كلام عن الدير أمام دير
والبناء بينها كأنه عش طائر بُنِيَ هناك في مأمن من الزوابع والعواصف، وفي الحقيقة إنه كان عشًّا بُني للأمن من العواصف، ولكنه عشٌّ إنساني بناه البشر الذين يحبون الانفراد عن معارك الاجتماع وعواطفه، وهو الدير المعروف بدير (حنطورة)، وعلى موازاة الطريق إلى اليسار تحت الدير يسمع الراكب هديرًا شديدًا ناشئًا عن مرور نهر أبي علي في واديه المقدس منحدرًا إلى طرابلس.
وكلما صعد الراكب بين ذَيْنِكَ الجبلين على ألحان النهر بين نسمات الصباح التي تداعب وجهه باردة أكثر من هواء السهل، يَشعر أن جبل لبنان الحقيقي إنما يبتدئ من ههنا، وحينئذ يخطر في باله أن سُكَّان هذا القسم من الجبل كانوا في كل الأزمنة والعصور قذًى في عيون الفاتحين؛ فإنَّ جِبَالهم كانت تحميهم أكثر من كل الحصون والمدافع؛ ولذلك كانت تلك الأرض عبارة عن حَرَم الحرية المقدس. نعم إن هذا الحرم قد فُتح ولُطِّخَ مرارًا، ولكن الغلبة كانت دائمًا للمدافعين عنه؛ ذلك لأنَّ الطبيعة نفسها كانت تُحارب معهم بين صفوفهم، ورُبَّ مائة رجل من أهله فقط لقوا بين تلك الآكام والوهاد عشرة آلاف جندي بمدافعهم دون أن يتركوا لهم سبيلًا إليهم. فثارت عواطف سليم وكليم وتصوراتهما لدى هذه الأفكار وهذه المناظر الجميلة، فأحسَّا أنهما صاعدان إلى عالم آخر غير هذا العالم، ويظهر أن نفسهما قد خفَّت حينئذ ونشطت عما كانت فيه أولًا، فنزلا عن جواديهما ليتلذَّذا بالسير على أقدامهما فوق تلك الأرض الجديدة، وكان سرورهما بالمشي في تلك الساعة على تلك الأرض المؤدِّية إلى الأماكن التي تنطح السحاب ويعمِّمها الضباب دائمًا — يعادل سرور الأولاد حين انصرافهم من المدرسة إلى نزهة خصوصية.
وبعد ربع ساعة كثُرت العقبات في الطريق، فعاد كليم وسليم إلى جواديهما، فنبههما جرجس أنْ ينحرفا عن ظهر الجواد قليلًا إلى أمامٍ في عقبة الصعود، وينحرفا قليلًا إلى وراءٍ في عقبة النزول؛ فضحك سليم وقال: هذا درس في «طريقة الركوب في العقبات». ثم أخذ الرفيقان يتحادثان لقطع الوقت بعد أن وجدا في المشي شيئًا من الراحة، ولا عجب؛ فكما أنَّ السكوت بعد الحركة فيه راحة، كذلك الحركة بعد السكون.
فقال سليم: ما رأيك أيها الصديق في الإقامة طول العمر في هذا الدير الجميل الذي شاهدناه؟ هل تعرف مكانًا أجمل من هذا المكان للراحة والسعادة؟
فقال كليم: سُؤالك هذا يذكرني سؤالًا آخر، يقول كتَّاب العرب: إن الحواريين «الرسل» سألوا المسيح: «من أفضل منا؟ إذا شئنا أطعمتنا وسقيتنا.» فأجاب: «أفضل منكم من يأكل من كسب يده.» فالأفضل والأجمل من الإقامة في هذا الدير الدخولُ في العالم والأكل من كسب اليد؛ لأن خبز الإحسان خبز دنيء كما قال روسو.
فثار هنا جرجس وقال: أرجوك يا معلمي أن لا تجدِّف على الدير والرهبان؛ فإننا في طريق، وأخاف على أفراسي لا على نفسي، وبالأمس كان جارنا أبو يعقوب سائرًا قرب البلمند قادمًا من المدينة (يعني طرابلس)، وكان الراكب على حمارته واحدًا من (السوقة) لا يحب الرهبان، وكان يتهكم عليهم؛ فبركت الحمارة في الأرض قرب الدير، ولم تنهض حتى نذر أبو يعقوب للدير نصف الأجرة التي يأخذها من الراكب.
فصاح كليم بصاحِبِه: أسمعتَ قول الرجل؟! هذه هي المبادئُ التي يعلِّمُها للشعبِ الرهبانُ الذين نسلمهم أرزاقَنا وننفقُ على تسمينهم كالعجول.
فقال سليم: هذه مسألة أخرى غير تلك؛ فإننا لا نبحث الآن في «هل هم قائمون بوظيفتهم التي وُجدوا لها»، ولكني أسألك: هل تحب المعيشة في الدير إذا كان الدير قائمًا بحسب النظام الذي وُضع له للغرض الحقيقي الذي يجب أن يوضع له؟ فأجبتني أنك تفضل على هذه المعيشةِ معيشةَ الإنسان الذي يأكل من كسب يده.
فقال كليم: نعم هذا هو رأيي؛ لأني أكره الكسل والبطالة، ولا أستطيع أن أتصور أناسًا يعلقون على جسم الهيئة الاجتماعية ليمتصُّوا دماءها وهم قاعدون بلا عمل بحجة أنهم يخلصون أنفسهم ويصلُّون لغيرهم.
فسكت سليم برهة يفتكر ثم قال: كل من يسمع هذا الكلام يوافقك عليه لأول وهلة، ولكنْ لدى التأمل يظهر أنك ظلمت المعيشة الديرية بهذا الوصف الذي لا ينطبق عليها إلا إذا كانت بلا عمل أرضي ينفع كما قلتَ. قلتُ (أرضي) لأنَّ (السماوي) ليس من بحثنا الآن، وعندي أنَّ معيشة الدير لها صورتان، كل واحدة منها جميلة بحد ذاتها، ويطيب لي الآن في هذه الأرض — أرض الأديرة والرُّهبان — أن أرسم معك هاتين الصورتين، وإذا كان في الهواء الذي يُحيط بنا آذان خفية تسمع ورامت إيقاف صوتنا فنحن باسم إله الحرية الساكن في هذه الجبال نقوى عليها؛ ذلك لأنها لا تستطيع إنكار إله الحرية؛ إذ طالما استنجدت به في هذه الجبال، وبما أنَّ الحرية واحدة لا تتجزأ ولا تنقسم — سواء أكانت في الفعل أو في القول — فمِن الحق والعدل أن تخضع لهذا الإله بعد أن أخضعت له غيرها.
فالصورة الأولى للمعيشة الديرية هي ما ذكرتَ، بَشَرٌ ضعفاء مِن طبقات لا تقدر على كسب رزقها ينسدُّ في وجهها باب الرزق في العالم، وتَرْهَب معارك الحياة وتُنازِع البقاء فتطلب مكانًا تلتجئ إليه وتعيش فيه بأمان، وهي للحصول على هذه المعيشة تتنازل عن أشرف وأثمن ما لدى الإنسان؛ أريد حريَّتَه الشخصية، فتصبح آلة في يد الرئيس لا إرادة لها ولا قوة، ذلك أنها تنذر أول كل شيء الطاعة العمياء، ثم الفقر، ثم ترك الزواج. وبهذه النذور الثلاثة المشهورة تُحرَم الهيئة الاجتماعية قوات ضرورية.
فبنذر الطاعة تضع ضميرها بين يدي الرئيس، وما أدراك ما هو التنازل عن الضمير! فإن ذلك يُفني شخصية الإنسان، ويحقر الإنسانية، ويجعل تحت سلطة ذلك الرئيس جيشًا كثيفًا مطيعًا يُؤثِّر أشد تأثير على الهيئة المدنية لفائدة الهيئة الدينية. وبنذر الفقر يحرم الإنسان نفسه وغيره تعبه من خيرات الأرض التي حلِّل له التمتع بها؛ فيعيش ذليلًا وضعيفًا. وبنذر ترك الزواج يجني على أمته؛ لأنَّ الأمة يهمها تكثير النسل، وهي لا تألو جهدًا في الحث عليه بالطرق المحللة؛ فالنذور الثلاثة إذن تعارض المدنية الحاضرة وتعاكسها، لا سيما وأنَّ هذه المدنية جلبت معها مبادئ جديدة مناقِضة لمبادئ الهيئة الدينية كل المناقَضة في كثير من شؤونها الأساسية.
والصورة الثانية للمعيشة الديرية: أن ينقطع بعض البشر عن البَشر لنفع روحي ومادي: أمَّا النَّفع الرُّوحِي فلا يدركه حق الإدراك إلَّا كلُّ من رمتْه عواصف الدَّهر بين معارك الحياة اليَومية، ورأى ما في هذه المعارك من الهمجية والخشونة والفظاعة، فهناك — وا أسفاه — يكون البشر حيوانات وحشية لا بشرًا، هُناك الظَّفَر والغلبة لا يكون بالاستقامة والفضل وشرف المبادئ والأخلاق؛ فإنَّ هذه الفضائل التي هي جميلة في المجتمعات الرَّسمية والنوادي الأدبية تكون سببًا لضعف صاحبها في وسط تلك المعارك لا لقوَّته، وإنَّما يكون الظفر والغلبة للأكثر وقاحة والأكثر ظلمًا والأكثر اعتداءً والأكثر خداعًا؛ ولذلك قال رنان: إنَّ الإنسان لا يكون قويًّا في الحياة إلا متى كان يُظهر دائمًا أنَّه كان مغشوشًا في ما صنعه من الخطأ، مع أنه كان غاشًّا.
فماذا تصنع النفوس الحساسة اللطيفة التي جَبَلَها الله لا تحب الغش والظلم والاعتداء حين وجودها في هذا الوسط الهائل؟ هل تسلِّم سلاحها خافضة جنح الفضيلة أمام وقاحة الرذيلة وتقع في ميدان العراك في جملة الأسرى والقتلى؟ أم تخلع عنها ثوب الفضائل السماوي الذي ألبستها إياه اليد الجميلة الأبدية لترتدي بدله بثوب الظلم والاعتداء والغش والنهب والسلب، وتصنع ما يصنعه غيرها؟ وهل يجوز أن تبخل عليها الأرض والسماء حينئذٍ بزاوية صغيرة في إحدى زوايا الأرض لتعيش فيها بأمن وسلام دون أن تُضطرَّ إلى ذلك الانتحار وهذه الجناية؟!
إن هذه الزاوية هي الدير؛ فالدير وُجد لسد فراغ في نفوس فريق في البشر في الأرض، وهو موجود قبل الديانة المسيحية بقرون عديدة؛ لأنَّ انفراد بوذه وأنصاره في جبال الهند نوع من المعيشة الديرية، وستبقى هذه الحاجة لازمة في الأمم ما دام فيها نفوس تتألم وجهاد في تحصيل الرزق، والطمع يحكي جهاد الفاتحين. وقد احترم صاحب الشريعة الإسلامية هذه الحاجة؛ لأنه أوصى بالصوامع والرُّهبان خيرًا، وكذلك الخلفاء الراشدون. فضلًا عن أن التَّكَايا التي أنشئت بعد ذلك في أنحاء العالم الإسلامي إنما هي نوع من المعيشة الديرية أيضًا، وهذا يدل على أنَّ هذه المعيشة الاشتراكية للزُّهد والانقطاع إلى الله كانت حاجة من حاجات النفوس في كل زمان.
أما النفع المادي فهو اعتبار الدير عبارة عن قوة ممدنة تستعمر الجهات التي يكون الدير قائمًا فيها. والديور إنِّما تُقام عادة في القفار والجبال والقُرى البعيدة؛ أي في الأماكن المحتاجة أشد احتياج إلى تعمير وإحياء.
فتأملْ مقدار الخير الذي يستطيع ذلك الدير صنعه في تلك الجهات إذا جعل نفسه عبارة عن شركة عظيمة يجتمع حولها أهل القرى ليتلقوا منها طريقة زراعة الأرض ويتعلموا صناعات جديدة، ويعتمدوا عليها في جميع شؤونهم العملية اعتمادًا مُتبادَل النفع بين الفريقين؛ فإنَّ الدير يصير في هذه الحالة عبارة عن مركز أعمال القرويين ومستشارهم في جميع أشغالهم. وكيف لا يحلو للمتأمل أنْ يَنْظُر ذلك الراهب الذي كان يُصلي إلى الله منذ مُدة يأخذ معْوله وفأسه ويقصد إلى حقول القرية؛ حيث يقابله أهلها كرسول العلم والثروة والمدنية بينهم، ويسترشدون بإرشاداته التي اكتسبها بالدرس والاختبار، والتي لا تصل إلى هؤلاء القرويين بدونه؟!
لا ريب أنَّ هذا الأمر يُساوي عندي — على الأقل — خروجه من الدير وبيده الإنجيل لعيادة مريض في القرية أو تسلية حزين، ولست أعرف شيئًا في هذا العالم يُعادل نفعه نفعَ هذه الديور في التمدين والتعمير إذا سلكت بإخلاص ونزاهة في هذا السبيل.
هذا فيما يختص بالاشتراك الخارجي بين أهل الدير وأهل القرى في تعمير الأراضي ونشر الخير والثروة حولهم، بقي هناك اشتراك آخر داخلي؛ وهو تعاون الأفراد المجتمعين في ذلك الدير على جعل معيشتهم فيه عبارة عن مثال لأرقى حكومة في الأرض، فإنَّ أهل الدير قد ارتفع عنهم عند دخولهم إليه هَمُّ تحصيل الرزق، والطمع والجهاد في سبيله، وذلك مما يُسكن النفس وينقي قواها.
ثم أضف إلى ذلك الانفراد عن معارك الحياة، تجد أنَّ النفس تصفو في ذلك الانفراد عن كدوراتها اليومية، وتتملص من كل أهوائها الفاسدة التي كانت تضغط عليها وتعذبها في حالة الاجتماع، وهكذا يُصبح أهل الدير عبارة عن بشر فوق البشر؛ لأنهم خرجوا من دائرة البشر، ويَصير البشر في الاجتماع ينظرون إليهم نظرهم إلى معلمين مُرشدين موضوعين فوقهم، فكأن الإنسانية في هؤلاء المنفردين قد تكررت وصَفَتْ وصارت إنسانية جديدة لا همَّ لها في الأرض غير فعل الخير ومساعدة الضعفاء.
وهذه الحالة تسوقهم بالطبع إلى الاشتغال بالعلم والأدب، وهنا مسألة المسائل الجديرة بكل اهتمام، هنا مفتاح ترقية العلوم والفنون والصناعات المختلفة؛ إذ ماذا يصنع الرُّهبان في كل أوقاتهم الطويلة؟ وبأي شيء يقطعونها؟ هل من شيء يُقطع به الوقت (ما عدا فعل الخير) أنفَس من الاشتغال بالعلم والأدب؟! وبذلك يكمِّل الرهبان المنفردون في أديرتهم الجميلة نقصًا ظاهرًا اليوم في هيئتنا الاجتماعية.
انظر إلى الحركة العلمية والأدبية عندنا، تجد أنها مطلوبة للمال لا لِذاتها، وبما أنَّ طالبي العلم والأدب يهتمون بالمال أكثر من اهتمامهم بالعلم؛ فالعلم يبقى بيننا قاصرًا؛ ذلك لأن العلم لا يتقدم ولا يترقَّى إلَّا إذا أمكن للمشتغلين به الانقطاع إليه انقطاعًا لا دخل لشهوة المال فيه. وهذا أمر بعيد الحصول عندنا ما دام أصحاب الثروة لا يشتغلون بالعلم.
فالرهبان إذن عليهم سدُّ هذا الفراغ؛ لأنهم قادرون على الانقطاع إليه أَتَمَّ الانقطاع؛ إذ كل حاجاتهم مضمونة عندهم، وفي وسع كل واحد منهم أن ينقطع إلى علم أو فنٍّ عشرين سنة أو أربعين، فيرقِّيه أتمَّ ترقية عندنا دون أن يحتاج شيئًا، وحينئذٍ تصبح الديور مصدرًا لنهضة علمية جليلة، ويصير كل واحد منهم عبارة عن أكاديمية كبيرة كل عضو من أعضائها عالم في فن وفي علم.
وهنا سكت سليم وأخذ يمسح العرق عن جبينه؛ لأنه قد تحمَّس في أثناء وصفه؛ فصاح جرجس مسرورًا: عافاك، عافاك يا معلمي، هكذا يجب الكلام عن آبائنا الرهبان. أما كليم فإنه قهقه شديدًا وقال لرفيقه: كفى تحلُّم، كفى تحلُّم؛ فهم في وادٍ وأنت في وادٍ، ومن كلامك يظهر أنك لا تعرف ما هو الغرض من الدير، فمسكين أنت أيها الجاهل! معنى الدير عندهم اليوم أن يقيم فيه الرُّهبان يكررون صلوات مألوفة، ويجمعون من النَّاس بحجة هذه الصلوات ما أمكنهم جمعه من المال، سواء كان نقودًا أو أوقافًا ذات دخل عظيم، والسذَّج يبذلون بسخاء في هذا السبيل ابتغاءً للثواب على ما يقولون. وهكذا بدل أن تكون هذه الديور ناشرة للثروة والخير في ما حولها من القرى صارت ممصًّا للثروة نفسها، وقد قلتَ إن أهل العلم عندنا مضطرون إلى التفكير بالمال قبل العلم وإلا تعذر عليهم الاشتغال به، فأنا أخبرك أن أهل الدين — الذين وظيفتهم نذر الفقر كما ذكرت — صاروا أيضًا يفكرون بالمال قبل الدير.
قال سليم: لا لست أحلم، بل أنا أنظر إلى الدير كما يجب أن يكون، وأنت تنظر إليه كما جعلوه اليوم، وهذا أوضح دليل على أن كل شيء إنما يصلح ويفسد تبعًا للطرق التي يُستعمل بها والأشخاص الذين يتولون استعمالها. وهذه مسألة المسائل في كل الشؤون حتى سياسة الأمم، ولستُ أظنك تزعم أنَّ الديور كانت في القديم (وأعني القرون الأولى لا القرون المتوسطة) على حالتها الحاضرة اليوم؛ فإنها لو كانت كذلك لما قام لديانتها قائمة، وإنَّما كانت الديور يومئذ عبارة عن انقطاع حقيقي إلى الله للخلاص من حياة الاجتماع التي تجرُّ الإنسان أحيانًا إلى ما لا يهواه.
ولا عتب في ذلك على أولئك المتقدمين؛ لأنَّهم كانوا يومئذ في الطور الذي يُسمى «طور الإيمان الحار»؛ ولذلك يَجِبُ أن لا نَلُومهم لانقطاعهم عن النَّاس بقولنا إنهم فعلوا ذلك مدفوعين بعامل الأَثَرَة وحب الذَّات؛ فإنَّ الرغبة في معيشة الانفراد الاشتراكية كائنة في طبيعة البشر؛ خصوصًا الضعفاء منهم، ولكننا إذا كنا لا نلومهم اليوم؛ فإننا لا نحث الديور في هذا الزَّمن على أن تنسج على منوالهم، بل نطلب إدخال تغيير على حالة الأديرة طبقًا للوصف الذي ذكرته آنفًا؛ فإن الهيئة الاجتماعية قد تغيرت، والنفوس الدينية صارت كما يظهر من قولك لا تكتفي (بالإيمان الحار)، فبِناءً عليه بطلت وظيفة الدير الأولى التي هي البُعد عن البشر والانقطاع إلى الله انقطاعًا حقيقيًّا، وصار من الواجب أن يحل محل هذه الوظيفة وظيفة مُساعدة الناس ماديًّا وأدبيًّا كما وصفت ذلك آنفًا، وإلا فلا معنى لوجود الدير في هذا العصر، وأنا على يقين أن هذا التغيير أمر سهل، وكثيرون من رجال الدين يرضون به؛ لأنه يحيي البلاد والعباد بثروات الأديرة والأوقاف الدينية. إنما يشترط فيه وجود رؤساء كرام يفهمونه وينبذون الأطماع جانبًا.
فلماذا لا يقوم أكابر الطوائف وأفاضلها لمراقبة أوقاف الأديرة والأملاك الدينية مُراقبة شديدة بواسطة مجالس دائمة خصوصية تنشأ لهذا الغرض لإنفاق دخلها الطائل في وجوه نافعة لمجموع الأمة؟