مادة القلب وقلب المادة
ما أحاول القيام به هو أن أبث الحياة في الوضوح، الذي هو في الحقيقة شيء تصوري شبه مرئي لم يأخذ حقه من التفكير والتأمل.
لم يُلْقِ ريتشارد فاينمان سلاحه عام ١٩٤٩. كان قد أنجز شيئًا رائعًا، حتى هو نفسه لم يدرك مداه الكامل. في هذه الأثناء، واصلت الطبيعة التلميح بالإشارات. ومن منظور فاينمان، كان الاهتمام بالفيزياء يعني الفضول الشديد تجاه جميع جوانب العالم المادي، وليس بجبهة واحدة مثيرة فحسب. وتزامن إتمامه لعمله العظيم في الديناميكا الكهربائية الكمية أيضًا مع نقلة شخصية أشد صعوبة عليه، تمثلت في الانتقال من جامعته المحبوبة كورنيل إلى إثارة وسحر أجواء أكثر غرابة.
على الرغم من تمتُّع فاينمان بشخصية غير تقليدية في سلوكه وفي أسلوبه في التعامل مع الأعراف الاجتماعية، فقد ظل خلال السنوات التي أعقبت الحرب محليًّا بصورة غريبة. لقد ذكرت من قبل مسألة عدم اهتمامه في بداية حياته بالموسيقى الكلاسيكية والفنون عامةً. ومع أنه ربما بدا خبيرًا بشئون الحياة والناس، ويعود هذا بصورة كبيرة إلى ما اكتسبه من خبرات خلال سنوات الحرب وإلى تعاملاته مع زملائه الوافدين من بلدان أخرى، فإنه حتى بلوغه سن الحادية والثلاثين لم يكن قد غادر حدود الولايات المتحدة مطلقًا. إلا أن هذا سرعان ما تغيَّر.
كان عقل فاينمان دائم البحث عن المشكلات والتحديات الذهنية الجديدة. وقد زحف هذا الميل نحو حياته الشخصية أيضًا. قال لي ذات مرة: «على المرء أن يسعى نحو مغامرات جديدة ما أمكنه ذلك.»
أعتقد أن عقل فاينمان، بعد المجهود المكثَّف الذي بذله بين عامي ١٩٤٦ و١٩٥٠ في مغالبة الديناميكا الكهربائية الكمية، أراد الانتقال إلى مضمار آخر، ليس من حيث الموضوع فحسب وإنما من حيث الأسلوب أيضًا. ولما كان يعاني الاضطراب العاطفي والتعاسة، والتوق للمغامرة، أراد فاينمان الفرار من قيود إيثاكا الكئيبة ذات المناخ الشتوي، وربما من العديد من العلاقات الجنسية المتشابكة التي تورط فيها. أومأت إليه كاليفورنيا المشمسة تدعوه إليها، غير أن أمريكا الجنوبية بدت أكثر إغواءً.
مثل العديد من القرارات المهمة في حياته، اشتمل هذا القرار على قدر من موهبة اكتشاف الأشياء الطيبة بالصدفة. كان أحد زملائه القدامى في لوس ألاموس، وهو روبرت باشر، بصدد الانتقال إلى باسادينا لإعادة بناء برنامج للفيزياء كان خامدًا في كالتك، وعلى الفور قفز إلى ذهنه اسم فاينمان. وقد اتصل به في الوقت المناسب. ووافق الرجل الذي رفض من قبل عروضًا من برينستون، وجامعة شيكاجو، وبيركلي، ومجموعة متنوعة من المعاهد الأخرى، على زيارة باسادينا. وفي الوقت نفسه، كان خيال فاينمان يجنح إلى ما هو أبعد. كان قد قرَّرَ، لسبب ما، زيارة أمريكا الجنوبية، وبدأ بالفعل في تعلم اللغة الإسبانية عندما دعاه فيزيائي برازيلي زائر لزيارة البرازيل خلال صيف عام ١٩٤٩. قبل فاينمان الدعوة بسرعة، وحصل على جواز السفر، وتحول نحو تعلم البرتغالية.
ألقى فاينمان محاضرات في الفيزياء في المركز البرازيلي لأبحاث الفيزياء بريو دي جانيرو ثم عاد إلى إيثاكا في الخريف، وقد صار أكثر معرفة باللغة البرتغالية وبأساليب البرازيليين، بفضل إحدى جميلات شاطئ «كوباكابانا»، تسمى كلوتايلد، التي تمكَّن من إقناعها بمصاحبته إلى الولايات المتحدة فترة وجيزة. بعد ذلك أقنعه الشتاء في إيثاكا بضرورة مغادرتها، كما أن كالتك، علاوة على أن طقسها أفضل، كانت تتمتع بالجاذبية لعدم كونها جامعة فنون حرة مثل كورنيل، التي قال في شأنها: «لا يوازي حجم التوسع النظري الناتج عن وجود العديد من مواد الإنسانيات التي تدرس بالجامعة سوى البلاهة المتفشية فيمن يدرسون تلك الأشياء.» قبل فاينمان العرض المقدم من كالتك وتفاوض على اتفاق يمنحه أفضل ما في جميع العوالم المتاحة. أمكنه الحصول فورًا على إجازة لمدة عام والعودة مرة أخرى إلى محبوبته البرازيل، حيث يمكنه أن يظل على اتصال دائم بعلم الفيزياء في الوقت الذي يسبح فيه على شاطئ كوباكابانا ويمارس نزواته بالليل، مع حصوله على كافة مستحقاته من كالتك وبدعم من وزارة الخارجية الأمريكية.
كان اهتمامه الأول منصبًّا خلال تلك الفترة على الميزونات المكتشفة حديثًا، والتشوش الذي أحدثته في علم الفيزياء النووية. وكان يستخدم محطة إذاعة لاسلكية بسيطة إلى جانب الخطابات للاتصال بزملائه في الولايات المتحدة، ليطرح عليهم تساؤلاته أو يقدم لهم نصائحه. وقد وبَّخه فيرمي ذات مرة قائلًا: «كنت أتمنى لو أستطيع أنا أيضًا أن أجدِّد أفكاري بالسباحة على شاطئ كوباكابانا.»
غير أن فاينمان في الوقت نفسه تعامل بجدية مع رسالته التي آمن بها وهي المساعدة في تجديد شباب علم الفيزياء في البرازيل. وأخذ يقدم دورات تعليمية بالمركز البرازيلي لأبحاث الفيزياء، وانتقد مسئولي التعليم البرازيليين لأنهم يعلِّمون الطلاب حفظ الأسماء والمعادلات عن ظهر قلب ولا يعلمونهم كيف يفكرون فيما يفعلونه. وتذمَّر من أنهم يتعلَّمون كيف يشرحون معاني الكلمات بكلمات أخرى، لكنهم في الواقع لا يفهمون شيئًا وليس لديهم حس بالظواهر الفعلية التي يفترض أنهم يدرسونها. من منظور فاينمان، كان الفهم يعني أن يكون المرء قادرًا على تطبيق ما يعرفه على مواقف جديدة.
لكن على الرغم من ذكاء فاينمان الكبير، فإن عزلته في البرازيل حرمته من متابعة ما يحدث عند الجبهة الأمامية لذلك المضمار في تلك الفترة. لقد تمكَّن مستقلًّا من تكرار النتائج التي اشْتُقَّت بالفعل، غير أنه لم يدفع عجلة مجال فيزياء الجسيمات الناشئ للأمام. وبدلًا من ذلك، مَرَّ بمرحلة صحوة ثقافية، وحضر مهرجانًا جنسيًّا.
أولًا: الموسيقى. زعم فاينمان أنه كان أصم لا يميز بين النغمات، غير أنه ما من شك أنه وُلد يهوى الإيقاع. كان جميع المقربين منه يعلمون أنه كان دائم النقر بأصابعه وكأنه يدق الطبل أثناء العمل، على الورق، وفوق الجدران، وعلى أي شيء ملائم. وفي ريو، عثر على الموسيقى المثالية لنوازعه النفسية؛ السامبا، موسيقى ساخنة إيقاعية ومزيج بسيط يجمع بين التقاليد اللاتينية والأفريقية. التحق بمدرسة لتعليم السامبا وبدأ في العزف على الطبول ضمن فرق السامبا. بل إنه تقاضي أجرًا مقابل مجهوداته في بعض الأحيان! وكانت ذروة نشاطه أثناء الكرنفال السنوي، وهو مهرجان فسق يقام في الشوارع، وكان يمكنه فيه ممارسة الانحلال بإفراط، وهو ما فعله بالطبع. (بالمصادفة البحتة أكتب هذه الكلمات وأنا أحدق من نافذة فندق يطل على شاطئ كوباكابانا.)
من السهل أن نتفهَّم افتتان فاينمان بريو. فالمدينة جميلة بصورة تخلب الألباب، يحيط بها جبل رائع المنظر ومشهد المحيط، وهي مفعمة بالحيوية بمحافل الكاريوكا في ريو، وهم سكان محليُّون منشغلون بإقامة الحفلات الصاخبة والمشاحنات ولعب كرة القدم والمغازلة على الشاطئ. كانت جميع الأنشطة الإنسانية حاضرة في أغلب الأوقات. والمدينة رديئة السمعة، مبتذلة، جذابة، حادة، مخيفة، وبشوشة، ومسترخية في آن واحد. هناك كان فاينمان يفر من حصار المدينة الجامعية، حيث لا يمكن للمرء مطلقًا الابتعاد تمامًا عن الزملاء والطلبة. وعلاوة على هذا فإن البرازيليين يتمتعون بالدفء، والبشاشة، ويتقبَّلون الآخرين. وتمكَّن فاينمان من الامتزاج بهم. ولا بد أن حماسه الشديد، الذي لا يخبو أبدًا، قد لاقى صدى لدى جميع من حوله من علماء الفيزياء، وسكان الكاريوكا المحليين، والنساء بالطبع.
أقام فاينمان في فندق ميرامار بالاس المطل على شاطئ كوباكابانا، حيث انغمس في الملذات التي يستمتع بها من شرب الخمر (الذي أفرط فيه إلى حد أرعبه وجعله يقسم على أن يقلع عن الخمور نهائيًّا) والجنس. كان يلتقط النساء من الشاطئ ومن الأندية ومن حانة الفندق، التي كان قربها من أنشطة كوباكابانا، ولا يزال، داعيًا للإدمان. ظل لفترة متخصصًا في الساقيات اللواتي يقمن بالفندق، وحسبما أوضح مرارًا وتكرارًا على نحو شهير، فقد كان يستمتع بالنساء المحليات اللواتي كان يلتقيهن في الحانات. وقد أقنع واحدةً منهن ذات مرة ليس فقط بالنوم معه، وإنما بأن ترد له أيضًا قيمة ما اشتراه لها من طعام في الحانة.
ولكن كما يحدث غالبًا، فإن هذه الممارسات الجنسية مع نساء مجهولات — مع أنها أمر مسلٍّ — زادت وحسب من شعوره بالوحدة والعزلة، وربما لهذا السبب أقدم على تصرف سخيف بعيد عن شخصيته كل البعد. لقد طلب يد امرأة من إيثاكا كان يعرفها ويواعدها في خطاب أرسله إليها؛ امرأة شديدة الاختلاف عن الباقيات، وشديدة الاختلاف عنه هو نفسه، ولعله أقنع نفسه حينها بأنها تمثل المكمل المثالي له.
أدركت كثيرات من صديقاته السابقات أن المتعة المتبادلة التي اعتقدن أنهن يتقاسمنها مع فاينمان لم تكن متبادلة تمامًا. كان في استطاعة فاينمان أن يركز تركيزًا كاملًا على المرأة التي معه، بطريقة آسرة تمامًا. لكنه في الوقت نفسه، وعلى الرغم من شدة المشاركة البدنية التي كان يظهرها، فقد كان في حقيقة الأمر وحيدًا مع خواطره. تبعته ماري لويز بِل، التي لم تكن مدركة لهذا العيب، من إيثاكا إلى باسادينا. كانت شقراء يميل لون شعرها إلى الفضي تنزع إلى ارتداء الأحذية ذات الكعب العالي والثياب الضيقة، وظنت بطريقة ما أنها وجدت في فاينمان الأساس الذي يمكن أن تصنع منه الشكل النهائي الذي يروق لها، كانت تريد أن تصنع منه شخصًا ذا مظهر خارجي أكثر بريقًا ولديه تقدير أفضل للفنون، ولا يصاحب الكثير من علماء الفيزياء.
تزوجا عام ١٩٥٢. وقال البعض لاحقًا إن طلاقهما كان أمرًا حتميًّا، ولكن ليست هناك قواعد حقيقية يمكن للمرء من خلالها التوصل لتنبؤات صحيحة في شئون القلب، مثلما هو الحال في الفيزياء. إلا أن أحد البنود التي طُرحت أثناء إجراءات الطلاق كانت كاشفة. فقد قالت عن فاينمان إنه «يبدأ التفكير في حل المسائل الحسابية ما إن يستيقظ من نومه. لقد كان يجري حساباته أثناء قيادة السيارة، وأثناء جلوسه في غرفة المعيشة، وأثناء استلقائه في الفراش ليلًا.»
خلال السنوات الأولى التي عاشاها معًا، مع استقراره في باسادينا في أعقاب العام الجامح الذي أمضاه في البرازيل، ومع تحول جنته المنزلية شيئًا فشيئًا إلى جحيم خاص آخر، بدأ يساوره اعتقاد بأنه أخطأ، ليس فقط في اختيار شريكة حياته ولكن أيضًا في اختيار الموطن الذي يعيش فيه؛ حتى إنه كتب إلى هانز بيته يناقشه في أمر العودة إلى كورنيل. غير أن إغراء كالتك كان أكبر من إغراء ماري لويز، وبعد زواجهما بأربع سنوات، وفي عام ١٩٥٦، انفصل عن ماري لويز، لكنه ظل مقيمًا في باسادينا.
كانت جامعته الجديدة تنمو بسرعة لتصير منافسة لمدرسته الأم في الشرق، معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. كان معهد كالتك يبدو مناسبًا له تمامًا؛ بتميزه المتنامي في النواحي التجريبية والنظرية في ميادين متفاوتة من الفيزياء الفلكية إلى الكيمياء الحيوية وعلم الوراثة، بالإضافة إلى الميول العملية لكلية الهندسة. وقد كان كذلك بالفعل. وبالفعل ظل فيه طوال ما تبقَّى من حياته.
كان علم الفيزياء يمرُّ بفترة مضطربة في الوقت نفسه الذي واجه فيه فاينمان اضطرابات في حياته الشخصية. فالجسيمات الأولية المكتشفة حديثًا من ميزونات وما شابه كانت تتكاثر بجنون داخل معجلات الجسيمات المشيدة حديثًا. وكانت حديقة حيوان فيزياء الجسيمات الأولية مكتظة على نحو مربك؛ مكتظة جدًّا في الواقع إلى حد أنه لم يكن واضحًا أي من النقاط المضيئة الجديدة التي تظهر على شاشات أجهزة التسجيل وأي من المسارات الجديدة في غرف الفقاعات قد تمثل بالفعل جسيمات أولية جديدة وأيها يعبر فقط عن إعادة ترتيب لجسيمات موجودة بالفعل.
وعلى الرغم من أن فاينمان انشغل مبكرًا في دراسة نظرية الميزونات عندما كان يحاول أن يتقن فهمه للديناميكا الكهربائية الكمية، فقد كان أيضًا ذكيًّا وواقعيًّا بما يكفي لأن يعرف أن أساليبه الحديثة المعتمدة على المخططات ليست ملائمة لإنجاز المهمة. فلم يقتصر الأمر على أن الكثير من التجارب غير حاسمة فحسب، وإنما كانت التفاعلات بين الجسيمات شديدة القوة عمومًا بحيث بدا الجهد المنهجي في استخدام مخططات فاينمان لحساب تصويبات كمية صغيرة للعمليات التي تحدث جهدًا في غير محله. وقد كتب فاينمان إلى إنريكو فيرمي من البرازيل يقول: «لا تصدق أي عملية حسابية في نظرية الميزون تستخدم مخططات فاينمان!» وفي موضع آخر أشار إلى ميدان فيزياء الميزونات بقوله: «ربما لا توجد دلائل كافية متاحة للعقل البشري كي يتبيَّن النموذج القائم.»
أظن أنه، من وجهة نظره، لم يكن عالم الميزونات التجريبي مستعدًّا للتفسير بعد، وكانت لديه رغبة في طَرْق اتجاه فكري جديد، اتجاه ليس محكومًا كثيرًا بمحاولة حل التعقيدات الرياضية المتشابكة لعالم الكم بقدر ما يحاول مباشرة فهم وشرح نتائجها الفيزيائية. لقد أراد التفكير في شيء يمكنه أن يشعر به ويتعامل معه، لا شيء يعجز عن رؤيته إلا في عقله وحسب. لذا، بعد وقت قصير من وصوله إلى كالتك، تحوَّل فاينمان إلى مشكلة مختلفة تمامًا في مضمار آخر من علم الفيزياء. فقد شرع في استكشاف عالم الكم للأشياء شديدة البرودة، لا الأشياء بالغة الصغر.
كرَّس عالم الفيزياء الهولندي كامرلينج أونس، الذي أجرى أبحاثه أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، جهوده طيلة حياته المهنية كلها لفيزياء عالم البرودة القارسة، مبردًا الأنظمة لتقترب أكثر وأكثر من درجة الصفر المطلق، وهي درجة الحرارة التي عندها، من وجهة النظر التقليدية على الأقل، تتوقف جميع الحركات الداخلية للذرات. وأثناء قيامه بذلك، توصل لاكتشاف إعجازي عام ١٩١١، فعند درجة حرارة تبلغ ٤ درجات فوق درجة الصفر المطلق (وجدير بالذكر أنه وصل في النهاية إلى درجة حرارة أعلى من الصفر المطلق بأقل من درجة واحدة، وهي أبرد درجة حرارة أمكن تحقيقها يومًا على سطح الأرض حتى ذلك الحين)، شاهد عملية تحول مذهلة تحدث في الزئبق، حيث بدا فجأة أن التيارات الكهربية تسري دون مقاومة على الإطلاق!
كان العلماء قد تكهَّنوا من قبل بأن المقاومة الكهربية تقل عند درجات الحرارة المنخفضة جدًّا، بناءً على ملاحظة بسيطة هي أن مثل هذا الانخفاض للمقاومة يحدث أيضًا عند درجات حرارة أعلى. وكان كامرلينج نفسه قد تكهَّن بأن المقاومة تنخفض إلى الصفر عند درجة الصفر المطلق، وهي درجة حرارة لا يمكن الوصول إليها مباشرة في المعمل. غير أن النتيجة المذهلة التي توصل إليها هي أن المقاومة انخفضت فجأة إلى درجة صفر بالضبط عند درجة حرارة متناهية الصغر، لكنها ليست صفرًا. وفي حالة كهذه، فإن التيار الكهربي، بمجرد أن يبدأ، لا يتوقف أبدًا! وهكذا اكتشف أونس الظاهرة التي أطلق عليها اسم «الموصلية الفائقة».
الطريف أنه عندما فاز أونس بجائزة نوبل بعدها بعامين، لم يكن فوزه بها بسبب هذا الاكتشاف تحديدًا، وإنما بشكل عام عن «أبحاثه في خصائص المادة عند درجات الحرارة المنخفضة التي أدت — ضمن أشياء أخرى — إلى إنتاج الهيليوم السائل». فقد أظهرت لجنة نوبل بصيرة غير معتادة (كانت في الواقع من قبيل الصدفة) في سبب منح الجائزة؛ لأنه تبيَّن فيما بعد، لأسباب ما كان لأحد أن يفكر فيها في عام ١٩١٣، أن الهيليوم السائل نفسه له خصائص لا تقل إبهارًا عن تلك المرتبطة بموصلية الزئبق وغيره من المعادن عند درجات الحرارة المنخفضة جدًّا. ففي عام ١٩٣٨، اكتُشِف أن الهيليوم السائل، عند تبريده بقدر كافٍ، يسفر عن ظاهرة تعرف باسم «الميوعة الفائقة»، وهي ظاهرة تبدو أكثر غرابة من ظاهرة الموصلية الفائقة. ومرة أخرى، وعلى نحو لا يقل إبهارًا، من المرجح أن كامرلينج أونس بَرَّد الهيليوم السائل إلى درجات حرارة صار عندها فائق الميوعة، لكنه لم يعلق على تلك الظاهرة العجيبة.
في طوره فائق الميوعة، ينساب الهيليوم دون احتكاك من أي نوع. فإذا وضعته في وعاء، فستجده ينساب تلقائيًّا مكونًا غلالة رقيقة فوق حوافه. ومهما كان صغر حجم شق ما، فسوف ينساب من خلاله. وعلى عكس الموصلية الفائقة، حيث يكمن السحر مختبئًا وراء المقاومة وقياسات التيار الكهربي، فإن سحر الميوعة الفائقة يظهر أمام أعيننا بوضوح تام.
حتى وقت متأخر؛ مع بدايات الخمسينيات من القرن العشرين، لم تكن أي من هاتين الظاهرتين العجيبتين قد فُسِّرت بعدُ في ضوء النظرية الذرية المجهرية. وعلى حد قول فاينمان، كانتا أشبه «بمدينتين واقعتين تحت الحصار … فهما محاطتان تمامًا بالمعرفة إلا أنهما ظلتا معزولتين ومنيعتين». وفي الوقت نفسه، كان فاينمان مفتونًا بكل الظواهر الجديدة الخلابة التي كشفت عنها الطبيعة عند درجات الحرارة المنخفضة، وقال عن ذلك: «أتخيل أن علماء الفيزياء التجريبية لا بد أنهم كثيرًا ما ينظرون بعين الحسد إلى رجال من أمثال كامرلينج أونس، الذي اكتشف ميدانًا مثل ميدان درجات الحرارة المنخفضة، الذي يبدو عميقًا لا قرار له ويمكن للمرء أن يغوص فيه أكثر وأكثر.» كان فاينمان مفتونًا بكل تلك الظواهر، غير أنه صب اهتمامه في الأساس على ألغاز الهيليوم السائل، على الرغم من أنه ظل يناضل، دون أن ينجح في نهاية الأمر، للكشف عن أصل الموصلية الفائقة.
وعلى الرغم من أن هذا الميدان، الذي أصبح في النهاية يعرف باسم «فيزياء المادة الكثيفة»، كان ميدانًا صغيرًا، فإنه من الصعب مع ذلك أن نوفي القفزة الهائلة التي قرر فاينمان القيام بها حقها من التقدير. فعلى الرغم من أن مشكلات الموصلية الفائقة والميوعة الفائقة لم تكن قد حُلت بعد، فإن مجموعة العاملين في هذا المجال ضمت بعضًا من أفضل العقول في علم الفيزياء، وعكف هؤلاء العلماء على التفكير في تلك المشكلات فترة من الوقت.
غير أنه من الواضح أن فاينمان اعتقد أن الأمر بحاجة إلى منهج جديد، ومن بين كافة جهوده البحثية، ربما لم يوضح أي منها على نحو أفضل قدرة حدسه الفيزيائي المميز، مضافًا إليه براعته الفائقة في الرياضيات، على التحايل على العوائق القائمة التي تحول دون فهم الظواهر، بدلًا من محاولة هدمها. لقد حققت الصورة الفيزيائية التي اشتقها في نهاية المطاف جميع أهدافه الرامية إلى فهم الميوعة الفائقة، وهي تبدو في غاية البساطة الآن بعد أن انجلت الحقائق، ومن فرط بساطتها يتعجَّب المرء كيف لم يفكر فيها أحد من قبل. غير أن هذه كانت إحدى سمات أعمال فاينمان. فقبل أعماله يبدو كل شيء غامضًا وسط ضباب كثيف، ولكن بعد أن ينير لنا الطريق، يبدو كل شيء واضحًا للغاية حتى إنه ليبدو من البديهيات.
بجانب افتتانه العام بالظواهر المثيرة في عالم الفيزياء، يمكن أن يتساءل المرء عن ماهية مشكلات الهيليوم السائل بصفة خاصة، وتطبيق ميكانيكا الكم على خصائص المادة بصفة عامة، التي جعلت فاينمان يحول اهتمامه نحو هذا المجال بالتحديد. أظن أنه، مرة أخرى، ربما كان الحافز نابعًا من جهوده الأولى في فهم خصائص الجسيمات الأولية المتفاعلة معًا بشدة التي اكتشفت حديثًا؛ أي الميزونات. ففي الوقت الذي أدرك فيه أنه من غير المحتمل أن تساعد مخططات فاينمان في حل الموقف التجريبي شديد الإرباك المرتبط بالعدد الذي لا يحصى من الجسيمات المتفاعلة بشدة التي تظهر من جراء تشغيل المعجلات، فإنه مع ذلك كان مهتمًّا بالطرق الفيزيائية الأخرى التي يمكن للمرء بواسطتها أن يفهم على نحو قابل للقياس كميًّا العمليات الفيزيائية ذات الصلة التي تحكم النظم الأخرى المتفاعلة معًا بقوة.
واجهته خصائص الإلكترونات والذرات في المواد الكثيفة بمشكلة مشابهة تمامًا لتلك، لكنها مشكلة كان الموقف التجريبي فيها أكثر وضوحًا بكثير، وكان المشهد النظري في ذلك الحين أقل ازدحامًا بكثير. والحقيقة أنه قبل أن يبدأ فاينمان في معالجة المشكلة لم يكن أحد قبله قد حاول الاستعانة بميكانيكا الكم على المستوى المجهري بهدف الاشتقاق المباشر للخصائص العامة لعملية تحول الهيليوم السائل من حالته الطبيعية إلى حالة الميوعة الفائقة.
كان من الواضح منذ وقت مبكر أن ميكانيكا الكم تلعب دورًا رئيسيًّا في الميوعة الفائقة. ففي الأساس، كانت النظم الوحيدة المعروفة في الطبيعة التي تسلك سلوكًا مشابهًا، وبدون تشتيت للطاقة أو فقد لها، هي الذرات. ووفقًا لقوانين الكهرومغناطيسية التقليدية، فإن الإلكترونات التي تدور في أفلاك دائرية حول البروتونات لا بد أن تفقد طاقة عن طريق الإشعاع، بحيث تسقط الإلكترونات سريعًا نحو النواة. غير أن نيلز بور افترض، ثم بيَّن إرفين شرودينجر في نهاية الأمر بمعادلة الموجة التي وضعها، أن الإلكترونات يمكن أن توجد في مستويات طاقة مستقرة حيث تظل خصائصها ثابتة مع مرور الزمن، دون تشتيت لطاقتها.
إن كان هذا جائزًا لإلكترون أو ذرة وحيدة، فهل يمكن لمنظومة كبيرة كاملة مثل كمية مرئية من الهيليوم السائل أن توجد في حالة كمومية واحدة؟ وهنا كانت تكمن إشارة أخرى على أهمية ميكانيكا الكم. فعلى نحو كلاسيكي، يُعرف الصفر المطلق بأنه درجة الحرارة التي تتوقف عندها كل أنواع الحركة. فلا توجد طاقة حرارية لكي تتذبذب الذرات أو يدفع بعضها بعضًا، كما هو الحال في الغاز أو السائل العاديين، أو حتى المادة الصلبة. وعلاوة على ذلك، حتى مع افتراض أن ذرات الهيليوم المستقلة كان لديها شيء من الجاذبية القليلة المتبقية فيما بينها، وهو أمر مطلوب حتى لا ينفرط عقد المادة السائلة وتتحول إلى غاز تستقل فيه كل ذرة بنفسها، فإن معنى هذا أنه عند الصفر المطلق، أو بالقرب منه، فمن المفترض للهيليوم السائل بدلًا من ذلك أن يتجمَّد ليتحول إلى مادة صلبة جامدة، حيث تتماسك الذرات في مواضعها بواسطة الجاذبية المتبادلة وغياب أي طاقة حرارية تحركها في الأنحاء.
إلا أن هذا ليس هو ما يحدث. فمهما خفضت درجة الحرارة حتى إلى ما هو أقل من درجة واحدة فوق الصفر المطلق، مثلما بيَّن أونس، فإن الهيليوم لا يتجمَّد. ومرة أخرى، السبب في هذا هو ميكانيكا الكم. فحتى حالة أقل طاقة في أي منظومة كمومية لها دائمًا طاقة قيمتها غير صفرية، مرتبطة بالتذبذبات الكمومية. وهكذا فإنه حتى عند الصفر المطلق، تظل ذرات الهيليوم في حالة حركة اهتزازية. إن الهيليوم خفيف الوزن للغاية وفي الوقت نفسه فإن التجاذب بين ذرات الهيليوم ضعيف بما يكفي بحيث تكون طاقة أدنى حالة كمومية للذرات كافية لجعلها تتغلب على هذا التجاذب وتتحرك بحرية في صورة سائلة، بدلًا من أن تتجمد مكوِّنة شبكة من الذرات مثل المواد الصلبة. وكان من شأن ذرات الهيدروجين، وهي أخف وزنًا من الهيليوم، أن تصنع نفس الظاهرة، لولا أن ذرات الهيدروجين ينجذب بعضها إلى بعض بقوة أكبر بكثير، وبذلك فإن طاقة الحالة القاعية عند درجات الحرارة المنخفضة لا تكون كافية لتحطيم الروابط التي تكوِّن المادة الصلبة، ولذا فإن الهيدروجين يتجمَّد.
الهيليوم إذن فريد في صفة البقاء في حالة سائلة عند درجات الحرارة المنخفضة، ومصدر هذا التفرد هو ميكانيكا الكم في الأساس. وهكذا فمن المنطقي أن ميكانيكا الكم تتحكَّم أيضًا في عملية تحول الهيليوم من حالة السائل العادي إلى حالة الميوعة الفائقة عند حوالي درجتين فوق الصفر المطلق.
في وقت مبكر، عام ١٩٣٨، كان عالم الفيزياء فريتز لندن قد اقترح أن التحول إلى الميوعة الفائقة ربما يكون مثالًا مكبَّرًا على ظاهرة تنبَّأ بها كل من أينشتاين وعالم الفيزياء الهندي ساتيندرا بوز في غاز مثالي من البوزونات؛ بمعنى، جسيمات ذات قيم صحيحة للدوران المغزلي. وعلى عكس الفيرميونات، التي — كما أوضحت سابقًا — تخضع لمبدأ باولي للاستبعاد، ولا يمكن أن تحتل نفس الحالة في نفس الزمان والمكان، فإن البوزونات تسلك سلوكًا معاكسًا تمامًا. وكما تنبَّأ بوز وأينشتاين، فإن غازًا من البوزونات يمكنه — عند درجة حرارة منخفضة بشكل كافٍ — أن «يتكثَّف» ليصبح في حالة كم وحيدة مكبرة، حيث تكون جميع الجسيمات في نفس حالة الكم بالضبط، وعندئذٍ يسلك الشكل المكبر سلوك جسم ميكانيكي كمي لا سلوك جسم عادي. (ففي حالة الجسم العادي يكون لكل جسيم نطاقات احتمالات غير مرتبطة على الإطلاق بالجسيمات المجاورة له. ونتيجة لذلك، فإن أي تداخل كمي غريب بين الجسيمات، يحدث بسبب عمليات الإلغاء الدقيقة لنطاقات الاحتمالات المختلفة، ويتسبب في العديد من الجوانب الغريبة لعالم الكم، يختفي تمامًا.)
غير أن المشكلة هي أن «تكثف بوز-أينشتاين»، كما يطلق عليه، يحدث للغاز المثالي، وهو غاز لا تتفاعل فيه الجسيمات بعضها مع بعض. ولكن ذرات الهيليوم تتمتع بقوى تجاذب ضعيفة وهي بعيدة بعضها عن بعض، وقوى تنافر قوية عندما يقترب بعضها من بعض بشدة. فهل يحتمل أن منظومة كهذه تظلُّ محتفظة بتحول أشبه بتكثف بوز-أينشتاين؟ كانت تلك واحدة من المشكلات التي جذبت انتباه فاينمان.
لم يكتف فاينمان بالاهتمام وحسب وإنما ابتكر أيضًا الأداة التي أتاحت له التوصل إلى فهم حدسي للتأثيرات الميكانيكية. كان أسلوبه في إعادة صياغة ميكانيكا الكم في صورة حاصل جمع المسارات، حيث يوزن كل مسار بواسطة فعله، يوفر — حسب اعتقاده — إطارًا مثاليًّا لتصوير الظواهر المجهرية التي تحكم الهيليوم السائل عند درجات الحرارة المنخفضة.
ومع شروع فاينمان في التفكير في حاصل جمع المسارات لكل جسيم في السائل الكمي، كان هناك عاملان أساسيان يوجهان عمله؛ أولًا: لما كانت ذرات الهيليوم بوزونات، فإن النطاق الميكانيكي الكمي الذي يصف وضعها لا يتوقف على موضع كل بوزون؛ فهو يظل دون تغيير إذا تبادلت ذرتان من الهيليوم موقعيهما. ويعني هذا أن المسارات المهيمنة على تكامل المسار (أي تلك التي لها أقل فعل ممكن) الذي تعود فيه الجسيمات المنفردة إلى موقعها نفسه، ينبغي أن تعامل باعتبارها مطابقة للمسارات التي عندها تتشابه المواقع النهائية لجميع الجسيمات مع الوضع الأصلي، باستثناء أن بعض الجسيمات تبادلت مواضعها معًا. ظاهريًّا، قد تبدو لنا هذه تفصيلة رياضية دقيقة غير ذات صلة بالمسألة، لكن يتبين لنا بعد ذلك تأثيرها العميق على الفيزياء.
وركَّز العامل الثاني على الفعل المرتبط بحركة أي ذرة منفردة من ذرات الهيليوم في خلفية جميع جاراتها الأخريات. لعلك تتذكر أن الحركة التقليدية المرتبطة بأي مسار تتضمن حساب حاصل جمع الفروق بين طاقة الحركة وطاقة الوضع عند جميع النقاط على المسار. وفكر فاينمان أنه أثناء حركة أي من ذرات الهيليوم عبر المسار بسرعة ما، فإن هذه الذرة يمكنها الوصول إلى أي نقطة أخرى دون أن تقترب من ذرة هيليوم أخرى بحيث تتعرض لطاقة تنافر كامنة كبيرة (وهو ما من شأنه أن يزيد من مقدار فعل المسار)، ما دامت ذرات الهيليوم المجاورة قد أعادت ترتيب نفسها ببساطة لإفساح مكان لذرة الهيليوم أثناء حركتها من مكان لآخر. فإذا كانت الذرة تتحرك ببطء، فسيكون على الذرات المجاورة أن تتحرك ببطء كي تفسح لها الطريق. وأثناء عملية إفساح الطريق، سوف تكتسب ذرات الهيليوم تلك طاقة حركية تسهم في الفعل، غير أن طاقتها الحركية سوف تكون متوقفة على سرعتها، ومن ثم تكون متوقفة على الطاقة الحركية لذرة الهيليوم الأولى.
كانت المحصِّلة النهائية المترتبة على كل هذا، كما زعم فاينمان، هي ببساطة أن نغير ما كنا في الأحوال العادية نظن أنه كتلة ذرة الهيليوم المعنية. وهذا لأن الذرة عندما تحركت، كان لا بد لأكثر من ذرة أخرى أن تتحرك أيضًا لإفساح الطريق لها كي تقلل الفعل إلى أقصى حد ممكن. وكل ما عدا ذلك يبقى كما هو.
نتيجة لذلك، أوضح فاينمان أن المسارات الأكثر إسهامًا في حاصل جمع المسارات — أي المسارات صاحبة أقل فعل ممكن — سوف تكون تلك المسارات التي يتحرك فيها كل جسيم متصرفًا وكأنه جسيم حر، ولكن مع زيادة طفيفة في كتلته. ويمكن تفسير التفاعل الذري التنافري القوي في أحوال أخرى، الذي يحدث عند تقارب المسافات، بواسطة هذا التأثير ومن ثم تجاهله. ولكن إذا كانت الجسيمات تتصرف وكأنها جسيمات حرة، فإن صورة الغاز المثالي التي طرحها بوز وأينشتاين تكون صورة صحيحة إذن، ويصير تحول بوز-أينشتاين ممكنًا بالفعل!
من الواضح أن تمكن فاينمان من توضيح أن الجسيمات المتفاعلة معًا بقوة يمكنها مع ذلك أن تتصرف — من وجهة نظر حساب سلوكها الميكانيكي الكمي — كما لو كانت جسيمات حرة، مثل له أهمية تتجاوز مسألة الهيليوم السائل. وقد قال عن هذا في بحثه الأول حول هذا الموضوع: «من الجائز أن يكون لهذا المبدأ استخدامات في فروع أخرى من علم الفيزياء، مثل الفيزياء النووية. وهنا توجد حقيقة مدهشة هي أن النوكليونات المنفردة غالبًا ما تسلك سلوك جسيمات مستقلة على الرغم من وجود تفاعلات قوية فيما بينها. ويمكن أن تنطبق الحجج التي ذكرناها في حالة الهيليوم على هذه الحالة أيضًا.» كان من الواضح أن فاينمان متأثر بشدة بهذه الظاهرة. وسوف نرى مرارًا وتكرارًا بعد ذلك كيف كانت أبحاثه على مدار العشرين عامًا التالية أو نحوها ترتبط بهذا الموقف تحديدًا، حيث الأجسام التي تتفاعل بقوة بعضها مع بعض يمكن أن تتصرف في الوقت نفسه وكأنها لا تفعل ذلك.
تجاوز اهتمام فاينمان النوكليونات (أي البروتونات والنيوترونات) وحدها. ومرة أخرى، كان مهتمًّا بمحاولة فهم الميزونات الجديدة المتفاعلة معًا بقوة، التي بدت مخططات فاينمان غير كافية لشرحها. ولو أنه استطاع الاستعانة بحدسه الفيزيائي — مدعومًا بالثروة التي يمتلكها من المعلومات التجريبية حول الهيليوم السائل — في اختبار وسائل جديدة لفهم النظم المتفاعلة بقوة، فلربما أمكنه إذن استخدام تلك الوسائل في دراسة الميزونات. ولقد ذكر شيئًا بهذا المعنى تقريبًا في بحثه التالي الذي كتبه عام ١٩٥٤. لم يكن هذا البحث معنيًّا بالهيليوم تحديدًا، وإنما استكشف فيه حركة الإلكترونات البطيئة في المواد التي تصير مستقطبة في وجودها، الذي استخدم فيه مرة أخرى النهج الزمكاني وأسلوب تكامل المسار لفك طلاسم العمليات الفيزيائية. ومرة أخرى حسب تعبيره: «بعيدًا عن الأهمية الجوهرية لتلك المشكلة، سنجد أنها نظير مبسط للغاية للمشكلات التي تحدث في نظرية الميزون التقليدية عندما تكون نظرية الاضطراب غير كافية لحلها.» وفي ورقة بحثية أخرى كتبها بعد ما يقرب من عشر سنوات كتب: «إنها مثيرة كظاهرة في المواد الصلبة، غير أن لها أهمية أوسع لأنها واحدة من أبسط الأمثلة على التفاعل بين أحد الجسيمات ومجال ما. وهي مشابهة من أوجه عديدة لمشكلة النوكليون المتفاعل مع مجال الميزون … وإن جانب الاقتران الشديد للمشكلة هو الذي أثار قدرًا عظيمًا من الاهتمام.»
من الواضح أنه على الرغم من أن فاينمان وجد متعة بالغة في توحيد علم الفيزياء — بمعنى إمكانية استخدام فهم معين للظواهر التي تقع في أحد ميادين عالم الفيزياء في فهم ظواهر أخرى تقع في ميدان آخر بعيد عنه تمامًا — فإن إشاراته المتكررة على امتداد تلك السنوات إلى الميزونات والنوكليونات توحي بأنه كان دائمًا ما ينجذب إلى ألغاز عالم ما دون الذرة الآخذ في الازدهار المتمثل في الجسيمات الأولية وتفاعلاتها الجديدة العجيبة. وسرعان ما سيعود إلى ذلك العالم، لكنه لم يكن قد حل بعد المشكلة التي وضعها نصب عينيه بشكل كامل — وهي بالتحديد مشكلة تفسير الميوعة الفائقة، التي ربما أمكنه أن يصل من خلالها إلى الجائزة الكبرى المتمثلة في الموصلية الفائقة — ولم يكن من طبعه ترك مسألة بدأ في حلها إلا بعد أن يصل إلى الحلول التي أرادها. وبهذا، سيسهم في تغيير الطريقة التي نفهم بها السلوك الكمي للمواد.