الجميع في الأرز
ونزل سليم وكليم من رأس القضيب بعد أن وعدا ذلك الشيخ التعيس بأن يعودا إليه لزيارته ما داما مقيمَين في الأرز.
وفيما هما منحدران أخذا يتحدثان في أمر هذا الرجل، فقال سليم: لم تبقَ لدينا شبهة في أنه مجنون، ولكن هل رأيت كيف أن جنونه منصرف إلى أهم مسألة؟ فقال: أي مسألة تعني؟ فقال: مسألة رفع الظلم والضغط عن الناس، فهو يسمي (الوحش) كل عاطفة رديئة تَحمل الحي على إضرار حي آخر، والاعتداء عليه طمعًا في الفائدة لنفسه، فيا للحكمة والفلسفة في أفواه المجانين! وعندي أن هذا الرجل لم يدرك هذه الحقيقة إلا بالاختبار والمصائب، فيظهر أنه كان تعيسًا جدًّا في حياته، في وطنه كما قال، حتى انصرف جنونه إلى هذه الجهة. فقال كليم: سننبش ذلك في زيارتنا الثانية.
وما قرب الرفيقان من حرش الأرز حتى سمعا ضجة شديدة، وأبصرا الناسَ جماهيرَ جماهيرَ حول الحرش وداخله، وكانوا بين فتيان وفتيات ورجال ونساء، وهم يبلغون نحو ألف شخص.
فعجب الرفيقان من ذلك، ولما وصلا إلى الحرش دخلا بين الناس، واستخبرا الخبر فعلما ما يلي:
لما وصل الخواجه كلدن وزوجته إلى الحدث لم يعجب المكان السيدة إميليا؛ لأنها كانت مضطربة النفس في سياحتها لا يعجبها شيء، فتضجرت وقالت: إن جبال كاليفورنيا أجمل من هذه الجبال. فأمر زوجها رجاله بالمبيت في الحدث تلك الليلة للراحة فقط، وبالسفر إلى الأرز في اليوم التالي؛ لأنه كان على ثقة من رضى إميليا عن الأرز أكثر من الحدث.
وفي المساء بلغ إميليا رغبة بعض الأهالي في أن يصنع زوجها (نهاره) عندهم فضحكت، وأبلغت زوجها هذا الخبر، وكان كلدن يعلم أن ذلك يسرُّ زوجته جدًّا لميلها بالطبع إلى الشرقيين أبناء وطنها، فأمر وكيله أن يعدَّ له ريالات عثمانية بقيمة ألف جنيه، وقال لأبي مُرعب وقومه: «يس يس سنامل يووم كلدن في الهرز.» يعني: سنعمل يوم كلدن في الأرز.
ولم ينتصف الليل حتى صار عدد المتوافدين على الأرز نحو ألفي شخص، فلما رآهم سليم وكليم يتمددون على الأرض للرقاد بدون غطاء ولا فراش قال سليم لكليم: نحن ظننا أننا صنعنا أمس صنع الأبطال بنومنا تحت الأشجار على خرج تحت غطاء خفيف، فانظر إلى أصحابنا القرويين، فإنهم ينامون بلا خرج ولا غطاء كأن الأمر عندهم في غاية البساطة.
فأجاب كليم: هذا مصداق لقول روسو: يجب أن لا يربى الإنسان كشجرة تعيش في هذا الإقليم ولا تعيش في ذاك، بل يجب أن يُجْعَل قادرًا على المعيشة في كل الأقاليم، فحيثما ألقيته جاء واقفًا على قدميه نشيطًا قويًّا قادرًا على احتمال كل تقلُّبات الحياة.