الحدث
وطوى الفارسان بالحديث المسافة بين عين السنديانة والحدث، ولما وصلا إلى هذه القرية دخلا إليها منقبضَيِ الصدر؛ لأنهما كان يُعللان النَّفْس بأن يشاهِدا في أعالي الجبل مناظر أبهى وأجمل، وهذا شأن كل من يتصور شيئًا جميلًا قبل معرفته؛ فإنه قلَّما تكونُ صورته الحقيقية مساوية لصورته الخيالية، خصوصًا إذا كان المتصوِّر شديد الخيال، وأشد الناس خيالًا وأرقاهم تصورًا، وأسلمهم ذوقًا من لا يرى في صور الموجودات — مهما كانت عظيمة نفيسة — صورة تفوقُ أو تساوي صورتها التي ارتسمت في خياله قبل أن يراها.
وفي الحقيقة إنَّ جَمال الحدث لا يظهر للداخل إليها لأول مرة، بل تجب الإقامة فيها يومين أو ثلاثة لإدراك محاسنها؛ فهي قرية صغيرة قائمة على أكمة في جبة بشري، مطلقة للهواء والنور من جهاتها الأربع؛ فيظهر أن الذين بنوها لم يرهبوا الزوابع والرياح والثلوج في تلك الأعالي؛ ولذلك لم يخفوا قريتهم في ظل أكمة مرتفعة كقرية (قنات) القريبة منها إلى الجنوب الغربي، ولا بنوها في سفح جبل كأهدن التي تقابلها في الشمال، ولا في قلب وادٍ كحصرون في الشرق، بل هم قصدوا بها — على ما يظهر — مصادمة تلك العناصر الطبيعية في تلك الأعالي التي يعمِّمها الثلج، ويغطيها الضباب نصف سنة تقريبًا، وهذا ما جعل هواءها أجود الأهوية وأجفها، واجتذب إليها المرضى للاستشفاء فصاروا يفضلونها على سواها.
ولما دخل سليم وكليم إلى القرية كان أهلها في هياج واضطراب، وبعضهم يتراكضون إلى منزل قائم فوق حرش صغير بجانب القرية إلى الجنوب الغربي. فقال كليم: يا جرجس، استخبر لنا الخبر. فسأل جرجس أحد الأهالي، فأخبره أن بعض الأميركان يرُومون استئجار بيت في القرية، ولكن في الأهالي فريقًا لا يُريد تأجيرهم؛ لأنهم بروتستنت يحثُّون الناس على ترك مذهبهم إلى المذهب البروتستنتي.
فضحك سليم لما علم بسب هذا الاضطراب، وقال لرفيقه: إن هذه الاختلافات في المذاهب والأديان تتبعنا حتى أقاصي البلدان، ثم سأل سليم جرجس: ما رأيك يا جرجس في هذا؟ هل يجوز لهم ذلك أم لا يجوز؟ فأجاب جرجس: الحقَّ أقول لك يا معلمي، إن الأهالي لا يُريدون تغيير مذهبهم الذي رُبي عليه آباؤهم وأجدادهم، وهم يفْدُونه بدمائهم، سواء كانوا في الكورة بناحيتنا أو في الجبة بهذه الجهات. فأجاب سليم مازحًا: ولكن لماذا لا تصنعون أنتم في نواحي الكورة ما يصنعه أهالي الجبة من طرد الأميركان؟ فإنكم قبلتموهم وقد فتحوا عندكم بضع مدارس. فاحتار جرجس في الجواب، فضحك سليم وكليم؛ لأنهما أدركا معنى سكوت جرجس، وقال: أنا سليم ماروني يا جرجس، وكن على ثقة أنني أكره الإساءة حتى للمجوس، ولكنك قد جهلت السبب الحقيقي، فاعلم أن لذلك أربعة أسباب: الأول: أن أهل الجبة أحرص من أهل الكورة على استقلالهم، وأرسخ منهم قدمًا في الدفاع عن حريتهم، وما برح أهل الجبال أشد استمساكًا بحريتهم المطلقة من أهل السهول، وهم يعتبرون مذهبهم الديني من جملة عواملهم وحاجاتهم الوطنية. والثاني: أن لرجال الدين عليهم سلطة عظمى، خِلافًا لرجال الدين في الكورة، وذلك لما للهيئة البطريركية الدينية من النفوذ الخصوصي في سياسة الجبل. والثالث: أن فرنسا التي تحمي هذه السلطة الدينية يطيب لها أنْ تُبعِد — ما أمكنها — كل أجنبي يروم مخالطة الأهالي واستمالتهم، وعلى الخصوص البعثات الدينية الغير الفرنسوية. والرابع: أنَّ الكورة تابعة لأسقفية طرابلس دينيًّا، والروم والأميركان في طرابلس على شيء من الاتفاق؛ فكيف يستطيع أهل الكورة أن يعاندوا الأميركان ما دامت هيئتهم الدينية في طرابلس مسالمة لهم؟!
فقال كليم حينئذ — وقد ضجر من هذا الكلام: لله ما أصبرك على البحث في هذه الهنات!
وفي هذا الحين وصل الجوادان إلى المنزل الذي كانا يقصدانه في القرية، وهو أعلى المنازل في الجنوب وآخرها. وكان أهل المنزل في النوافذ ينتظرون الضيفين، ويشاهدون اضطراب الأهالي وصياحهم حول المنزل الذي تقدم ذكره.
وكانت العائلة المصيفة في هذا المنزل عائلة صديق لسليم وكليم يدعى الخواجه أمين، وكان مريضًا بعلَّة الصدر المشهورة التي كثرت في سوريا ولبنان في هذا الزمن، وهو شاب في الخامسة والعشرين من العمر، انقضى عليه ثلاث سنوات بهذه العلة؛ فلم تنجع بها دواء، ولم يبقَ لها علاج عند الأطباء غير الإقامة في الهواء النقي الجاف في أعالي الجبال، وكان أمين وحيد والديه الشيخين وقبلة آمالهما، ولكن المرض لا يعرف رحمة ولا يَرْعَى حرمة، وكان أبواه في يأس شديد من حالته يبكيان الليل والنهار على وحيدهما الشاب الذاهب عنهما تاركًا إياهما في آخر العمر فريدين وحيدين في هذه الحياة.
إلا أنهما مع حُزنهما المتصل في السر كانا يظهران أمام المريض كل سرور وبشاشة، وكذلك كان المريض أمامهما، فإنه كان عالمًا بعلته التي كانت تجره إلى الموت شيئًا فشيئًا؛ ولكنه كان يحتملها بلا ضجر ولا شكوى؛ لئلا يزيد في عذاب الشيخين اللذين كانا يعتنيان به؛ ولم يَرَ أحدٌ قَطُّ صبرًا على مرض كصبر هذا المريض الكريم وممرضَيه الشيخين.
ولما دخل سليم وكليم عليه كان أمين ممددًا في سريره لا يقوى على النهوض، فابتسم لهما مسلِّمًا، أما هما فلم يقنعا بهذا الابتسام بل تقدَّمَا منه ليصافحاه بهز اليد، فلما رآهما يمُدَّان يديهما نحوه سحب يده وأخفاها تحت اللحاف، وقال لهما بدمع في عينيه: لا تتعباني بالسلام عليكما؛ فإنني في غاية الضعف. فنفرت الدموع حالًا إلى عينَيْ سليم وكليم؛ لعلمهما أن ذلك المريض العزيز لم يُخْفِ يده إلا فرارًا من أن يعديهما من دائه.
فيا أيها المرضى الذين يشكُون من فرار الناس منهم خوفًا من العدوى، ويا أيها المصابون بأمراض مزمنة يقضون أوقاتهم بالتضجر والتألم والتحسر، تعلَّموا هذا الشعور اللطيف والصبر الجميل من هذا المريض.
وما جلس سليم وكليم يستريحان بعد تعب الطريق حتى اشتدت الضوضاء في القرية، وعلا الصياح فهرع كلاهما إلى النافذة وأطلا منها، ثم قال كليم لأمين: لم نفهم جيدًا سبب هذا الاضطراب. وإذا بصاحب المنزل داخلٌ، فسأله أمين: كيف انتهت المسألة يا أبا مرعب؟ فقال أبو مرعب: حقًّا إنهم تجاوزوا الحدود، وقد عزمتُ أن أذهب وأدعو أولئك الضيوف إلى منزلي هذا وأدعهم يقيمون في الجانب الآخر، فما قولكم؟ فقال له أمين: أحسنت يا أبا مرعب، وهكذا فلتكن الشهامة. فقال: ولكنني أريد ترجمانًا بيني وبين الخواجات. فهبَّ سليم وكليم وقالا: نحن نرافقك.
وبعد خمس دقائق وصل أبو مرعب مع سليم وكليم إلى المنزل الذي كان النزاع عليه، فوجدوا حوله عشرين رجلًا من أهل القرية وبضع نساء وعدة أولاد، وأمام المنزل ثلاثة بغال عليها حوائج السفر وبجانبها ثلاثة من الأميركان وترجمان وخادم.
وكان أبو مرعب في نحو الخمسين من العمر، وهو رجل كبير الجسم، كثير السمن، قَوي العَزْم، لا يَهاب الموت إذا تمثَّل له في شخص إنسان، وكان مشهورًا عنه أنه حارب مع يوسف بك كرم، وكان من أشد أعوانه، حتى إن يُوسف بك سماه (كرة مدفع) إشارة إلى استدارة جسمه وقوته.
فلما وصل أبو مرعب إلى المتجمهرين دخل بينهم مع رفيقه، واستفهم منهم عن سبب الاضطراب والصياح، فعلم منهم أن ذلك الجمهور كان مقسومًا قسمين: ففريق كان يقول: ليس من آداب الضيافة أن نمنع الأجانب من الإقامة في قريتنا، وإلا سبَّنا الناس حتى أهل القرى المجاورة. وكان في هذا الفريق صاحب المنزل نفسه.
وفريق آخر كان يقول: نحن لا نبعد هؤلاء الضيوف لأنهم بروتستنت فقط، بل لأن فيهم رجلًا مسلولًا؛ إذ نخاف على قريتنا من العدوى.
فسكت ابن طنوس، ولكن شابًّا بجانبه أجاب: هل الغريب كالقريب يا أبا مرعب؟ فقال أبو مرعب: عافاك الله يا ابن سركيس فإنك نطقت بالحق، فأنتم إذن تريدون اضطهاد هؤلاء الضيوف لأنهم أجانب وبروتستنت لا لحفظ صحة القرية، فأنا أخبركم أنني الآن آخذهم إلى بيتي، وكل من تحدثه نفسه بمنعي فليتبعني.
ثم اندفع أبو مرعب إلى البِغال فأخذ بأحدها ومشى في المقدمة يتبعه المسافرون، وبجانبه كليم وسليم يعجبان من كرم أخلاق هذا القروي.
أما المسافرون الأميركان، فإنهم كانوا في أثناء ذلك يضحكون وقد أفهمهم ترجمانهم كل ما جرى، فأجابوا: يس يس؛ أي إنهم رضوا بالإقامة في منزل أبي مرعب، إلا أنهم لم يشكروه على ذلك شكرًا خصوصيًّا.
ولما استقرَّ بهم المقام في بيت أبي مرعب نادى سليم وكليم ترجمانهم، وكان من تراجمة بيروت قدم معهم لهذا الغرض، وبعد أن تعرفوا به سألوه عن رفاقه وقصتهم، فأخبرهم أن هؤلاء الثلاثة الأميركان هم من حواشي أميركي كبير قادم للسياحة في جهات الأرز، فسأله سليم: وما اسمه؟ فأجاب الترجمان: اسمه (مستر كلدن). فصاح سليم: مستر كلدن أحد أغنياء أميركا العظام؟
فقال الترجمان: نعم فإن زوجته مريضة، وقد حضر معها للسياحة في أعالي لبنان، وقد أشار عليهم أطباء بيروت أن يتخذوا الحدث محطة لهم إذا أعجبتهم؛ لأن هواءها أجف الأهوية، ومنها يزورون الأماكن الجميلة التي بجوارها، وهذا ما جعلنا نتقدمهم وننتظرهم.
فقال كليم: إذن لستم مرسلين أميركيين كما ظن أهل القرية. فضحك الترجمان وقال: كلا. فقال كليم: ومَن مِن رفاقك المصاب بداء الصدر؟ فضحك الترجمان أيضًا وقال: لا أعرف أحدًا مصدورًا بينهم، ولكن لون أحدهم ضارب إلى الاصفرار فحسبوه مصابًا، أو أنهم ادَّعَوْا ذلك تأييدًا لحجتهم. فضحك سليم وقال: لا بأس، نحن نحمد هذه الصدفة التي جعلتهم قريبين مِنَّا؛ لأننا سنتعرف بالمستر (كلدن) ولا شك. فقال الترجمان: وهل تحبون التعرف برجال بطانته؟ فأجاب سليم: ذلك ما نتمناه.
وفي المساء زار سليم وكليم المسافرين الأميركان فأحسنوا استقبالهم، وقد سُرُّوا لمصادفتهم أديبين مطلعين يحادثانهم بلغتهم حديثًا مفيدًا عن المكان والسكان.
وفي أثناء الحديث سأل سليم أحدهم: بلغنا من الترجمان أن مسز (كلدن) مريضة، وهذا سبب سياحتها مع زوجها المكرم، ولكن ما مرضها؟ فضحك المخاطب وأجاب: «مرض الوطن.» فاستغرب سليم وكليم ذلك، فقال صاحبهما: نعم، أنا أخبركم الآن شيئًا جديدًا، وهو يسركما ولا شك، فإن مسز كلدن أصلها من بر الشام، ولم تنفك عن الاشتياق إلى وطنها الأول، فجاء بها المستر كلدن في هذا العام لعل صحتها تعود إليها في هذه السياحة التي هي متعِبة، وإن كانت جميلة.