ذئب لدى لبوة
فهنا — وا أسفاه — لم تبقَ حاجة إلى شرح الحادثة التي تقدمت؛ لأن القارئ اللبيب فهم كل تفاصيلها وروابطها وأسبابها، وعرف مبلغ تعاسة إميليا.
وما استقر المستر كرنيجي بُرهة في الخيمة مع المستر كلدن وزوجته حين دخوله عليهما — كما تقدم — حتى دخل الترجمان يقول: إن رجلًا يدعى الخواجه لوقا طمعون قد حضر من بيروت للسلام على المستر كلدن. فعاد الاضطراب حينئذ إلى إميليا، ونهضت لتخرج إلى خيمتها، فأومأ إليها المستر كلدن أن تبقى لتلتذَّ بمشاهدة خصمها، ثم همس بضع كلمات في أذن سكرتيره ليطلعه على طرف من المسألة، وبعد ذلك قال للترجمان: قل للرجل أن يدخل.
فدخل لوقا طمعون باشًّا ضاحكًا كأنه لم يُصَب بمكروه، فحيَّا أجمل تحية، فجاوبه المستر كرنيجي، أما المستر كلدن فقد كان يتشاغل بتقليب الأوراق على المائدة، وأما إميليا فقد أدارت ظهرها، وانحرفت نحو الظل وهي ترتجف من الغضب والحقد.
فساء لوقا هذا الاستقبال البارد فجلس منقبضًا، وبعد أن دام السكوت دقيقة قال المستر كلدن بنَزَق، وهو ينظر في الأوراق لا في وجه ضيفه: ماذا تريد حضرتك؟ فأجاب لوقا: لقد كتبت لجناب السِرْ أعرض عليه خدمتي في كل ما يريده في الشرق؛ إذ بلغني أنه يطلب وكيلًا. فقال كلدن: وكيف تريد أن أتخذك وكيلًا من غير أن أعرف أمانتك واستقامتك؟
فجُرح هنا لوقا في صميم شرفه التجاري والأدبي، فصعد الدم إلى رأسه وأجاب: لقد قدَّمت لحضرتك الشهادات الكافية، وفي جملتها شهادة رئيس ديني كبير.
فقهقه حينئذ كلدن بصوت عالٍ وقال: شهادات؟! هل تريد أن أجعل أحد خدامي يجلب مثل هذه الشهادات بعشرة ريالات فقط؟ ثم التفت إلى إميليا وقال: ما قولك مسز؟ هل تُقبل منه هذه الشهادات؟
فلم تجاوب إميليا؛ لأنها كانت غير قادرة على الكلام، أما لوقا فعدل حينئذ عن مطلبه، فقال بشيء من عزة النفس: عفوًا يا سر، أنا سألت حضرتك سؤالًا فإذا قبلتموه شكرتكم، وإذا رفضتموه عدت من حيث أتيت مسرورًا بأني تشرَّفْتُ بمعرفتكم.
فحينئذ دبت الحماسة في صدر إميليا؛ لأنها شعرت بأن الخصم لا تزال له قوته التي سحقتها في ما مضى، فعزمت على سحق هذه القوة للانتقام منها، فجمعت قواها كلها وقالت: إنَّ طَلَبَ المستر كلدن حقٌّ؛ إذ بلغتْهُ أعمالك في صيدا.
فقال لوقا في نفسه: الآن علمت سر المسألة، فإن أعدائي ومزاحميَّ سعوا بي لدى هؤلاء الكرام؛ ولذلك أساؤوا استقبالي. ثم أجاب مبغوتًا ومظهرًا الدهشة: عفوًا يا سيدتي الكريمة، أية أعمال تعنين؟ إن جميع أهل صيدا يشهدون لي بحسن السيرة والسريرة والشرف، وإذا تفضلتِ وأطلعتِ خادمك الأمين على الأقوال التي بلغتكم من حسَّادي وأعدائي، فإنني أنقضها كلها قولًا قولًا.
فأجاب المستر كلدن حينئذ بحدة: أنا لا أحب كثرة الكلام يا مستر لوقا، فإذا شئت أن تكون وكيلًا لأشغالنا فجئنا بشهادة شرف واستقامة من الخواجه متَّى حاروم في صيدا.
فلو أن الصاعقة وقعت تحت قدمي لوقا لما أثرت فيه تأثير هذا الكلام، فنهض بحدة وصاح: لا تصدق يا سيدي، لا تصدق كل ما سمعته، فإن هذا الرجل جاهل سيئ التدبير فخرب نفسه و…
فهنا لم تعد إميليا تستطيع السكوت، فقطعت كلامه وصاحت بحدة رغمًا عنها: لا تهن الناس يا خواجه، بل أجب. أتأتي بالشهادة المطلوبة أم لا؟
فقال لوقا في نفسه حينئذ: إنني إذا ذكرت لهم أن متَّى حاروم موجود الآن في الأرز بحالة الجنون والهول، وقد كاد يفتك بي فتلك أقبح شهادة، فإنهم يسألونه ويعلمون منه ما يريدون علمه، فأجاب: إن متَّى حاروم يا سيدتي لم يوقف له على أثر منذ عشر سنوات.
فقالت إميليا والدموع ملء عينيها: ومنزله؟ فقال: قد بيع. قالت: وأهله؟ قال: كان له زوجة فتوفيت، وابنةٌ طائشة فرَّت وتركته.
فحينئذ وثبت إميليا كمن لسعته أفعى في صميم قلبه وصاحت بأعلى صوتها: يا ظالم، تخرب بيته وتميت زوجته وتهرِّب ابنته وتبيع منزله وتمحو أثره، ثم لا تكتفي بكل ذلك بل لا تزال تطارده بحقدك وبغضك فتهينه وتهين ابنته أمامنا الآن!
فغضب لوقا عند هذا الكلام، وقال: الوداع يا سادتي. وهمَّ بالخروج، فوثب إليه كلدن وثبة الأسد، فأخذ بذراعه وقال بحدة: مستر لوقا، قبل أن تخرج من هنا، اجثُ واطلُب الصفح من مسز كلدن ابنة الخواجه متَّى حاروم.
وإن القلم ليعجز عن وصف ما جرى حينئذ، وكيف استقبل لوقا هذه الصاعقة التي انقضَّت على رأسه.
ولكنْ لما انقضَت دهشة لوقا وعلم خطارة موقفه وهوله جمع قواه وكبرياءه التي كانت قد فارقته، وبعد السكوت برهة قال: الآن فهمت يا سيدتي سبب ما جرى، فصار يَجِبُ عليَّ تبرئةُ نفسي، لا للحصول على وكالة أشغال، بل حفظًا لكرامتي لديكِ، فكل ما بلغك عني يا سيدتي كان معكوسًا أو مبالغًا فيه؛ إذ أي عمل عملته في معاملتي أباك ولا يعمله جميع الناس اليوم؟ والمستر كلدن زوجك المحترم لا يستطيع تكذيب كلامي، سليه إذا شئتِ كيف جمع ثروته الطائلة وملايينه العديدة، أَمَا أفلسَت بنوك خصومه وقامت بنوكه؟! أما امتصت سككه الحديدية ثروة سكك أعدائه؟! أما خربت في الاحتكارات التي احتكرها ألوف من المحلات وأفلس في مضارباته ألوف من المضاربين؟! فما الحيلة إذا كانت هذه طبيعة التجارة نفسها؟ وكيف نستطيع جمع الثروة لننفع بها الناس إذا كنا نحذر من ضرر هذا ونخاف مزاحمة ذاك؟ فهذه سنَّة العالم، وقد قال جوت: «إلى الأمام إلى الأمام ولو فوق الجثث.»
فدهش المستر كلدن لثبات جأش الرجل بعد تضعضعه، وللطريقة التي حوَّل بها الموضوع عن محوره، أما إميليا فقد خلعت عن نفسها — لدى هذا الكلام — ثوبَ الحاضر، وارتدت بثوب الماضي وأجابت بحدة: كل هذا الكلام يا سيدي لا يبرئ السرقة والاحتيال والدسائس والسلب والنهب، تقول: التجارة والأصول التجارية، ولكن أي تاجر شريف يزعم أن إله التجارة يطلب دائمًا ضحايا بشرية ودماءً بشرية؟! أي تاجر خالٍ من عواطف الشرف والإنسانية يرضى بأن يجمع ثروة من طعام الأطفال ودموع البنات وموت الأولاد وخراب البيوت؟! إذا وُجد في العالم هذا التاجر فلا أسميه تاجرًا، بل لصًّا وقاطع طريق، بل هو أدنى من اللصوص؛ لأن اللصوص يهاجمون الإنسان من وجهه، أما هو فإنه يغدر به، لأنه يباغته من وراء ويغمد خِنجره في ظهره، كلا يا سيدي، ليست التجارة هي التي دفعتكَ إلى صنع ما صنعتَ، بل طمعك ورغبتك في الثروة بأية طريق كانت، وأنا الآن لست آسفة على ما ضاع من الأموال والأرزاق؛ لأن الله عوضني خيرًا منها، وإنما أسفي على شيء واحد لا يعوَّض وهو فقد أبي.
وهنا ترقرق الدمع في عينيْ إميليا، فتأثر لوقا لهذه الدموع وهذا الكلام — وإن كان فيه إهانة له — لأنه رآه ممزوجًا بشيء من العقل واللطف، لا سيما وأنه كان ينتظر أشد منه، ففكر قليلًا ثم قال باسمًا: سيدتي، إنني أعرف مكان أبيك، وسأجيئك منه بالشهادة المطلوبة.
فرفعت إميليا حينئذ يديها وعينيها إلى السماء وصاحت بجنون: ماذا تقول؟ فقال الرجل: نعم، إنني أعرف مكان أبيك. فنهض حينئذٍ المستر كلدن مدهوشًا وصاحت إميليا: أين؟ أين؟ فأملأ فاك درًّا، ردَّه إليَّ فأنسى كل إساءاتك، وا أبتاه! وا أبتاه! أصحيح ما تقول؟ قل قل، ما لك لا تتكلم؟! متى نظرتَه؟ فأجاب لوقا: اليوم. فصاحت إميليا: اليوم؟! وأين ذلك؟ أين؟ فقال لوقا: هنا في الأرز.