عالم الكم
لقد كنت دومًا معنيًّا بالفيزياء. فلو أن فكرة ما بدت لي تافهة، أقول إنها تبدو تافهة، ولو بدت لي جيدة، أقول إنها تبدو جيدة.
كان فاينمان محظوظًا أن التقى تيد ويلتون في عامه الدراسي الثاني بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا حين كان الاثنان — والوحيدان من طلاب العام الثاني — يحضران مقررًا دراسيًّا متقدمًا لطلاب الدراسات العليا في الفيزياء النظرية. وباعتبارهما روحين متشابهتين، كان كل منهما يراجع الكتب الدراسية المتقدمة في الرياضيات في المكتبة، وبعد فترة وجيزة من محاولة أحدهما التفوق على الآخر، قرَّرَا التعاون معًا «في النضال ضد فريق يبدو عدوانيًّا من الطلاب الآخرين الأكبر سنًّا وطلاب الدراسات العليا» في الصف الدراسي.
دفع كل منهما الآخر إلى آفاق جديدة، حيث راحا يتبادلان فيما بينهما دفتر ملاحظات كانا يدونان فيه معًا بعض الحلول والأسئلة حول موضوعات تباينت من النسبية العامة إلى ميكانيكا الكم، وهي موضوعات تعلمها كل واحد منهما تعليمًا ذاتيًّا. ولم يؤدِّ هذا فقط إلى تشجيع سعي فاينمان الحثيث الذي يبدو أنه لا يهدأ إلى اشتقاق كل شيء في علم الفيزياء بنفسه وبطريقته الخاصة، وإنما أدى أيضًا إلى تعلم بعض الدروس العملية التي ظلت معه حتى نهاية حياته. وأحد هذه الدروس تحديدًا يستحق التوقف عنده وتأمله. فقد حاول فاينمان وويلتون تحديد مستويات طاقة الإلكترونات في ذرة الهيدروجين عن طريق تعميم المعادلة القياسية لميكانيكا الكم — المسماة «معادلة شرودينجر» — لتضم نتائج النسبية الخاصة لأينشتاين. وأثناء قيامهما بهذا أعادا اكتشاف ما كان في واقع الأمر معادلة شهيرة هي «معادلة كلاين-جوردون». ومع الأسف، بعد أن حث ويلتون فاينمان على تطبيق تلك المعادلة بغرض فهم ذرة الهيدروجين، انتهت المحاولة إلى نتائج مخالفة تمامًا للنتائج التجريبية. وليس هذا مستغربًا؛ لأنه كان من المعروف أن معادلة كلاين-جوردون ليست هي المعادلة المناسبة التي ينبغي استخدامها لوصف الإلكترونات النسبية، وهو ما أوضحه عالم الفيزياء النظرية البارع بول ديراك قبل عقد واحد فقط من الزمان، من خلال العمل الذي قاده للفوز بجائزة نوبل عن اشتقاق المعادلة الصحيحة.
وصف فاينمان تجربته بأنها درس «فظيع» ولكنه في غاية الأهمية ولم ينسه أبدًا من وقتها. لقد تعلم ألا يعتمد على جمال نظرية رياضية أو على «شكلها المبهر»، وأن يقر بأن الاختبار الحقيقي للنظرية الجيدة هو هل يستطيع المرء «تطبيقها على الواقع» أم لا؛ والمقصود بالواقع هنا هو البيانات التجريبية.
ولم يكن فاينمان وويلتون يتعلمان كل شيء عن الفيزياء تعليمًا ذاتيًّا؛ فقد كانا يحضران المحاضرات أيضًا. وخلال الفصل الدراسي الثاني من العام الثاني، أبهرا أستاذهما في مادة الفيزياء النظرية، فيليب مورس، إلى حد جعله يدعوهما — مع طالب ثالث — إلى دراسة ميكانيكا الكم معه في مجموعة دروس خصوصية يحضرونها يومًا واحدًا كل أسبوع في فترة ما بعد الظهر، وذلك خلال العام الدراسي الثالث بالمعهد. ثم دعاهما في وقت لاحق إلى بدء برنامج «بحث حقيقي» حسبا فيه خصائص الذرات الأكثر تعقيدًا من الهيدروجين، وأثناء ذلك تعلما أيضًا كيف يستخدمان الجيل الأول مما يسمى الآلات الحاسبة، وهي مهارة أخرى أفادت فاينمان كثيرًا فيما بعد.
وبحلول السنة الدراسية الأخيرة له كطالب جامعي، كان فاينمان قد أتقن أغلب المناهج الجامعية ومناهج الدراسات العليا في الفيزياء، وصار متحمِّسًا بالفعل لاحتمال امتهانه البحث العلمي واتخذ قرار المضي قدمًا وإكمال دراساته العليا. وفي الحقيقة، كان تطوره في الدراسة الجامعية مبهرًا للغاية حتى إنه أثناء العام الدراسي قبل الأخير، أوصى قسم الفيزياء بمنحه درجة البكالوريوس بعد ثلاث سنوات بدلًا من أربع. ورفضت الجامعة تلك التوصية، لذا، بدلًا من ذلك، أكمل بحثه خلال السنة النهائية، وكتب بحثًا عن ميكانيكا الكم للجزيئات نُشر في دورية «فيزيكال ريفيو» ذات المكانة المرموقة، باعتباره بحثًا عن الأشعة الكونية. أمضى أيضًا بعض الوقت في تعزيز اهتمامه الأساسي بتطبيقات الفيزياء، وسجل اسمه لحضور مقررين دراسيين في علم المعادن والمختبرات — وهما مقرران أفاداه كثيرًا فيما بعد أثناء عمله في لوس ألاموس — بل إنه ابتكر آلية مبدعة لقياس سرعات الأعمدة الدوارة المختلفة.
لم يكن الجميع مقتنعين أن فاينمان مستعد لاتخاذ الخطوة الكبيرة التالية في مسيرته التعليمية؛ إذ لم يكن أي من والديه قد أكمل تعليمًا جامعيًّا، ولم يكن ثمة أساس منطقي واضح لأن يكمل ابنهما ثلاث أو أربع سنوات دراسية أخرى بعد الحصول على شهادته الجامعية. زار والد ريتشارد، ميلفيل فاينمان، معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في خريف عام ١٩٣٨ للتحدث مع البروفسور مورس وسؤاله هل استكمال ابنه للدراسة أمر ذو قيمة، وهل ابنه جدير بذلك. وأجاب مورس بأن فاينمان الابن كان ألمع طالب جامعي درس له الفيزياء يومًا، وأن استكمال دراساته العليا ليس فقط أمرًا مهمًّا وذا قيمة، وإنما هو ضروري أيضًا إذا أراد فاينمان مواصلة حياته المهنية في مجال العلوم. وهكذا قُضي الأمر.
كان فاينمان يفضِّل أن يستمر في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. غير أن أساتذة الفيزياء الحكماء كانوا يحثون طلابهم عمومًا، حتى أفضل هؤلاء الطلاب، على متابعة دراساتهم العليا في معاهد أخرى جديدة. فمن المهم للطلاب أن يتعرَّضوا في بداية حياتهم المهنية لنطاق واسع من الأساليب المختلفة في ممارسة العلم، ونقاط التركيز المختلفة؛ لأن قضاء حياتهم الأكاديمية كلها في معهد واحد من الممكن أن يكون مقيدًا للعديد من الناس. لذا أصر المشرف الأول على أطروحة ريتشارد فاينمان في الدراسات العليا، جون سلاتر، على أن يلتحق فاينمان بالدراسات العليا في مكان آخر، وقال له: «ينبغي أن تتعرف على باقي العالم.»
عُرضت على فاينمان منحة دراسية للالتحاق بكلية الدراسات العليا في هارفارد دون حتى أن يتقدم لها؛ لأنه كان قد فاز ﺑ «مسابقة ويليام لويل بوتنام في الرياضيات» عام ١٩٣٩. وكانت تلك أكثر مسابقات الرياضيات الوطنية المفتوحة أمام الطلاب الجامعيين أهمية وصعوبة، وكان ذلك العام هو عامها الثاني. وأذكر عندما كنت في المرحلة الجامعية أن أفضل الطلاب في الرياضيات كانوا ينضمون لفريق جامعتهم ويتدرَّبون على حل المشكلات عدة أشهر قبل امتحان المسابقة. ولا أحد يحل جميع المشكلات في الامتحان، وفي سنوات عديدة يخفق عدد كبير من المشتركين في المسابقة في حل ولو مشكلة واحدة. وكان قسم الرياضيات في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا قد طلب من فاينمان الانضمام إلى فريق المعهد للمشاركة في المسابقة وهو في السنة النهائية، وكان الفارق بين درجات فاينمان ودرجات جميع المشاركين الآخرين في المسابقة من جميع أنحاء البلاد مذهلًا للقائمين على الامتحان، ولذلك عرضت عليه جائزة منحة هارفارد الدراسية. وكان فاينمان فيما بعد يتظاهر أحيانًا بالجهل بالرياضيات عند الحديث عن الفيزياء، ولكن درجاته في مسابقة بوتنام كانت تدل على أنه — كعالم رياضيات — قادر على منافسة أفضل علماء الرياضيات في العالم.
لكن فاينمان رفض عرض هارفارد؛ فقد قرَّر أنه يريد الالتحاق بجامعة برينستون، وأعتقد أن قراره كان راجعًا للسبب نفسه الذي جعل العديد من الفيزيائيين الشبان يرغبون في الالتحاق بها وهو: أن أينشتاين كان هناك! وكانت برينستون قد قبلته وعرضت عليه وظيفة مساعد باحث مع يوجين ويجنر، الذي فاز بجائزة نوبل في المستقبل. ومن حسن حظه أن تم تعيينه بعد ذلك مع أستاذ مساعد شاب هو جون أرشيبالد ويلر، وهو رجل كان خياله مكافئًا لبراعة فاينمان في الرياضيات.
وفي ذكرى فاينمان بعد وفاته، تذكر ويلر مناقشة دارت بين أعضاء لجنة القبول بالدراسات العليا في ربيع عام ١٩٣٩، وخلالها تحدث أحد أعضاء اللجنة بحماس عن حقيقة أنه ما من شخص آخر من المتقدمين للجامعة حقق درجات قبول في الفيزياء والرياضيات تقترب من الدرجات المرتفعة للغاية التي حققها فاينمان (وكان قد حقق ١٠٠٪ في الفيزياء)، وفي الوقت نفسه تذمَّر عضو آخر من أعضاء اللجنة قائلًا إنهم لم يقبلوا مطلقًا من قبل طالبًا حقق تلك الدرجات المتدنية للغاية في مادتي التاريخ واللغة الإنجليزية. ومن حسن حظ مستقبل العلم أن الفيزياء والرياضيات كانت لهما الغلبة.
ومن المثير للاهتمام أن ويلر لم يتحدث عن مسألة أساسية أخرى، ولعله لم يكن على دراية بها: وهي قضية ديانة فاينمان اليهودية. كان رئيس قسم الفيزياء في برينستون قد كتب إلى فيليب مورس بشأن فاينمان، حيث سأله عن انتمائه الديني، وأضاف: «ليست لدينا قاعدة محددة ضد اليهود، ولكن علينا أن نحافظ على نسبتهم في القسم صغيرة إلى حد معقول بسبب صعوبة تسكينهم.» وفي النهاية، تقرر أن فاينمان لم يكن يهوديًّا ملتزمًا «في سلوكه» إلى درجة تجعل هذا عقبة في الطريق. ولم تكن حقيقة أن فاينمان غير مهتم في الأساس بأمور الدين — شأنه في ذلك شأن العديد من العلماء — جزءًا من المناقشة.
•••
غير أن الحقيقة الأكثر أهمية من كل هذه التطورات الخارجية هي حقيقة أن فاينمان كان قد وصل الآن إلى مرحلة من مراحل تعليمه يمكنه فيها البدء في التفكير في الأمور المثيرة بحق؛ نعني بها تحديدًا الفيزياء غير المنطقية وغير المفهومة. فالتطورات المتقدمة في العلم دائمًا ما تكون متناقضة ومتضاربة إلى حد ما، ومثل الكلاب البوليسية، يركز علماء الفيزياء العظماء على عناصر الغموض والتناقض تلك تحديدًا لأنه فيها تكمن الجائزة الحقيقية.
كانت المشكلة التي قال فاينمان لاحقًا إنه «وقع في غرامها» عندما كان طالبًا بالجامعة تمثِّل جزءًا مألوفًا من أهم قضايا الفيزياء النظرية طوال ما يقرب من قرن، وهي: النظرية الكلاسيكية للكهرومغناطيسية. ومثل العديد من المشكلات العميقة، يمكن عرض المشكلة ببساطة. فالقوة العاملة بين شحنتين متشابهتين هي قوة تنافر؛ ولذا يتطلب الأمر شغلًا لتقريب إحداهما من الأخرى. وكلما زاد قربهما احتاج الأمر إلى المزيد من الشغل. والآن تخيل إلكترونًا منفردًا؛ فكر فيه على أنه «كرة» ذات شحنة لها نصف قطر معين. وبهذا فإن جمع الشحنة كلها معًا عند نصف القطر لتكوين الإلكترون يتطلب شغلًا. والطاقة التي يصنعها الشغل أثناء جمع الشحنة معًا تسمى عادة «الطاقة الذاتية» للإلكترون.
والمشكلة هي أننا لو قلصنا حجم الإلكترون وصولًا إلى نقطة واحدة، فإن الطاقة الذاتية للإلكترون ستصل إلى ما لا نهاية؛ لأن الأمر يتطلب قدرًا لانهائيًّا من الطاقة لجمع الشحنة كلها معًا في نقطة واحدة. وكانت تلك المشكلة معروفة منذ فترة، ووُضعت العديد من المخططات لحلها، ولكن كان أبسط هذه المخططات هو أن نفترض أن الإلكترون ليس محصورًا حقًّا في نقطة واحدة، وإنما له حجم محدد.
غير أنه في وقت مبكر من القرن العشرين، اتخذت هذه المسألة منظورًا مختلفًا. فمع تطور ميكانيكا الكم، تغيَّرت صورة الإلكترونات، والمجالات الكهربائية والمغناطيسية تمامًا. فعلى سبيل المثال، تقول قاعدة ازدواجية الموجات والجسيمات، وهي جزء من نظرية الكم: إن كلًّا من الضوء والمادة — وهي الإلكترونات في هذه الحالة — تسلك في بعض الأحيان سلوك الجسيمات وتسلك في أحيان أخرى سلوك الموجات. ولكن مع تطور فهمنا لعالم الكم، في الوقت الذي زادت فيه غرابة هذا العالم أكثر وأكثر، اختفت بعض الألغاز الأساسية في الفيزياء الكلاسيكية، ولكن بقيت ألغاز أخرى بلا حلول، ومن بينها لغز الطاقة الذاتية للإلكترون. ولكي نضع هذا الأمر في سياقه السليم، نحن بحاجة لاستكشاف عالم الكم.
تتسم ميكانيكا الكم بسمتين أساسيتين، وكلتاهما تتحدى على نحو سافر حدسنا التقليدي بشأن العالم؛ السمة الأولى: هي أن الأجسام التي تسلك سلوكًا ميكانيكيًّا كميًّا هي الأجسام الأساسية متعددة المهام؛ فهي قادرة على اتخاذ العديد من الأشكال المختلفة في نفس الوقت. ويتضمَّن هذا وجودها في أماكن مختلفة وأداء مهام مختلفة في وقت واحد. فعلى سبيل المثال، في حين يتصرف الإلكترون وكأنه يدور مغزليًّا نحو الأعلى، فإنه قادر أيضًا على أن يتصرف وكأنه يدور في العديد من الاتجاهات المختلفة في الوقت نفسه.
إذا كان الإلكترون يتصرف وكأنه يدور مغزليًّا في عكس اتجاه عقارب الساعة حول محور يتجه من الأرض نحو الأعلى، نقول إن له «دورانًا علويًّا». وإذا كان يدور في اتجاه عقارب الساعة، نقول إن له «دورانًا سفليًّا». وفي أي لحظة معينة، يكون احتمال دوران الإلكترون لأعلى هو ٥٠ بالمائة، واحتمال دورانه لأسفل هو ٥٠ بالمائة. وإذا تصرفت الإلكترونات على النحو الذي يقترحه حدسنا التقليدي، فسيكون معنى هذا أن كل إلكترون نقيسه يدور لأعلى أو يدور لأسفل، وأننا سنجد ٥٠ بالمائة من الإلكترونات في وضع واحد معين، وسنجد اﻟ ٥٠ بالمائة الأخرى في الوضع الآخر.
هذا صحيح من زاوية ما. فلو أننا قسنا الإلكترونات بهذه الطريقة، فسنجد أن ٥٠ بالمائة منها تدور لأعلى و٥٠ بالمائة تدور لأسفل. و«لكن» — وتلك «لكن» مهمة للغاية — من الخطأ أن نفترض أن كل إلكترون يدور في أحد الاتجاهين أو الآخر قبل أن نقيس. ففي لغة ميكانيكا الكم، كل إلكترون في «حالة تراكب مكونة من حالتي دوران لأعلى ودوران لأسفل» قبل القياس. إنه باختصار يدور في كلا الاتجاهين!
كيف نعرف إذن أن افتراض أن الإلكترونات تأخذ وضعًا معينًا أو الآخر هو افتراض «خاطئ»؟ يتبيَّن لنا أننا نستطيع إجراء تجارب تعتمد نتائجها على ما يفعله الإلكترون عندما لا نقيسه، وسوف تكون النتائج مختلفة إذا كان الإلكترون يتصرف على نحو متوقع؛ أي بأحد الوضعين المحددين أو الآخر بين القياسات.
أشهر مثال على هذا يتضمن إطلاق الإلكترونات على جدار به شقان، ووراء الجدار توجد شاشة وامضة، تشبه كثيرًا شاشات تليفزيونات الصمامات المفرغة القديمة، وتضيء متى اصطدم بها إلكترون. وإذا لم نقسْ الإلكترونات بين اللحظة التي تترك فيها المصدر واللحظة التي ترتطم فيها بالشاشة — بحيث لا يمكننا أن نعرف أي شق مر عبره كل إلكترون — فسوف نرى نمطًا من البقع الداكنة والمتألقة يظهر على الشاشة الخلفية، وهو نفس «نمط التداخل» بالضبط الذي نراه لموجات الضوء أو الصوت التي تعبر جهازًا ذا شقين، أو ربما على نحو مألوف أكثر، نمط لحظات التموج والهدوء المتناوبة التي تنشأ غالبًا عندما يلتقي جدولان متدفقان بالماء معًا. والمدهش أن هذا النمط يظهر حتى إذا أطلقنا إلكترونًا واحدًا فقط نحو الشقين في الجدار في أي لحظة. وهكذا فإن النمط يوحي بأن الإلكترون «يتداخل» مع نفسه بطريقة ما بعد أن يمر عبر كلا الشقين في الوقت نفسه!
للوهلة الأولى تبدو تلك الفكرة محض هراء؛ لذا فإننا نغير التجربة قليلًا. نضع كاشف إلكترونات غير مدمر بجوار كل شق ثم نطلق الإلكترونات. وهنا نجد أن كاشفًا واحدًا فقط من الاثنين هو الذي سيشير إلى مرور أحد الإلكترونات من الشق في أي لحظة معينة، مما يتيح لنا أن نعرف أن كل إلكترون يمر عبر شق واحد فقط من الشقين في واقع الأمر، وعلاوة على ذلك يمكننا أن نحدد الشق الذي مر منه كل إلكترون.
كل شيء يسير على ما يرام حتى الآن، ولكن هنا يأتي عنصر الإزعاج الكمي. فلو أننا فحصنا النمط الذي يظهر على الشاشة بعد هذا التدخل الذي يبدو بريئًا، فسنجد أن النمط الجديد يختلف تمامًا عن النمط القديم. فحينها سيبدو النمط شبيهًا بالنمط الذي كنا سنحصل عليه لو أننا كنا نطلق الرصاص على تلك الشاشة عبر حاجز الشقين؛ بمعنى أنه ستكون هناك بقعة مضيئة وراء كل شق، وستكون بقية الشاشة مظلمة.
لذا، سواء شئنا أم أبينا، فإن الإلكترونات وغيرها من الأجسام الكمية يمكنها أداء أعمال سحرية تقليدية بقيامها بأشياء عديدة مختلفة في الوقت ذاته، على الأقل طالما كنا لا نراقبها أثناء ذلك.
والخاصية الأساسية الثانية لميكانيكا الكم تنطوي على ما يسمى ﺑ «مبدأ عدم اليقين لهايزنبرج». ويقضي هذا المبدأ بأن هناك تركيبات معينة من الكميات الفيزيائية — مثل موضع الجسيم وزخمه (أو سرعته) — لا يمكننا قياسها في اللحظة عينها بدقة مطلقة. فمهما كانت كفاءة المجهر أو جهاز القياس الذي نستخدمه، فإن ضرب عامل عدم اليقين بشأن الموضع في عامل عدم اليقين بشأن الزخم لا تكون نتيجته صفرًا أبدًا، ودائمًا ما يكون الناتج أكبر من رقم معين، وهذا الرقم يسمى «ثابت بلانك». وهذا الرقم أيضًا هو الذي يحدد نطاق التباعد بين مستويات الطاقة في الذرات. وبعبارة أخرى، إذا قسنا الموضع بدقة كبيرة بحيث يكون عدم اليقين بشأن الموضع صغيرًا جدًّا، فإن هذا يعني أن معرفتنا بزخم أو سرعة الجسيم لا بد أن تكون غير دقيقة إلى حد بعيد، وبهذا يكون ناتج عدم اليقين بشأن الموضع وعدم اليقين بشأن الزخم أكبر من ثابت بلانك.
هناك تركيبات أخرى من «أزواج هايزنبرج» تلك، مثل زوج الطاقة والزمن. فلو أننا قسنا الحالة الميكانيكية الكمية لجسيم أو ذرة ما لوقت قصير للغاية، فسوف يكون هناك عامل عدم يقين كبير في الطاقة المقاسة للجسيم أو الذرة. ولكي نقيس الطاقة بدقة، سيكون علينا أن نقيس الجسم على مدار فترة زمنية طويلة، وفي هذه الحالة لا يمكننا أن نعرف بالضبط متى تم قياس الطاقة بالضبط.
ولو أن كل هذا ليس سيئًا بما يكفي، فإن عالم الكم يصبح أكثر غرابة عندما نضيف إلى هذا المزيج نظرية النسبية الخاصة لأينشتاين، ويرجع ذلك جزئيًّا إلى أن النسبية تضع الكتلة والطاقة على قدم المساواة. فلو أن لدينا طاقة كافية متوفرة، يمكننا خلق شيء له كتلة!
إذن، إذا وضعنا كل هذه الأشياء معًا — التعدد الكمومي، ومبدأ عدم اليقين لهايزنبرج، والنسبية — فما الذي سنحصل عليه؟ سنحصل على صورة للإلكترونات أكثر إثارة للحيرة إلى ما لا نهاية من الصورة التي تعرضها لنا النظرية الكلاسيكية، التي أدت هي نفسها إلى طاقة ذاتية لانهائية للإلكترون.
على سبيل المثال، كلما حاولنا تصور إلكترون، فإنه ليس بالضرورة أن يكون إلكترونًا واحدًا! ولكي نفهم هذا، فلنعد إلى الكهرومغناطيسية الكلاسيكية. إن إحدى السمات الأساسية لجوهر هذه النظرية هي حقيقة أننا إذا هززنا إلكترونًا، فإنه سيبعث إشعاعًا كهرومغناطيسيًّا، مثل الضوء أو موجات الراديو. نشأ هذا الاكتشاف العظيم عن التجارب الرائدة التي أجراها في القرن التاسع عشر مايكل فاراداي، وهانز كريستيان أورستد، وغيرهما، والبحث النظري الرائد لجيمس كلارك ماكسويل. من زاوية ميكانيكيا الكم، لا بد أن تكون هذه الظاهرة المرصودة قابلة للتنبؤ بها؛ لأنه إذا كان ينبغي لميكانيكا الكم أن تصف العالم على نحو صحيح، فلا بد أن تتفق تنبؤاتها مع المشاهدات. ولكن الخاصية الأساسية الجديدة هنا هي أن ميكانيكا الكم تخبرنا بأن نفكر في الإشعاع على أنه مكون من «كموم» فردية، أو حزم من الطاقة، تسمى الفوتونات.
والآن لنعد إلى الإلكترون. يخبرنا مبدأ هايزنبرج أننا إذا قسنا الإلكترون لبعض الوقت المحدد، يظل هناك قدر من عدم اليقين محدد القيمة في معرفتنا بطاقته. ولكن إذا كان هناك قدر من عدم اليقين، فكيف لنا أن نعرف أننا نقيس الإلكترون وحده؟ فمثلًا، إذا كان الإلكترون يبعث فوتونًا يحمل طاقة ضئيلة للغاية، فإن الطاقة الكلية للمنظومة سوف تتغيَّر، وإن كان التغيير ضئيلًا جدًّا. ولكن إذا كنا لا نعرف بالضبط مقدار طاقة المنظومة، فإننا لا نستطيع إذن أن نحدد هل بعثت فوتونًا منخفض الطاقة أم لا. لذا فإن ما نقيسه حقًّا ربما كان هو طاقة الإلكترون بالإضافة إلى الفوتون الذي أطلقه.
لكن لماذا نتوقف عند هذا الحد؟ ربما بعث الإلكترون عددًا لانهائيًّا من الفوتونات منخفضة الطاقة؟ فإذا راقبنا الإلكترون فترة كافية، يمكننا قياس طاقته بدقة كبيرة، ويمكننا وضع عداد فوتونات بالقرب منه لنرى إن كانت هناك فوتونات حوله. وفي هذه الحالة، ترى ماذا حدث لجميع الفوتونات التي كانت تتحرك مع الإلكترون خلال تلك الفترة؟ الأمر بسيط: يمكن للإلكترون أن يمتص كل تلك الفوتونات قبل أن تتاح لنا فرصة قياسها!
يُطلق على نوع الفوتونات التي يمكن للإلكترون أن يطلقها ويعيد امتصاصها خلال فترة زمنية قصيرة للغاية لا تتيح لنا قياسها اسم «الجسيمات الافتراضية»، وكما سأوضح لاحقًا، فقد أدرك فاينمان أننا عندما ندرج آثار كل من النسبية وميكانيكا الكم، لا يكون هناك مفر من الإقرار بوجود هذه الجسيمات. لذا عندما نفكر في إلكترون يتحرك، يصير لزامًا علينا أن نفكر فيه على أنه جسم شديد التعقيد تحيط به سحابة من الجسيمات الافتراضية.
تلعب الجسيمات الافتراضية دورًا مهمًّا آخر في نظرية الكم للكهرومغناطيسية؛ فهي تغير الطريقة التي نفكر بها في المجالات الكهربائية والمغناطيسية والقوى بين الجسيمات. فمثلًا، افترض أن الإلكترون يبعث فوتونًا. يمكن لهذا الفوتون حينئذٍ أن يتفاعل بدوره مع جسيم آخر، وقد يمتصه هذا الجسيم. وبناءً على طاقة الفوتون، سوف ينتج عن هذا انتقال للطاقة والزخم من إلكترون إلى آخر. ولكن هذا هو ما نَصِفُه عادة بأنه تجسد للقوة الكهرومغناطيسية بين هذين الجسيمين المشحونين كهربائيًّا.
إننا نسبق الأحداث بوصولنا إلى هذه النقطة، أو على الأقل نسبق ما كان فاينمان يدركه في تلك الحقبة من حياته، ولكنني أوردت هذه التعقيدات هنا لغرض معين، وهو أنه إذا كان كل هذا يبدو لك معقدًا للغاية ويصعب تصوره، فانضم إلى جموع الناس، خاصة إذا كنا نتحدث عن حقبة ما قبل الحرب العالمية الثانية. كان هذا هو عالم الفيزياء الأساسية حين دخله ريتشارد فاينمان طالبًا، وقد كان عالمًا بدا أن قواعده الجديدة الغريبة تنتج هراءً سخيفًا. فعلى سبيل المثال، ظلت الطاقة الذاتية اللانهائية الكلاسيكية للإلكترون جزءًا من نظرية الكم، ويرجع الفضل في ذلك بوضوح إلى حقيقة أن الإلكترون يمكنه أن يطلق فوتونات ذات طاقة عالية جدًّا ويعيد امتصاصها، طالما أنه يفعل هذا خلال فترات زمنية قصيرة للغاية.
غير أن الحيرة كانت أسوأ من ذلك. فنظرية الكم تنسجم جيدًا بوجه عام مع النتائج التجريبية، ولكن كلما حاول علماء الفيزياء حساب التنبؤات بالضبط لتضاهي القياسات الدقيقة، فكانوا مثلًا إذا أدرجوا عملية تبادل تضم أكثر من فوتون واحد بين الجسيمات — وهي عملية لا بد أنها تحدث على نحو أكثر ندرة من تبادل فوتون واحد — وجدوا أن المساهمة الإضافية الناتجة عن هذا التأثير ذي «الرتبة الأعلى» ذات قيمة لانهائية. وعلاوة على هذا، فإن حسابات نظرية الكم المطلوبة لاستكشاف تلك القيم اللانهائية كانت صعبة ومملة إلى درجة مزعجة؛ إذ كانت كل واحدة من تلك الحسابات تتطلب من أفضل العقول في ذلك الوقت أشهرًا كاملة دون أدنى مبالغة.
وعندما كان فاينمان لا يزال طالبًا بالجامعة، راودته فكرة حملها معه إلى كلية الدراسات العليا. فماذا لو كانت «الصورة» الكلاسيكية للكهرومغناطيسية — كما شرحتها منذ قليل — صورةً خاطئة؟ ماذا لو كانت هناك — على سبيل المثال — قاعدة «جديدة» تقول إن الجسيم الذي يحمل شحنة كهربائية لا يمكنه التفاعل مع نفسه؟ هذا من شأنه أن يخلصنا من الطاقة الذاتية اللانهائية للإلكترون؛ لأنه لا يستطيع التفاعل مع المجال الكهربائي الخاص به. إنني أؤكد أن اللانهائية التي وُضعت هذه القاعدة الجديدة لتجنبها موجودة في النظرية الكلاسيكية الخالصة، حتى دون النظر للآثار الميكانيكية الكمية.
لكن فاينمان كان أكثر جرأة. فماذا لو كان ما نسميه بالمجال الكهرومغناطيسي — الناشئ عن تبادل الفوتونات الافتراضية — بين الجسيمات، ضربًا من الخيال أيضًا؟ ماذا لو كانت الكهرومغناطيسية بأسرها ناتجة عن تفاعل مباشر بين الجسيمات المشحونة دون وجود أي مجال على الإطلاق؟ على نحو تقليدي، تتحدد المجالات الكهربائية والمغناطيسية كليًّا بواسطة حركة الجسيمات المشحونة التي تنتجها، لذا — من وجهة نظر فاينمان — لم تكن هناك حاجة إلى وجود المجال نفسه. وبعبارة أخرى، ما إن يتحدد الشكل الأوليُّ للشحنات وحركتها، حتى يمكن تحديد جميع حركاتها اللاحقة من حيث المبدأ ببساطة عن طريق دراسة الأثر المباشر للشحنات بعضها على بعض.
علاوة على ذلك، فكر فاينمان أننا إذا استطعنا الاستغناء عن المجال الكهرومغناطيسي في النظرية الكلاسيكية، فإن هذا قد يحل مشكلات الكم أيضًا؛ لأننا إذا استطعنا التخلص من جميع الأعداد التي لا حصر لها من الفوتونات التي تربك العمليات الحسابية لنظرية الكم والتعامل فقط مع الجسيمات المشحونة، فلربما أمكننا التوصل إلى حلول معقولة. وقد عبر عن المسألة في خطاب تسلمه جائزة نوبل بقوله: «حسنًا، بدا واضحًا لي تمامًا أن فكرة أن الجسيم يؤثر على نفسه ليست بالفكرة الضرورية؛ إنها فكرة سخيفة نوعًا ما في واقع الأمر. وهكذا أوحيت لنفسي أن الإلكترونات لا يمكنها التفاعل مع نفسها، وإنما يمكنها فقط التأثير على إلكترونات أخرى. وهذا يعني أنه ما من مجال على الإطلاق. كان هناك فقط تفاعل مباشر بين الشحنات، وإن كان يحدث بقدر من التأخر.»
كانت تلك أفكارًا جريئة، وقد حملها فاينمان إلى كلية الدراسات العليا في برينستون، وإلى جون أرشيبالد ويلر، الذي كان هو الرجل المناسب تمامًا لتفنيدها ودحضها. لقد عرفت جون ويلر إنسانًا شديد الدماثة والمودة، مهذبًا ومراعيًا للآخرين إلى أبعد الحدود، وكأنه سيد نبيل مثالي من الجنوب (وإن كان منحدرًا من ولاية أوهايو). لكنه عندما كان يتحدث عن الفيزياء، يصبح فجأة جريئًا مقدامًا. وقد وصفه أحد زملائه في برينستون خلال تلك الفترة بقوله: «في مكان ما وسط تلك الوجوه المهذبة التي يظهر بها، يوجد نمر طليق … لديه الشجاعة الكافية لمواجهة أي مشكلة مجنونة.» وكان هذا النوع من الشجاعة ملائمًا تمامًا لميول فاينمان الفكرية. أذكر أنني تسبَّبتُ في نوبات من الضحك عندما اقتبست عبارة كتبها فاينمان ذات مرة في رسالة بعث بها إلى فيزيائي شاب واعد تقول: «تبًّا للطوربيدات. لنندفع بأقصى سرعة إلى الأمام.» بالطبع كان فاينمان يقلد الأدميرال ديفيد فاراجت (صاحب المقولة الشهيرة أثناء إحدى العمليات البحرية الجسورة التي نفَّذها خلال الحرب الأهلية الأمريكية)، ولكن تلك الحقيقة التاريخية بدت غير ذات صلة بالموضوع. وقد كانت هذه العبارة تنطبق بنفس القدر على كل من فاينمان وويلر.
كان التوافق بينهما مثاليًّا ورائعًا. وتلا ذلك في برينستون ثلاث سنوات مكثفة من التبادل الفكري بين هذين العقلين الفذَّين، وكانت تلك هي الفيزياء كما ينبغي أن تكون. لم يكن أي منهما يتجاهل على الفور الأفكار المجنونة التي يطرحها الآخر. وقد كتب ويلر في وقت لاحق يقول: «سأظل ممتنًّا إلى الأبد للحظ السعيد الذي جمعنا معًا في أكثر من مشروع عمل رائع … كانت مناقشاتنا تتحول إلى ضحكات، والضحكات تتحول إلى نكات، والنكات تتحول إلى المزيد من الأفكار … وقد عرف من خلال أكثر من مقرر من مقرراتي التعليمية أنني أؤمن بأن أي شيء مهم هو شيء بسيط تمامًا في جوهره.»
عندما عرض فاينمان فكرته المجنونة لأول مرة على ويلر، لم يتلقَّهَا هذا الأخير بالسخرية. وإنما بدأ على الفور يوضح مواطن الخلل فيها، مؤكِّدًا على الحقيقة القائلة: «الحظ الطيب منحة لا يتلقَّاها إلا صاحب العقل المتأهِّب.» حيث كان ويلر أيضًا يفكر بأسلوب يشبه جدًّا أسلوب فاينمان.
كان فاينمان قد أدرك مسبقًا وجود خطأ فادح في فكرته. فمن المعروف جيدًا أن تعجيل جسيم مشحون يتطلب شغلًا أكبر من الذي يتطلبه تعجيل جسيم متعادل؛ لأن الجسيم المشحون يطلق إشعاعًا ويبدِّد طاقة أثناء عملية التعجيل. وهكذا فإن الجسيم المشحون يبدو أنه يؤثر على نفسه عن طريق توليد مقاومة إضافية لعملية التعجيل (تسمى «مقاومة الإشعاع»). وكان فاينمان يأمل في أن يتمكَّن من حل هذه المشكلة بطريقة ما عن طريق دراسة رد الفعل على الجسيم، ليس من ذاته، وإنما من الحركة المستحثة لجميع الشحنات الأخرى في الطبيعة التي ستتأثر بتفاعلاتها مع الجسيم الأول. أعني أن القوة التي يمارسها الجسيم الأول على الجسيمات الأخرى ستجعل تلك الجسيمات تتحرك، وسوف تولِّد حركتها تيارات كهربائية يمكن أن يكون لها حينئذ رد فعل على الجسيم الأول.
عندما سمع ويلر هذه الأفكار لأول مرة، أوضح أنه إذا كان هذا ما يحدث، فإن مقاومة الإشعاع المتولِّدة من الجسيم الأول سوف تعتمد على مواضع تلك الشحنات الأخرى، وهي لا تعتمد على ذلك في واقع الأمر، علاوة على أنها سوف تتأخر زمنيًّا؛ لأنه ما من إشارة يمكنها الانتقال بسرعة تتجاوز سرعة الضوء. ومن ثم سوف يتطلب الأمر بعض الوقت كي يتفاعل الجسيم الأول مع الجسيم الثاني، الموجود على بعد مسافة منه، ثم يتطلَّب وقتًا أطول كي يستجيب الجسيم الثاني بالتفاعل مع الجسيم الأول، وهو ما سيتسبَّب في تأخر رد الفعل زمنيًّا إلى حد بعيد مقارنة بالحركة الأولية للجسيم الأول.
لكن حينها اقترح ويلر فكرة أشد جنونًا: ماذا لو أن رد فعل تلك الشحنات الأخرى كان يحدث، بشكل ما، عكس مسار الزمن؟ عندئذٍ بدلًا من أن يحدث رد فعل تلك الجسيمات على الجسيم الأول بعد أن يبدأ الجسيم الأول في الحركة بفترة طويلة، فإنه قد يحدث في الوقت نفسه بالضبط الذي يتحرك فيه الجسيم الأول! وعند هذه النقطة قد يقول مبتدئ حصيف: «مهلًا، أليس هذا جنونًا؟ إذا كان يمكن للجسيمات أن يكون لها رد فعل في عكس اتجاه الزمن، ألا يعني هذا انتهاك مبادئ فيزيائية مقدسة مثل مبدأ السببية، الذي يقضي بضرورة حدوث الأسباب قبل حدوث النتائج؟»
لكن على الرغم من أن القبول بفكرة حدوث رد الفعل في عكس اتجاه الزمن يفتح الباب أمام مثل هذا الاعتراض من حيث المبدأ، فلكي يعرف الفيزيائيون هل هذا يسبب مشكلات حقًّا، يجب عليهم أن يكونوا أكثر دقة وأن يُجْرُوا الحسابات فعليًّا أولًا. وكان هذا ما فعله فاينمان وويلر. لقد كانا يجربان ليريا هل بمقدورهما حل مشكلاتهما دون خلق مشكلات جديدة، وكانا مستعدين لإرجاء شكهما إلى أن تحتم نتائجهما الرجوع إليه.
في المقام الأول، وبناءً على تفكيره المسبق في تلك المسائل، استطاع ويلر أن يدرك مع فاينمان على الفور أنه يمكن استنتاج أن رد فعل الإشعاع في هذه الحالة يكون مستقلًّا عن مواضع الشحنات الأخرى، ويمكن أيضًا من حيث المبدأ جعله يحدث في الوقت المناسب، وليس في وقت لاحق متأخر.
كان اقتراح ويلر تعتريه مشكلاته الخاصة أيضًا، لكنه استحوذ على تفكير فاينمان وحساباته. عالج فاينمان التفاصيل وحدَّدَ بالضبط مقدار رد الفعل العكسي بين الجسيمات المطلوب لكي تسير الأمور على ما يرام، وكما هو معتاد من فاينمان، فقد راجع بعدها أيضًا الكثير من الأمثلة المختلفة للتأكد من أن هذه الفكرة لن تنتج ظواهر مجنونة لم تُرصد من قبل أو انتهاكات للبديهيات والمنطق السليم. ألح على أصدقائه أن يبحثوا عن مثال قد يربكه، وأوضح أنه ما دام في كل اتجاه في الكون يوجد يقين بنسبة ١٠٠ بالمائة أن المرء سيصادف في النهاية جسيمًا مشحونًا يمكنه التفاعل كرد فعل للجسيم الأصلي، فإن المرء لا يستطيع أبدًا استخدام تلك التفاعلات المجنونة التي تسير في عكس اتجاه الزمن لإنتاج جهاز يمكن أن يعمل قبل ضغط زر التشغيل، أو أي شيء من هذا القبيل.
•••
كما قال همفري بوجارت ذات مرة، كانت تلك بداية علاقة صداقة جميلة. ففي حين امتلك فاينمان براعة مدهشة في الرياضيات وبصيرة نافذة على نحو مذهل، امتلك ويلر الخبرة والمنظور السليم. استطاع ويلر سريعًا تصحيح بعض المفاهيم الخاطئة لدى فاينمان واقتراح بعض التحسينات، ولكنه كان يمتلك عقلًا متفتِّحًا وشجَّع فاينمان على الاستكشاف واكتساب الخبرة الحسابية الكافية للانسجام مع مواهبه. وحين جمع فاينمان هذه إلى تلك، صار من المستحيل إيقاف تقدمه.