نهايات وبدايات
بدلًا من حفظ الشيء في العقل أو الذهن، أَحْفَظُه في صورة رقم.
وفي اليوم التالي مباشرةً توجَّهَا إلى مكتبة برينستون للاطلاع على البحث الذي أجراه ديراك عام ١٩٣٢، والذي كان يحمل عنوانًا مناسبًا هو «دالة لاجرانج في ميكانيكا الكم». في هذا البحث، اقترح ديراك بعبقرية وببصيرة تنبُّئيه أن «هناك أسبابًا تدفعنا للاعتقاد أن [المنهج] «اللاجرانجي» أكثر أهمية» من المناهج الأخرى وذلك لأنه: (أ) يتصل بمبدأ الفعل، (ب) يمكنه استيعاب نتائج نظرية النسبية الخاصة لأينشتاين بسهولة أكبر (وهذا أمر ذو أهمية جوهرية لأبحاث فاينمان اللاحقة، غير أنه حقيقة لم يفكر فيها في ذلك الحين). ولكن على الرغم من أن ديراك كان يقينًا يملك الأفكار الأساسية في ذهنه، فإنه في بحثه هذا اكتفى بالشكليات التي بيَّنَت وجود تطابقات مفيدة، واقترح وجود تشابه غامض بين مبدأ الفعل في الميكانيكا الكلاسيكية وبين الصيغ القياسية للتطور في الزمن للدالة الموجية للجسيمات في ميكانيكا الكم.
قرر فاينمان، لأنه فاينمان، في التوِّ والحال أخذ بعض الأمثلة البسيطة والبحث في مدى دقة التشابه. في ذلك الوقت كان فقط يفعل ما كان يظن أن على عالم الفيزياء الجيد أن يفعله، وهو تحديدًا فحص مثال تفصيلي لمعرفة ماذا كان ديراك يقصد بما قاله. غير أن ييلي — الذي كان يراقب فاينمان، طالب الدراسات العليا، في نفس الوقت الذي يجري فيه حساباته بسرعة أكبر من قدرة ييلي على متابعته، في تلك الحجرة الصغيرة بمكتبة برينستون — كان أكثر حكمة. وقد عبَّر عن الأمر بقوله: «أنتم أيها الأمريكيون دائمًا ما تحاولون اكتشاف كيفية الانتفاع بشيء ما. وتلك طريقة طيبة لاكتشاف أشياء جديدة.»
لقد أدرك أن فاينمان طوَّر بحث ديراك ووصل إلى مرحلة أبعد، وأنه إبان ذلك توصل بالفعل لاكتشاف مهم. لقد بيَّن بوضوح كيف يمكن صياغة ميكانيكا الكم في ضوء «دالة لاجرانج». وبذلك خطا فاينمان الخطوة الأولى نحو إعادة صياغة نظرية الكم بالكامل.
•••
أعترف أنني كنت مرتابًا بشأن ما إذا كان فاينمان قد تفوق حقًّا على ديراك في ذلك الصباح ببرينستون أم لا. من المؤكد أن أي شخص قادر على أن يفهم بحث ديراك باستطاعته أن يدرك أن البحث يضم جميع الأفكار الرئيسية تقريبًا. أما السبب الذي حال دون قيام ديراك بالخطوة التالية ليعرف إن كان تطبيق تلك الأفكار ممكنًا فعليًّا أم لا فهو أمر لن نعرفه أبدًا. لعله كان قانعًا بأنه بيَّنَ وجود تناظر محتمل لكنه لم يتصور مطلقًا أنه قد يكون ذا فائدة خاصة في أي أغراض عملية.
المعلومة الوحيدة التي لدينا بشأن عدم إثبات ديراك لنفسه مطلقًا دقة التشابه الذي توصل إليه تأتينا من ذكرى فاينمان اللاحقة لمحادثة دارت بينه وبين ديراك عام ١٩٤٦ في الاحتفال بالذكرى المئوية الثانية لجامعة برينستون. ذكر فاينمان أنه سأل ديراك هل يعرف أن التشابه الذي توصل إليه يمكن إثباته بواسطة ثابت بسيط «للتناسبية». تذكر فاينمان أن الحوار سار على النحو الآتي:
بالنسبة لديراك، الذي كان معروفًا عنه التحدث باقتضاب وبحرفية إلى أبعد الحدود، كان هذا حوارًا مطولًا، وهو يوحي بالكثير والكثير على الأرجح. فعلى سبيل المثال، كان ديراك متزوجًا من شقيقة عالم فيزياء شهير آخر هو يوجين ويجنر، فكان كلما قدم زوجته للناس عرفها لهم على أنها «شقيقة ويجنر»، وليس على أنها زوجته هو، ولعله في ظاهر الأمر كان يشعر أن تلك الحقيقة الأخيرة غير ذات أهمية (أو ربما لا لشيء سوى إظهار أنه «عدو للمرأة» تمامًا كالكثير من زملائه في ذلك الوقت).
ولعل القصة الأكثر ملاءمة ودلالة في هذا الشأن هي تلك التي سمعتها من عالم الفيزياء الدنماركي الشهير نيلز بور، الذي كان يشكو فيما يبدو من ذلك الباحث الحاصل على الدكتوراه المتسم بالهدوء المفرط، ديراك، الذي أرسله عالم الفيزياء الذي لا يقل عن بور شهرة، إرنست رذرفورد، من إنجلترا. بعد ذلك حكى رذرفورد لبور قصة عن شخص ذهب لمتجر الحيوانات الأليفة ليبتاع ببغاء، فعرض عليه البائع طائرًا بديع الألوان وقال له إنه ينطق عشر كلمات مختلفة وسعره ٥٠٠ دولار. ثم عرض البائع عليه طائرًا أروع شكلًا وأزهى ألوانًا، ولديه حصيلة لغوية من ١٠٠ كلمة، وقال إن سعره ٥٠٠٠ دولار. بعدها شاهد الرجل طائرًا بشع الهيئة في ركن المتجر فسأل البائع عن سعر ذلك الطائر، فقال له ١٠٠ ألف دولار! قال الرجل متعجبًا للبائع: «لماذا؟ هذا الطائر لا يتمتع بأي جمال على الإطلاق. كم عدد الكلمات التي ينطقها؟» أجابه البائع إنه لا ينطق أي كلمة. قال الرجل للبائع مبهوتًا: «هذا طائر جميل المنظر وينطق عشر كلمات وثمنه ٥٠٠ دولار، وذاك طائر ينطق مائة كلمة وثمنه ٥٠٠٠ دولار، فكيف يكون ثمن ذلك الطائر الضئيل البشع هناك، الذي لا ينطق بكلمة واحدة ١٠٠ ألف دولار؟!» ابتسم البائع وقال: «هذا الطائر يفكر.»
•••
كان ما خمنه ديراك بالحدس عام ١٩٣٢، وما التقطه فاينمان مباشرة وبوضوح (مع أنه احتاج فترة من الوقت حتى يصفه بتلك البساطة وذلك الوضوح)، هو أنه في حين تحدد الحسابات «اللاجرانجية» ودالة «الفعل» في الميكانيكا الكلاسيكية المسار التقليدي الصحيح بتعيين احتمالات بسيطة لمسارات تقليدية مختلفة تصل بين «أ» و«ج»، بحيث تحدد في النهاية احتمالًا ذا وحدة أساسية للمسار الأقل فعلًا، وذا قيمة تساوي صفرًا لكل مسار آخر، فإنه في ميكانيكا الكم يمكن استخدام دالة لاجرانج ودالة الفعل لحساب «نطاقات» الاحتمالات — وليس الاحتمالات — لمسارات الانتقال بين «أ» و«ج»، وعلاوة على ذلك، ففي ميكانيكا الكم، يمكن أن تكون لمسارات عديدة مختلفة نطاقات احتمالات ذات قيم غير صفرية.
أثناء بحثه تلك الفكرة باستخدام مثال بسيط، اكتشف فاينمان — أمام عيني ييلي المندهشتين في ذلك الصباح بمكتبة برينستون — أنه إذا حاول أن يحسب نطاقات الاحتمالات بهذه الطريقة — لأزمنة انتقال بالغة القصر — فإنه يستطيع الحصول على نتيجة مطابقة للنتيجة التي نحصل عليها في ميكانيكا الكم التقليدية من معادلة شرودينجر. والأكثر من هذا أنه عند الوصول إلى الحد الذي تصبح عنده المنظومات كبيرة الحجم، وتصبح تأثيرات ميكانيكا الكم ضئيلة وغير ذات قيمة بحيث تتحكم قوانين الحركة التقليدية في النظام، تتحول الصيغة التي وضعها فاينمان لتعكس فقط «مبدأ الفعل الأقل» الكلاسيكي.
الطريقة التي يحدث بها ذلك واضحة ومباشرة نسبيًّا. فإذا تأمَّلنا جميع المسارات المحتملة بين «أ» و«ج»، يمكننا تعيين نطاق احتمال — «وزن» — لكل مسار يكون متناسبًا مع إجمالي الفعل لذلك المسار. ففي ميكانيكا الكم، يمكن للعديد من المسارات المختلفة — ربما كان عددًا لانهائيًّا، بما فيها المسارات المجنونة التي تبدأ وتنتهي وتغير سرعاتها في الحال وما إلى ذلك — أن يكون لها نطاقات احتمالات ذات قيم غير صفرية. الآن أصبح «عامل الوزن» المحدد لكل مسار معبرًا عنه في ضوء إجمالي الفعل المرتبط بذلك المسار تحديدًا. وإجمالي فعل أي مسار في ميكانيكا الكم لا بد أن يكون أحد مضاعفات وحدة بالغة الصغر للفعل تسمى «ثابت بلانك»، وهو «الكم» الأساسي للفعل في نظرية الكم، الذي رأينا أيضًا من قبل أنه يفرض حدًّا أدنى على القيم غير المؤكدة عند قياس المواضع وكميات الحركة.
وصفة فاينمان الكمية إذن هي حاصل جمع كافة كل الأوزان المرتبطة بنطاقات الاحتمالات لجميع المسارات المستقلة، ومربع هذه الكمية هو الذي يحدد احتمال الانتقال للتحرك من «أ» إلى «ج» بعد مرور زمن ما.
وحقيقة أن الأوزان يمكن أن تكون ذات قيمة موجبة أو سالبة لا تفسر فقط السلوك الكمي الغريب، وإنما تفسر أيضًا سبب اختلاف سلوك النظم التقليدية عن سلوك نظم الكم. فإذا كان النظام كبير الحجم، بحيث يكون إجمالي الفعل لكل مسار ضخمًا بالمقارنة بثابت بلانك، فإن تغييرًا ضئيلًا في المسار يمكنه تغيير الفعل — معبرًا عنه بوحدات من ثابت بلانك — بمقدار ضخم. ونتيجة لذلك، ففي حالة المسارات المختلفة القريبة بعضها من بعض، قد تتباين دالة الوزن تباينًا شاسعًا بين الموجبة والسالبة. وبصفة عامة، عند جمع تأثيرات تلك المسارات المختلفة بعضها مع بعض، فإن القيم الموجبة العديدة المتنوعة سوف تعادل القيم السالبة العديدة.
غير أنه يتبين أن مسار الفعل الأقل (ومن ثم، المسار المفضل عادةً) يملك خاصية أن أي تغيير بسيط في المسار يكاد لا يُحدث أي تغيير في الفعل. وهكذا فإن المسارات القريبة من مسار الفعل الأقل سوف تسهم بنفس الوزن في المجموع، ولن يزول تأثيرها. ومن هنا عندما يصير النظام كبير الحجم، يكون الإسهام في احتمال الانتقال خاضعًا تمامًا وبصفة أساسية للمسارات شديدة القرب من المسار التقليدي، الذي سيكون من ثم ذا احتمال قيمته واحد، بينما تكون بقية المسارات الأخرى ذات احتمالات قيمتها صفر. وهكذا نعود إلى مبدأ الفعل الأقل.
•••
بينما كان مستلقيًا في فراشه بعدها بأيام قلائل، تخيَّل فاينمان كيفية التوسع في التحليل الذي أجراه للمسارات ذات الفترات الزمنية بالغة القصر ليشمل مسارات كبيرة بكل معنى الكلمة، وفي هذه المرة أيضًا، عن طريق تطوير فكر «ديراك». وبقدر ما كان مهمًّا أن يتمكَّن من إيضاح أن الحد التقليدي كان معقولًا، وأنه بالإمكان اختزال العمليات الرياضية في معادلة شرودينجر القياسية لنظم الكم البسيطة، فإن الأمر الذي بدا أكثر إثارة لفاينمان هو أنه صار الآن يمتلك آلية تمكِّنه من استكشاف ميكانيكا الكم لنظم فيزيائية أكثر تعقيدًا، مثل النظام الكهروديناميكي الذي صممه مع ويلر، والذي لم يتمكنا من وصفه بالطرق التقليدية.
وعلى الرغم من أن دافعه كان التوسع في ميكانيكا الكم بحيث يمكنها وصف نظم لم يكن بالإمكان وصفها بطريقة أخرى، فقد كان صحيحًا أيضًا (حسبما أكد فاينمان فيما بعد) أنه فيما يخص النظم التي يمكن تطبيق صيغ كل من ديراك وشرودينجر وهايزنبرج الأكثر قياسية عليها، فإن جميع الطرق متكافئة تمامًا. إلا أن المهم في الأمر هو أن هذه الطريقة «الجديدة» في تصوير العمليات الفيزيائية تعطينا فهمًا «نفسيًّا» مختلفًا تمامًا لعالم الكم.
ولاستخدام كلمة «تصوير» هنا دلالة مهمة؛ لأن طريقة فاينمان تتيح التفكير في ميكانيكا الكم بطريقة تصويرية جميلة. لقد استغرق التوصل لهذه الطريقة الجديدة بعض الوقت، حتى من فاينمان، الذي لم يتحدث صراحةً عن «حاصل جمع المسارات» في أطروحته العلمية. وبحلول الوقت الذي كتب فيه أطروحته في صورة مقال بعدها بستة أعوام في دورية «ريفيوز أوف مودرن فيزيكس»، كانت هذه الفكرة محورية. هذا البحث الذي نشر عام ١٩٤٨ بعنوان «نهجٌ زمكاني لفهم ميكانيكا الكم اللانسبية» يبدأ بحجة احتمالية مشابهة لتلك التي عرضتها هنا، ثم يشرع على الفور في مناقشة المسارات الزمكانية. والمدهش أن البحث يخلو من الرسوم بشكل واضح. ربما كان تكليف أحد الفنانين بوضع الرسوم أمرًا باهظ التكلفة في تلك الأيام. لم تكن تلك مشكلة، فقد جاءت الرسوم لاحقًا.
•••
أثناء كتابة فاينمان لتلك النتائج كي تشكل أساس رسالته، كان العالم عام ١٩٤٢ في حالة اضطراب عارم، وقد اشتعل أتون الحرب العالمية الثانية في ذلك القرن. ووسط كل مشاغله الأخرى — إتمام بحثه العلمي، والزواج، والبحث عن وظيفة — دخل عليه مكتبه ذات صباح روبرت ويلسون، وكان يعمل في ذلك الوقت مدرسًا للفيزياء التجريبية ببرينستون. طلب ويلسون من فاينمان الجلوس وأفصح له عما كان يعد معلومات غاية في السرية، إلا أن تلك المعلومات تحديدًا كانت من الحداثة بحيث لم تكن قد صنفت بعد على أنها سرية.
كانت الولايات المتحدة على وشك البدء في مشروع تصنيع القنبلة الذرية، وكانت مجموعة علماء في برينستون ستبدأ العمل على واحدة من الطرق المحتملة لصنع المادة الخام للقنبلة، وهي نظير خفيف لليورانيوم يسمى يورانيوم ٢٣٥ (حيث الرقم ٢٣٥ يمثل العدد الذري؛ أي مجموع عدد البروتونات والنيوترونات الموجودة في النواة). كانت حسابات الفيزياء النووية بينت أن نظير اليورانيوم المتوافر في الطبيعة، وهو يورانيوم ٢٣٨، لا يمكن استخدامه بكميات عملية معقولة في إنتاج القنبلة. وكان السؤال هو: كيف يمكن فصل النظير النادر يورانيوم ٢٣٥ — الذي يمكن إنتاج القنبلة باستخدامه — عن اليورانيوم ٢٣٨ الأكثر توافرًا منه بكثير؟ ولما كانت نظائر عنصر ما لا يختلف بعضها عن بعض إلا في عدد النيوترونات الموجودة داخل النواة، لكنها متطابقة من الناحية الكيميائية نظرًا لاحتواء كل منها على نفس عدد البروتونات والإلكترونات الذي تحتوي عليه النظائر الأخرى، فإن تقنيات الفصل الكيميائي لن تفلح. وصار لزامًا الاستعانة بعلم الفيزياء. كشف ويلسون عن هذا السر لأنه أراد تعيين فاينمان للمعاونة ببحثه النظري الذي يحتاجون إليه كي يروا هل ستفلح طرقه التجريبية المقترحة أم لا.
وضع هذا العرض فاينمان في ورطة حقيقية؛ إذ كان يتلهَّف بشدة على إنهاء أطروحته، وكان مستمتعًا بالمشكلة التي يعمل على حلها، وكان راغبًا في مواصلة العمل في العلم الذي أحبه. كان راغبًا في التخرج أيضًا، إذ كان هذا أحد شروطه المسبقة التي ألزم نفسه بها من أجل الزواج. والأدهى أن ويلسون أراد منه التركيز على مشكلات اعتبرها فاينمان هندسية في المقام الأول، وهو مجال تطرق إليه فاينمان وهو لا يزال طالبًا بالجامعة غير أنه هجره كي يدرس الفيزياء.
كان ميالًا في البداية إلى رفض العرض. ولكن في الوقت نفسه، كيف يمكنه أن يرفض احتمال المساعدة على تحقيق النصر في الحرب؟ لقد فكَّر من قبل في الانضمام إلى صفوف الجيش لو أمكنه العمل في سلاح الإشارة، ولكن قيل له إنه لا يوجد ضمان لذلك. وها قد جاءت فرصة للقيام بشيء أكثر أهمية بكثير. والأكثر من هذا أنه أدرك أن الفيزياء النووية المعنية لم تكن سرًّا. وعلى حد قوله فيما بعد: «المعرفة العلمية عالمية؛ إنها مسألة دولية … لم يكن هناك احتكار للمعرفة أو المهارة في ذلك الوقت … لذا لم يوجد سبب للاعتقاد أنهم [الألمان] لن يفكروا في تلك الإمكانية أيضًا. إنهم بشر مثلنا ويملكون نفس المعلومات … كان السبيل الوحيد الذي أعرفه كي نمنع ذلك هو أن نصل قبلهم، أو نهزمهم.» ولقد حدث نفسه لبرهة هل صنع مثل هذا السلاح المخيف هو الصواب الذي ينبغي فعله أم لا، غير أنه في نهاية المطاف وضع أطروحته في درج مكتبه وانطلق لحضور الاجتماع الذي حدثه عنه ويلسون.
ومنذ تلك اللحظة فصاعدًا، لم يعد مشغولًا بالعالم المجرد لميكانيكا الكم والإلكترونات، وإنما بالتفاصيل الدقيقة لعلم الإلكترونيات وخصائص المواد. كان مستعدًّا على نحو جيد — كعادته دائمًا — بما تعلمه بنفسه وما تعلمه في بعض المقررات الدراسية المتميزة في الفيزياء النووية على يد ويلر وفي خصائص المواد من ويجنر. ومع ذلك، تطلَّب الأمر بعض الوقت للتعود والتكيف. بدأ هو ومساعد باحث آخر لدى ويلر، اسمه بول أولوم وهو خريج قسم الرياضيات بجامعة هارفارد، يعملان بأسرع ما يمكنهما في إجراء حسابات لم يكونا متيقنين منها، على الرغم من أن الفيزيائيين التجريبيين من حولهما كانوا عاكفين على بناء جهاز كانت مهمتهما أن يقررا إن كان سيفلح في إنجاز المطلوب أم لا.
كانت تلك أولى خبرات فاينمان — التي تكررت كثيرًا خلال حياته المهنية فيما بعد — فيما يتعلق بإدراك أنه على الرغم من حبه للحسابات النظرية، فإنه لا يجب أن يثق فيها حقًّا تمام الثقة إلا بعد إخضاعها أولًا للتجربة العملية. وكما أن محاولة فهم الطبيعة عند حواف المعرفة مهمة مفزعة، كان من المفزع بنفس القدر تحمل مسئولية قرارات مبنية على حساباته سيكون لها في نهاية الأمر أثر مباشر على أكبر مشروع صناعي ينفذه بلد واحد منفرد على مر العصور.
وفي نهاية الأمر، لم يُختر الجهاز الذي اقترحه ويلسون لفصل نظير اليورانيوم. وكان ما وقع عليه الاختيار هو أسلوب الطرد المركزي الذي لا يزال مستخدمًا إلى الآن والذي يسبب الذعر لأن دولًا مثل إيران تخصص موارد هائلة من أجل بناء أجهزته.
لم يتخلَّ جون ويلر — المشرف على رسالة فاينمان — عنه خلال تلك الفترة. كان ويلر قد رحل عن برينستون إلى جامعة شيكاجو للعمل مع إنريكو فيرمي على بناء أول مفاعل نووي بهدف اختبار مبدأ التفاعلات المتسلسلة المحكومة كخطوة أولى نحو التفاعلات المتسلسلة غير المحكومة التي ستكون هناك حاجة إليها لصنع القنبلة النووية. غير أن ويلر كان يعرف ما يعمل فيه فاينمان، وفي ربيع عام ١٩٤٢ قرر ويلر أن هذا يكفي. شعر هو وويجنر أن أطروحة فاينمان قريبة من الاكتمال إلى حد يجعل من الواجب كتابتها بالتفصيل والانتهاء منها، وأخبره بذلك بوضوح تام.
وهذا بالضبط ما شرع فاينمان في عمله. كان مدركًا لما حققه بالفعل. لقد أعاد اشتقاق ميكانيكا الكم من منظور مبدأ فعل يتضمن مجموع مسارات مختلفة (أو بالأحرى، «متمم»، بلغة الرياضيات). وأتاح هذا إمكانية التعميم في الحالات التي لا يفلح فيها أسلوب شرودينجر التقليدي، وبصفة خاصة نظرية الامتصاص التي وضعها هو وويلر للكهرومغناطيسية. كان هذا ما يثير اهتمامه — وخطوته الحقيقية للأمام، حسبما كان يظن — وكانت الطريقة الجديدة التي ابتكرها لاشتقاق ميكانيكا الكم هي في الأساس وسيلة نحو تحقيق تلك الغاية.
غير أنه كان مشغولًا أكثر بما لم يتمكن من تحقيقه بعد، وقد خصَّص القسم الأخير من رسالته لوصف أوجه القصور في بحثه حتى ذلك الوقت. وكان أول أوجه القصور وأهمها أن رسالته لم تحتو على أي مقارنة باستخدام التجارب العملية، التي كان يعتبرها الاختبار الحقيقي لقيمة أي فكرة نظرية. كان أحد جوانب المشكلة أنه أعاد صياغة ميكانيكا كم لانسبية محضة، ولكن لكي يتعامل مع تجارب حقيقية تتضمن شحنات وإشعاعًا، هناك حاجة للنظرية الملائمة — الديناميكا الكهربائية الكمية — من أجل دمج النسبية، القادرة على التعامل مع مجموعة متنوعة من المشكلات التي لم يتعامل معها بعد، وقد كان يدرك هذا بفطنة.
وأخيرًا، كان فاينمان مشغولًا بالتفسير المادي لوجهة نظره الجديدة الخاصة بالتعامل مع عالم الكم، وبالتحديد، مسألة إيجاد ارتباط بين المسارات الموزعة زمنيًّا ونطاقات الاحتمالات المتأصلة في صيغته الجديدة، وبين احتمال إجراء قياسات مادية حقيقية في أي زمن معين. لم تكن مشكلة القياس جديدة أو فريدة في أطروحة فاينمان. بدا فقط أن عمله يفاقم المشكلة. إن عالم القياسات يقع ضمن العالم التقليدي الذي نعرفه، وهو عالم يبدو أن متناقضات الكم العجيبة لا تظهر فيه مطلقًا. فكيف تضمن لنا «عملية قياس» أن عالم الكم الخفي سيظهر أمام أعيننا بصورة معقولة في نهاية الأمر؟
كان أول من يحاول مناقشة مشكلة القياس تلك مناقشة شاملة «كميًّا» في سياق ميكانيكا الكم هو جون فون نويمان، من برينستون، الذي أتيحت لفاينمان فرصة التفاعل والاختلاف معه. أي شخص سمع من قبل عن ميكانيكا الكم غالبًا ما يسمع أنه لا يمكن الفصل بين الراصد وبين ما يرصده. لكن عمليًّا، هذا هو عين المطلوب للتوصل للتنبؤات ومقارنتها بالبيانات التجريبية. وكان فاينمان شديد الانشغال بهذا السؤال المحوري حول كيفية فصل أداة القياس عن النظام محل الرصد في سياق حسابات ميكانيكا الكم المحددة التي أراد إجراءها.
تقول الصياغة اللفظية التقليدية: عندما نقوم بعملية قياس، فإننا نسبب «انهيار الدالة الموجية». وبعبارة أخرى، فإننا فجأة نقلِّص نطاق الاحتمال إلى صفر في كل الحالات فيما عدا واحدة. لذا، يكون احتمال أن يأخذ النظام شكلًا واحدًا فقط هو ١٠٠ بالمائة، ولا تتداخل الأشكال المختلفة المحتملة بعضها مع بعض، كما في الأمثلة التي تناولناها في الفصل الأخير. غير أن هذا ببساطة يثير التساؤلات التالية: كيف تؤدي عملية قياس لانهيار الدالة الموجية، وما الشيء المميز في عملية قياس كهذه؟ وهل هناك حاجة لوجود بشري لإجراء عملية الرصد؟
إذا نحَّيْنا جانبًا آراء المحتالين من دعاة العلم الزائف، فسنجد أن مسألة الوعي ليست هي الأساس. بل على العكس، زعم فاينمان أنه لا بد من اعتبار النظام والراصد معًا نظامًا كميًّا واحدًا (وهذا صحيح في أساسه على أي حال). فإذا كانت أداة الرصد «كبيرة» — بمعنى أن لها عدة درجات داخلية من الحرية — فبإمكاننا إذن أن نبين أن مثل هذا النظام الكبير يسلك سلوكًا تقليديًّا؛ أي إن التداخل بين حالات الكم الممكنة المختلفة التي يمكن مشاهدتها بالعين المجردة لأداة القياس يصبح متناهي الصغر؛ إلى حد يكون معه غير ملائم على الإطلاق من الناحية العملية.
وعن طريق إجراء فعل القياس نفسه، فإننا بطريقة ما نصنع تداخلًا بين نظام الرصد «الكبير» وبين نظام كمي «صغير»، فيصيران مرتبطين معًا. هذا الارتباط يرغم في نهاية الأمر نظام ميكانيكا الكم الصغير على الوجود في حالة واحدة محددة بدقة، وهي الحالة التي «نقيس» بعد ذلك النظام فيها. وبهذا المعنى نقول إن الدالة الموجية للنظام الصغير قد «انهارت» (بمعنى أن نطاق احتمال كون النظام في أي حالة أخرى غير تلك التي نقيسها صار الآن صفرًا). وليس للبشر أي علاقة بهذا الأمر؛ فنظام الرصد يجب ببساطة أن يكون كبيرًا وتقليديًّا ومرتبطًا بالنظام الكمي بواسطة عملية القياس.
ما الذي يمكننا أن نتوقع الوصول إليه إذا قلنا إننا غير قادرين على أن نرى بدقة أشياء كثيرة تتعلق بذرة واحدة؟ ما الذي يمكننا في الواقع رؤيته؟ المقترح: خصائص الذرة الواحدة التي يمكن قياسها هي تلك التي يمكن ربطها (بنطاق احتمالات محدود) (بواسطة ترتيبات تجريبية متنوعة) بعدد غير محدود من الذرات (أي إن البقعة الفوتوغرافية «حقيقية» لأنه يمكن تكبيرها وعرضها على الشاشات، أو التأثير على أوعية ضخمة تحتوي على مواد كيميائية، أو على أمخاخ كبيرة … إلخ إلخ: يمكن جعلها تؤثِّر على أشياء تتزايد أحجامها إلى ما لانهاية، ويمكنها تحديد هل سيتجه قطار ما من نيويورك إلى شيكاجو أم لا، أو إن كانت قنبلة ذرية ستنفجر أم لا … إلخ).
لا تزال نظرية القياس تمثل «بعبع» ميكانيكا الكم. وعلى الرغم من تحقق تقدم عظيم، فلا يزال من الإنصاف أن نقول إن الوصف الكامل للكيفية التي ينشأ بها العالم التقليدي الذي نعيش فيه من واقع الكم الكامن الخفي لم يمكن الوصول إليه بعد، على الأقل بدرجة ترضي جميع علماء الفيزياء.
هذا المثال على بؤرة تركيز فاينمان أثناء مرحلة إنهاء أطروحته يتسم بالأهمية؛ لأنه يوضح القضايا المعقدة التي أصر ذلك الطالب بالدراسات العليا المتخصص في علم الفيزياء على التعامل معها خلال عمله. بالإضافة إلى ذلك فإن «صيغة تكامل المسار» التي وضعها فاينمان جعلت من الممكن تقسيم النظم إلى أجزاء منفصلة، وهو ما يبدو أمرًا محوريًّا لفكرة القياس في ميكانيكا الكم؛ إذ يسمح لنا بعزل أجزاء نظام ما إما لأننا لا نقيسها أو لا نستطيع قياسها، وفصل تلك الأجزاء فصلًا واضحًا عن الأجزاء التي نريد التركيز عليها. وهذا الأمر بصفة عامة غير ممكن في الصيغ التقليدية لميكانيكا الكم.
الفكرة مباشرة وواضحة نسبيًّا في حقيقة الأمر. إننا نجمع كل تلك الأوزان المتوافقة مع الفعل المرتبط بالمسارات أو أجزاء المسارات التي نرغب في تجاهل تفاصيلها المحددة، مثل جمع تأثيرات حلقات دائرية صغيرة جدًّا — لدرجة لا يمكننا معها قياسها — تدور في دوامات حول المسار المستقيم الأقرب للطبيعي بين نقطتين. ربما تكون نتيجة عمليات الجمع تلك هي تغيير، بمقدار صغير يمكن حسابه، ما سيكون عليه «الفعل» المرتبط بالمسار المستقيم لو لم تكن تلك الحلقات موجودة. وبعد إجراء عملية الجمع (أو التكامل، في حالة وجود عدد غير محدود من تلك المسارات الإضافية)، يمكننا حينها تجاهل تلك المسارات الحلقية الزائدة والتركيز فقط على المسارات الأكثر استقامة، ما دمنا نستخدم في حساباتنا «الفعل» الجديد المعدل لذلك المسار. وتسمى هذه العملية «التكامل الاستبعادي» لأجزاء من النظام.
قد يبدو هذا، للوهلة الأولى، أشبه بتفاصيل تقنية غير جديرة بالذكر. غير أن هذا، كما سنرى فيما بعد، أتاح في نهاية المطاف التوصل لغالبية التطورات النظرية المهمة في علم الفيزياء الأساسي خلال القرن العشرين، وسمح لنا بتطوير كمي شامل لأفكار كانت غامضة وأصبحت بمنزلة الحقائق العلمية.
لكن في تلك اللحظة من الماضي؛ أي في عام ١٩٤٢، وبينما كان فاينمان يكمل رسالته العلمية التي جاءت بعنوان «مبدأ الفعل الأقل في ميكانيكا الكم»، كانت هناك أشياء أخرى تشغل باله. كان يتأهب للتخرج في شهر يونيو من نفس العام، وكان قد تلقى وعدًا بالانتقال إلى لوس ألاموس للتركيز على التصنيع الفعلي للقنبلة الذرية. وكان مشغولًا أيضًا بالتخطيط لزواجه الذي طالما حلم به بعد تخرجه. وهكذا كان مضطرًّا لمنح اهتماماته الفيزيائية المباشرة إجازة مؤقتة للتركيز على باقي جوانب حياته. ولعل كل تلك الانحرافات عن المسار تفسر لنا لماذا، على الرغم من امتنانه لبروفسور ويلر على نصيحته وتشجيعه إياه (وإنهاء فترة تعاونهما معًا)، لم ينتهز الفرصة مطلقًا كي يضيف ما كان سيصبح بلا شك تقديرًا أكثر شاعرية وتأثيرًا بكثير للارتباط القائم بين موضوع أطروحته (والعمل الذي كفل له الفوز بجائزة نوبل في نهاية الأمر) وبين ذلك اليوم المصيري أثناء أحد دروس الفيزياء بالمدرسة الثانوية عندما أيقظ الأستاذ بادر ذهنه على جوانب الجمال الكامنة في الفيزياء النظرية.
الصيغة من الناحية الرياضية تكافئ الصيغ التقليدية المألوفة. لهذا لم تكن هناك نتائج جديدة جذريًّا. غير أنه توجد متعة في التعرف على أمور قديمة من وجهة نظر جديدة. توجد أيضًا مشكلات يمكن أن تستفيد استفادة كبيرة من وجهة النظر الجديدة … وعلاوة على ذلك، هناك دائمًا أمل في أن تلهم وجهة النظر الجديدة فكرة تتيح تعديل النظريات الحالية، وهو تعديل ضروري لاحتواء التجارب الحالية.