مجنون ليلى وملك رأس القضيب
وكان لتلك الجلبة والصياح سبب في غاية الأهمية، وإليك بيانه:
كان الخواجه لوقا طمعون المذكور آنفًا تاجرًا صغيرًا في صيدا يرتزق من معاملة كبار التجار، ولكن لم تمضِ عليه عدة سنوات حتى انتقل إلى بيروت؛ لأن صيدا ساقية لا تحمل سفينة كبيرة، فوسَّع أشغاله في بيروت ما شاء التوسيع، ولكن دولاب حظه كان واقفًا في تجارته مع ذكائه ومهارته، ولولا اعتماده على أهل له في بيروت لما قامت له قائمة ولا قدر على أن يعمل شيئًا، فلما سمع بمجيء المستر كلدن الغني الأميركي المشهور الذي يملك الملايين، وعزمه على إقامة وكيل له في الشرق للاعتماد عليه في تجارته الأميركية صادرًا وواردًا، علم أنه إذا نال هذه الوكالة كانت له غنيمة عظيمة، فلم يدخر وسعًا في ذلك، ولا ترك واسطة إلا استعملها، ولكن لما قدم كلدن إلى بيروت لم يستطع لوقا مقابلته؛ لأنَّ لادي كلدن أبت استقبال أحد في بيروت كما تقدم، وسافرت منها في الحال، فعلم الخواجه لوقا أن صاحبه مسافر إلى الحدث، فركب مركبة من بيروت قاصدًا البترون، ومنها امتطى فرسًا إلى الحدث، فلما وصل إليها قيل له إن الأميركي سافر إلى الأرز فتبعه على الأثر.
وكان الخواجه لوقا كهلًا في نحو الأربعين من العمر، وهو بدن ذو جسم قوي ولسان طلق، وكان جريئًا مع الضعفاء، ولكنه ضعيف مع الأقوياء، شأن أهل السياسة والدهاء، إلا أنه مع ضعفه مع الأقوياء كان قادرًا على مقابلة رجل كالمستر كلدن واستمالته وإرضائه.
وكان وصوله إلى الأرز قبل بزوغ الشمس، وكان كليم وسليم وأمين جالسين عندئذٍ على أكمة صغيرة مشرفة على الطريق خارج الأرز.
فلما ظَهَرَ الخواجه لُوقا في الطريق ارتجف أمين وقال لكليم: لا حول ولا قوة إلا بالله! إن هذا الرجل الذي قطع حبل حياتي يتبعني أينما ذهبت.
وكان مخلوف المجنون قادمًا من الأرز في هذه الساعة نحو الرفاق الثلاثة، فلما وصل إليهم كان الخواجه لوقا قد صار على مقربة منهم.
فالتفت مخلوف إلى القادم وهو ينشد حسب عادته:
ولكن ما وَقَعَ نظره على القادم حتى جمُد في مكانه كأنه صنم أصم، ولولا تقليبه عينيه في الرجل القادم لظن رفاقه أنه فارق الحياة وهو قائم على قدميه.
وبعد هذا الجمود برهة أسرع مخلوف وعينه تستطير شررًا، فنزل عن الأكمة ووقف على الطريق، فلما وصل إليه الراكب صاح مخلوف صيحة كعواء الكلاب والذئاب، وقال: هذا هو! ثم أطبق على لوقا، فأخذ به وشدَّه، فألقاه عن جواده على الأرض كالجذع الممدود، وجثم فوقه.
فهجم حينئذ المكاري وسليم وكليم ليرجعوه عنه، فكان مخلوف يَصيح كالوحوش والزبد على شدقيه: لا يرجعني عنه أحد غير الله … قد أهلكني … قد حرمني حياتي … لولاه لما فرَّت حبيبتي … الانتقام … الانتقام.
وكان عند كل كلمة من كلامه يضرب لوقا بقبضته ضربًا شديدًا، وهو كالجمل الهائج، وناهيك بغضب المجانين! فأسرع الناس من جهات الأرز على صوته عشرات عشرات ومئات مئات، فتكاثروا عليه وأنهضوه عن خصمه بعد جهد شديد، فانقلب مخلوف من الغضب على خصمه إلى الغضب على نفسه، وهو في أشد حالات الجنون، فتناول حجرًا وصار يضرب به نفسه ويلقي نفسه على الأرض ويقوم وهو يهذي بهذا الكلام: مسكتك يا ظالم … دعوني معه لأحاسبه … مضت سنوات وأنا أفتش عليه … هل يموت حق حبيبتي … ابعدوا وإلا قتلتكم كلكم … اليوم يوم الثأر … يا إلهي أرسل الآن صواعقك إذا كنت عادلًا … صاعقة واحدة فقط … تقتلني وتقتله.
وكأن الله أجابه إلى طلبه في هذه الساعة؛ فإن الناس الذين كانوا يمنعون عنه فريسته تركوها، وأجفلوا راجعين القهقرى إجفال العصافير حين ظهور الباشق؛ ذلك أنهم شهدوا أمامهم مشهدًا مريعًا، فإن وحشًا بريًّا هائل المنظر كان قادمًا نحوهم وفي يده بندقية.
فالتفت سليم وكليم وصاحا: هذا صاحبنا، ما جاء به؟! أما مخلوف فإنه لم يهمه شيء من كل ذلك، بل إنه لما رأى الجموع قد فرَّت من وجهه، وتركت الخواجه لوقا مشغولًا بإصلاح ملابسه، هجم عليه كالذئب وأخد بخناقه.
فحينئذ خرج من فم الوحش البشري القادم وفي يده بندقية — صوتٌ أجش سمعه القارئ قبل الآن في رأس القضيب، وهو صراخه: الوحش الوحش الوحش، ثم سدد بندقيته نحو مخلوف ليطلقها عليه.
فعَلِمَ سليم وكليم أن صاحبهما ملك رأس القضيب سيقتل مخلوف ولوقا معًا إذا لم يدخلا بينهم لاعتباره أن مخلوف ظالم عادٍ، كما كان يقتل الحيوانات التي تعتدي على رفاقها، فدخل سليم وكليم حينئذ بين الفريقين، وواريا مخلوف ولوقا وراءهما، وصاح كليم: يا عم! دعه فنحن نؤدبه ونأتيك به.
وكان مخلوف وخصمه يتصارعان حينئذ بقوة هائلة، والناس لا يجترئون على الدُّنُو منهما للدخول بينهما، ولكن حانت من مخلوف التفاتة، فأبصر ذلك الوحش البشري ينظر إليه وبندقيته مسددة نحوه، فانتبهت فيه عاطفة الحرص على البقاء، فترك خصمه وخطا خطوتين نحو الشيخ الهائل غضوبًا، فتبعه سليم وكليم لئلا يقتله الشيخ.
ولكن ما تقدم مخلوف بضعة أمتار حتى وقف مدهوشًا هذه المرة أيضًا، وصرخ صرخة دوَّت لها الجبال، ثم هجم على الشيخ صائحًا: متَّى حاروم، حنَّا حاروم … جئتَ في وقتك … وفي يدك بندقيتك … انظر صاحبك لوقا طمعون …
فلما سمع الشيخ الهائل اسم (لوقا طمعون) ظهرت الرعدة في جسمه، وجحظت عيناه واصطكت ركبتاه، فهجم كالذئب نحو لوقا، وإذ عرفه زمجر كالأسد صائحًا: يا لعَيْني إميليا … حقًّا لقد انتهى. ثم سدد البندقية نحو لوقا وأطلق النار عليه.
وكان أمين في تلك الساعة قريبًا من لوقا، فلما أبصر الشيخ يسدد بندقيته إليه ويطلقها عليه صاح من صميم قلبه: آه، لستُ أرضى عن انتقام كهذا. ثم سقط على الأرض مغمًى عليه.
فصاح سليم وكليم وحارا فيما يفعلان، أيسرعان لإغاثة أمين؟ أم لإنقاذ لوقا؟ فانفرد سليم وهرع نحو أمين، وأسرع كليم إلى الشيخ، وكانت البندقية لم تنطلق من حسن الحظ؛ لأن الضباب كان قد رطب بيت البارود.
وكان الشيخ حين رأى أن بندقيته لم تنطلق قد هجم على لوقا طمعون، فتبعه مخلوف هاجمًا لهجومه.
فكل من رأى ذئابًا تهجم وأسودًا تثب وضباعًا تغضب يمكنه أن يتصور هجوم هذين التعيسين على ذلك التعيس.
فصاح كليم بالجموع التي كانت تنظر إليهم من بعيد: إلينا يا شباب وساعدونا، فهذا وقت المروءة. فهجم الناس لمساعدتهما، ولكنهم لم يستطيعوا الفصل بين المجنونين وفريستهما إلا بجهد شديد، فذهب لوقا طمعون نحو خيام المستر كلدن والدماء تسيل من وجهه، والجماهير تتبعه ليغسل جروحه، أما مخلوف والشيخ فقد أدركتهما نوبة الجنون حنقًا لعجزهما عن خنق خصمهما، فسقطا على الأرض مصروعين بلا حراك، فقيَّدهما كليم لئلا يضرَّا نفسيهما، ثم نقلهما إلى الغرفة المقابلة للكنيسة، وأقفل الباب.
أما سليم فكان مشغولًا في ذلك الحين بمعالجة أمين وتنبيهه من إغمائه، وإذ لم ينتبه نقله سليم والمكاري إلى خيمة كانت لبعض المسافرين هناك، وقد تجمهر عليهم الناس يسألون: ماذا وقع للمريض؟
هذه هي الحادثة التي كانت سببًا في الجلبة التي سمعها المستر كلدن، بينما كان يحادث امرأته.