صنوف من الإلهاءات ومباهج الحياة
الجائزة الحقيقية هي متعة المعرفة.
أخيرًا تمكَّن فاينمان من كتابة فكرة عبقرية في الوقت المناسب وكان راضيًا — على نحو غير صحيح كما تبيَّن فيما بعد — لأنه أخيرًا كان أول من يكشف للعالم عن قانون جديد للطبيعة. صار في استطاعته الآن أن ينعم ببهجة تقاسُم الشهرة مع جيلمان وأن يكون محطَّ أنظار عالم الفيزياء.
بوجود جيلمان وفاينمان معًا في كالتك، صار ذلك هو المكان الذي يتجه إليه الفيزيائيون لتلقِّي العلم، وللتعاون، أو ببساطة لطرح أفكارهم على العبقرية التي اجتمعت في أعظم عقلين فيزيائيين ظهرا في جيلهما. وكان يتعاقب شباب علماء الفيزياء النظرية الواعدون للدراسة هناك ومن ثمَّ ينتقلون للبحث عن عوالم جديدة تمامًا. فاينمان ذاته لم يتخرَّج على يديه أي طالب تقريبًا، غير أن جاذبية فاينمان وجيلمان مجتمعَيْن كانت كافية لاجتذاب كل من الطلاب والباحثين الحاصلين على الدكتوراه إلى المعهد، الذين كُلِّلَ العديد منهم بعد ذلك بجوائز نوبل.
بعضهم انتابه الذهول من الاهتمام الذي لقيه هناك. قدم باري باريش، وكان حينها شابًّا من العلماء التجريبيين لا يزال في بداية طريقه قادمًا من بيركلي ثم صار بعدها زميلًا لفاينمان في كالتك، حلقة دراسية هناك وانبهر لرؤية فاينمان بين الحضور ثم بملاحقته له بالأسئلة. وحكى لي باريش مؤخرًا عن شعوره بالرضا عن ذاته وبأهميته في تلك اللحظة. بمعنى أنه كان يظن نفسه مميزًا إلى أن أخبره الآخرون بأن فاينمان حضر جميع ندواتهم وكان يطرح الكثير من الأسئلة دائمًا؛ فلم يكن هناك شيء مميز في زيارته تلك لباريش.
في الوقت نفسه كان المكان يبدو مخيفًا أحيانًا. فقد كان جيلمان قاسيًا في نقده، وعادة ما كان يوجه هذا النقد في جلسات خاصة. وفي الأحيان النادرة التي لم ير فيها فاينمان قيمة كبيرة لعمل شخص ما، كان يزدريه صراحةً وربما يفعل ما هو أسوأ. ولم يكن ما يغضبه يبدو واضحًا دائمًا. من المؤكد أنه لم يكن يطيق صبرًا على الهراء، لكن من الواضح أيضًا أن رد فعله كان سلبيًّا تجاه مناهج صحيحة بل ربما كانت تنم عن عبقرية، غير أنها كانت تعكس نمطًا لا يروق له. ومن الأمثلة على ذلك استقباله لأحد شباب علماء الفيزياء النظرية، وهو ستيفن واينبرج، عندما ذهب إلى كالتك لتقديم ندوة علمية حول أفكاره. كان واينبرج، الذي صار فيما بعد واحدًا من أكثر علماء الفيزياء في العالم تمتعًا بالاحترام والتقدير (وتقاسم فيما بعد جائزة نوبل مع آخرَين لتوصُّله لنظرية مكتملة حول التفاعل الضعيف، موحدًا إياه مع الكهرومغناطيسية)، يسعى للتوصل إلى حلول تفصيلية رسمية، متجهًا ببحثه من العام إلى الخاص؛ عكس اتجاه عمل فاينمان في الغالب. وجَّه فاينمان وجيلمان لهذا الفيزيائي الذي كان من الواضح أنه يحمل قيمة علمية فذة سيلًا من الأسئلة القاسية حتى إنه لم يستطع إنهاء حديثه تقريبًا.
كان غضب فاينمان في الغالب مقصورًا على أولئك الذين كان يشعر أنهم يسيئون استغلال الفيزياء بطرحهم مزاعم لا تقوم على أساس، وعادةً ما تكون مبنيَّة على أدلة غير كافية. فمن وجهة نظر فاينمان، كانت الفيزياء تأتي في المقام الأول، ولم يكن يهتمُّ بالأشخاص. ولعل أشهر مثال أعرفه أنا شخصيًّا على هذا واقعة جمعته وفريد راينز، الذي فاز بعد ذلك بجائزة نوبل عام ١٩٩٥ عن تجربة أجراها عام ١٩٥٦ وأثبتت لأول مرة وجود النيوترينوات. استمر راينز في أبحاثه حول النيوترينوات الآتية من المفاعلات النووية، وبعدها بزمن طويل في عام ١٩٧٥ زعم أنه يمتلك الدليل على أن النيوترينوات، التي لها أنواع عديدة، تتذبذب من نوع إلى آخر أثناء خروجها من المفاعل. ولو كان هذا صحيحًا، فإن النتيجة سوف تكون بالغة التأثير (وتبيَّن بالفعل أن النيوترينوات تتذبذب، ولكن ليس بالطريقة التي افترضها راينز). فحص فاينمان البيانات وشرح أن التأثير المزعوم ليس قائمًا على أساس مؤكد وواجه راينز علنًا بنتائجه، وفي نهاية المطاف أجهض الزعم الخاطئ. ولعل هذا الموقف المحرج هو ما أدى إلى تأخير حصول راينز على جائزة نوبل لفترة تقترب من أربعين عامًا منذ اكتشافه الأول.
على أي حال، في عام ١٩٥٧، أزاح عمل فاينمان مع جيلمان في موضوع التفاعل الضعيف عن كاهل الأول عبئًا ثقيلًا حمله معه على مر السنين مع مواصلة تألُّقه وشهرته في مجتمع الفيزياء حتى بعد أن ظل على المستوى الشخصي متشككًا في أهمية عمله في مجال الديناميكا الكهربائية الكمية. ومع أنه لم يفقد أبدًا اهتمامه بفيزياء الجسيمات، فإنه بدا أكثر حرية في التجوال في ميادين أخرى وتجربة مواهبه فيها.
في الوقت نفسه، كان عقله في حالة تجوال أيضًا في ميادين أخرى. كانت علاقاته الشخصية تعود للفوضى من جديد. في عام ١٩٥٨، حين كان في جنيف لتقديم استعراض عام لفيزياء التفاعل الضعيف في واحد من أوائل مؤتمرات روتشيستر التي تعقد بالخارج، كان قد خطط للسفر بصحبة زوجة واحد من معاونيه في البحوث بكالتك، التي كان فيما يبدو على علاقة غرامية بها. وكان هذا يحدث على الرغم من اقتراب علاقة أخرى من نهاية قاسية، وكانت مع امرأة متزوجة أيضًا، وكان زوج تلك المرأة يستعد لمقاضاتها طالبًا الحصول على تعويض. وفي نهاية المطاف خبا كل هذا الصخب، وأخيرًا أعادت العشيقة المهجورة لفاينمان ميدالية ذهبية نالها كجزء من جائزة أينشتاين عام ١٩٥٤ وبعض اللوحات التي رسمتها آرلين.
في جنيف، وجد فاينمان نفسه وحيدًا، إذ إن عشيقته قررت تجنب سويسرا والالتقاء به لاحقًا في إنجلترا. وعلى الشاطئ التقى بشابة إنجليزية تبلغ من العمر أربعة وعشرين عامًا، اسمها جوينيث هاوارث، كانت تجوب العالم وفق نظام التبادل الطلابي، وفي ذلك الوقت كانت على علاقة مع ما لا يقل عن صديقين آخرين غيره، وبهذا كانا متعادلين في هذا المضمار. ليس من المستغرب أنه اصطحبها إلى أحد النوادي الليلية في تلك الليلة، لكن الغريب حقًّا، أنه قبل أن يغادر جنيف دعاها للالتحاق بالعمل لديه مدبرة منزل في الولايات المتحدة، وعرض عليها معاونتها في كافة إجراءات الهجرة المطلوبة. (ولم يعرف إن كان استمر في الالتقاء بعشيقته الأخرى في لندن أم لا.) حدثت بالطبع تأجيلات لا مفر منها، وبينما استمر فاينمان في التعامل مع عواقب علاقته بعشيقته المهجورة الأخرى، التي فكر في الزواج منها فعلًا، دخلت جوينيث في عدة علاقات عاطفية وظلت متأرجحة في قرارها بين المجيء وعدمه. وهكذا، وعلى الرغم من أنه كان من الواضح أن شرارة الحب اشتعلت بينهما، فمن الصعب أن نعلم على وجه الدقة ما كان يدور في ذهن فاينمان، أو جوينيث من كل هذا.
علم فاينمان أنه في ظل الظروف السائدة قد يبدو من غير الملائم على أفضل تقدير، أو من غير القانوني على أسوأ تقدير، لرجل في الأربعين من عمره أن يساعد على أن تنتقل هذه المرأة التي لا يتجاوز عمرها أربعة وعشرين عامًا كي تعيش معه تحت سقف واحد، وهكذا تطوع زميل له، وهو فيزيائي مرح يعشق حياة الانطلاق من العلماء التجريبيين واسمه ماثيو ساندز، بترتيب الإجراءات وجعل المستندات باسمه هو. وأخيرًا، وبعد أن مرت فترة جاوزت العام من التأجيلات، وصلت جوينيث إلى باسادينا في صيف عام ١٩٥٩، وساعدت على تحويل المنزل الذي كان مظهره ينبئ بوضوح عن أن ساكنه عزب وحيد إلى ما يمكن أن يطلق عليه اسم منزل. ومع أنها كانت تواعد رجالًا آخرين — وإن كان يصعب الجزم إن كان هذا مجرد ادعاء أم لا — فإن هذا السلوك تراجع أيضًا، وصارت تصاحب فاينمان في نهاية الأمر في المناسبات الاجتماعية، وكثيرًا ما كانا يغادران الحفل كل بمفرده للمحافظة على المظاهر. وبعد ما يربو على عام بقليل من وصولها، عرض فاينمان عليها الزواج.
كانت تلك القصة تصلح لأحد أفلام الدرجة الثانية، لا الحياة الواقعية، وكانت جميع الأسباب متوافرة لتنبئ بأن سلوك فاينمان المتهور سوف يفضي — مثلما حدث في العديد والعديد من مغامراته العاطفية السابقة — إلى كارثة. غير أن هذا لم يحدث. فبعدها بعامين صار لديهما ابن، يدعى كارل، وكلب. وانتقلت أم ريتشارد للسكن بالقرب منهما، واشترى هو منزلًا قريبًا من منزل زميله ومعاونه جيلمان وعروسه البريطانية الجديدة. وصار فاينمان رب أسرة. وتبنى مع جوينيث فيما بعد طفلة أخرى، وهي ابنتهما ميشيل، وظلا يعيشان حياة زوجية سعيدة حتى وفاته.
أخيرًا عرفت حياة فاينمان الشخصية طريق الاستقرار — وعلى أي حال كان من المستحيل أن تصل إلى درجة من عدم الاستقرار تفوق ما وصلت إليه بالفعل — غير أن ذهنه ظل يعمل دون كلل أو ملل. فكَّر في الانتقال إلى ميدان علمي آخر فتلهَّى قليلًا بعلم الوراثة، وكان مشجعه في ذلك صديقه، عالم الفيزياء الذي تحول إلى عالم أحياء والذي فاز بعد ذلك بجائزة نوبل، ماكس ديلبروك. غير أن هذا الأمر لم يستمرَّ طويلًا.
واصل فاينمان العمل مع جيلمان في موضوع التفاعل الضعيف وواصل إزعاجه في الندوات (إلا أن المناوشات ربما صارت محددة أكثر مع مرور الوقت)، غير أنه لم يبدُ مستريحًا في هذا العمل. كانت لدى الاثنين فكرة وهي أنه ربما كان هناك نوعان مختلفان من النيوترينوات وبهذا يمكن تفسير النتائج التجريبية المحيِّرة، غير أن فاينمان فقد اهتمامه بها ورفض كتابة الفكرة. ولاحقًا فاز ليون ليدرمان، وميلفن شفارتز، وجاك شتاينبرجر بجائزة نوبل بعد أن تمكَّنوا من إثبات هذه الحقيقة من خلال التجارب. وفي بحث آخر، بالاشتراك مع جيلمان وعدة زملاء آخرين، وافق فاينمان على التعاون، وبعدها وعقب إرسال نسخة مسودة الطباعة، توسَّل إليهم — وقُبل توسله — أن يحذفوا اسمه قبل النشر.
في عام ١٩٦١، سنحت لفاينمان فرصة غير عادية فتحت طاقته الإبداعية بأسلوب جديد تمامًا وساعدت على وضعه في مرتبة جديدة في مجتمع الفيزياء وغيره من المجتمعات. لم تكن تلك الفرصة مرتبطة باكتشاف قانون جديد للطبيعة، وإنما باكتشاف طرق جديدة لتدريس الفيزياء.
كان الطلاب الجامعيون في كالتك مطالَبِين باجتياز عامين من مناهج التعريف بعلم الفيزياء، ومثل معظم المناهج من هذا النوع كانت تلك تمثل إحباطًا لهم، لا سيما لألمع الطلاب وأكثرهم ذكاءً الذين كان علم الفيزياء مشوقًا لهم خلال دراستهم له في المدرسة الثانوية، وكانوا يرغبون في تحصيل المعرفة عن نظرية النسبية والعجائب الحديثة، ولم يكونوا راغبين في العودة لتكرار استذكار دروس الكرات التي تتدحرج فوق الأسطح المائلة. وبتحفيز من ماثيو ساندز، الذي كان يناقش الفكرة مع فاينمان لبعض الوقت، قرَّر قسم الفيزياء — وفي نهاية المطاف، رئيس القسم، روبرت باشر، وهو نفسه الذي فرض عملية الاقتران القسري بين فاينمان وجيلمان — إعادة صياغة المنهج التعليمي. ومن جديد، واستجابة لاقتراح من ساندز، اتُّفق على أن يعهد إلى فاينمان بفصل دراسي تمهيدي يُدرِّسه طيلة فترة المنهج الافتتاحي بأكمله. وعلى الرغم من أن فاينمان لم يكن يحظى بسمعة كبيرة في مجال التدريس للطلبة، فإن التقارير التي صدرت عنه من حيث قدراته التدريسية في كورنيل كانت طيبة للغاية، وكان يحظى بشهرة كبيرة في المجتمع باعتباره عارضًا موهوبًا وفريدًا من نوعه للأفكار عندما يركِّز في هذا الأمر. كان نشاطه الملحوظ، وأسلوبه الارتجالي، وحدسه الفيزيائي الرفيع، ولكنة أهل لونج أيلاند التي ينطق بها، وعبقريته الفطرية، كل هذا منحه هالة من الجاذبية تشع كلما وقف على أي منصة.
قبل فاينمان التحدي وزاد عليه. كان فيما مضى قد كرَّس حياته كلها بلا هوادة لإعادة بناء صرح قانون الفيزياء بأكمله داخل ذهنه. وكانت مغامرة الفهم على المستوى الشخصي هي التي تدفعه وتوجهه منذ سنوات طفولته. والآن سنحت له الفرصة كي يخرج تلك الصورة من ذهنه لتصبح متاحة للآخرين. (اكتشفت أثناء تصفحي لمذكرات ماثيو ساندز أنه استعان تقريبًا بنفس هذه اللغة في إقناع فاينمان بتدريس هذا المنهج!) كان قادرًا على وضع بصمته، ليس فقط في علم الفيزياء عند أرقى مستوياته، وإنما أيضًا في الأفكار الأساسية من جذورها الأولى التي تمثِّل جوهر فهمنا لهذا العلم. وعلى امتداد العامين التاليين، كرَّس فاينمان المزيد من النشاط والإبداع الأشد كثافة في تطوير محاضراته أكثر مما فعل في أي شيء آخر خلال الفترة التي أعقبت الحرب.
كان التوقيت نموذجيًّا. كانت هذه المسألة ممكنة في ذلك الحين ويرجع ذلك جزئيًّا إلى أن مغامراته الماجنة بدأت تخمد. فمع استقرار زواجه وحياته الأسرية، صار قادرًا على تقليص اهتمامه باحتياجاته ونزواته الشخصية، وقلَّت دوافعه نحو البحث عن مغامرات كان مدفوعًا لها كي يغطي شعوره بالوحدة، ولكن الأهم من ذلك أنه كان في استطاعته الاستقرار في مكان واحد وتخصيص الوقت اللازم لرسم مخطط لمنهج جديد تمامًا في مقدمة أساسيات علم الفيزياء. كان في استطاعته أن يبين للآخرين ليس فقط كيف يفهم هو العالم، ولكن أيضًا ما جعله متشوقًا كي يسعى لمعرفة العالم. كان قادرًا على خلق ارتباطات جديدة، هي جوهر العلم برمته، أثناء كشف ألغاز عالم الطبيعة. كان يرغب في اصطحاب الطلاب سريعًا نحو الألغاز المهمة المثيرة التي تعج بها أحدث تطورات العلم، ولكن في الوقت نفسه يبين لهم أن فهمها ليس مقصورًا فحسب على فئة كبار العلماء، وأن الكثير منها مرتبط بظواهر طبيعية مباشرة نراها بأعيننا مثل غليان وجبة شوفان، أو التنبؤ بالأحوال الجوية، أو سلوك الماء عندما ينساب داخل أنبوب.
كان يصل إلى قاعة المحاضرات كل يوم قبل وصول الطلبة، مبتسمًا ومتأهبًا لإمتاعهم بعرض أصيل وجديد تمامًا لكل شيء بدءًا من الميكانيكا الكلاسيكية، وحتى الكهرومغناطيسية، والجاذبية، والموائع، والغازات، والكيمياء، وحتى ميكانيكا الكم في نهاية المطاف. كان يذرع القاعة جيئةً وذهابًا خلف منضدة شرح كبيرة وأمام سبورة عملاقة، صارخًا وعابسًا حينًا، ومتلطِّفًا وملقيًا النكات حينًا آخر. ومع حلول نهاية المحاضرة كان يحرص ليس فقط على امتلاء السبورة بالكامل، ولكن على أن يكمل دائرة الأفكار التي حددها في بداية المحاضرة كمواضيع للمناقشة. وكان يرغب في أن يبين للطلبة أن افتقارهم للمعرفة لا يعني بالضرورة الانتقاص من قدرتهم على الفهم، وأنه مع العمل الجاد يمكن حتى لطالب السنة الأولى أن يتعامل، وبأدق التفاصيل، مع الظواهر المعاصرة.
فكرت أن أوجهها [المحاضرات] إلى أذكى الطلاب في الفرقة الدراسية وأن أحرص — إن أمكن — على أن يعجز حتى أذكى الطلاب عن الإلمام التام بكل ما قلته في المحاضرة، وذلك بوضع اقتراحات لتطبيقات الأفكار والمفاهيم النظرية في مختلف الاتجاهات خارج الإطار الرئيسي للموضوع. لكن لهذا السبب، حاولت جاهدًا أن أجعل جميع العبارات التي أنطق بها دقيقة قدر الإمكان، وأن أحدد في كل حالة الموضع الملائم للمعادلات والأفكار داخل علم الفيزياء ككل، وكيف يمكن تعديل الأمور، كلما زادت معرفتهم. شعرت أيضًا أنه بالنسبة لأولئك الطلاب من المهم الإشارة إلى ما يجب عليهم — لو أنهم بارعون بالقدر الكافي — أن يكونوا قادرين على فهمه من خلال الاستنتاج مما قيل سابقًا، وما الذي يضاف باعتباره شيئًا جديدًا.
أدرك القسم أن شيئًا مميزًا يحدث، ومنح فاينمان مؤازرة وتشجيعًا عظيمين. كان يلتقي أسبوعيًّا بآخرين من أعضاء هيئة التدريس المكلفين — تحت إشراف ماثيو ساندز وروبرت ليتون — بتصميم جلسات لحل المسائل وتحديد مراجع إضافية لمساعدة الطلبة. ولما كان فاينمان لا يدرس من أي مرجع، فقد كان من الضروري عقد تلك الاجتماعات، وكان على هؤلاء المحاضرين والمساعدين العمل بدوام كامل، سواء لمتابعة ما يحدث أو لتطوير المواد التعليمية الملائمة لإكمال المنهج الدراسي.
سرعان ما ذاع خبر ما يحدث في قاعة المحاضرات الكبرى بكالتك، وبدأ الخريجون وأعضاء هيئة التدريس يتوافدون عليها للاستماع للمحاضرات، حتى بعد أن عزف الطلاب الجامعيون عن الحضور بعد أن أصابهم الذعر والارتباك. وفي سابقة ربما لم تكن لتحدث إلا في معهد مثل كالتك، ألحَّ عليه القسم أن يدرس عامًا ثانيًا، على الرغم من أن كثيرًا من الطلبة لم يتمكنوا من اجتياز الاختبارات التي وضعها.
كانت المحاضرات تسجل أيضًا بحيث يمكن لساندز وباقي الزملاء، وعلى رأسهم ليتون، نسخها وتحريرها. وفي النهاية ظهرت في المكتبات في جميع أنحاء العالم مجموعة من ثلاثة مجلدات من «الكتب الحمراء». لم يسبق من قبل في العصور الحديثة أن أعاد شخص ما إنشاء قاعدة المعرفة بأكملها من العدم وأعاد تنظيمها بهذا القدر من الشمولية وبهذا القدر من المسئولية الشخصية بالإضافة إلى عرض المبادئ الأساسية لعلم الفيزياء. وانعكس ذلك على الاسم الذي أطلق على هذه المجموعة: «محاضرات فاينمان في الفيزياء».
هذا أمر مهم. فقد منح العنوان مكانة فريدة لعالم واحد، ولا أعلم شخصًا آخر، في مجال الفيزياء على الأقل، نُظِر من قبل في أمر تسمية عمل كهذا باسمه. كان فاينمان في سبيله ليتحول إلى رمز من رموز علم الفيزياء، وكان عنوان ذلك المرجع الدراسي شهادة ليس فقط على طبيعة المادة المقدمة فيه وإنما أيضًا على الموقع المتميز الذي كان فاينمان بصدد شَغْله في عالم الفيزياء.
في نهاية العام حقَّقَ المنهج الدراسي الفعلي نجاحًا متفاوتًا. فقلَّة من الطلاب، حتى طلاب كالتك، هم مَنْ تمكَّنوا من متابعة المادة العلمية بأكملها. غير أنه بمرور الوقت صار لتلك القلة المحظوظة التي حضرت المنهج ذكريات لا تنسى. لقد أخذ الكثير من الطلاب السابقين يتذكَّرون تلك التجربة باعتبارها تجربة عمرهم، مردِّدِين كلمات العالم دوجلاس أوشيروف، الحاصل على جائزة نوبل، الذي قال فيما بعد: «كان المنهج الذي استمر عامين جزءًا بالغ الأهمية من رحلتي التعليمية. وعلى الرغم من أنني لا أستطيع القول إنني فهمت كل شيء خلالهما، فإنني أعتقد أنها كانت أهم إسهام شكَّل حدسي الفيزيائي.»
لكن على الرغم من المعاناة التي ربما أحس بها فئران التجارب من طلبة كالتك (مع أن ساندز أنكر هذه الفكرة وزعم أن معظم الطلبة تمكنوا من متابعة المنهج الدراسي بمستوى ما)، فإن «محاضرات فاينمان» صارت ركيزة أساسية لأي شخص يخطط لأن يصبح فيزيائيًّا. وأتذكر أنني اشتريت نسختي عندما كنت في سنوات الدراسة الجامعية، وكنت أطالع منها مقتطفات بين الحين والآخر، متسائلًا هل ألممت حقًّا بالمادة كلها أم لا، آملًا أن يستعين واحد من أساتذتي بالكتاب. ولعله من حسن حظي أن أحدًا منهم لم يفعل. فمعظم من حاولوا ذلك، اكتشفوا أن التجربة مخيِّبة للآمال. لقد كانت المادة أصعب مما ينبغي لفرقة دراسية عادية في الفيزياء، وأكثر ثورية مما ينبغي.
مع ذلك لا يزال الكتاب يصدر إلى الآن، وقد ظهرت مجموعة منقحة حديثًا في عام ٢٠٠٥، وفي كل عام تشتريها دفعة جديدة من الطلبة، وتفتحها وتبدأ في خوض تجربة تعيش فيها مع عالم جديد تمامًا.
ومن سوء حظ فاينمان وساندز وليتون أن جميع حقوق الملكية تذهب إلى كالتك (على الرغم من أن أسرة فاينمان قاضت كالتك لاحقًا للحصول على حق نشر واحدة من المحاضرات التي نشرتها كالتك في صورة كتاب مصحوب بشريط صوتي). وفيما بعد، رثى فاينمان حاله لأحد أصدقائه، وهو الفيزيائي والكاتب فيليب موريسون، بعد أن أُطلق عليه لقب عملاق الفيزياء، قائلًا: «هل نحن عمالقة في الفيزياء، وأقزام في دنيا الأعمال؟»
تزامنت تجربة تدريس هذا المنهج مع توسع كبير في نشاط فاينمان العام، الذي كان أسلوبه الجذاب المؤثر قد بدأ يصنع أمواجًا تتجاوز كثيرًا نطاق مجتمع الفيزياء. ففي عام ١٩٥٨ كان قد وافق بالفعل على أن يكون مستشارًا لأحد البرامج التليفزيونية التي تنتجها مؤسسة وارنر براذرز، وفي خطاب يتعلق بهذا البرنامج أشار إلى تجربته في التواصل مع الجماهير وفلسفته الخاصة: «إن فكرة أن العاملين في إنتاج الأفلام يعرفون كيف يقدمون هذه النوعية من المواد، لأنها مواد تتعلق بالترفيه والعلماء بعيدون عن هذا المجال هي فكرة خاطئة. فهم لا يملكون خبرة في شرح الأفكار، وتشهد جميع الأفلام على ذلك، وأنا أمتلك تلك الخبرة. إنني محاضر ناجح في علم الفيزياء لعموم الجمهور غير المتخصص. إن الترفيه الحقيقي يقوم على الإثارة، والدراما، وغموض الموضوع. والناس يحبون تعلم شيء ما، ويتمتعون بترفيه هائل لو أنك أتحت لهم فهم النزر اليسير من شيء لم يكونوا يفهمونه من قبل.»
في ذلك الوقت تقريبًا شارك فاينمان أيضًا فيما أعتقد أنه كان أول حوار تليفزيوني يجريه، الذي أذيع على الهواء قبل وقت قصير من وصول جوينيث إلى الولايات المتحدة. كان من الواضح أنه يشعر بالإثارة لأنه سيظهر على شاشة التليفزيون، فكتب يقول لها: «لو جئتِ مبكرة عن موعدك بأسبوعين فإني على يقين من أنه سيكون لدي الكثير الذي أحتاج منك عمله؛ فسوف أظهر على شاشة التليفزيون، في حوار مع معلق تليفزيوني في السابع من يونيو وقد يكون أمامي الكثير من الخطابات التي علي أن أرد عليها.» وكان الحوار تحفة فنية، وتجاوز بكثير في جودته وعمقه الفكري الحوارات التي تجرى في أيامنا هذه، ولكن لأنه احتوى على مناقشة صريحة لأمور الدين، فقد قررت شبكة التليفزيون إذاعته في توقيت مختلف عن التوقيت الذي كان معلنًا من قبل، ولهذا كان جمهور المشاهدين أقل عددًا.
وأخيرًا أذيع البرنامج التليفزيوني الذي ظهر فيه مستشارًا، وكان عنوانه «حان الوقت»، على شاشة شبكة إن بي سي عام ١٩٦٢. وقد أثار ردود أفعال هائلة بين المشاهدين وبدأ في ترسيخ شهادات اعتماد فاينمان لدى الجماهير أكثر من ذي قبل. أدت مقدرته الفائقة كمحاضر أمام جمهور العامة إلى توجيه الدعوة له لإلقاء «محاضرات مسنجر» المرموقة بكورنيل. اكتسبت تلك المجموعة المكونة من ست محاضرات شهرة واسعة وجُمعت في كتاب رائع بعنوان «خصائص قوانين الفيزياء». (كان هذا هو ذات الكتاب الذي نصحني معلم الفيزياء في المدرسة الصيفية بقراءته كي يجعلني أكثر تشوقًا لدراسة علم الفيزياء.) سُجلت المحاضرات أيضًا في فيلم، ومؤخرًا اشترى بيل جيتس حقوق ملكيتها لتكون متاحة على شبكة الإنترنت. (قال جيتس إنه لو عثر عليها عندما كان طالبًا، قبل أن يترك الدراسة بجامعة هارفارد، لكان مسار حياته تغيَّر.) وتلك المحاضرات تصور فاينمان الحقيقي، أكثر من أي صورة مسجَّلة أو وثيقة؛ فاينمان اللاهي، العبقري، المفعم بالإثارة، صاحب الكاريزما، المتدفق بالطاقة، العملي الذي لا يطيق الهراء.
وأخيرًا، في ٢١ أكتوبر عام ١٩٦٥، وصل فاينمان إلى المجد، مرسِّخًا مكانته إلى الأبد بين جمهور العلماء وعامة الناس على السواء. تقاسم فاينمان، مع سين-إتيرو وجوليان شفينجر، جائزة نوبل عام ١٩٦٥ عن «بحثهم الجوهري في الديناميكا الكهربائية الكمية الذي كانت له نتائج عميقة الأثر على فيزياء الجسيمات الأولية». ومثل غيره ممن فازوا بجائزة نوبل، تغيرت حياة فاينمان إلى الأبد، وصار قلقًا من هذا التأثير. وعلى الرغم من أنه استمتع بالشهرة لا ريب، فإنه لم يكن من هواة العُجب والتباهي، وبدافع من سلوك اكتسبه من والده وهو طفل صغير، كان يرتاب بحق في الألقاب الشرفية. وكانت أفعاله متسقة مع أفكاره. كان قد قرر وهو شاب تخرج للتوِّ من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، أن الدرجات الشرفية شيء سخيف — وأن أولئك الذين يكرمون بدرجات فخرية لم يبذلوا نفس القدر من الجهد الذي بذله هو لكي يحصل على درجته — لذا رفض قبول أي درجة فخرية عرضت عليه. وفي الخمسينيات انتخب عضوًا بالأكاديمية الوطنية للعلوم ذات المكانة المرموقة، وهي عضوية تمثل لكثير من العلماء أعلى تقدير يمكنهم الحصول عليه من زملائهم. وبدأ فاينمان منذ عام ١٩٦٠ عملية مطولة ومعقدة لتقديم استقالته من الأكاديمية الوطنية لأنه اعتبر أن هدفها الأساسي هو أن تحدد من يمكنه «دخولها» ومن لا «يستحق». (في دورة شهيرة بعدها بسنوات، رُفضت عضوية كارل ساجان، ويعتقد كثيرون أن السبب، جزئيًّا على الأقل، هو جهوده في محاولة كسب الشعبية.) وتوقف فاينمان عن إدراج تلك العضوية ضمن قائمة التكريمات التي نالها (فقد طلب من مسئولي تليفزيون إن بي سي، مثلًا، حذفها من سيرته الذاتية في واحد من البرامج التليفزيونية التي عرضت عام ١٩٦٢)، غير أن موافقة مسئولي الأكاديمية الرسمية على الاستقالة استغرقت عشر سنوات.
من الصعب معرفة مقدار الجدية التي كان عليها فاينمان، ولكنه كتب في وقت لاحق أنه في اللحظة التي فكر فيها في رفض جائزة نوبل لنفس الأسباب؛ فمن ذا الذي يبالي إن كان أحدهم في الأكاديمية السويدية قرر أن عمله «نبيل» بما يكفي أم لا. وعلى حد قوله الشهير: «الجائزة الحقيقية هي متعة معرفة الأشياء.» غير أنه سرعان ما أدرك أن هذا سيجلب له شهرة أكبر مما سيجلبه قبول الجائزة، وقد يؤدي إلى انطباع بأنه يظن أنه «أعلى قيمة» من الجائزة. وقد قال إن ما كان يجب على لجنة نوبل عمله بدلًا من ذلك هو أن تبلغ الفائزين بالجائزة بهدوء بقرارها مسبقًا، وتمنحهم الوقت الكافي للانسحاب في هدوء ودون ضجيج. ووفقًا لما قاله، فإنه لم يكن الوحيد الذي خطرت بباله هذه الفكرة؛ فمثله الأعلى ديراك كان يرى نفس الرأي.
وعلى الرغم من هواجسه تلك، فمن الواضح أن فاينمان شعر بشيء من الرضا والتقدير لنيل الجائزة، وعلى حد قول تلميذه السابق ألبرت هيبس، لعله كان سيشعر بشعور أسوأ لو أنه لم ينلها. إلى جانب أن الشهرة التي منحتها إياه تلك الجائزة وغيرها من جوائز التقدير استهوته، ومن أبرز أسباب ذلك أنها منحته المزيد من الحرية كي يتصرف كما يحلو له.
وعلى أي الأحوال، على الرغم من عصبيته الشديدة خوفًا من أن يفسد الأمور أثناء الاحتفال الرسمي، وقلقه من الانحناء وارتداء الحلة الرسمية، ومن السير إلى الخلف في حضرة ملك السويد، تمالك فاينمان أعصابه وحضر الاحتفال وأعدَّ خطابًا جميلًا ليلقيه في حفل نوبل مسلطًا فيه الضوء على تاريخه الشخصي بصدق، وعارضًا رحلته نحو اكتشاف أسلوب ترويض قيم ما لانهاية في الديناميكا الكهربائية الكمية. وحتى في عام ١٩٦٥، ظل فاينمان يشعر بأن برنامج إعادة التطبيع الذي ابتكره لم يكن سوى وسيلة لإخفاء مشكلات القيم اللانهائية، وليس لحلها حلًّا جذريًّا.
صاحب تقديم جوائز نوبل هذه المرة السؤال الذي يطرح نفسه كثيرًا بسبب تعسف السيد نوبل في وصيته، حيث أوصى بألا يتقاسم الجائزة في أي من ميادينها أكثر من ثلاثة أشخاص. وكان من الواضح في هذه الحالة أن جوليان شفينجر، وفريمان دايسون، وسين-إتيرو توموناجا جميعهم يستحقون تقاسم الجائزة مع فاينمان، ولكن لماذا لم يحصل عليها دايسون؟ لقد بيَّن ببراعة فائقة التكافؤ بين الأساليب التي تبدو في الظاهر تامة الاختلاف في اشتقاق شكل معقول للديناميكا الكهربائية الكمية، وأتبع ذلك بتقديم دليل أساسي لتعليم باقي مجتمع الفيزياء كيفية إجراء الحسابات الصحيحة. ولعلك تتذكر أن دايسون في الأساس كان هو أيضًا الشخص الذي صنعت أبحاثه الدعاية للنتائج التي توصل إليها فاينمان قبل أن يكتب ذلك الأخير أبحاثه أصلًا، وهو من ساعد في النهاية في أن يشرح للعالم أن وسائل فاينمان لم تكن ارتجالية، وإنما كانت قائمة على أساس راسخ وأكثر اعتمادًا بكثير على الحدس الفيزيائي وأبسط من الناحية الحسابية من باقي الوسائل الأخرى. وهكذا كان دايسون هو من ساعد بقية العالم على فهم الديناميكا الكهربائية الكمية، وقدم لأساليب فاينمان باعتبارها الأساليب التي ستترسخ وتنمو في نهاية الأمر.
ولو أن دايسون شعر بالغبن لعدم نيله الجائزة، فإنه لم يصرح بمشاعره قط. بل العكس تمامًا هو الصحيح في حقيقة الأمر. فقد قال لاحقًا: «فاينمان هو من توصل للاكتشافات الكبرى، وكنت أنا بحق مجرد مروج لها. ولقد نلت مكافأتي على دوري في المسألة؛ حصلت على وظيفة رائعة هنا في المعهد طوال حياتي، لذا ليس لدي ما أشكو منه! كلا، أعتقد أن الأمر كان صائبًا وسليمًا تمامًا. وأقول إن فاينمان كان واحدًا من أكثر من استحقوا الفوز بجائزة نوبل على مر تاريخها.»