عين السنديانة
وبقي سليم وكليم يتحادثان في هذا الموضوع، حتى وصلا إلى عين السنديانة، وهي محطة يستريح فيها المسافرون في طريقهم إلى أعالي الجبل.
والمكان مؤلف من منزل اتخذه مستأجره حانوتًا يبيع فيه مواد الغذاء للمسافرين، وأمامه دكة عالية قليلًا، يجلس المسافرون عليها، وبجانبها عين ينبع منها ماء بارد يشربه المسافرون بظمأ ولذة بعد تعب الطريق وحرها.
فنزل كليم وسليم للراحة وتناوُل الطعام، وبعد حين طلبا بيضًا مقليًّا وجبنًا وعنبًا وجلسا يأكلان، وإذا برَجُلٍ قد دنا من أحد الفرسين، ومد يده إلى الخرْج الذي كان عليه، وأخرج منه جريدة إنكليزية، فقال كليم لرفيقه: ما شاء الله! إن صاحبنا يفعل بخرجنا ما يشاء (بدون تكليف). ثم نهض ودنا من الرجل وسأله: ماذا تريد؟ فعبس الرجل وقال: لا أريد شيئًا، ولكني أحب أن أقرأ.
ثم إنه أدار ظهره لكليم وجلس على طرف الدكة، ونشر الجريدة الإنكليزية وصار يقرأ فيها.
فاستغرب سليم وكليم أمر هذا الرجل، وكانت هيئته وثيابه مما يزيد الاستغراب؛ فإنه كان في نحو الأربعين من عمره بلحية كَثَّة وَخَطَها الشيبُ، وشعْرٍ وافر في رأسه يتدلى من تحت طربوشه القذر، وكان طويل القامة عريض العضل يلبس ثيابًا قديمة قذرة ويمشي بحذاء ممزق، إلا أن سحنته كانت تدل على الهدوء واللطف والسكينة.
وبعد أن قرأ هذا الرجل بضعة أسطر في الجريدة رفع رأسه، وضحك ضحكًا شديدًا، ثم قال: كلهن سواء، ثم التفت إلى كليم وقال: أليس حقًّا ما أقول؟ فقال كليم: عن أي شيء تتكلم؟ فضحك الرجل ضحكًا أشد من ضحكته الأولى وقال وهو يهز رأسه طربًا:
ثم وقع على الأرض وأُغْمِيَ عليه.
فذعر حينئذ كليم وسليم، أما صاحب المحل فإنه ركض مسرعًا وهو يَضْحَكُ، فنضح وجه ذلك الرَّجل المسكين وصدره بالماء، ثُمَّ التفت إلى سليم وكليم وقال: لا تخافا؛ فإنَّ هذا الرَّجل مجنون، بل هو نصف مجنون، وهو يُصاب بهذه النوبة مرَّة كل يوم أو كل يومين. فاشتد حزن كليم وسليم على حالة الرجل حينئذٍ، وبادرا إليه يسعفانه بالمعالجة، وبينما كانا يفركان يديه بأيديهما سألا صاحب المحل: وما قصته؟ وأين بلاده؟ فإنه غريب عن لبنان على ما يظهر.
فأجاب صاحب المحل: الذي سمعته أنه غريب عن لبنان، ويقال إن سبب جنونه حبه فتاة رام الاقتران بها فرفضت وهجرته، وهو من ذلك الحين يطوف البلاد على قدميه يأكل إذا وجد طعامًا ويصوم إذا لم يجد، وأحيانًا ينام تحت سقف منزل، وأحيانًا تحت قبة السماء، فهو شبيه برجل تائه على وجهه في البلاد، وكل الأهالي يعرفونه.
فلما سمع كليم وسليم هذه القصة تأثرا تأثُّرًا شديدًا، ومما زاد تأثرَهما امتزاجُ تعاسة الرجل بشيء غزلي جميل؛ لأنه جنَّ بسبب الحب كما سمعا.
فقال سليم لرفيقه: حقًّا إنني لما كنت أسمع كلام صاحب المحل خُيِّل لي وأنا أفرك يد هذا المريض أن يدي تمس الآن يد مجنون ليلى أو غيره من عشاق العرب المشهورين، ومن العَجَب أنْ يبقى اليوم في الأرض أناس رقاق الشعور شديدو الانجذاب النفسي؛ حتى إنهم يجنُّون بسبب الحب مع ما هو معروف في هذا العصر من اندفاع تيار الشهوات الحيوانية التي تقتل ذلك الشعور الدقيق.
فسأل كليم صاحب المحل: وما اسم هذا الرجل التعيس؟ فأجاب: إنَّ الناس يسمونه مخلوف.
وفي هذه البرهة اختلج مخلوف اختلاجًا شديدًا وصار يصرخ صراخًا هائلًا ويخبط بيديه ورجليه؛ فأمسكه بها الثلاثة الحاضرون لئلا يؤذي نفسه. وكان قد اجتمع عليهم بعض الأولاد وهم يعجبون من دنو سليم وكليم منه؛ لأن أكثر العامة في أقطار الشام يخافون كثيرًا ممن يغمى عليه ذلك الإغماء؛ لاعتقادهم أنَّ فيه شيطانًا يُسَبِّب ذلك الاضطراب، وهم يسمون المُغْمى عليه «واقع في الساعة».
وبعد حين ارتخت أعضاء مخلوف وتنهَّد تنهُّدًا عميقًا، ثم فتح عينيه وصار يضحك لمن حوله ضحكًا لطيفًا كضحك الأولاد؛ فقال له كليم: كيف حالك الآن يا مسيو مخلوف؟ فأجاب مخلوف: حالي كما ترى. فقال سليم: هذا أمر بسيط، وكثيرًا ما يقع فيه الناس، إمَّا بسبب الحر أو ضيق الصدر أو التعب. فجلس مخلوف حينئذٍ وقد ظهر الغضب في وجهه وصاح: لم يؤثر فيَّ الحر ولا ضيق الصدر ولا التعب، وإنما هذه الجريدة الملعونة، فكيف تجيز لها السماء والأرض أن تتركه وتذهب، هو يحبها كما يحب إلهه، هو يطرح تحت قدميها اسمه وميراثه وشرفه لتتنازل وتأخذها وترضى فقط بالابتسامة له، ومع ذلك فإنها تَرُدُّ هذه الهبات بقدمها وتفرُّ منه كالبرق وتختفي، فما هو جزاؤها يا ترى؟ أليس القتل، والخنق، والحرق، والشنق، والدَّوْس بالأقدام، والتقطيع قطعة قطعة؟!
وكان مخلوف قد بلغ به الغَضب عند هذه الكلمات مبلغًا عظيمًا؛ فجحظت عيناه، وانتفخت أوداجه، وصعد الدم إلى رأسه فكاد يخنقه، وبدا الزَّبَدُ على فمه كالجمل الهائج، فهال منظره سليم وكليم، وعلما حينئذ أنه قرأ في الجريدة الإنكليزية هذه الحادثة فأذكرته حادثته.
فتلافى سليم الأمر رغبة في تسكينه وتعزيته، وقال: لقد نطقتَ بالحق؛ فإن تلك الفتاة تستحق أكثر مما ذكرت، ولكن هل قرأت تتمة حادثة مس (لنهيم) التي تُشير إليها؟ فأجاب مخلوف وهو يلهث تعبًا من أثر الهياج: لا، فماذا جرى لهذه الخبيثة بعد تركها حبيبَها؟ فقال سليم: لقد لقيت عقابها. فصاح مخلوف حينئذ وشرر الجنون واليأس تتطاير من عينيه: هل ماتت؟! فارتعدت فرائص سليم وكليم لذلك الصوت الذي حكى صوت وحش جُرح برصاصة، وأجاب سليم: كلا كلا؛ فإنه لا يموت أحد الحبيبين إذا افترقا، وخصوصًا إذا كان أحدهما مظلومًا إلا بعد اجتماعهما.
فبُهت مخلوف يتأمل قليلًا ثم قال: وكيف ذلك؟ فقال سليم: روى فرفوريوس عن نيقوديموس عن أفلاطون عن أرسطاطاليس أن كل نفس مظلومة لحبها نفسًا أخرى — لا تموت إذا ثبتت في حبها، وصدقت قبل أن ترى النفس المحبوبة. ولذلك فكل فتاة تهجر فتى يحبها، ويَثْبت الفتى على حبه لها تعود إليه ذليلة من تلقاء نفسها بعد ذلك وتستغفره عن ذنبها، وتطلب إليه أن يشاركها في حياتها، وهكذا جرى لِمِسْ لنهيم التي قرأتَ في الجريدة حادثتها، فإنها عادت بعد مدة ذليلة واستصفحت خطيبها.
فهنا استوى مخلوف جاثيًا على ركبتيه، وأبرقت عيناه برقًا غريبًا، وقال: وإذا كان قد انقضى على غيبتها عدة سنوات؟
فأدرك كليم في الحال ما قام في نفس ذلك المجنون التعيس، فهمس في أذن رفيقه: إنك تحاول نفعه بالأمل ولكنك ستضره. فأجاب سليم: وهل بعد الجنون من ضرر؟! فإنني الآن أجرب طريقة لإصلاح شأنه، وتسكين جهازه العصبي إلى حين.
ولما سأله مخلوف السؤال الذي تقدَّم أجابَهُ سليم بقوله: سواء كان الوقت قصيرًا أو طويلًا فإنها تعود رغمًا عن أنفها، ولكني لم أذكر لك الطريقة التي استعاد بها المستر (أرثور) حبيبته المذكورة، فإنه قبل كل شيء ثبت على حبها ثبات الأبطال، فكان لا يذكرها بكلمة سوء ولا يحكي قصتها لأحد، ثم كان يتظاهر باللطف والبشاشة دائمًا ولا يضر أحدًا من الناس، وينفعهم بقدر استطاعته، وكان على الخصوص يعتني بنفسه، فيأكل من الطعام ما يكفيه، ولا يتعب كثيرًا بالطواف في البلاد، ويداري صحته ما أمكنه، وبهذه الطرق صار رجلًا جميل المنظر لطيفًا محبوبًا من الناس، فما لبثت حبيبته أن عادت إليه تطلب منه الصفح عن هجرها إياه.
وكان سليم يتكلم ومخلوف يفتكر، وقد أخذ العرق يقطر من جبينه؛ فدل ذلك على أن نفسه كانت حينئذ في صراع شديد مع نفسها، ولما أتى سليم على آخر كلامه انهملت دموع مخلوف على خديه؛ فوضع رأسه بين يديه وصار يبكي بكاءً شديدًا؛ فاغرورقت حينئذ بالدمع عينا سليم وكليم، وازدادت دهشتهما من أن يوجد اليوم في الأرض إخلاص كإخلاص هذا العاشق المجنون التعيس.
ولما استغرق مخلوف في البكاء رام كليم تسليته من وجه آخر، فقال له: أنت مصيب في بكائك يا مسيو مخلوف، فبارك الله في عواطفك الرقيقة وقلبك الحساس؛ إنك — ولا شك — تبكي على الزوج المسكين الذي يتزوج ويرزق أولادًا من زوجته ومع ذلك يرى عين امرأته ناظرة إلى سواه، إلى شاب أغض منه شبابًا؛ فتجعل حياته جحيمًا دائمًا، إنك تبكي على الزوج الذي يتزوج اليوم ثم تموت زوجته الفتاة الرطبة الجميلة بعد سنتين تاركة على ذراعيه طفلين يصيحان دائمًا «يا أماه»، بينما قلبه يصيح معهما «يا حبيبتي»، إنك تبكي الزوج الذي يموت بعد زواجه بسنتين تاركًا أرملة فتاة وصغيرين لا مُعِينَ لهما غير الله، إنك تبكي الزوج الذي يرى عائلته تكبر شيئًا فشيئًا — كل سنة ولد — ويَرى بابَ رِزقه ضيقًا؛ فهذه الأحوال الاجتماعية جديرة يا مسيو مخلوف بدموعك، وإذا كنت لم تتزوج بعدُ فاشكر الله لأنك لم تقع في أحدها.
ولكن يظهر أن المسكين مَخلُوف لم يفهم معنى هذا الكلام، أو كأنه لم يسمعه لاشتغاله عنه بما كان يجول حينئذ في ضميره، فلما سكت كليم تحفَّز للنهوض، فأمسك به سليم وكليم ليشاركهما في الطعام، فاعتذر ونهض، فحاولا إقناعه بالسفر معهما إلى الحدث ومنها إلى الأرز؛ فلما سمع كلمة الأرز قال لهما بهيئة جدية يضحك منها من يعرف جنونه إنه مُسافر بعد مُدة للأرز للسياحة هناك، وإنه سيقابلهما فيه. ثم تخلص منهما وودَّعهما بإحناء رأسه، وسار في سبيله.
ولما غاب عن بصرهما في منعطف المكان التفت سليم إلى رفيقه وقال: حقًّا إن حالته حالة مؤثرة. وبعد أن تناولا الطعام واستراحا قليلًا ركبا وسارا في طريقهما مع جرجس، وكان كل واحد منهم يفكر في مخلوف، وبعد برهة دار بينهما الحديث على الطريق؛ لأن الطريق خير محرك للحديث.
فقال سليم: هذه أول مرة أرى فيها محبًّا جُن من حبه؛ فما أحسن هذه الأخلاق الدمثة اللطيفة مع الجنون! فقال كليم: أما أنا فقد شاهدتُ مَجَانين عُشاقًا قبل اليوم، وعندي قصة أشد تأثيرًا من قصتنا هذه، فإنني منذ سنتين زرت في طريقي مع بعض الأصحاب دير قزحيَّا حيثُ يُعزل بعض المجانين؛ فلما أشرفنا على مكانهم وجدنا أحدهم منفردًا عن الباقين وهو جالس حزينًا ملوي الرأس، فقلنا: (إن كان فهذا. فوقفنا به فسلمنا عليه فردَّ السلام. فقلنا له: ما تجد؟ فأنشأ يقول:
فقلت له: أحسنت والله! فأومأ إلى شيء ليرمينا به وقال: أمثلي يُقال له أحسنت؟! فولينا عنه هاربين، فقال: أسألكم بالله أما رجعتم حتى أنشدكم، فإنْ أحسنت قلتم لي: أحسنت، وإن أسأت قلتم لي: أسأت. فرجعنا وقلنا له: قل. فأنشأ يقول:
فقلت له: ماتوا. فصاحَ وقال: ماتوا، وأنا والله أموت. ثم تربع وتمدد فمات لساعته، فما برحنا حتى دفنَّاه.)
فقال سليم: يا للعجب! وهل روحه في يده حتى يطلقها حين يريد؟! فقال كليم: هذه قصة محزنة عن المجانين، وقد شهدت أيضًا حادثة أخرى ولكنها مُضحكة، إلا أنَّها تدل أيضًا على ذكاء هذه الطبقة التي إذا طمس الجنون عقلها فإنه يُبقي على نباهتها وحدة ذهنها.
وتفصيل الخبر أنني كنتُ ذاتَ يومٍ مارًّا بقرية القلمون الإسلامية الكائنة على شاطئ البحر تحت دير البلمند وقلحات، فرأيت اجتماعًا عظيمًا خارج القرية فسألت: ما الخبر؟ فعلمت أن هنالك معتوهًا يَضحك الأهالي منه، ويجوزون له ما لا يجوزونه لسواه، وكان هذا المعتوه (يجدُّ ليجدَ السبيل إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكان يركب قصبة في كل جمعة يومي الاثنين والخميس، فإذا ركب في هذين اليومين فليس لمعلِّم على صبيانه حكم ولا طاعة، فيخرج ويخرج معه الرجال والنساء والصبيان فيصعد تلًّا وينادي بأعلى صوته: ما فعل النبيون والمرسلون؟ أليسوا في أعلى عليين؟ فيقولون: نعم. قال: هاتوا أبا بكر الصديق. فأخذ غلام فأُجلس بين يديه، فيقول: جزاك الله خيرًا أبا بكر عن الرعية؛ فقد عدلتَ وقُمتَ بالقسط وخلفتَ محمدًا — عليه الصلاة والسلام — في حسن الخلافة، ووصلتَ حبل الدين بعد حل وتنازع، وفرغتَ منه إلى أوثق عروة وأحسن ثقة. اذهبوا به إلى أعلى عليين. ثم ينادي: هاتوا عمر. فأجلس بين يديه غلام فقال: جزاك الله خيرًا أبا حفص عن الإسلام؛ فقد فتحتَ الفتوح ووسَّعتَ الفيء وسلكتَ سبيل الصالحين وعدلتَ في الرعية. اذهبوا به إلى أعلى عليين بحذاء أبي بكر. ثم يقول: هاتوا عثمان. فأتي بغلام فأجلس بين يديه فيقول: خلطت في تلك السنين ولكن الله تعالى يقول: خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ، ثم يقول: اذهبوا به إلى صاحبيه في أعلى عليين.
ثم يقول: هاتوا علي بن أبي طالب. فأجلس غلام بين يديه، فيقول: جزاك الله عن الأمة خيرًا أبا الحسن؛ فأنت الوصي وولي النبي، بسطْتَ العدل وزهدتَ في الدنيا، واعتزلتَ الفيء فلم تخمش فيه بناب ولا ظفر، وأنت أبو الذرِّية المباركة وزوج الزكية الطاهرة. اذهبوا به إلى أعلى عليين الفردوس.
ثم يقول: هاتوا معاوية. فأجلس بين يديه صبي، فقال له: أنت قاتل عمار بن ياسر، وخزيمة بن ثابت ذا الشهادتين، وحجر بن الأدبر الكندي الذي أخلقتْ وجهه العبادةُ، وأنت الذي جعل الخلافة ملكًا واستأثر بالفيء وحكم بالهوى واستبطر بالنعمة، وأنت أول من غيَّر سنة رسول الله ونقض أحكامه وقام بالبغي. اذهبوا به فأوقفوه مع الظَّلَمَة.
ثم قال: يزيد. فأجلس بين يديه غلام فقال له: أنت الذي قتلت أهل الحرة، وأبحت المدينة ثلاثة أيام، وانتهكت حرم رسول الله، وآويت الملحدين، وبؤت باللعنة على لسان رسول الله، وتمثلت بشعر الجاهلية.
وقتلت حسينًا، وحملت بنات رسول الله سبايا على حقائب الإبل. اذهبوا به إلى الدرك الأسفل من النار.
ولا يزالُ يذكر واليًا بعد والٍ حتى بلغ إلى عمر بن عبد العزيز، فقال: هاتوا عُمر. فأُتي بغلام فأجلس بين يديه، فقال: جزاك الله خيرًا عن الإسلام؛ فقد أحييت العدل بعد موته، وأَلَنْتَ القلوب القاسية، وقام بك عمود الدين على ساق بعد شقاق ونفاق، اذهبوا به فألحقوه بالصدِّيقين.
ثم ذكر من كان بعده من الخلفاء إلى أن بلغ دولة بني العباس فسكت، فقيل له: هذا أبو العباس أمير المؤمنين. قال: فبلغ أمرنا إلى بني هاشم. ارفعوا حساب هؤلاء جملة واقذفوا بهم في النار جميعًا).
فقيل له: وبعدُ؟ فقال: أين أُمَوِيُّو الأندلس؟ فرفع إليه غلام، فقال له: إيه عبد الرحمن الداخل، ذهبتَ تخرق خرقًا في الإسلام، وتنشئ خلافة جديدة وسلطنة كبيرة لم تحسن أنت وقومك الدفاع عنها. اذهبوا به إلى النار. ثم قال: أين الفاطميون؟ فرفع إليه غلام فقال: لقد ألَّهتم أمراءكم، وأضعفتم الإسلام بشَقِّه شطرين. خذوهم. فقيل له: وبعدُ؟ فقال: بعد ماذا؟ فقيل: آل عثمان. فالتفت يمنة ويسرة ومد لسانه وحك رأسه وهمَّ بالكلام، فصاح به صائح: باب السجن مفتوح. فضحك المعتوه وقال: أمَّا بنو عثمان فإننا نؤجل الحكم عليهم. فضحك الجميع وانصرفوا.
فقال سليم: حقًّا إن هذا الرجل غريب؛ فإنه مع جنونه يصف كل أمير الوصف الذي ينطبق عليه كأنه من أبصر الناس بالتاريخ، أما صاحبنا مخلوف، فإنني أرى من القسوة أن نتركه في هذه الحالة؛ ولذلك عزمت على معالجته لعلِّي أرد عليه صوابه.