قصة مجنون ليلى
وفي ذلك الليل نام كليم وسليم نوم الهناء بعد تعب السفر، ونهضا في صباح اليوم التالي نشيطين مسرورين، إلا أنهما شعرا قبل شروق الشمس بشيء من البرودة لم يتعوداه في آب لقياسهما الجبل على السهل. لكن ما طلعت الشمس وامتزجت ذرَّات نورها الحار بِذرَّات الهواء البارد حتى شعرا بارتياح شديد لم يشعرا بمثله في حياتهما كلها، ومنذ هذه الساعة بدأت الحدث تكون جميلة في عيونهما.
ولما تعالت الشمس فوق المشرق، واشتدت حرارتها قليلًا، انتبه أمين من النوم، وأوعز إلى أبويه أن يستعدا للذهاب إلى حرش الصنوبر القريب من القرية؛ ليتناولوا طعام الصباح هناك مع ضيفيهما. فبعد نصف ساعة سار سليم وكليم نحو الحرش وركب أمين حمارًا؛ لأنه كان عاجزًا عن المشي لضعفه، وسار أبواه وراءه، والمسافة بين القرية والحرش نحو ٤ أو ٥ دقائق، وهذا الحرش قائم بين القرية القديمة وبضعة منازل جديدة بنيت وراءه إلى الجنوب، وهو مغروس فوق أودية مختلفة تنفرج من الحدث إلى السهل، فيُرى من ورائه بحر الكورة والبترون وما وراءه من الأفق.
فجلس الرِّفاق هُناك في أجمل مجلس وتناولوا طعام الصباح، وقد جعل أمين مَجلسه بعيدًا عن مجلس صديقيه وفصل طعامه عن طعامهما، فكان هذا الشعور اللطيف منه يزيد صديقيه رغبة في محو ذلك الأثر من نفسه، ولكن — وا أسفاه — ما الفائدة من محو ذلك الأثر من النفس ما دام باديًا في الوجه؟! فإنَّ أمين كان في تلك الجمعية التي كانت تتمتع بالصحة والعافية في ذلك المكان المشرف على مناظر الجبال والمعطر الهواء برائحة الصنوبر الطيبة — عبارةً عن شبح وخيال، فإن العلة الهائلة أكلت وشربت لحمه ودمه، والهزال أفنى قواه وأخمد نار عينيه وصبغ وجهه اللطيف بلون الموت، ولم يبقَ من قوة لتلك الروح الصبورة في ذلك الجسم النحيف الذي صار كأجسام الأولاد سوى قوة الابتسام بشفتيه الرقيقتين تحت شاربيه الأشقرين الدقيقين اللذين صارا لا يظهران كثيرًا لامتزاج لونهما بلون الوجه.
فبالابتسام فقط كانت تَظهر حياة أمين وعواطفه وإرادته، وكان يَجُود بالابتسام دائمًا إظهارًا للقوة وإيناسًا لجلَّاسه، فهنا نقول مرة ثانية أيضًا: ما رأى الممرضون قَطُّ مريضًا شجاعًا مثل الفتى أمين، والعجب من نفس قوية صبورة كهذه النفس، كيف استطاعت العلة أن تقوى عليها؟!
وكان لا ينغص عيش سليم وكليم شيء في ذلك المكان الجميل سوى هذه الأفكار التي تتردد عليهما، ورغبة في طردها وتسلية المريض دخلا في الحديث معه، فقال كليم: ألا تذهب معنا إلى الأرز أيها الصديق؟ فضحك أمين وقال: أنت ترى أنني لا أقدر على الركوب من القرية إلى هنا. فقال سليم: لا تبالغ، فإنك بخير والحمد لله، وإنك تستطيع الذهاب معنا إلى الأرز إذا أردته، ولك علينا إذا سرت معنا نريك (فرجة) لم ترها في حياتك. فقال أمين: وما هي؟ فقال سليم: نريك مجنون ليلى. فقال أمين: ومن هو مجنون ليلى؟ فقال سليم: هو رجل جُنَّ من الحب. فصاح أمين: لعلك تريد بهذا الرجل المسيو مخلوف، فدُهش سليم وكليم وقالا: هل تعرفه؟! فقال أمين: هذا أمر بسيط؛ فإنَّ كل الناس هنا يعرفونه ويعرفون قصته. فقال سليم: وهل تعرفها بالتفصيل؟ فقال: نعم، ولكن أين شاهدتموه؟
فقص عليه سليم كيف شاهدا مخلوف في عين السنديانة وما جرى له، وكيف وعدهما بأن يقابلهما في الأرز، فقال أمين: أظن هذا كل ما تعرفانه عنه، أما أنا فإنني أقص عليكما قصته من أولها إلى آخرها كما سمعتها من عارفيه، وإليكما تفصيلها:
إن اسم مخلوف الأصلي (يعقوب درمان)، وهو شاب أديب من بلدة صور، وكان منذ عشر سنوات مكبًّا على الدرس استعدادًا لفن المحاماة؛ فبينما كان ذات يوم يُطالع بعض دروسه على شاطئ البحر، وإذا به يسمع صراخًا وعويلًا، فركض فأبصر خادمة تنادي على سيدة لها بين الأمواج تكاد تغرق، فألقى نفسه حالًا بأثوابه في البحر وأنقذ السيدة، وكانت هذه السيدة فتاة في نحو الثامنة عشرة من العمر، وهي كريمة تاجر كبير في صور، وقد رامت الانتحار غرقًا لأسباب مجهولة، فلما أنقذها يعقوب أرسلها إلى بيتها وكانت مغشيًّا عليها، فكاد أبوها يموت من حزنه، ولكن الحياة عادت إليها، ومنذ ذلك اليوم أحبها يعقوب درمان حبًّا شديدًا يقرب من العبادة، ومالت الفتاة إليه؛ لأنه أنقذ حياتها، لكن الأقدار عاكستهما بعد ذلك؛ فإن أباها — على ما يقال — توفي في ذلك العام وقد خسر جميع أمواله، وانحطت كرامته بين قومه بعد أن كان عزيزًا بينهم، وبذلك بقيت ابنته وحدها؛ إذ لم يكن في البيت غيرها لوفاة أمها.
وكان يعقوب درمان فقير الحال أيضًا؛ فرأت الفتاة أنها إذا اقترنت به ازدادت سوءَ حالٍ على سوء حال، وكانت عزيزة النفس شديدة الأنفة؛ لأنها نشأت في الترف والغنى والدلال، فكرهت أن تقيم ذليلة فقيرة في بلدة كانت فيها العزيزة المبجلة؛ فغافلت حبيبها يعقوب وفرت مسافرة مع إحدى البواخر التي تمر على صيدا، وتركت له ورقة تقول له فيها: «انسَنِي واسْلُني بعد الآن.» ويظهر أن دماغ يعقوب ضعيف من فطرته؛ فلم يقوَ على تحمُّل هذه الصدمة فجُنَّ من يومها.
فقال سليم: ولكن كيف سافرت الفتاة وحدها إلى بلاد لا تعرفها؟ فأجاب أمين: لا تَسَلْ عن ذلك؛ فإنها نشأت في مدارس الأميركان، وأنت تعلم أنهم يربون البنات في مدارسهم على الجرأة والإقدام والاستقلال، وهو أمر أحيانًا يكون نافعًا وأحيانًا يكون ضارًّا.
فضحك كليم وقال: لا ريب أننا إذا رأيناه نحن في هذه الحادثة نافعًا؛ فإن الخواجه مخلوف يراه مضرًّا جدًّا؛ لأنه فقد به حبيبته وعقله.
فقال كليم: ولكن عندي أن الفتاة لم تخطئ؛ إذ لا أَصْعَبَ من معيشة الإنسان محتاجًا إلى الناس في بلدة كان فيها من قَبْلُ غنيًّا عنهم؛ فإن دناءة الشامتين ولؤم المنتقمين ووقاحة حديثي النعمة الذين يحلون محل ذلك الإنسان بعد سقوطه أمورٌ لا تحتملها النفوس.
فقال أمين بهدوء ورزانة: ما للإنسان وكلام الناس! إنما عليه أن يعيش بهدوء مستورًا، وإذا كان في الناس قوم (أردياء) يشمتون وينتقمون، ففيهم قوم (طيبون) يُواسون ويُعَزُّون، فقد كان على الفتاة أن تبقى ولا تسافر بهذه الصورة الشنيعة.
فقال كليم ضاحكًا: لو سمعك مخلوف الآن لأعطاك طربوشه من فرحه.
فقال أمين ضاحكًا: وما نفعي منه! فإن طربوشه قذر. فضحك الجميع لهذا الجواب.