خاتمة
أعتقد أن ما نفعله هو أننا نستكشف؛ إننا نسعى نحو اكتشاف أقصى ما يمكننا اكتشافه عن العالم من حولنا … واهتمامي بالعلم يكمن ببساطة في اكتشاف المزيد عن هذا العالم، وكلما اكتشفت المزيد، كان العالم أفضل.
توفي ريتشارد فاينمان قبل وقت قصير من منتصف ليل الخامس عشر من فبراير عام ١٩٨٨، وهو في سن التاسعة والستين. خلال عمره القصير تمكَّن فاينمان من تغيير العالم — أو على أقل تقدير أسلوب فهمنا له — وكذلك تغيير حياة جميع من التقى بهم. تأثَّر به كل من حظي بشرف التعرف عليه. كانت به خاصية فريدة جعلت من المستحيل النظر إليه مثلما ينظر المرء إلى غيره من الناس. ولو كان صحيحًا أن شخصية المرء هي قدره، فيبدو إذن أن قدر فاينمان أنه وُلد ليكتشف أشياء عظيمة، وإن كانت اكتشافاته نتاج عمل شاق لا يصدقه عقل، وطاقة بلا حدود، ونزاهة صارمة اجتمعت مع عقل عبقري.
ربما يكون صحيحًا أيضًا أنه على الرغم من كل ما حققه من إنجازات، كان في استطاعته مع ذلك أن ينجز ما هو أكثر بكثير لو أنه كان أكثر استعدادًا للإنصات والتعلم ممن حوله، ولو أنه كان أقل إصرارًا أن يكتشف كل شيء بنفسه. غير أن الإنجاز في حد ذاته لم يكن هدفه ومبتغاه! لقد كان هدفه هو معرفة العالم. لقد كان يجد متعته في اكتشاف شيء ما، لنفسه هو، حتى لو كان جميع الناس سواه في هذا العالم يعرفون هذا الشيء بالفعل. ومرة تلو أخرى، عندما كان يكتشف أن شخصًا آخر سبقه في التوصل لاكتشاف ما، كان رد فعله أبعد ما يكون عن الإحباط أو اليأس وإنما كان يقول بلسان الحال: «حسنًا، أليس من الرائع أننا عرفنا الصواب؟»
لعلنا نستطيع أن نعرف أكبر قدر من المعلومات عن شخص ما من خلال ردود أفعال أولئك الذين أحاطوا به، ولكي نكمل صورة ريتشارد فاينمان، قررت أن أضيف بعض ردود الأفعال التي لم أوردها في الصفحات السابقة من هذا الكتاب، لكنها مع ذلك قد تنير لنا بصورة أوضح وأكثر اكتمالًا تلك التجربة الرائعة المتمثلة في معرفة شخصية الرجل، بالإضافة إلى قصة أو اثنتين أظن أنهما تلقيان الضوء على جوهر شخصيته.
أذكر واقعة أراها مبهرة بحق. في منتصف العام الدراسي الأول، كنت أجري بحثًا عن الموصلية الفائقة، وذات مساء توجَّهت إليه في مكتبه لمناقشة ما توصلت إليه من نتائج … بدأت أكتب المعادلات على السبورة، فبدأ هو يحللها بسرعة كبيرة. ثم قطع حديثنا رنين الهاتف … وتحول فاينمان على الفور من موضوع الموصلية الفائقة إلى مشكلة ما في فيزياء الجسيمات عالية الطاقة في خضم عملية حسابية بالغة التعقيد كان شخص آخر يجريها … تحدث مع هذا الشخص ربما لخمس أو عشر دقائق. وبعد أن انتهى من مكالمته، وضع السماعة واستمر يناقشني في حساباتي التي أجريتها، عند نفس النقطة بالضبط التي توقفنا عندها … ثم رن جرس الهاتف من جديد. وكان محدثه هذه المرة شخصًا يعمل في مجال فيزياء الحالة الصلبة النظرية، وهو موضوع ليست له علاقة البتة بأي شيء كنا نتحدث فيه. لكنه مع ذلك كان جاهزًا ليقول: «كلا، كلا، ليست هذه هي الطريقة الصحيحة للقيام بذلك … عليك أن تجريها على النحو التالي …» … واستمر الحال كذلك مدة تقارب ثلاث ساعات؛ نوعيات مختلفة من المكالمات الهاتفية ذات الطبيعة الفنية، وفي كل مرة يكون موضوع المكالمة ميدانًا مختلفًا تمامًا، وتتضمن نوعيات مختلفة من الحسابات … لقد كان الأمر مذهلًا تمامًا. ولم أشاهد شيئًا كهذا بعد ذلك أبدًا.
كثيرًا ما كان فاينمان عندما يطلب أحدنا نصحه يرفض بفظاظة قائلًا: «هذا ليس القسم الذي أعمل به.» ولم أستطع مطلقًا أن أتبين بالتحديد ما الذي يعنيه بالقسم الذي يعمل به، غير أن هذا لا يهم على أي حال؛ لأنه أمضى معظم أوقاته يبحث عن حلول للمشكلات التي تواجه «قسمًا غير قسمه» … وكثيرًا ما كان يعود بعد أيام قلائل من رفضه ويعلق قائلًا: «ظللت أفكر فيما سألتني فيه ذلك اليوم وبدا لي أن …» … غير أن ما كان فاينمان يمقته، أو على الأقل يتظاهر بأنه يمقته، أن يُطلَب منه تقديم النصح. فلماذا إذن كان الناس دومًا يطلبون منه النصح؟ لأنه حتى عندما كان يعجز عن فهم شيء ما، كان دائمًا يبدو كما لو كان أفضل فهمًا من الآخرين. وأيًّا كان ما فهمه، كان قادرًا على جعل الآخرين يفهمونه كذلك. كان فاينمان يجعل الناس يشعرون بشعور الأطفال عندما يعاملهم الكبار لأول مرة باعتبارهم كبارًا راشدين. ولم يكن يخشى في الحق لومة لائم.
ذات يوم اتصلت بي سكرتيرة فاينمان، هيلين تاك، لتخبرني في هدوء أن «ديك» مصاب بالسرطان وأنه سوف يدخل المستشفى لإجراء عملية يوم الجمعة القادم … وفي يوم الجمعة ذلك، أي قبل إجراء العملية بأسبوع واحد … أخبرته أن شخصًا ما اكتشف خطأً واضحًا في عملية حسابية كنا أجريناها من قبل … ولم أكن أعرف ما الخطأ. وسألته إن كان لديه استعداد لقضاء بعض الوقت معي في البحث عنه، فأجابني قائلًا: «بالتأكيد.» والتقينا صباح يوم الاثنين في مكتبي فجلس وبدأ العمل … كنت معظم الوقت مكتفيًا بالجلوس أنظر إليه، وأحدث نفسي قائلًا: «انظر هذا الرجل. إنه مقبل على هاوية لا قرار لها، ولا يعلم إن كان سيعيش حتى نهاية الأسبوع أم لا، وها هو يعمل على حل تلك المشكلة التي لا قيمة حقيقية لها في نظرية المرونة ذات البعدين.» لكنه كان مستغرقًا في المشكلة، وظل عاكفًا على بحثها طيلة اليوم … وأخيرًا وفي الساعة السادسة مساءً، قرر أن المشكلة مستعصية على الحل … لذا استسلمنا وذهب كلٌّ منا إلى منزله … وبعدها بساعتين، اتصل بي هاتفيًّا في منزلي ليقول لي إنه تمكَّن من حل المشكلة. لم يتمكن من الكف عن بحث حل المسألة، وأخيرًا اكتشف حل تلك المشكلة شديدة الغموض … وكان جذلًا وكأنه يحلِّق في الفضاء … كان ذلك قبل موعد إجراء العملية الجراحية بأربعة أيام. وأعتقد أن هذه القصة تحكي القليل عما كان يحفزه على تحقيق كل ما أنجزه.
كان ذلك عام ١٩٨٢ على الأرجح. كنت في زيارة لفاينمان في منزله، وتطوَّر حديثنا إلى موقف مزعج كان قائمًا. كنت على وشك مغادرة المنزل، واستوقفني قائلًا: «أتعلم، أنا وأنت محظوظان للغاية؛ فمهما كان ما يحدث، فالفيزياء دائمًا تجمعنا.» … كان فاينمان يعشق الفيزياء. وأعتقد أن أكثر ما أحبه فيها هو العمليات الفيزيائية، والعمليات الحسابية، ومعرفة الحقائق … لم يكن يهتم كثيرًا بأن تكون النتائج التي يتوصل إليها عظيمة أو مهمة. أو غريبة أو شاذة. كان ما يعنيه حقًّا هو عملية التوصل إليها … فبعض العلماء (ولعلي من بينهم) يدفعهم طموح بناء صروح فكرية عظيمة. وأعتقد أن أكثر ما كان يحفز فاينمان — على الأقل خلال سنوات معرفتي به — هو ذلك السرور المحض المستمد من ممارسة العلم فعليًّا. لقد بدا كمن يفضل قضاء وقته في التعرف على الأشياء، وإجراء الحسابات. وكان فذًّا في إجراء الحسابات. بل لعله كان أفضل حاسب بشري على الإطلاق. دائمًا ما كنت أعتبر ذلك شيئًا لا يصدق. كان يبدأ في حل مسألة ما، فتجده يملأ صفحات تلو صفحات بالعمليات الحسابية. وفي نهايتها، يصل بالفعل للحل الصحيح! لكنه عادةً كان لا يقنع بهذا. فبمجرد توصله إلى الحل، يعود من جديد ويحاول معرفة سبب كونه صحيحًا.
عندما كان فاينمان يهتم بأمر ما، أو بشخص ما، تكون المسألة بهذا قد انتهت. كان تأثيره مغناطيسيًّا؛ إذ كان يركز كل طاقته، وكل تركيزه، وكل عبقريته فيما يبدو على ذلك الشيء أو الشخص. ولهذا السبب تأثَّر كثيرون عندما جاء فاينمان للاستماع لندواتهم العلمية وبقي بعد انتهائها كي يطرح بعض الأسئلة.
ولأن ردود فعل زملاء فاينمان تجاهه كانت بصفة عامة بالغة القوة، فقد كانت تعكس دائمًا شخصية فاينمان وكذلك شخصية زملائه. فعلى سبيل المثال، سألت ديفيد جروس وفرانك ويلكزيك، وهما شخصان مختلفان تمامًا اكتشفا «الحرية المتقاربة» في الديناميكا اللونية الكمية، عن طريقة تعامل فاينمان مع الديناميكا اللونية الكمية والنتائج التي توصلا إليها عام ١٩٧٣. فأخبرني ديفيد أنه شعر بالضيق لأن فاينمان لم يبد اهتمامًا كافيًا، ويعود ذلك بقدر كبير — حسبما شعر ديفيد — إلى أن فاينمان لم يكن هو من توصل للنتيجة بنفسه. وبعدها، عندما تحدثت مع فرانك في نفس الموضوع، أخبرني عن مدى شعوره بالفخر والدهشة معًا للاهتمام الذي أبداه فاينمان. وقال إن فاينمان كان متشككًا في الأمر، لكن في تلك السنوات المبكرة، ظن فرانك أن هذا كان هو رد الفعل المناسب. وأظن أن كليهما كان على صواب.
أما القصة الأكثر تأثيرًا وتعبيرًا عن شخصية ريتشارد فاينمان الذي عرفته من خلال تأليفي لهذا الكتاب، والمبادئ التي كانت توجه مسار حياته وتوجه طبيعة الفيزياء التي مارسها، فقد رواها لي صديق هو باري باريش، الذي كان من زملاء ريتشارد في كالتك خلال السنوات العشرين الأخيرة من حياته. كان باري وريتشارد يسكن أحدهما بالقرب من الآخر نسبيًّا، لذا كانا كثيرًا ما يرى أحدهما الآخر. ولما كانا يسكنان على بعد يقرب من ثلاثة أميال من الحرم الجامعي، فقد كانا يذهبان إليه سيرًا على الأقدام أحيانًا بدلًا من استخدام السيارة، وفي بعض الأحيان كانا يسيران معًا، وفي أحيان أخرى يذهب كل منهما بمفرده. وذات مرة سأل ريتشارد باري هل رأى منزلًا معينًا في شارع محدد وما رأيه فيه. ولم يتعرف باري على المنزل لأنه — مثل معظم الناس — عثر على طريق يفضل السير فيه وكان يسلك ذلك الطريق في الذهاب إلى العمل والإياب منه كل يوم. وحينها علم باري أن ريتشارد كان حريصًا على أن يفعل العكس تمامًا. لقد كان يحاول ألا يسلك المسار نفسه مرتين أبدًا.