أو المهندس أو المُدرِّس دون أخذها وسيلةً لتبرير زيادة أخرى مفروضة. وما يُقال في كلية الطب يُقال أيضًا في سائر الكليات العملية أو النظرية، فالدين إذَن ليس مناقصةً ولا مزايدةً بين جامعتَين، فالجامعة واحدة، ونظامها واحد. والجامعي مثقف وطني واحد. فإذا كان توحيد المرحلة العامة في التعليم قد تمَّ، فيجب أيضًا أن يتمَّ توحيدُ التعليم الجامعي. فإن ثنائية التعليم العالي من أسباب تشتُّت الثقافة الوطنية، بل والعقلية. وإن تأميم التعليم الخاص أو التعليم الأجنبي أو على الأقل إشراف الدولة عليها هدفه الأساسي هو وحدة الثقافة الوطنية. وإن وحدة التعليم الجامعي لها أهميتها بل وضرورتها، ليس فقط في تكوين الشخصية العلمية، بل أيضًا في خلق الثقافة الوطنية. فداخل الجامعات الوطنية وخارجها لم تتعدَّ الثقافة بعدُ مرحلة الترجمة أو النشر، الترجمة الصريحة للأخبار والترجمة المُقنَّعة مع ادِّعاء الخَلق والابتكار، فالجامعات الوطنية — بعد عزلها عن كل الاتجاهات الفكرية والسياسية — تقوم بدَور خطابي يتحول فيه الفكر، بل ومصالح الأمة، إلى خطابٍ أهمُّ ما يقصده هو تجانسه الذي يرمي إلى إثبات براعة كاتبه في التحليل والتأليف. وكثيرًا ما تُعالَج الموضوعات بطريقة عابرة سطحية بتقليد من هذه المدرسة الفكرية أو تلك، بل وكثيرًا ما تخرج الموضوعات عن الجدية، فهناك المجتمع الاشتراكي، والفلسفة الاشتراكية، والقانون الاشتراكي، والعلم الاشتراكي … إلخ. وفي غالب الأحيان لا يوجَد للخطاب أيَّة فاعلية في جمهور القرَّاء الذين يعلمون جيدًا المقاصد الحقيقية للكتَّاب وما يرمون إليه. أمَّا في الأوساط الدينية فيغلب على الدين تفسيرٌ ما زال يعطي الجانب الإلهي أولوية، بل أفضلية، على الجانب الإنساني، وكأن الدين قد أوحِيَ به إعلاءً لقدْر الله وليس تأكيدًا لقيمة الإنسان، وتفسير يميني، بل إقطاعي ورجعي يؤكد وجود الطبقات الاجتماعية وتفاوتها بحُجَّة الرزق المُقدَّر، وما زال يرى في الاشتراكية إلحادًا وكفرًا، ممَّا يؤدِّي إلى التحالف مع الرجعية ومع الاستعمار، وتفسير قائم على التأييد والرضا لا على المبادرة والخَلق، فكلما أتى تيَّار جديد نادى به المثقفون الثوريون، تحقيقًا لمصالح الأمة، قام الدين بالتأييد، حتى ولو أيَّد في مرتَين متتابعتَين اتجاهَين مختلفَين، بل ومتضادَّين. فتأييد الرأسمالية بالأمس سابقٌ على تأييد الاشتراكية اليوم. دَور الجامعة إذَن هو إعادة خلق الثقافة الوطنية الأصيلة القائمة على أساس نظري مُحكَم وعلى فاعلية حقيقية. والدين جزءٌ منها، بل والمُحرِّك لها، خاصةً في هذه المرحلة التي ما زالت الأمية هي الصفة الغالبة على المواطنين، بل والذي باستطاعته، إذا تحوَّل إلى وعي ثقافي ثوري، أن يملأ الفراغ الفكري والسياسي الحالي بالرغم من كثرة القول والتوجيهات.

ثالثًا: استقلال الجامعة

واستقلال الجامعة شرط أساسي لوجودها الفعلي وتفادي عزلتها عن الحياة القومية، سواء استقلالها الإداري أو الفكري أو السياسي.

ويتمثَّل الاستقلال الإداري في الانتخاب الحر المباشر لرؤساء الأقسام ولعمداء الكليات ولمديري الجامعات، دون أيِّ تدخُّل من الدولة في تعيين هذا أو ذاك، والذي يخضع غالبًا لأهواء السُّلطة التنفيذية في الرضاء أو السخط دون أيِّ مقياس موضوعي آخر يتمثل في القدرة الذاتية أو الجدارة العلمية أو الاستقلال الفكري، بل غالبًا ما كانت هذه المقاييس سببًا في عزل الأستاذ داخل كليته، إن لم تكُن سببًا في عزله خارج جامعته وتحويله إلى مرفق آخر. ويتمثل الاستقلال الإداري ثانيًا في إلغاء نُظم الحراسة الجامعية في كل صورة. فإن كان قد تمَّ إلغاءُ نظام الحرس الجامعي الرسمي حول الجامعة فيجب أيضًا إلغاءُ نظام الحراسة المدني داخل الجامعة، والذي سبَّب كثيرًا من القلق في نفوس الطلبة، بل وفي ممارستهم لمهمَّتهم كجامعيِّين في صراحتهم الفكرية والتزامهم السياسي، والذي من شأنه إلغاءُ هذا «الجلاد الأبدي» الذي يعيش في نفس كل مواطن، والذي يتخذ وسيلةً لتخويف البعض وإلى سلبية البعض الآخر. ويتمثل الاستقلال الإداري ثالثًا في تعاون مدير الجامعة مع محافظة المدينة التي بها الجامعة لتخطيط المدينة وتهيئتها وإمدادها وَفقًا لمشاكل الجامعة واحتياجاتها.

والاستقلال الفكري للجامعة شرط أساسي للقيام بمهمَّتها العلمية والسياسية؛ وذلك لأن الحرية الفكرية التي يحرص عليها الأستاذ الملتزم، والتي يمارسها الطالب، تُرفض أساسًا، وكمبدأ كل مذهب فكري أو اتجاه سياسي مفروض عليه من الخارج. فالأستاذ ليس «قالبًا» تصنعه الدولة لصبِّ أساتذة المستقبل، بل مُفكر حرٌّ يرى، يبحث مع طلبته وأمامهم. وكثيرًا ما تضيع الاتجاهات الفكرية والنُّظم السياسية، وتفقد جِدَّتها — والتي في الغالب ما تكون هي الحل الوحيد للمرحلة الحالية التي يمرُّ بها المجتمع — عندما تفرضها الدولة بعد تبنِّيها لها، خاصةً بعد تعيين مُفكرين يفكرون للآخرين وموجِّهين سياسيين يرشدونهم، بل ويُقاس كل فكر وكل سلوك على هؤلاء الموظفين. فالاستقلال الفكري للجامعة شرط لمناقشة كافة الاتجاهات الفكرية والسياسية دون أيِّ نظر لتقييم الدولة خطأً أو صوابًا، فعن طريق المناقشة والتفكير والاقتناع الشخصي يتمُّ تكوينُ المثقف الواعي أولًا داخل الجامعة الذي لا يمكن تكوينُه عند تبنِّي تيَّار فكري مُعيَّن وقمع كل التيارات الأخرى، إمَّا بالتخويف أو الفصل أو العزل النهائي. وإن المعارضة السِّريَّة لأخطرُ فكريًّا وسياسيًّا من المعارضة الصريحة العلنية. وغالبًا ما تنقلب المعارضة السِّريَّة إلى محاولات انقلاب، بل وإلى مؤامرات إن لم يُسمَح لها بالمعارضة الصريحة. وإن أول عهد بالمعارضة السِّريَّة قد يؤثر على طبيعة الفكر والممارسة السياسية، ممَّا يُظهرها بشكل عدواني، وذلك ما يمكن تلاشيه عن طريق تجمُّع كل القُوى الفكرية الثورية وكل الاتجاهات السياسية التقدُّمية في نطاق المناقشة الصريحة والعمل الجماعي. وبالرغم من توجيه الضربات إلى معظم الاتجاهات الفكرية والسياسية، مرةً إلى هذا ومرةً إلى ذلك، فإن روح الصراحة الفكرية والالتزام السياسي ما زالت موجودةً عند المثقفين الثوريين. وما فات، بعد ثلاثة عشر عامًّا على قيام الثورة، يمكن اللحاقُ به الآن.

والاستقلال السياسي للجامعة نتيجةٌ لاستقلالها الفكري، فلطول انشغالها بالبحث والفكر تتعود على النقد الذاتي وبيان ما قد يخفَى على الدولة نتيجةً لانشغالها الدائم في البناء. بل إن الجامعة يمكنها التوجيهُ والقيادةُ وبيانُ أسلم الطرق وأنفعها لتحقيق أهداف المجتمع. وإن تاريخ الجامعة السياسي لَيشهدُ على صراحتها الفكرية وعلى التزامها السياسي. فقد كانت الجامعة الطليعة الواعية للقيادات الوطنية وللمشاركة الفعلية في التحرر وفي مقاومة الاحتلال، كما حدث في حرب القنال في ١٩٥١م. وإن الدراسة النقدية لتاريخ الثورة الأخيرة، وتلمُّس أوجه الخطأ، لا يتمُّ إلا عن طريق التفكير النقدي الذي يمكن للجامعة أن تقوم به. ويقوم النقد الذاتي على حرية البدء في العمل دون انتظار توجيهات أو تعليمات تجعل من الإنسان وطنيًّا أو مُفكرًا أو ناقدًا. فبدل أن تأخذ الجامعة موقف المتفرج انتظارًا لإشارة النقد يمكنها أن تبادر إلى ذلك من نفسها. ولا يتمُّ ذلك إلا من خلال تنظيم عمل جماعي داخل الجامعة يتمثل في تكوين تنظيم سياسي يجمع طليعة المثقفين الثوريين. فداخل الجامعة يتمُّ تكوينُ المثقف لا المُفكر فحسب، بل السياسي أيضًا، إذ إن مهمَّة الجامعة في التكوين السياسي لا تقلُّ عن مهمَّتها في التكوين العلمي، فالمواطن هو المثقف الثوري. وإن الوعي السياسي يغلب في بعض الجامعات على المستوى العلمي، ويغلب الطابع الثوري للمثقف على مهمَّته العلمية. والتنظيمات السياسية الموجودة الآن داخل الجامعات المصرية إن هي إلا صورة مُصغَّرة لنفس التنظيمات الموجودة خارجها في الشكل العام للدولة؛ إذ إنها نُظم مفروضة تجمع كل الطلبة، بلا استثناء ولا قيد، تحت اسم واحد، هو شعار يُطلَق على الرأسمالي والاشتراكي، على الرجعي وعلى التقدُّمي، على السلبي والإيجابي، بل على الخائن والوطني في وقتٍ واحد. وذلك قد يُسبِّب القضاء النهائي على كل تنظيم سياسي؛ إذ إنه قائم على استحالة وجود وحدة في النظرية، بل وفي الهدف والقصد. وهذا من شأنه ضياع الجهد وتهبيط العزيمة والقضاء على كل عمل إيجابي للعناصر الوطنية التقدُّمية، سواء داخل الجامعة أم خارجها، أصبحَت التنظيمات السياسية داخل الجامعة لا تغري السياسي الملتزم والعامل الجاد، بل أصبحَت تعيب الجامعة أكثر ممَّا تُشرِّفها.

ويمكن للجامعات أن تقوم بمهمَّتها السياسية الفعلية في تكوين طليعة المثقفين الثوريين الذين باستطاعتهم تكوين القاعدة الشعبية، مُمَثَّلةً في الاتحاد الاشتراكي العربي، بعد عزل جميع العناصر الإقطاعية والرجعية والسلبية، والمحافظة على الاتجاه التقدُّمي، وهو الطابع الغالب الآن، والدفاع عمَّا أُنجِز منه، والمناداة بخطوات أوسع نحو الاشتراكية. ويمكن لها أيضًا القيامُ بتحقيق وحدة العمل العربي في الاتصال بالمثقفين الثوريين بالجامعات العربية الأخرى؛ وذلك لأن تحقيق الوحدة العربية لا يتمُّ إلا عن طريق توحيد كل الاتجاهات التقدُّمية الثورية في العالم العربي. والمثقفون الثوريون في الطليعة، لا عن طريق سياسة مؤتمرات القمة ومهادنة قُوى الرجعية والاستعمار في المنطقة. وقد ظهرت ألمانيا كدولة واحدة أولًا داخل الجامعات الألمانية. ويمكن للجامعات أيضًا المساهمةُ في وضع أساس نظري لحركات التحرُّر في العالم الثالث، بل وضع أسُس لفلسفات في التاريخ تضمن له استمراره ووجوده الفعلي.

وأخيرًا فإن تحليلًا لتاريخ الجامعة هو إحدى الوسائل لإيجادها؛ فالجامعة هي تاريخها المُمَثَّل في مدارسها الفكرية والسياسية، والمُمَثَّل في مهمَّتها في خَلق الثقافة الوطنية، وتحقيق الأهداف القومية، وهو مُمَثَّل أيضًا في تقاليدها. وجامعاتنا حديثة العهد، وما زال تاريخها يمكن سردُه عن طريق الشفاه. تاريخها مرتبط بصفوة المجتمع الأولى، خاصةً عندما كانت أهلية، ثم بالنضال القومي بعد تبنِّي الدولة لها. والآن، ومنذ قيام الثورة، تعكس جامعتنا حال المثقفين وشكل الثقافة في المرحلة الحالية، بل وقد عرفَت التيَّارات الفكرية والسياسية عن طريق الجامعات التي نشأت بها، فهناك مدرسة ماربورج في الفلسفة، ومدرسة توبنجن في التفسير ونقد الكتب المقدَّسة، ومدرسة هيدلبرج في التربية الدينية، وندوة فينَّا في المنطق. ويمكن للمطابع الجامعية المساهمة في خَلق ذلك التاريخ، إمَّا عن طريق نشر مجموعات من المطبوعات باسم الجامعة، إمَّا في التأليف أو الترجمة أو النشر كما هو الحال مع طبعات أكسفورد في الدراسات الأدبية، أو عن طريق نشر مؤلَّفات الأساتذة وتبنِّي الجامعة للمؤلَّفات التي لها تيَّارات فكرية واضحة. يمكن إذَن تطويرُ المطابع الجامعية بالدرجة التي تصبح بها من أهمِّ وأنشط دُور النشر. وما يُقَال في المطابع الجامعية يمكن أن يُقال أيضًا في قاعاتها، خاصةً قاعة الاحتفالات التي يمكن أن تساهم كموعد لقاء للتيَّارات الفكرية والمنظمات السياسية، كما حدث أخيرًا بشأن منظمة الوحدة الأفريقية ومؤتمرات عدم الانحياز. وإن قسمًا يطلقه طلبة الجامعة وقت انتسابهم إليها وساعة تخرجهم منها — كما هو الحال في كلية الطب — يمكن به تذكرةُ الجامعيين بمهمَّتهم في الصراحة الفكرية والتزامهم السياسي داخل الجامعة وخارجها.

تلك قضايا عامة يفكر فيها جمهرةُ المثقفين بشأن جامعاتهم، إن لم تُعرَض بشكل إعادة النظر في اللوائح والقوانين، فعلى الأقلِّ تمسُّ المفهوم الأساسي للجامعة، وعلاقة الدولة بها، وهذا ما يعنيه المثقفون بالإصلاح الجامعي.

١  كُتِب هذا البحث في باريس في يونيو ١٩٦٦م، وكان أحد البحوث المُقدَّمة من وفد الدارسين المصريين في فرنسا لمؤتمر المبعوثين الذي عُقِد بالإسكندرية، في أغسطس من نفس العام، لمناقشة الرئيس جمال عبد الناصر في قضايا الأمة المصيرية بعد الاجتماع العاصف الذي عُقِد في باريس بين الطلاب المصريين في أوروبا والمشير عبد الحكيم عامر، أثناء زيارته لفرنسا، إثر عودة العلاقات بين مصر وفرنسا بعد قطعها منذ الاعتداء الثلاثي على مصر في ١٩٥٦م. وبعد سماع الرئيس عبد الناصر بما دار بهذا الاجتماع قرَّر دعوة الطلاب لمناقشتهم في مصر. وقد كان التفكير في رسالة الجامعة عنصرًا مستمرًّا منذ هزيمة يونيو حتى الآن. انظر مقالاتنا: «رسالة الجامعة»، «مناهج التدريس والعلاقات الداخلية في جامعاتنا»، «برنامج شباب أعضاء هيئة التدريس»، في قضايا معاصر، الجزء الأول، فكرنا المعاصر، ص٢٠٨–٢٣٤، دار الفكر العربي، القاهرة، ١٩٧٦م. وأيضًا: الدراسة التالية: «الجامعة والوطن»، وهذا المقال أول ما كتبتُ باللغة العربية، قبل عودتي من فرنسا، في صيف ١٩٦٦م، وقبل التحاقي بالجامعة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤